بسم الله الرحمن الرحیم

تعارض بین نحو و قرائات

فهرست مباحث علوم قرآنی
تواتر قراءات سبع
شواهد اعتماد قراءات بر سماع-عدم اختلاف در مواضع امکان اجتهاد
قول ابوبکر ابن عیاش قراءة حمزة بدعة-ابن حنبل یکره
اعتراضات به قراء
کلمات زمخشري در باره قراءات
کلمات شیخ رضی الدین نجم الأئمة قده در باره قراءات
عرض قرائت حمزة الزیات محضر امام صادق ع و موارد مخالفت حضرت با او
إن ورشا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ يسمى مقرأ ورش
دفاع بی نظیر صاحب مجمع البیان از ابوعمرو بصری و اینکه به هیچ وجه اجتهاد در قرائت نمیکند
مقدمه کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم-ابن عضیمة
کلمات فراء در باره قراءات-لست أشتهی-لست أجترئ أن اخالف الکتاب
كلمات سيبويه در باره قراءات
قول ابوبکر ابن عیاش قراءة حمزة بدعة-ابن حنبل یکره
نقد بسیار تند ابن جزری سخن ابوشامه در المرشد الوجیز-عدول زرقانی از همراهی ابوشامه
استشهاد نحاة به قراءات و عدم استشهاد به حدیث
شرح حال محمد بن عبد الخالق بن علي بن عضيمة-دراسات لأسلوب القرآن الكريم(1328 - 1404 هـ = 1910 - 1984 م)
مقدمه کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم-ابن عضیمة

در کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم به تفصیل راجع به تلحین نحاة و رد آنها صحبت شده است فراجع.



کلمات شیخ طوسي قده در باره قراءات
التبيان في تفسير القرآن - الشيخ الطوسي (6/ 203)
وقرأعاصم وابن عامر " فنجي من نشاء " بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء.
الباقون بنونين على الاستقبال، وهي في المصحف بنون واحدة.

التبيان في تفسير القرآن - الشيخ الطوسي (6/ 204)
ومن قرأ " فننجي " بنونين، فعلى انه حكاية حال، لان القصة كانت فيما مضى، فانما حكى فعل الحال على ماكانت، كماقال " وإن ربك ليحكم بينهم "(2) حكاية الحال الكائنة، ومثله " وكلبهم باسط ذراعيه "(3) فلو لم يكن على الحال لم يعمل اسم الفاعل، لانه إذا مضى اختص، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه الفعل.
واما النون الثانية من (ننجي) فهم مخفاة مع الجيم، وكذلك النون مع جميع حروف الفم، لاتكون الا مخفاة، قال ابوعثمان المازني وتبيينها معها لحن.
قال وللنون مع الحروف ثلاثة احوال: الادغام، والاخفاء، والبيان، فهي تدغم مع ما يقارنها كما تدغم سائر المتقارنة.
والاخفاء فيها مع حروف الفم التي لاتقارنها والبيان منها مع حروف الحلق، وحذف النون الثانية من الخط يشبه ان يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه.
ومن ذهب إلى ان الثانية مدغمة في الجيم، فقد غلط، لانها ليست بمثل للجيم، ولامقارنة له.
ووجه قراءة عاصم انه اتى به على لفط الماضي، لان القصة ما ضية.
وما رواه هبيرة عن عاصم بنونين، وفتح الياء، فهو غلط من الراوي، كما قال ابن مجاهد، وروى نصر بن علي عن أبيه عن ابي عمرو " فنجي " بنون واحدة ساكنة الياء خفيفة الجيم، فهذا غلط، لانا قد بينا ان النون، لا تدغم في الجيم، لما بيناه.



التبيان في تفسير القرآن - الشيخ الطوسي (7/ 268)
وقد قرأ ابوبكر عن عاصم " نجى المؤمنين " بنون واحدة مشددة الجيم. الباقون بنونين.
وهي في المصحف بنون واحدة حذف الثانية كراهة الجمع بين المثلين في الخط، ولان النون الثانية تخفى مع الجيم، ومع حروف الفم، ولا تظهر، ولذلك ظن قوم أنها ادغمت في الجيم، فقرؤها مدغما، وليس بمدغم. ولا وجه لقراء ة عاصم هذه ولا لقول أبي عبيدة حاكيا عن أبي عمرو: ان النون مدغمة، لانها لا تدغم في الجيم.
وقال الزجاج: هذا لحن، ولا وجه لمن تأوله: نجى النجا المؤمنين، كما لايجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا.
وقال الفراء: هو لحن.
وقال قوم - محتجين لابي بكر - انه أراد فعلا ماضيا، على ما لم يسم فاعله، فاسكن الياء، كما قرأ الحسن " وذروا ما بقي من الربا "(1) أقام المصدر مقام المعفول الذي لايذكر فاعله، فكذلك نجى النجا المؤمنين، واحتجوا بأن أبا جعفر قرأ " لنجزى قوما "(2) في الجاثية على تقدير لنجزي الجراء قوما قال الشاعر.
ولو ولدت قفيرة جر وكلب
لسب بذلك الجر والكلابا(3)



تفسير مجمع البيان - الطبرسي (5/ 413)
و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب و سهل « فنجي من نشاء » بنون واحدة و تشديد الجيم و فتح الياء و قرأ الباقون فننجي من نشاء بنونين و تخفيف الجيم و سكون الياء و في الشواذ عن ابن محيصن فنجا بفتح النون و الجيم و التخفيف

تفسير مجمع البيان - الطبرسي (5/ 414)
و أما النون الثانية من ننجي فهي مخفاة مع الجيم و كذلك النون مع سائر حروف الفم لا تكون إلا مخفاة قال أبو عثمان تبيينها معها لحن و للنون مع الحروف ثلاث أحوال الإدغام و الإخفاء و البيان و إنما تدغم إذا كانت مع مقاربها كما يدغم سائر المقاربة فيما يقاربه و الإخفاء فيها مع حروف الفم التي لا تقاربها و البيان فيها مع حروف الحلق فأما حذف النون الثانية من الخط فيشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه أ لا ترى أنهم كتبوا مثل العليا و الدنيا و يحيا و نحو ذلك بالألف فلو لا اجتماعها مع الياء لكتبت بالياء كما كتبت حبلى و يخشى و ما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء فكأنهم لما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون و قوي ذلك أنه لا يجوز فيها إلا الإخفاء و لا يجوز فيها البيان فأشبه بذلك الإدغام لأن الإخفاء لا يبين فيه الحرف المخفي كما أن الإدغام لا يبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام فلما وافق النون المدغم في هذا الوجه أستجيز حذفه من الخط و من ذهب إلى أن النون الثانية مدغمة في الجيم فقد غلط لأنها ليست مثل الجيم و لا مقاربة لها و إذا خلا الحرف من هذين الوجهين لم يدغم فيما اجتمع معه و من قرأ فنجي فإنه أتى على لفظ الماضي لأن القصة ماضية و يقوي ذلك أنه عطف عليه فعل مسند إلى المفعول به و هو قوله « و لا يرد بأسنا عن القوم المجرمين » و لو كان ننجي مسندا إلى الفاعل كقول من خالفه لكان لا نرد بأسنا أشبه ليكون مثل المعطوف عليه


تفسير مجمع البيان - الطبرسي (7/ 94، بترقيم الشاملة آليا)
و قرأ ابن عامر و أبو بكر نجي بنون واحدة و تشديد الجيم و الباقون « ننجي » بالنونين ... و من قرأ نجي المؤمنين بنون واحدة قال أبو بكر السراج هو وهم لأن النون لا تدغم في الجيم و إنما خفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت في الكتابة و هي في اللفظ ثابتة قال أبو علي و القول في ذلك إن عاصما ينبغي أن يكون قرأ بنونين و أخفى الثانية فظن السامع أنه مدغم و كذلك غيره.



النشر في القراءات العشر (2/ 264)
ولقد كان الناس بدمشق وسائر بلاد الشام حتى الجزيرة الفراتية وأعمالها لا يأخذون إلا بقراءة ابن عامر، ولا زال الأمر كذلك إلى حدود الخمسمائة. وأول من نعلمه أنكر هذه القراءة، وغيرها من القراءة الصحيحة وركب هذا المحذور ابن جرير الطبري بعد الثلاثمائة، وقد عد ذلك من سقطات ابن جرير حتى قال السخاوي: قال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي: إياك وطعن ابن جرير على ابن عامر، ولله در إمام النحاة أبي عبد الله بن مالك رحمه الله حيث قال في كافيته الشافية:
وحجتي قراءة ابن عامر فكم لها من عاضد وناصر




أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ (ص: 42)
المؤلف: أبو طاهر، عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبى هاشم البزار (المتوفى: 349هـ)
العلم بإعراب القرآن أفضل من حفظ حروفه
حدثنا أبو طاهر ثنا أحمد ثنا أبي ثنا محمد بن عيسى ومالك ابن إسماعيل عن شريك عن جابر عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد أن أبا بكر وعمر قالا لحفظ بعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه
حدثنا أبو طاهر ثنا وكيع بن خلف حدثني محمد بن خلاد قال سمع رجلا قال لأبي زيد أتتهمني في دين الله قال أتهمك في لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم





تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 330)
۲۸۴ بقزة:
وقرئ: فيغفر ويعذب، مجزومين عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت:
كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله:



البحر المحيط في التفسير (2/ 753)
قال الزمخشري، وقد ذكر قراءة الجزم: فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟.
قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. انتهى كلامه. وذلك على عادته في الطعن على القراء.
وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا إلى آخره، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون، فذهب الخليل، وسيبويه وأصحابه: إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها، ولا في النون. قال أبو سعيد. ولانعلم أحدا خالفه إلا يعقوب الحضرمي، وإلا ما روي عن أبي عمرو، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركا ما قبلها، نحو: يغفر لمن «1» العمر لكيلا «2» واستغفر لهم الرسول «3» فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر، نحو الأنهار لهم «4» والنار ليجزي «5» فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم يدغم نحو من مصر لامرأته «1» والأبرار لفي نعيم «2» ولن تبور ليوفيهم «3» والحمير لتركبوها «4» فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روى أحمد بن جبير بلا خلاف عنه، عن اليزيدي، عنه: أنه أظهرها، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين، والمتقاربين المتحركين لا غير، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو ويغفر لكم انتهى. وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعا، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة، كما ذكرناه، وتابعه يعقوب كما ذكرناه، وذلك من رواية الوليد بن حسان. والإدغام وجه من القياس، ذكرناه في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا، وما ضبطوا، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام، وعقد هذا الرجل بابا قال: هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه، وهذا لا ينبغي، فإن لسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم: أبو عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي. وكبراء أهل الكوفة:
الرواسي، والكسائي، والفراء، وأجازوه ورووه عن العرب، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم، إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وأما قول الزمخشري: إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطئ مرتين، فقد تبين أن ذلك صواب، والذي روى ذلك عنه الرواة، ومنهم: أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت إمام في اللغات.





ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي (4/ 1847)
المؤلف: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745 هـ)
فصل
المضاف إلى ياء المتكلم ليس مثنى، ولا مجموعًا على حد المثنى فيه أربعة مذاهب:
أحدها: مذهب الجمهور أنه معرب في الأحوال الثلاثة مقدر فيه الحركات الإعرابية لشغل آخره بالحركة التي تقتضيها ياء المتكلم.
الثاني: مذهب الجرجاني، وابن الخشاب، والمطرزي، وظاهر كلام الزمخشري أنه مبني.
الثالث: مذهب ابن جني أنه لا معرب، ولا مبني، إذ الاسم لا ينحصر عنده في معرب ولا مبني، بل له حالة ثالثة مثل هذا.
الرابع: ما ذهب إليه ابن مالك من أنه ظاهر الحركة الإعرابية حالة الجر مقدرة فيه حالة الرفع والنصب، ولا أعرف له سلفًا في هذا المذهب، ويقول في المثنى: قام غلاماي، ورأيت غلامي، ومررت بغلامي، والخلاف الذي في إعراب المثنى جار فيه إذا أضيف إلى الياء، وتقدم ذكر ذلك.
وتقول في الجمع الذي على حد التثنية هؤلاء ضاربي، ورأيت ضاربي، ومررت بضاربي اللفظ واحد، والخلاف فيه مضافًا إلى الياء كالخلاف مضافًا إلى غير الياء، وتقدم ذكر ذلك.
وزعم أبو عمرو بن الحاجب، وتبعه ابن مالك أن هذا الجمع حالة الرفع إعرابه بالحرف المقدر، وكما أن الحركة تقدر كذلك الحرف يقدر، وقد بينا في الشرح للتسهيل أن هذا لا تحقيق فيه، وهذه الياء في (ضاربي)، وشبهه مفتوحة كقوله:
أودى بني وأودعوني حسرة … ... ... ... ...
وفي الحديث: «أو مخرجي هم» وقراءة حمزة: «بمصرخي» بكسر الياء أجازها أبو عمرو بن العلاء، والفراء، وقطرب، وهي لغة بني يربوع، وقال الفراء: قرأ بها الأعمش، ويحيى بن وثاب قال: وزعم القاسم بن معن أنها صواب، وكان ثقة بصيرًا. انتهى.
وقد رد هذه القراءة على حمزة جعفر الصادق، وقال أخالفك فيها، والفتح قراءة علي بن أبي طالب، وخير (حمزة) في (بمصرخي) بين الفتح والكسر بعد أن أراد أن يتركها.
وقال الكسائي كان نصير النحوي يحمل قراءة حمزة على اللحن، وكان أهل النحو يحسبونه من حمزة غلطًا.





الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (2/ 690)
المؤلف: أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756هـ)
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها. وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلاف عنه، وورش عن نافع، والباقون بالإدغم. وقد طعن قوم على قراءة أبي عمرو لأن إدغام الراء في اللام عندهم ضعيف.
قال الزمخشري:» فإن قلت: «كيف يقرأ الجازم» ؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأ فاحشا، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في هذه الروايات قلة ضبط الرواة، وسبب قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو «قلت: وهذا من أبي القاسم غير مرضي، إذ القراء معنيون بهذا الشأن، لأنهم تلقوا عن شيوخهم الحرف بعد الحرف، فكيف يقل ضبطهم؟ وهو أمر يدرك بالحس السمعي، والمانع من إدغام الراء في اللام والنون هو تكرير الراء وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مذهب البصريين: الخليل وسيبويه ومن تبعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأس البصريين أبو عمرو، وليس قوله:» إن هذه الرواية غلط عليه «بمسلم. ثم ذكر الشيخ نقولا عن القراء كثيرة هي منصوصة في كتبهم، فلم أر لذكرها هنا فائدة، فإن مجموعها ملخص فيما ذكرته، وكيف يقال إن الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين، ومن جملة رواته اليزيدي إمام النحو واللغة، وكان ينازع الكسائي رئاسته، ومحل مشهور بين أهل هذا الشأن.




فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (3/ 570)
المؤلف: شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي (المتوفى: 743 هـ)
وقوله: (وقرئك "فيغفر ... ويعذب"): عاصم وابن عامر: برفعهما، والباقون: بجزمهما.
قوله: (لاحن مخطئ) يعني أن الراء في حكم حرفين، فإنك إذا وقفت عليها يعثر لسانك بما فيه من التكرير والقوة وبما في اللام من الضعف، وإدغامها فيها يبطل التكرير. قال الزجاج: إن أبا عمرو أدغم الراء في اللام، وما أظنه قرأها إلا بعد ما سمعها، وقال صاحب "الكواشي": لا يجوز تخطئة الرواة أصلاً، لأنه إذا حكم بتخطئتهم في هذا الحرف جاز خطؤهم في غيره، فإذن لا اعتماد عليهم، وكيف يجوز أخذ القرآن من غير ضابط! ولو نقل شعر آحاد العرب من غير ضابط لاستقبح، وجاز إدغام الراء مع ما فيها من القوة والتكرار في اللام مع ما فيها من الضعف؛ لأن الراء لما سكنت ضعفت فصارت كالميت الذي لا اعتداد به، والدليل عليه إتباعهم ضمة الذال ضمة الميم في "منذ" فصارت اللام المتحركة بالنسبة إلى الراء الساكنة قوية. وأيضاً، فإن المدغم لا يدغم حتى يبدل ما قبل المدغم فيه، فعلى هذا إنما أدغم لام في لام.




مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 422)
وقولهم في الضابط المذكور: وافق العربية ولو بوجه يريدون وجها من وجوه قواعد اللغة سواء أكان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية.
هاك الحافظ أبا عمرو الداني في كتابه جامع البيان بعد ذكره إسكان كلمة {بَارِئْكُمْ} و {يَأمُرْكُمْ} في قراءة أبي عمرو وبعد حكاية إنكار سيبويه لذلك يقول ما نصه: والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء. وهو الذي أختاره وآخذ به إلى أن قال: وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها ا. هـ.
قلت وهذا كلام وجيه فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعدوا من قواعد ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه وإلا كان ذلك عكسا للآية وإهمالا للأصل في وجوب الرعاية.
وقولهم في ذلك الضابط: وصح إسناده يريدون به أن يروي تلك القراءة عدل ضابط عن مثله وهكذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من غير شذوذ ولا علة قادحة. بل شرطوا فوق هذا أن تكون الرواية مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط ولا مما شذ به بعضهم. والمحقق ابن الجزري يشترط التواتر ويصرح به في هذا الضابط ويعتبر أن ما اشتهر واستفاض موافقا الرسم والعربية في قوة المتواتر في القطع بقرآنيته وإن كان غير متواتر.


مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 423)
لكن رأى أبي شامة وأضرابه في القراءات السبع غير سديد كما سيجيء.





جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام؛ ج‌9، ص: 291
و أما الميم فان لاقت الباء غنت، و إن لاقت غيرها من سائر الحروف ظهرت، و وجه الإشكال في الجميع ما عرفت، خصوصا إذا قلنا: إن المراد بالوجوب في لسان القراء تأكد الفعل كما عن الشهيد الثاني احتماله، أو أنه معتبر في التجويد لا كالنحويين و الصرفيين الذي يراد به فيهما خروج اللفظ عن قانون اللغة، و لذا كان الأقوى وجوب كل ما هو واجب عندهم دون القراء.





دراسات لأسلوب القرآن الكريم (1/ 19)
المؤلف: محمد عبد الخالق عضيمة (ت 1404 هـ)
تلحين القراء
هذه الجملة الآثمة استفتح بابها، وحمل لواءها نحاة البصرة المتقدمون، ثم تابعهم غيرهم من اللغويين، والمفسرين، ومصنفي القراءات.
وفي البخاري حديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها في رد قراءة (كذبوا) بالتخفيف من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} 12: 110.
في البخاري 6: 77 - 78 «عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها - قالت وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} قال: قالت: (أكذبوا) أم (كذبوا) قالت عائشة: كذبوا».
عن الزهري قال: أخبرني عروة فقلت: لعلها (كذبوا) مخففة قالت: معاذ الله.
ويؤسفني أن أقول: إن كتب النحو واللغة والتفسير وغيرها قد تضمنت نصوصًا كثيرة في الطعن على الأئمة القراء الذين تواترت قراءاتهم في السبع، والذين ارتضت الأمة الإسلامية قراءاتهم فركنوا إليها، وعولوا عليها.
1 - في مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص 26 - 27 «وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا إبراهيم بن حميد قال: أخبرنا أبو حاتم قال: سألت عن حمزة أبا

دراسات لأسلوب القرآن الكريم (1/ 22)
علام اعتمد النحويون في تحلين القراء؟
1 - كانوا يحتكمون إلى ما وضعوه من قواعد، وسنوه من قوانين:
منع البصريون من جواز هذه الأمور، فلحنوا ما جاء عليها من قراءات:



إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ط عالم الفوائد (1/ 298)
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 - 751)
وقال الخلّال في "الجامع": عن أبي عبد الله، أنه قال: "لا أحب قراءة فلان"، يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يَعْجب من قراءته، وقال: "لا تعجبني، فإن كان رجلٌ يقبلُ منك فانْهَه".

إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ط عالم الفوائد (1/ 297)
وقال أبو محمد بن قُتيبة في "مشكل القرآن" (2): "وقد كان الناس يقرأون القرآن بلغاتهم، ثم خَلَف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم، ليس لهم طبع اللغة، ولا علمُ التكلف، فهفَوا في كثير من الحروف، وزلُّوا وأخلُّوا، ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، [46 ب] وقرّبه من القلوب بالدين، فلم أرَ ..



أرشيف ملتقى أهل التفسير (ص: 0)
قراءة الإمام حمزة الزيات رحمه الله. لماذا كره القراءة بها بعض أهل العلم؟!

ـ[ناصر بن عبدالله الدرعاني]•---------------------------------•[20 Oct 2003, 06:12 ص]ـ
قراءة حمزة .. لماذا كره القراءة بها بعض أهل العلم؟!

ـ[أبو خالد السلمي]•---------------------------------•[20 Oct 2003, 09:36 ص]ـ
قد تستفيد من هذا الرابط في ملتقى أهل الحديث:

لماذا كره أحمد القراءة بهذه القراءة السبعية - للأخ صلاح ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?threadid=10170) .

ـ[عبدالرحمن الشهري]•---------------------------------•[08 Dec 2003, 06:14 ص]ـ
أخي الكريم الشيخ أبا خالد السلمي سلمه الله وحفظه
شكر الله لك تفصيلك حول سؤال الأخ الكريم في تعليل كراهة الإمام أحمد لقراءة الإمام المقرئ حمزة بن حبيب بن عمارة الكوفي (ت156هـ) رحمه الله.
وأحب أن أضيف إلى ما تفضلتم به - مشكورين مأجورين - أن الإمام أبا بكر بن مجاهد (324هـ) قد برأ حمزة مما حكي عنه من الأوجه المستبشعة، وأنه كان ينهى عن الإفراط ويأمر بالتوسط في القراءة. وكان يكره التكلف الذي عاب بعضهم قراءته به مما أشرتم إليه في حديثكم.
وقد عزا ابن الجزري رحمه الله الأوجه المستبشعة التي نقلت عن حمزة إلى الرواة الذين أخذوا عنه، وهو رحمه الله كان ينهاهم عن ذلك. وقد قال عبدالله بن صالح العجلي: قرأ أخ لي أكبر مني على حمزة، فجعل يمد- أي يبالغ فيه، فقال له حمزة: لا تفعل، أما علمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قَطَط، وما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة؟!!
يقول ابن الجزري في ترجمة حمزة من غاية النهاية 1/ 261: (وأما ما ذكره عن عبدالله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة، فإن ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة، وما آفة الأخبار إلا رواتها! وقد كان حمزة يكره هذا التكلف والإفراط، وينهى عنه).
وقد ذكر تلميذ الإمام حمزة وهو محمد بن الهيثم النخعي الكوفي رحمه الله أنه صلى خلف شيخه حمزة صلاة جهرية فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد، ولا يهمز الهمز الشديد. تجد ذلك في ترجمته في غاية النهاية لابن الجزري 2/ 274 فهذا يدلك أن تلميذه كان يعرف ما ينقل عن حمزة من أنه يبالغ في المد والهمز، فأراد أن يبرأه من هذه المقولة.
وفي الختام أعتذر أخي الكريم أبا خالد السلمي عن هذا التطفل مني بين يديكم، ولكن أحببت المشاركة، وأطلب الفائدة والتقويم فحسب، وفقكم الله لكل خير.

ـ[عبدالرحمن الشهري]•---------------------------------•[11 Jan 2004, 06:57 ص]ـ
وتتميماً للفائدة إن شاء الله حول هذه المسألة. أحببت أن أذكر رأي ابن قتيبة رحمه الله في قراءة حمزة. وأرجو أن يكون مفتاحاً لحوار هادئ، ونقاش نافع، وألا يتخذه بعض من يحبون الإثارة والشغب نافذة للخروج عن جادة الحديث في هذه المسألة العلمية.
وهذا الرأي مشهور عن ابن قتيبة رحمه الله (276هـ) قاله في كتابه النفيس (تأويل مشكل القرآن) ص58 - 61 بعد أن تعرض للحن اللاحنين من القراء المتأخرين، وأن لحنهم في القراءة ليس بمستغرب لأنه قل أن يسلم أحد من اللحن والخطأ، غير أن لحنهم وخطأهم لا يكون حجة على كتاب الله:
(ثم خلف قوم من بعد من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف وزلوا وقرأوا بالشاذ وأخلّوا.
منهم رجلٌ - يعني حمزة الزيات المقرئ رحمه الله - ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب الدينُ.
لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطاً، ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصل أصلاً ويخالف إلى غيره لغير ما عِلَّةٍ. ويختار في كثير من الحروف ما لامخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة.
هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله، وتضييقه ما فسحه.
ومن العجب أنه يُقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها! ففي أي موضع تستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟!
وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتم بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.

(يُتْبَعُ)







***************************

الكتاب: تلحين النحويين للقراء
المؤلف: د. ياسين جاسم المحيميد
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]
تلحين
النحويين للقرّاء

أ. د: ياسين جاسم المحيميد
أستاذ النحو والصرف
كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(1/1)
************
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
تضمنت كتب النحو واللغة مجموعة من الردود، على قراءات بعض القراء، من غير المتواتر. وكنت لا أستغرب من العالم اللغوي النحوي، أن يرد قراءة ليست متواترة، فلما تصفحت بعض كتب النحو والتفسير، وجدت ردوداً على بعض قراءات الأئمة القراء الكبار، الذين تلقوا قراءاتهم بالأسانيد المتصلة، فوصلت قراءاتهم إلى درجة التواتر، أولئك الذين ارتضتهم الأمة الإسلامية جيلاًً عن جيل، وتلقت تلك القراءات بالقبول. فتساءلت عن الأسباب والدواعي، فلم أجد مسوّغاً للنحاة في أن يردوا قراءة متواترة، رويت بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبادرت بكتابة هذا البحث المتواضع، لأناقش هذا الموضوع مناقشة علمية هادئة، مع أنني على علم بأن هذا الموضوع ناقشه علماء كبار، لكنني أحببت أن أسهم في مناقشة هذا الموضوع، لأن لكل كاتب طريقته في الطرح والمناقشة.
أقول: إن الذي دعا النحاة أن يطعنوا ببعض قراءات الأئمة الكبار، هو اعتقادهم أن النحويين أضبط للقراءة من القراء. قال ابن جني: (ت 392 هـ) : (والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة في (بارئكم) لا حذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكناً) (1) . وقال الزمخشري: (والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الراوي، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو) (2) .
__________
(1) الخصائص 1 / 72
(2) الكشاف 1 /
(1/1)
************
والذي يظهر لجميع الباحثين أن كثيراً من القراء هم من النحاة، وأن كثيراً منهم يتميز بالضبط والدقة في النقل، وأن بعضهم أعلى رتبة من بعض النحاة. فلما رجح ابن عطية الأندلسي (ت 546هـ) نقل أبي الفتح ابن جني، على نقل أبي عمرو الداني (ت 444 هـ) ، رد عليه أبو حيان النحوي (ت 745 هـ) فقال: (هذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت، كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها، وضبط رواياتها، واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات، فضلاً عن النحاة الذين ليسوا بمقرئين، ولا رووا القرآن عن أحد، ولا روى عنهم القرآن أحد، هذا مع الديانة الزائدة، والتثبت في النقل، وعدم التجاسر، ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتاباً في (كلا وكلتا) ، وكتاباً في (إدغام أبي عمرو الكبير) ، دل على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المعربين، إلى سائر تصانيفه رحمه الله) (1) .
وإذا كانت القراءة من غير المتواتر المجمع عليه، فلا حرج عندي إذا ردها أحد علماء النحو أو اللغة، إن كان يمتلك الدليل الثابت، لأن كثيراً منها يحتج له في لغة العرب. أما إن كانت القراءة القرآنية متواترة، قد رويت بالأسانيد الصحيحة التي لا تقبل الشك، فقد نقلت آراء جهابذة العلماء في قبولها، بعد بيان الأدلة على فصاحتها، فهذه القراءات قد روتها الأمة جيلاً عن جيل، عن أفصح الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه قرأ بها وأقرأها لأصحابه، بالصورة التي وصلت إلينا متواترة كما هي.
وسوف أناقش هذه المسألة في موضعها - إن شاء الله - بعد أن أعرف بالقراءات، ضمن ما يتطلبه البحث.
__________
(1) البحر المحيط 4 / 309، وينظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم 1 / 28
(1/2)
************
تعريف القراءات
القراءات في اللغة: جمع قراءة، ومعناها الجمع والاجتماع (1) . فالقراءة مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، فهو قارئ، وهم قراء وقارئون (2) .، فالعالم بالقراءة يسمى مقرئاً وقارئاً، ومعناه العابد الناسك (3) .
والقراءة في الاصطلاح: علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم ونطقها، من تخفيف، وتشديد، واختلاف ألفاظ الوحي في الحروف (4) .
وعرف القسطلاني (ت 923 هـ) علم القراءات بأنه: (علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتاب الله، واختلافهم في اللغة والإعراب، والحذف والإثبات، والتحريك والإسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق، والإبدال من حيث السماع. أو هي: علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزواً إلى ناقله) (5) .
والمقرئ: هو العالم بالقراءات، الذي رواها مشافهة، فلو حفظ التيسير - مثلاً - ليس له أن يقريء بما فيه، إن لم يشافهه ممن شوفه به مسلسلاً، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة (6) .
والقارئ المبتدي: من شرع في الإفراد، إلى أن يفرد ثلاثاً من القراءات.
والقارئ المنتهي: من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها (7) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة قرأ، 5 / 79
(2) تاج العروس مادة قرأ، 1 / 101
(3) أساس البلاغة 1 / 100.
(4) القراءات وأثرها في علوم الغربية 1 / 16.
(5) لطائف الإشارات 1 / 170
(6) ينظر: منجد المقرئين / 49
(7) المصدر السابق / 49
(1/3)
************
واختلاف القراء في القراءات كاختلاف الآثار التي رويت في الأحكام، فمنها المجمع عليه، السائر المعروف، ومنها المتروك المكروه عند الناس، المعيب من أخذ به. إلا أن أبا الخير محمد بن الجزري (ت 833هـ) قد فرق بين اختلاف الفقهاء واختلاف القراء، قال: (اختلاف القراء كله حق وصواب، نزل من عند الله، وهو كلامه لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر في واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك، ونؤمن به) (1) .
وعلم القراءات من أشرف العلوم، لما له من تعلق بكتاب الله. وقد أمرنا الباري - سبحانه وتعالى - أن نتعبده بتلاوة كتابه الكريم، تلاوة صحيحة فقال: (ورتل القرآن ترتيلاً) (2) . ويمكن لنا أن نتعرف على أركان القراءة الصحيحة، التي يجوز للمسلم أن يتعبد بها، والتي تصح فيها صلاة المصلي، بعد أن نعرض بإيجاز عن نشأة القراءات.
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 52
(2) سورة المزمل / 4.
(1/4)
************
لمحة وجيزة عن نشأة علم القراءات
لقد نزل القرآن الكريم منجماً على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة وعشرين عاماً. قال تعالى: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) (1) . وإن أول ما نزل منه قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) (2) . فهذه الآيات هن أول رحمة رحم الله بها الدنيا، وأول نعمة أنعم الله بها على البشرية. وإن آخر آية نزلت في أرجح الأقوال (3) هي: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (4) . وإنّ نزول القرآن منجماً هو بمثابة نشوء للقراءات، فقد أقرأ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم من أوله إلى آخره آية آية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّم الصحابة بعد نزول الآيات مشافهة، وهم بدورهم يعلمونها من سواهم. وكان النبي الكريم يتلو الآيات على أصحابه حسب لهجاتهم الفصيحة، تيسيراً عليهم. فيأخذونها عنه مشافهة بلهجاتهم التي تختلف من قبيلة إلى أخرى.
ثم إن الصحابة - رضوان الله عليهم - قد اختلف أخذهم وتلقيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب نزول القرآن على سبعة أحرف، فلما تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال، اختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابعي التابعين عن التابعين، وهلم جرّا، حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين، الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات، يضبطونها ويتقنونها وينشرونها.
__________
(1) سورة الإسراء / 106.
(2) سورة العلق / 1 - 4.
(3) ينظر فتح القدير 1 / 380
(4) سورة البقرة / 181.
(1/5)
************
وحينما استحر القتل بالقراء في حروب الردة، أي: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. طلب عمر بن الخطاب (ت 23هـ) من أبي بكر (ت 13هـ) - رضي الله عنهما - أن يجمع القرآن الكريم، فقال: (إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. . .) (1) . فلم يزل عمر يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره لذلك. فأمر زيد بن ثابت (ت 45 هـ) مع بعض الصحابة، وهم أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) ، وعبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) ، وعثمان بن عفان (ت 35 هـ) ، وعلي بن أبي طالب (ت 40 هـ) ، وطلحة بن عبيد الله (ت 36 هـ) ، وحذيفة ابن اليمان (ت 36 هـ) ، وأبو الدرداء (ت 33 هـ) ، وأبو هريرة (ت 57 هـ) ، وأبو موسى الأشعري (ت 42 هـ) رضي الله عنهم، أمرهم أن يتتبعوا القرآن ويجمعوه. (2) .
وقد اعتمدت الأمة في نقل القرآن على الحفاظ، ولذلك أرسل عثمان - رضي الله عنه - إلى الأمصار كل مصحف مع من يوافق قراءته، في الأكثر. وبعد ذلك قرأ كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه عن النبي - صلى اله عليه وسلم - ثم تجرد لأخذ القراءات عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها، وأتعبوا نهارهم في نقلها، حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء، وأنجماً للاهتداء، فأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم. ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم، وذلك لتصديهم للقراءة التي نسبت إليهم، وكان المعول فيها عليهم. (3)
__________
(1) صحيح البخاري، رقم الحديث 4701، 4 / 1907، وينظر: السبعة في القراءات /6
(2) تتمة الحيث 4701، والسبعة / 6
(3) ينظر: مناهل العرفان / 412
(1/6)
************
أركان القراءة الصحيحة:
القراءة الصحيحة ما توافرت فيها الأركان الثلاثة المعروفة لدى القراء، وهي: صحة السند، وموافقة رسم المصحف، وموافقة العربية ولو بوجه من وجوهها. وأول من أشار إلى هذا الضابط هو أبو جعفر الطبري (1) (ت 310 هـ) ، ثم الحسين بن أحمد بن خالويه (2) (ت 370 هـ) ، ثم مكي بن أبي طالب القيسي (3) (ت437 هـ) ، ثم أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي (4) (ت بعد 430 هـ) ، ثم أبو عمرو الداني (5) (ت 444هـ) ، ثم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (6) (ت665هـ) ، ثم أبو الخير محمد بن محمد المعروف بابن الجزري (7) . قال ابن الجزري: (كل قراءة وافقت العربية ولو بوجهٍ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة، التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها) (8) .
وقد نظمها ابن الجزري في طيبة النشر بقوله:
وكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالاً يحوي
وصح إسناداً هو القرآن ... من هذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة (9)
__________
(1) ينظر: الإبانة / 60، حيث نقل نصاً من كتاب (القراءات) للطبري، صرح فيه بشرط صحة السند، وموافقة الرسم، ويؤخذ موافقة اللغة منهما.
(2) القراءات، لابن خالويه / 18، مخطوط مصور عن معهد المخطوطات العربية بالقاهرة. ينظر: القراءات القرآنية، تاريخ وتعريف / 43، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1 / 162
(3) الإبانة / 10، 103، 139
(4) المصدر السابق 1 / 9
(5) المصدر السابق 1 / 9
(6) المرشد الوجيز / 145، 171
(7) النشر في القراءات العشر 1 / 44، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1 / 163.
(8) النشر في القراءات العشر 1 / 9.
(9) النشر في القراءات العشر 1 / 9، وينظر: شرح طيبة النشر في القراءات العشر / 5.
(1/7)
************
وإليك تفسير هذه الضوابط:
1- أن توافق القراءة العربية بوجه من الوجوه. والمراد بما وافق العربية بوجه من وجوه اللغة العربية، سواء أكان أفصح أم فصيحاً، مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه اختلافاً لا يضرّ مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية (1) .
2- أن تكون موافقة لإحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، كقراءة ابن عامر:
(قالوا اتخذ الله ولداً) في سورة البقرة بغير واو، و (بالزبر وبالكتاب المنير) في سورة (آل عمران) بزيادة الباء في الاسمين، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي. ومثل:
(ملِك يوم الدين) في سورة الفاتحة بغير ألف، فإنه كتب بغير ألف بعد الميم في جميع المصاحف، فقراءة الحذف تحتمله. ويندرج فيه ما وقع الاختلاف في الحركة والسكون، مثل (القدُْس) ، وبالتخفيف والتشديد مثل (ينشركم) بيونس، وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل، مثل (ادخلوا) بغافر، وباختلاف الإعجام مثل (يعلمون) ، وبالإعجام والإهمال مثل (ننشزها) ، وكذا المختلف في كيفية لفظها، كالمدغم والمسهل والممال والمرقق، فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها. ودخل في هذا قراءة ابن كثير في (جنات تجري من تحتها الأنهار) من سورة التوبة، فإنه ثابت بالمصحف الكوفي.
واعلم أن من خالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفاً، إذا ثبتت القراءة به، ووردت مشهورة. ألا ترى أنهم يعدون إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء (تسألني) بالكهف، وقراءة (أكون من الصالحين) ، ونحو ذلك، من مخالف الرسم غير مردود، لتمشيه مع صحة القراءة، بخلاف زيادة كلمة ونقصانها. (2)
__________
(1) ينظر: النشر في القراءات العشر 1 / 9، ومناهل العرفان 1 / 418.
(2) ينظر: النشر في القراءات العشر 1 / 9، ومناهل العرفان 1 / 419.
(1/8)
************
3- صحة إسنادها، والمراد بصحة الإسناد أن يروي هذه القراءة عدل ضابط عن مثله، وهكذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، من غير شذوذ ولا علة قادحة. والعلامة ابن الجزري يشترط فوق ذلك التواتر، وهو أن يروي القراءة جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم، وهكذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون انقطاع في السند. وإذا اختل ركن من هذه الأركان فالقراءة تكون عند ذلك شاذة (1) .
وإن كل قراءة اجتمعت فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها. وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، إن كانت تلك القراءة مروية عن الأئمة العشرة. فإذا اجتمعت في القراءة هذه الأركان الثلاث، قطع بصحتها وصدقها، ولا فرق بينها وبين القرآن (2) .
ويمكن لكل من لم يتحقق من القراءة الصحيحة المكتملة الأركان أن يقع في الخطأ، وقد وقع الأعرابي الذي قرأ في أيام الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الخطأ.
__________
(1) ينظر: النشر في القراءات العشر 1 / 9 ... ، ومناهل العرفان 1 / 420.
(2) ينظر: مناهل العرفان 1 / 421.
(1/9)
************
ذكر ابن الأنباري في نزهة الألباء، قال: (قدم أعرابيّ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني شيئاً مما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة، فقرأ: (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بجر اللام، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة لا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذه السورة براءة، فقال: (إن الله برئ من المشركين ورسولِه) . فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله، فأنا برئ منه، فقال عمر - رضي الله عنه -: ليست هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: (إن الله برئ من المشركين ورسولُه) بالرفع. فقال الأعرابي: أنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة العربية) (1) .
من خلال هذه الرواية ندرك مدى ارتباط القراءة بسلامة اللغة، ذلك أن الأعرابي بفطرته وسليقته أدرك وجه القراءة الخاطئة من الصائبة.
الفرق بين القرآن والقراءة
يتساءل كثير من الناس: ما الفرق بين القراءة والقرآن؟ ودار حول هذا الموضوع مناقشات ومناظرات، قديماً وحديثاً. فتعددت الأقوال في ذلك، وسأجمل ما قاله العلماء في قولين مشهورين:
القول الأول: وهو رأي مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ) ، وبدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) ، وهو التفريق بين القراءة والقرآن. مع اختلاف في وجهات النظر.
فيرى مكي أن التفريق بين القراءة والقرآن له شروط، فإن كانت القراءة:
__________
(1) نزهة الألباء / 123، وينظر مناهل العرفان 1 / 420. وينظر: مواقف النحاة من القراءات القرآنية / 8
(1/10)
************
1- منقولة عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
2- شائعة في العربية.
3- موافقة لرسم المصحف.
فهي القراءة التي يقرأ بها، يعني هي قرآن. وإن اختل شرط من هذه الشروط، فليست بقراءة يقرأ به، يعني ليست بقرآن (1) .
ونقل هذا عن أبي عمرو الداني (2) (ت 444 هـ) ، وذكره السخاوي (ت 643 هـ) في جمال القراء (3) ، وصرح بموافقة مكي أبو شامة في المرشد الوجيز (4) .
ويرى الزركشي أن هناك فرقاً بين القراءة والقرآن، يفيد أنهما حقيقتان متغايرتان، يختلف عما ذهب إليه مكي، قال: (اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على (محمد) - صلى الله عليه وسلم - للبيان والإعجاز. والقراءات: هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف، أو كيفيتها، من تخفيف، وتثقيل، وغيرهما. ولا بد من التلقي والمشافهة، لأن القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع) (5) .
القول الثاني: أصحاب هذا القول لم يفرقوا بين القرآن والقراءة، فكل قراءة عندهم هي قرآن، وهذا القول نقله ابن الجزري في منجد المقرئين (6) ، عن ابن دقيق العيد (ت 702 هـ) . ويرى ابن الجزري: أن القراءة المتواترة هي قرآن، كما يرى أن القراءة المشهورة هي قرآن.
__________
(1) الإبانة عن معاني القراءات / 57 - 58 - 100، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1 / 113 - 114
(2) ينظر: النشر في القراءات العشر 1 / 9
(3) جمال القراء 2 / 440
(4) المرشد الوجيز / 171 - 172
(5) مقدمة البرهان في علوم القرآن 1 / 5 - 13
(6) منجد المقرئين / 20 - 21، وينظر: النشر في القراءات العشر 1 / 15
(1/11)
************
قال معقباً على القراءات المشهورة: (هذا وشبهه وإن لم يبلغ مبلغ التواتر صحيح مقطوع به، نعتقد أنه من القرآن، وأنه من الأحرف السبعة التي نزل بها، والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم تلقي بالقبول، قطع به وحصل به العلم) (1) . ويرى ابن الجزري أن القراءات العشرة كلها متواترة مقطوع بها، منزلة على النبي - صلى الله عليه وسلم _ وهي من الأحرف السبعة (2) .
__________
(1) منجد المقرئين / 19، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1 / 152
(2) منجد المقرئين / 16، والمصدر السابق 1 / 152 - 153
(1/12)
************
والذي يظهر لي أن القراءات المتواترة هي قرآن، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل ما وافق السبعة من الثلاثة المعشرة هو قرآن، وأن القراءات الشاذة ليست بقرآن، لأن كثيراً منها أشبه بالتفسير. أما المتواترة فهي ما رسم في المصاحف. فالمصحف الذي يقرأ به اليوم في معظم العالم الإسلامي هو قراءة حفص عن عاصم، والمصحف الذي يقرأ به في المغرب، هو قراءة ورش عن نافع، والمصحف الذي يقرأ به في السودان، هو قراءة الدوري عن أبي عمرو. فالقرآن هو القراءة المتواترة ولا فرق. وهناك أدلة من السنة المطهرة، تشير إلى أن القراءات المتواترة هي قرآن - مع أنني أعتقد أن هذه الأحاديث لا تفوت العلامة الزركشي وغيره من العلماء، الذين فرقوا بين القراءة والقرآن، ومن هذه الأحاديث: ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى من حديث أبيّ بن كعب _ رضي الله عنه _ أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل _ عليه السلام _ فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك) ، ثم أتاه الثانية، فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين) ، فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك) ، ثم أتاه الثالثة، فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف) ، فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك) ، ثم جاءه الرابعة فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا) (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي رقم الحديث (1903) 6 / 344 ...
(1/13)
************
وكذلك حديث عمر - رضي الله عنه - قال: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - أرسله، اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت) ، ثم قال لي: (اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه) (1) .
وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل - عليه السلام - على حرف واحد فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (2) . فهذه الأحاديث تدل على أن القراءات التي قرأ بها النبي _ صلى الله عليه وسلم _ هي قرآن، لأن القراءات هي امتداد للأحرف السبعة، لا كما يقول بعضهم: إنها تمثل حرفاً واحداً. والله أعلم بالصواب.
وقد انتهج علماء القراءات - منذ عصر الصحابة - أسلوباً علمياً دقيقاً، في انتقال قراءة القرآن من المعلّم إلى المتعلّم: فلم يكن الشيخ يأذن لتلميذه بالإقراء إلا بعد أن يسمع التلميذ من الشيخ أولاً، ثم يعرض على شيخه ما سمعه منه. وقد صنع رجال الحديث النبوي الشريف في تحمل السنة شيئاً قريباً من هذا، غير أنهم اكتفوا في تحمل الحديث بالسماع من لفظ الشيخ، ولا كذلك علماء القراءات (3) .
__________
(1) رواه البخاري 6 / 100، ومسلم 2 / 202، واللفظ لمسلم.
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه6 / 100، ومسلم في صحيحه2 / 202، وينظر: المغني في توجيه القراءات العشر 1 / 50.
(3) ينظر إتحاف فضلاء البشر / 5.
(1/14)
************
فأئمة القراءات هم الذين خدموا الأمة والملّة، وحافظوا على الكتاب والسنة؛ يقول السيوطي فيهم: (لما اتسع الخرق، وكاد الباطل أن يتلبس بالحق، قام جهابذة الأمة وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا الصحيح والمشهور والشاذ، بأصول أصّلوها وأركان فصلوها) (1) .

من هم القراء السبعة؟
لما انتهت رئاسة علم القراءات إلى ابن مجاهد (أحمد بن يوسف بن العباس أبو بكر بن مجاهد ت 324 هـ) ، شرع في اختيار قراءات، نظر فيها إلى كل إمام اشتهرت قراءته، وفاق قراء عصره ضبطاً وإتقاناً، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وشهد له أهل مصره بالأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم، واتباع خط المصحف المنسوب إلى مصره، فأفرد من كل مصر إماماً هذه صفته، قراءته على مصحف مصره، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، وكلهم ممن اشتهرت أمانته، وطال عمره في الإقراء، وارتحل الناس إليه من البلدان (2) .
وقد علل مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ) سر اختيارهم سبعة، فقال:
(ليكونوا على وفق مصاحف الأمصار السبعة (3) ، وتيمناً بأحرف القرآن السبعة. . . على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمنع ذلك، إذ عدد القراء الموثوق بهم أكثر من أن يحصى) (4) .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1 / 104. وينظر: الوجيز في أصول القراءات وتوجيهها من لغة العرب / 2
(2) الإبانة / 47، 48
(3) بزيادة مصحف لأهل اليمن، ومصحف لأهل البحرين إلى الخمسة المشهورة، ولم يجد ابن مجاهد إمامين في هذين المصرين، فاستعاض عنهما بإمامين من أهل الكوفة، لكثرة القراء بها، قاله أبو شامة في مرشد المقرئين / 162، وينظر: من قضايا القرآن / 157، 158.
(4) الإبانة / 51
(1/15)
************
ولعل من المفيد أن نستعرض هؤلاء الأئمة الذين اختارهم ابن مجاهد، حسب ترتيب الإمام الشاطبي لهم في (حرز الأماني) ، وحسب ترتيب ابن الجزري لهم في طيبة
النشر:
الأول: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي: اختلف في كنيته، فقيل: أبو رويم، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو الحسن. قال نافع: (قال لي أستاذي أبو جعفر: قد عرفنا اسمك، فما كنيتك؟ فقلت: إن أبي سماني نافعاً، ترى أن تكنيني؟ فقال: أنت وجهك حسن، وخلقك حسن، وقراءتك حسنة، وأنت أبو الحسن) (1) ، إمام أهل المدينة في القراءة، قرأ على سبعين من التابعين، وأقرأ الناس دهراً طويلاً. قال عنه الإمام مالك: نافع إمام الناس في القراءة، (ت 169 هـ) (2) .
الثاني: عبد الله بن كثير، بن عمرو، بن عبد الله، بن زاذان، عبد المطلب الداري المكي، أبو معبد، وقيل أبو محمد، وقيل أبو بكر، وقيل: أبو عباد، وقيل: أبو المطلب، إمام أهل مكة في القراءة، تصدر للإقراء وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن. كان فصيحاً بليغاً، قال عنه الأصمعي: كان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد بن جبر، وما زال هو الإمام المجمع عليه بالقراءة حتى مات سنة (120 هـ) (3)
__________
(1) ينظر ترجمته في: وفيات الأعيان 5/ 368 - 369، وسير أعلام النبلاء 7 / 336 - 338، وغاية النهاية 2 / 330، وتهذيب التهذيب 10 / 407 - 408، وشذرات الذهب 1 / 270، وغاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار 1 / 12، ومعرفة القراء الكبار 1 / 107
(2) ينظر: غاية النهاية 2 / 330، معرة القراء الكبار 1/ 108
(3) ينظر ترجمته في هداية القاري / 28، ووفيات الأعيان 3 / 41 - 42، وسير أعلام النبلاء 5 318 - 322، وتهذيب التهذيب 5 / 367، وشذرات الذهب 1 / 157.
(1/16)
************
الثالث: أبو عمرو زبان بن العلاء عمار بن العريان بن عبد الله المازني البصري. ولد بمكة، ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة (1) ، قرأ بالكوفة والبصرة على جماعة كثر، وليس في القراء السبعة أكثر شيوخاً منه، سمع أنس بن مالك، كان عالماً بالقرآن والعربية، مع الثقة والأمانة والدين، قال عنه يونس بن حبيب: والله لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان، لكانوا كلهم علماء زهاداً، والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ما هو عليه. توفي بالكوفة سنة (154 هـ) (2) .
الرابع: أبو عمران عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي الشامي، (من يحصب دهمان) (3) . عربي صريح النسب، قال عنه الإمام ابن الجزري: بلغت قراءته التواتر، كيف وقارئها ابن عامر من كبار التابعين، الذين أخذوا القراءة عن الصحابة) (4) ، كان إمام جامع دمشق وقاضيها وشيخ الإقراء بها. توفي بدمشق سنة (118هـ) (5) .
__________
(1) غاية الاختصار 1 / 35
(2) ينظر ترجمته في هداية القاري / 648، ووفيات الأعيان 3 / 466 – 470، وسير أعلام النبلاء 6 / 407 – 410، وتهذيب التهذيب 12 / 178، وشذرات الذهب 1 / 237 – 238.
(3) ينظر: جمهرة أنساب العرب / 478
(4) النشر في القراءات العشر 2/ 262
(5) ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 5 / 292، وغاية النهاية في طبقات القراء 1 / 423 – 425، وتهذيب التهذيب 5 / 274، وشذرات الذهب 1 / 156، وغاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار 1 / 29، والطبقات الكبرى لابن سعد 7 / 449.
(1/17)
************
الخامس: أبو بكر عاصم بن أبي النجود، واسم أبي النجود: بهدلة، الأسدي، شيخ الإقراء بالكوفة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد السلمي، فجلس في موضعه، ورحل إليه الناس من الأقطار، جمع بين الفصاحة والإتقان، كان ضابطاً صدوقاً، روى عنه أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد، وعدد كبير من الأئمة، توفي على أرجح الأقوال سنة (127 هـ) (1) .
السادس: أبو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات التميمي الكوفي، كانت له الإمامة في الإقراء بعد عاصم، كان حجة ثقةً ثبتاً بصيراً بالفرائض عالماً بالعربية، حافظاً للحديث، فقال عنه سفيان الثوري: (غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض) (توفي سنة 156 هـ) (2) .
السابع: علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكسائي الكوفي، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات، أخذ اللغة عن الخليل بن أحمد، فصار إماماً في القراءات واللغة والنحو، وإماماً للمدرسة النحوية الكوفية، توفي سنة (189 هـ) (3) .
__________
(1) ينظر ترجمته في تهذيب التهذيب 2 / 109، وسير أعلام النبلاء 5 256، غاية النهاية 1 /346 - 349، وتهذيب التهذيب 5 / 38، ومعرفة القراء الكبار 1 / 88، وهداية القاري / 28.
(2) ينظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 6 / 385، ووفيات الأعيان 2 / 216، وسير أعلام النبلاء 7 / 90 - 92، وغاية النهاية 1 / 261 - 263، وشذرات الذهب 1 / 240، ومعرفة القراء الكبار 1 / 110، غاية الاختصار 1 / 56، شرح طيبة النشر / 10، وهداية القاري / 648.
(3) ينظر: غاية النهاية 1 / 62، ووفيات الأعيان 3 295 - 297، وسير أعلام النبلاء 9 / 131، وتهذيب التهذيب 7 / 313 - 314، وشذرات الذهب 1 / 321، ومعرفة القراء الكبار 1 / 120، وهداية القاري / 685.
(1/18)
************
القراءات في كتب النحويين
القراءات أصل في كتب النحو، لأن القرآن الكريم بقراءاته المتواترة أصل للنحو العربي، ولأن النحو قد ارتبط بالقرآن الكريم منذ نشأته. وقد صرّح بذلك علماء العربية منذ عهد سيبويه (ت180 هـ) ، وحتى المتأخرين من النحاة:
يقول سيبويه (ت 180 هـ) : (في قول الله تبارك وتعالى (ما هذا بشراً) (1) ، في لغة أهل الحجاز، وبنو تميم يرفعونها، إلا من درى كيف هي في المصحف) (2) .
ويعلق الزركشي (ت 794هـ) على كلام سيبويه بقوله: (وإنما كان كذلك لأن القراءة سنة مروية عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ولا تكون القراءة بغير ما روي عنه) (3) . ويقول سيبويه أيضاً: (فأما قوله عز وجل: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (4) ، فإنما هو على قوله: (زيداً ضربته، وهو عربي كثير. وقد قرأ بعضهم: (وأما ثمود فهديناهم) (5) . إلا أن القراءة لا تخالف، لأن القراءة السنة) (6) .
ويقول أبو عمرو الداني (ت 444هـ) : (والأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية. إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، فلزم قبولها والمصير إليها) (7) .
__________
(1) سورة يوسف /31
(2) الكتاب لسيبويه 1 /59
(3) البرهان في علوم القرآن 1 /322
(4) سورة القمر /49
(5) فصلت / 17
(6) الكتاب لسيبويه 1 /148
(7) عن المنجد / 65
(1/19)
************
تلحين النحويين للقرّاء
المعروف أن النحويين احتجوا بالقراءات القرآنية كما احتجوا، بعموم كلام العرب، فلا يوجد كتاب من كتب النحو المعتمدة إلا واستدل بالقراءات القرآنية. وأعتقد أن ما نقل من طعن بعض النحويين في بعض القراءات، هو محمول على أن القراءة لم تثبت لديه بما تقوم به الحجة، أو لأن الذي اجتهد قد غلب على ظنه أن هذه القراءة خطأ، أو وهم من أحد الرواة الذين نقل عن طريقه هذه القراءة التي طعن فيها (1) .
وقد استمد علماء اللغة والنحو قواعدهم من كتاب الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب الفصيح. فقعدوا القواعد، لتكون حامية للقرآن والسنة، بل لتكون في خدمة كتاب الله. والحق أنه إذا ثبتت القراءة حسب الأركان التي مرت بنا قبل قليل، فينبغي أن تكون القراءة هي الحكم على القاعدة النحوية، لا أن نرجع نحن بالقراءة إلى القاعدة النحوية، لأن هذه القراءة مسموعة عن أفصح العرب بالإجماع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الفصحاء، وسيد أهل البيان.
ومعروف لدى الباحثين - كذلك - أن القراءات المتواترة حجة عند كثير من النحاة، وقد ارتضوها ووافقوا عليها. وأن بعض القراءات لم يرتضه بعض النحويين، فتأولها، أو عارضها معارضة صريحة أو خفية، لسبب من الأسباب
من أسباب تلحين النحويين للقراء
اعتمد النحويون في تلحين القراء على جملة من الأسباب، منها:
1- أنهم كانوا يحتكمون إلى قواعدهم التي قعدوها هم، أو قوانينهم التي سنوها، فرد البصريون قراءات متواترة، كالفصل بين المضاف والمضاف إليه، وهي قراءة ابن عامر، وكالعطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهي قراءة حمزة، وغيرها مما سيرد _ إن شاء الله _ في هذا البحث.
2- أحياناً يخفى توجيه القراءة على بعض النحويين، فيسارع إلى ردها، كقراءة
__________
(1) ينظر القراءات القرآنية وأثرها في التفسير والأحكام 1 / 249
(1/20)
************
(هئت لك) بكسر الهاء، وفتح التاء، التي قال عنها أبو علي الفارسي (ت 377 هـ) : (إنها وهم من الراوي) (1) . وكقراءة حمزة (إلا أن يخافا) (2) بالبناء للمفعول، قال الفراء عنها: (ولا يعجبني ذلك) (3) . وكقراءة ابن كثير (إن قتلهم كان خطاء كبيراً) قال أبو حيان في البحر: (قال النحاس: لا أعرف لها وجهاً) (4) .
3- ينظر بعض النحويين إلى الشائع من اللغات، ويغفل عن غيره، كقراءة ابن عامر (يدعون ربهم بالغدوة) (5) . جاء في الكتاب: في (غدوة) لغتان، اللغة الأولى استعمالها معرفة، علم جنس، فلا تدخل عليها أل، واللغة الثانية: استعمالها نكرة، فيجوز تعريفه (6) . إلا أن أبا عبيدة لحن ابن عامر، وقال إنما قرأ تلك القراءة اتباعاً لخط المصحف، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكوة بالواو (الصلوة) (الزكوة) (7) .
4- رد بعض النحويين قراءة ربما وافقت القياس، كقراءة (أيمّة) بالياء، وقد قال الزمخشري: (فأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن) (8) . وهي قراءة نافع في أحد وجهيه، من طريق طيبة النشر (9) .
يقول ابن خالويه (ت 370 هـ) : (قد أجمع الناس جميعاً أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن، لا خلاف في ذلك) (10) .
__________
(1) الحجة في القراءات 4 /420
(2) سورة البقرة / 239 ...
(3) معاني القرآن 1 / 145
(4) البحر المحيط 6 / 32، وينظر: إعراب القرآن للنحاس 1 /314
(5) سورة الكهف / 28
(6) الكتاب 2 / 48
(7) البحر المحيط 4 / 136
(8) الكشاف 2 / 142، وينظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم 1 / 22
(9) ينظر: غيث النفع / 114 _ 115
(10) نقلاً عن المزهر في علوم العربية 1 / 213، وينظر القراءات وأثرها في التفسير 1 / 246
(1/21)
************
وقد شنع ابن حزم (ت 456 هـ) على النحاة الذين يردون بعض القراءات، لمخالفتها القياس بزعمهم، ثم هم يثبتون اللغة بما هو دون القراءة، فقال: (ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس (ت نحو 130 - 180 ق. هـ) ، أو لزهير (ت 13 ق. هـ) ، أو لجرير (ت 110 هـ) أو الحطيئة، أو الطرماح (ت نحو 125 هـ) ، أو لأعرابي أسدي، أو أسلمي، أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب بوّال على عقبيه، لفظاً في شعر، أو نثر، جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرفه عن مواضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه، وإذا وجد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاماً فعل به مثل ذلك (1) . وسوف أناقش بعض النحاة الذين ردوا بعض القراءات المتواترة. ولما رأيت كثيراً من النحاة يلحن قراءة ابن عامر وقراءة حمزة، أحببت أن أقدمهما، وأتوسع في مناقشة هاتين القراءتين، إن شاء الله
تعالى:
أمثلة من تلحين النحويين للقراء وردود عليها:
إن كتب النحو واللغة والتفسير وغيرها قد تضمنت نصوصاً كثيرة في الطعن على الأئمة القراء، الذين تواترت قراءاتهم، وارتضتها الأمة بالقبول. وقد أحصيت أكثر من خمسين موضعاً في الرد على قراءات سبعية متواترة، قرأ بها الأئمة الأعلام. ولا أستطيع من خلال هذا البحث أن أناقش النحويين في كل المواضع، فإنه يحتاج إلى دراسة مستفيضة. لكنني سأذكر أمثلة - هنا - لإيضاح الفكرة ومناقشتها:
__________
(1) الفصل في الملل والنحل 3 / 192، وينظر القراءات وأثرها في التفسير 1 / 247
(1/22)
************
مثال (1) : قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (1) . قرأ ابن عامر (زين) بضم الزاي، على ما لم يسم فاعله، و (قتل) بالرفع، على أنه مفعول لم يسم فاعله، و (أولادهم) بالنصب، وخفض همزة (شركاؤهم) شركائهم، فتكون قراءة الباقين بفتح الزاي والياء، ونصب لام قتل، وخفض دال أولادهم، ورفع همزة (شركاؤهم) (2) .

* التلحين:
ردّ هذه القراءة أبو زكريا الفراء (3) ، إلا أن ردّه لم يكن صريحًا، بل ذكر أنه لم يعرف جهتها. قال: (وفي بعض مصاحف أهل الشام (شركايهم) بالياء.
فإن تكن مثبتة عن الأولين فينبغي أن يقرأ (زين) ، وتكون (الشركاء) هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث ... فإن كانوا يقرؤون (زين) ، ولست أعرف جهتها، إلا أن يكونوا منها آخذين بلغة قوم يقولون: (أتيتها عشايا) ثم يقولون في تثنية الحمراء: (حمرايان) فهذا وجه أن يكونوا قالوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم، وإن شئت جعلت زين إذا فتحته فعلاً لإبليس، ثم تخفض الشركاء باتباع الأولاد (4) .
قال مكي في الكشف: (وهذه القراءة فيها ضعف) (5) .
وقال نصر بن علي الشيرازي الفارسي النحوي (ت 565 هـ) : (بنى الفعل للمفعول، وأسنده إلى القتل، وأعمل القتل الذي هو مصدر الفعل، وأضافه إلى الشركاء، وهو فاعل، ونصب الأولاد، لأنه مفعول به، وفصل بالأولاد بين المضاف والمضاف إليه، والتقدير: زين لهم قتل شركائهم أولادهم، فقدم وأخر، وهو قبيح، قليل في الاستعمال) (6) .
__________
(1) سورة الأنعام/ 137.
(2) ينظر: السبعة / 270، والتيسير / 107، والكشف عن وجوه القراءات 1 / 453، والموضح في وجوه القراءات وعللها 1 / 505، والوافي في شرح الشاطبية / 268
(3) معاني القرآن 1 / 357
(4) معاني القرآن للفراء1 / 357 - 358.
(5) الكشف 1 / 454
(6) الموضح في وجوه القراءات وعللها 1 / 506
(1/23)
************
سبحان الله العظيم، كيف تكون قبيحة؟ وهي قراءة متواترة، رويت بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الطبري فقد استقبح هذه القراءة أيضاً، فردها معتمداً في ذلك على القاعدة النحوية لدى البصريين، التي لا تجيز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. يقول: (قرأ أهل الشام (وكذلك زين) بضم الزاي لكثير من المشركين (قتل) بالرفع، (أولادهم) بالنصب، (شركائهم) بالخفض، بمعنى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، ففرقوا بين الخافض والمخفوض ... وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح (1) .
وأما الزمخشري فردها كذلك بقوله: (وأما قراءة ابن عامر (قتل أولادهم شركائهم) برفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء، على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجًا مردوداً (2) .
* الرد:
وممن صوب هذه القراءة: ابن مالك، وأبو حيان، وابن الجزري، والأشموني، والصبان، والسيوطي، والآلوسي، وغيرهم. وأكتفي بما قاله ابن مالك، وأبو حيان، وابن الجزري، قال ابن مالك في الكافية الشافية:
فصل مضاف شبه فعل ما نصب ... مفعولاً أو ظرفاً أجز ولم يعب
فصل يمين واضطراراً وجدا ... بأجنبي أو بنعت أو ندا (3) .

فقد أجاز ابن مالك أن يفصل بين المضاف والمضاف إليه بما نصبه المضاف، من مفعول أو ظرف أو ما يشبهه (4) ، خالف في ذلك المدرسة البصرية التي ينتمي إليها.
وممن دافع هذه القراءة أبو حيان الأندلسي النحوي، قال وهو يرد على الزمخشري:
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القران 8 / 31.
(2) الكشاف 2 / 54.
(3) ينظر: شرح ابن عقيل على الألفية 3 / 82.
(4) ينظر: المصدر السابق 3 / 82.
(1/24)
************
(وأعجب لعجمي ضعيف في النحو (1) ، يرد على عربي صريح محض، قراءة متواترة، موجود نظيرها في لسان العرب، في غير ما بيت. . . وأعجب لسوء ظن الرجل بالقرّاء الأئمة، الذين تخيرتهم هذه الأمة، لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم وفهمهم وديانتهم ... وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب: هو غلام - إن شاء الله - أخيك. فالفصل بالمفرد أسهل) (2) .
وقد استدل أبو حيان في رده على الزمخشري بقول أبي الفتح: (إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال العربي، وما جاء به، فإذا كان فصيحاً، وكان ما أورده يقبله القياس، فالأولى أن يحسن الظن به، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة، قد طال عهدها وعفا رسمها. ثم استدل بقول أبي عمرو بن العلاء المشهور: (ما انتهى إليكم مما قاله العرب إلا أقله، ولو جاءكم لجاءكم علم وافر وشعر كثير) (3) .
__________
(1) ليس الزمخشري ضعيفاً في العربية، فهو إمام من أئمتها، إلا أنه جانب الصواب في رده لقراءة متواترة.
(2) البحر المحيط 4 / 229.
(3) البحر المحيط 4 / 229، وأثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية / 75 - 76.
(1/25)
************
أما ابن الجزري فقال: (قلت: والحق في غير ما قاله الزمخشري، ونعوذ بالله من قراءة القرآن بالرأي والتشهي. وهل يحل لمسلم بما يجد في الكتابة من غير نقل؟ بل الصواب جواز مثل الفصل، وهو الفصل بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول في الفصيح الشائع الذائع اختياره. ولا يختص ذلك بضرورة الشعر. ويكفي في ذلك دليلاً هذه القراءة الصحيحة المشهورة، التي بلغت التواتر. كيف وقارئها ابن عامر من كبار التابعين، الذين أخذوا عن الصحابة، كعثمان بن عفان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما -، وهو مع ذلك عربي صريح، من صميم العرب. فكلامه حجة، وقوله دليل على أنه كان قبل أن يوجد اللحن ويتكلم به، فكيف وقد قرأ بما تلقى وتلقن وروى وسمع ورأى ... ) (1) .
وهذه الأدلة كافية لأن يعتقد الباحث أن هذه القراءة ليست قبيحة كما قال بعضهم، ولا ضعيفة، بل هي أجدر بالتقدير من القاعدة النحوية المستحدثة. وقد تحقق نقلها بالتواتر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهل القدسية للقراءة المتواترة؟ أم للقاعدة النحوية؟
فاللسان العربي اشتمل على كثير من الأساليب التي ورد فيها الفصل بين المتضايفين، بأشكال وأنواع شتى، في شعر الأعشى وعمرو بن كلثوم، وبجير بن زهير، ومعاوية بن أبي سفيان، وتأبط شراً، والفرزدق، وجرير، وأبي زيد الطائي، وأبي حية النميري، وذي الرمة. (2) .
وهذه القراءة قوية في النقل والمعنى.
أما النقل: فوردت شواهد كثيرة، منها قول الشاعر:
عتوا إذ أجبناهم إلى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل (3)
__________
(1) النشر في القراءات العشر 2 / 263.
(2) ينظر: نظرية النحو القرآني / 82.
(3) وبعده: ومن يلغ أعقاب الأمور فإنه ... جدير بهلك آجل أو معاجل
وهو من شواهد الأشموني، بشرحه على ألفية ابن مالك، رقم 497. ...
(1/26)
************
حيث فصل بين المضاف وهو (سوق) ، والمضاف إليه وهو (الأجادل) . والأجادل: جمع أجدل، وهو طائر ضعيف، بقوله: البغاث. وقول الشاعر:
فزججتها بمزجة ز ... جّ القلوص أبي مزادة (1)

حيث فصل بين المضاف (زج) ، والمضاف إليه (أبي مزادة) ، بالمفعول
(القلوص) . وجاء مثله قراءة بعض السلف (2) (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) (3) ، حيث نصب (وعده) على أنها مفعول به للمصدر (مخلف) . وكقول الشاعر:
ما زال يوقن من يؤمك بالغنى ... وسواك مانع فضله المحتاج (4)

ففصل بالمفعول (فضله) بين المضاف (مانع) ، والمضاف إليه (المحتاج) .
وأما المعنى، فمن أوجه:
1- كون الفاصل فضلة، فإنه صالح لعدم الاعتداد به.
2- أنه غير أجنبي، يعني: الفاصل، لأنه معمول للمضاف وهو المصدر.
__________
(1) ينظر معاني القرآن للفراء 1 / 358، والخصائص 2 / 406، والحجة لأبي زرعة / 373، والفريد في إعراب القرآن الكريم للمنتجب الهمداني 3 / 177. وهو من شواه الأشموني بشرحه على ألفية ابن مالك برقم / 499.
(2) هي قراءة ذكرها الزمخشري في الكشاف 2 / 530 وألمع عنها بالضعف، وذكها الهمداني في الفريد في إعراب القرآن المجيد 3 / 177، وذكرها الجمل في حاشيته على الجلالين 4 / 164. وقال: هي قراءة جماعة من القراء. وذكرها الأشموني في شرحه على الألفية 2 / 276. ...
(3) سورة إبراهيم / 47
(4) هو من شواهد الأشموني بشرحه على ألفية ابن مالك رقم 500
(1/27)
************
3- أن الفاصل مقدر التأخير، لأن المضاف إليه مقدر التقديم، لأنه فاعل في المعنى، حتى إن العرب لو لم تستعمل مثل هذا الفصل، لاقتضى القياس استعماله، لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيراً. . . وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب: (هو غلام - إن شاء الله - أخيك) ، فالفصل بالمفرد أسهل (1) . وهذه الأدلة كافية، مع أن كتب التفسير والنحو مليئة بالشواهد.

مثال (2) : قال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) (2) .
قرأ حمزة الزيات الكوفي (والأرحام) ، بالخفض، عطفاً على الضمير المخفوض بالباء، ووقرأ الجمهور (والأرحام) بالنصب (3) .
* التلحين:
أنكر هذه القراءة وحرّم القراءة بها المبرد، حيث قال: (لو صليت خلف إمام يقرأ بالكسر لحملت نعلي ومضيت) (4) .
وضعّفها الزمخشري بقوله: (والجر على عطف الظاهر على المضمر ليس بسديد، لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك: مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد، شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز. ووجب تكرار العامل، كقولك: مررت به وبزيد) (5) .
__________
(1) ينظر: إعراب القرآن للسفاقسي، مخطوط رقم 222 تفسير، وشرح الكافية الشافية لابن مالك 2 / 979 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 1.
(3) السبعة / 226، والتيسير / 93، الكشف عن وجوه القراءات 1 375، والنشر 2 / 227، والوافي في شرح الشاطبية / 242
(4) الكامل في اللغة والأدب 2 / 749.
(5) الكشاف 1 / 493.
(1/28)
************
وخطأها الزجاج في معاني القرآن وإعرابه، قال: (فأما الجر في الأرحام فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر. وخطأ أيضا في أمر الدين عظيم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا، بآبائكم) فكيف يكون تتساءلون به وبالرحم على ذا) (1) .
وضعفها نصر بن علي بن محمد الفارسي النحوي، حيث قال: (والأرحام بالخفض، قرأها حمزة وحده، وهو ضعيف، لأنه عطفه على الضمير المجرور بالباء، وهذا يضعف من جهة القياس والاستعمال جميعاً) (2) .
* الرد:
هذه القراءة مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال بصحتها جمع من النحويين واللغويين، منهم: ابن جني، وابن يعيش، وأبو حيان الأندلسي، وابن زنجلة،
وغيرهم.
- يقول ابن جني: (ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس، ... لحمزة أن يقول لأبي العباس: إنني لم أحمل الأرحام على العطف على المجرور المضمر، بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت: وبالأرحام، ثم حذف الباء لتقدم ذكرها، كما حذفت لتقدم ذكرها في نحو قولك: بمن تمرر أمر، وعلى من تنزل أنزل، ولم يقل أمرر به، ولا أنزل عليه، لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما) (3) .
وقال ابن يعيش: (إن أكثر النحويين قد ضعف هذه القراءة نظرًا إلى العطف على المضمر المخفوض ... ثم قال: ويحتمل وجهين آخرين غير العطف على المكني المخفوض: أحدهما: أن تكون الواو واو قسم، وهم يقسمون (بالأرحام) ويعظمونها - وجاء التنزيل على مقتضى استعمالهم، ويكون قوله: (إن الله كان عليكم رقيباً) ، جواب القسم. والوجه الثاني: أن يكون قد اعتقدوا أن قبله باء ثانية، حتى كأنه قال وبالأرحام، ثم حذف الباء لتقدم ذكرها (4) .
__________
(1) معاني القرآن وإعرابه 2 / 6.
(2) الموضح في وجوه القراءات وعللها 1 / 402
(3) الخصائص 1 / 285.
(4) شرح المفصل 3 / 78.
(1/29)
************
وأما أبو حيّان فلا يكتفي بالرد على من ضعّف هذه القراءة، بل يرد عليهم عامة، وعلى ابن عطية خاصة فيقول: (وما ذهب إليه البصريون وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية، من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح. بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك، وأنه يجوز. . . (1) . وأضاف أبو حيان: (وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة ... إلى آخر كلامه) ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله، ولا بطهارة لسانه، إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة، الذين تلقوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، عثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأقرأ الصحابة أبي بن كعب رضي الله عنهم، عمد إلى ردها هو بشيء خطر له في ذهنه؛ وهذه الجسارة لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم. وحمزة رضي الله عنه أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمران بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق. ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر، وكان حمزة صالحاً وربما ثقة في الحديث ... ) (2) . وبعد هذا البيان لابد لي من كلمة أقولها:
تمسك معظم النحويين بالقاعدة المعروفة لدى البصريين، التي لا تجيز عطف الاسم الظاهر على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض. ولو أنعمنا النظر في القرآن الكريم لرأينا شواهد كثيرة، ورد فيها عطف الاسم الظاهر على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض. ولا أدري لم أهملها النحاة! مع أنهم احتجوا بأبيات شعر سمعت عن بعض العرب، وبنصوص من كلام العرب الفصحاء، وكتاب الله قمة الفصاحة والبيان. فمن الشواهد التي وردت في القرآن الكريم:
__________
(1) البحر المحيط 2 / 144 وما بعدها.
(2) المصدر السابق 3 / 156.
(1/30)
************
1- قوله تعالى: (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) (1) .
فـ (المسجد) بقراءة الجر معطوف على الهاء في (به) دون إعادة الخافض (2) .
2- قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم) (3) . أجاز الفراء (ت 207 هـ) أن تكون (ما) في موضع خفض، لأنها معطوفة على الضمير المخفوض في (فيهن) أي: يفتيكم الله فيهن وما يتلى عليكم غيرهن (4) .
3- قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة) . و (المقيمين) عند الكسائي في موضع خفض بالعطف على الكاف في (إليك) ، والتقدير (يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء، أو الملائكة) (5) . وقيل: هو عطف على الكاف في قوله: (بما أنزل إليك) ، أي يؤمنون بالذي أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، وهم الأنبياء (6) .
فهذه الآيات جاءت في القراءات السبعة المحكمة، وهذا الذي جعل أبا حيّان يقول عن قراءة حمزة: (ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب) (7) .
ولذلك كان ابن مالك على صواب تام حين قال في ألفيته مخالفا رأي البصريين، ومؤيدًا قراءة حمزة:
وعود خافض لدى عطف على ... ضمير خفض لازما قد جعلا
وليس عندي لازما إذ قد أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا (8)
__________
(1) سورة البقرة / 217.
(2) ينظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد 1 / 454
(3) سورة النساء / 127.
(4) معاني القرآن 1/ 290، وينظر الفريد في إعراب القرآن المجيد 1 / 797
(5) ينظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد 1 / 818
(6) ينظر: البيان في غريب إعراب القرآن 1 / 276، والفريد 1 / 818 ,
(7) البحر المحيط 2 / 147.
(8) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 3 / 239.
(1/31)
************
وحينما عدد أبو حيّان مذاهب النحاة في جواز العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض قال: (والذي نختاره، أنه يجوز ذلك في الكلام مطلقًا، لأن السماع يعضده، والقياس يقويه، أما السماع فما روي من قول العرب: (ما فيها غيره وفرسه) ، بجر الفرس، عطفًا على الضمير في (غيره) والتقدير: (ما فيها غيره، وغير فرسه) (1) .

مثال (3) : قال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (2) .
قرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم (أمن) ، وقرأ الباقون بالتشديد (3) .
* التلحين:
ضعّف هذه القراءة ولحّن من قرأ بها: أبو الحسن الأخفش، فقال: (القراءة بالتخفيف ضعيفة) (4) ، وضعفها كذلك أبو حاتم (5) .
الرد: هذ القراءة - كما هو معلوم - متواترة، رويت عن كبار القراء، إلا أنه لحّنها بعض النحويين - كما ترى - ولو تتبعنا وجوهها في العربية، لرأينا مسوغاتها اللغوية بيّنة. فالألف يجوز أن تكون للنداء، ويجوز أن تكون للاستفهام، إن أضمر معادل.
قال الفراء: الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت، ويكون قوله: قل، خطاباً له (6) .
__________
(1) البحر المحيط 2 / 147، وينظر: نظرية النحو القرآني /76 - 77.
(2) سورة الزمر / 9
(3) التيسير / 189، والكشف عن وجوه القراءات السبع 1 / 237، والموضح في وجوه القراءات 1 / 1112، والنشر في القراءات العشر 2 / 362، والوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع / 353
(4) ينظر البحر المحيط 9 / 189
(5) ينظر المصدر السابق 9 / 189
(6) البحر المحيط 9 / 188
(1/32)
************
وقال مكي بن أبي طالب القيسي: (وحجة من خففه أنه جعله نداء، فالألف للنداء، ودليله قوله: (هل يستوي) ناداه، شبهه بالنداء، ثم أمره، ويحسن أن تكون الألف للاستفهام، على أن تضمر معادلاً للألف في آخر الكلام، تقديره: أمن هو قانت كمن هو بخلاف ذلك، ودل عليه قوله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) . ولا بد من هذا الإضمار، لأن التسوية تحتاج إلى اثنين، وإلى جملتين، والقراءتان متقاربتان حسنتان) (1) .
ولا يختلف كلام أبي البركات بن الأنباري كثيراً عما قاله مكي. قال ابن الأنباري:
(من قرأ بالتخفيف ففيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه. . .
والثاني: أن تكون الهمزة للنداء، يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة. . .)
(2) .
وقال نصر بن علي في الموضح: (والوجه أن الألف للاستفهام، و (من) موصولة بمعنى الذي، و (هو قانت) صلتها، والتقدير: أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً، وليس للنداء ههنا موضع) (3) .
وهذا أبو حيان النحوي يحتج لها من الشعر والنثر، فيقول: (أمن) بتخفيف الميم، والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابلة محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله: (قل تمتع بكفرك) ؟ ويدل عليه قوله: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) . ومن حذف المقابل قول الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمرها ... سميع فما أدري أرشد طلابها (4)
__________
(1) الكشف عن وجوه القراءات 2 /237، وينظر: النشر 2 / 347، وزاد المسير 7 / 165، وتفسير النسفي 4 /51.
(2) البيان في غريب إعراب القرآن 2 / 322
(3) الموضح 3 / 1112، يشير إلى الذين فسروا الهمزة بأنها حرف نداء.
(4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ينظر: شرح أشعار الهذليين 1 / 43، وهو من شواهد المغني برقم / 4، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2 / 371. ...
(1/33)
************
تقديره: أرشد طلابها أم غيّ.
مثال (4) : قال تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) (1)
قرأ حمزة: (يخافا) بضم الياء على البناء للمفعول، وقرأ الباقون بفتح الياء على البناء للمعلوم (2) .
التلحين: لحن هذه القراءة الفراء في معاني القرآن، وقال: (لا يعجبني ذلك. . . وأما ما قاله حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله (3) فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها، إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن (4) ؛ ألا ترى أن اسمها في الخوف مرفوع بما لم يسم فاعله. . .) (5)
الرد: وجه جوازها أن الخوف في الحقيقة لا ينبغي أن يكون واقعاً عليهما، لأنهما لا يخافان ترك حدود الله تعالى، بل يخاف عليهما ذلك، فلهذا بني الفعل للمفعول به، فأسند إليهما، والتقدير: إلا أن يخافا على أن لا يقيما حدود الله، فحذف الجار وأوصل الفعل، فموضع أن وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهما (6) .
__________
(1) سورة البقرة / 229
(2) التيسير / 80، والسبعة / 182، والكشف عن وجوه القراءات 1 / 294، والنشر في القراءات العشر 2 / 227، وينظر: مصحف القراءات العشر/ 36 ...
(3) يريد قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) جاء في هامش معاني القرآن للفراء: (يريد أنه على قراءة حمزة (يخافا ألا يقيما) ببناء الفعل للمفعول، يكون الفعل قد عمل في نائب الفاعل، وفي أن ومعمولها، وكأن الفعل قد عمل في أكثر من معمول واحد الرفع، وهذا غير مألوف إلا على وجه التبعية. والنحويون يصححون هذا الوجه بأن يكون (ألا يقيما) بدل اشتمال من نائب الفاعل) . ينظر: هامش معاني القرآن 1 / 146
(5) معاني القرآن 1 / 145
(6) الموضح في وجوه القراءات وعللها 1 / 327
(1/34)
************
والمعنى: أنه بنى الفعل للمفعول، وهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر (أن) بتقدير حرف جر محذوف، فموضع (أن) خفض بالجار المقدر أو في محل نصب، لأنه لما حذف الجار صار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل: أستغفر الله ذنباً، وأمرتك الخير (1) .
وقد احتج لقراءة حمزة مكي بن أبي طالب القيسي بقوله: (وحجة قراءة حمزة بضم الياء أنه بنى الفعل للمفعول، والضمير في (يخافا) مرفوع لم يسم فاعله، يرجع للزوجين، والفاعل محذوف، وهو الولاة والحكام، والخوف بمعنى اليقين، وقيل بمعنى الظن) (2) . والمعنى: إلا أن يعلم الزوجان ألا يقيما حدود الله.
وجاء في الفريد في إعراب القرآن المجيد (وقرئ (إلا أن يخافا) على البناء للمفعول، على أن يكون الخلع إلى الحاكم، أي: إلا أن يخافا الزوجين الحاكم، ثم حذف الفاعل وأقيم ضمير الزوجين مقامهما) (3) .
قال أبو حيان: (طعن في هذه القراءة من لا يحسن توجيه كلام العرب، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى. . .) (4) .
وأعتقد أن هذه الأدلة كافية على صحة قراءة حمزة، بالإضافة إلى أنها متواترة، قد قرأ بها أفصح الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مثال (5) : قال تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً) (5) .
قرأ حمزة والكسائي بإضافة (مائة) إلى (سنين) ، ولم يضف الباقون (6) .
* التلحين:
__________
(1) ينظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1 / 307
(2) الكشف عن وجوه القراءات السبع 1 / 295
(3) الفريد في إعراب القرآن المجيد 1 / 467
(4) البحر المحيط 2 / 229
(5) سورة الكهف / 25
(6) السبعة / 389، 390، والنشر 2 / 310، والكشف عن وجوه القراءات 1 / 58، وينظر: مصحف القراءات العشر المتواترة / 296
(1/35)
************
خطأ هذه القراءة أبو حاتم، قال أبو حيان: (وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة، ولا يجوز له ذلك) (1) ، كما خطأها المبرد في المقتضب، قال: (وقد قرأ بعض القراء بالإضافة فقال: (ثلثمائة سنين) وهذا خطأ في الكلام غير جائز، وإنما يجوز في الشعر للضرورة) (2) .
الرد: سأنقل آراء جهابذة اللغة والنحو والقراءات، ليتبين للقارئ أن تلحين المبرد وغيره ليس من المسلمات التي لا يرد عليها:
قال الفراء: (ومن العرب من يضع السنين في موضع سنة، فهي حينئذ في موضع خفض لمن أضاف) (3) .
وقال المهدوي: (. . . ومن أضاف ولم ينون، فإنه أوقع الجمع موقع الواحد، فبين به كما يبين بالواحد، وأخرج الكلام على أصله، لأن قولك عندي ثلاثون درهماً وما أشبهه معناه: عندي ثلاثون من الدراهم، فكذلك ثلاثمئة سنة، أصلها: ثلاثمئة من السنين، لكنهم استعملوا التفسير بالواحد، وكثر ذلك حتى صار التفسير بالجمع شاذاً. وقد قيل: من نون إنما جاء به على التفسير أيضاً، وذلك أنه لما قال: ولبثوا في كهفهم ثلاثمئة وقع الإبهام عند السامعين هل هي سنون؟ أو أشهر؟ أو أيام؟ فقال: سنين على جهة البيان) (4) .
ولا يختلف رأي مكي بن أبي طالب القيسي عما قاله المهدوي: (وحجة من أضاف أنه أجرى الإضافة إلى الجمع كالإضافة إلى الواحد، في قولك: ثلاث مائة درهم وثلاث مائة سنة، وحسن ذلك، لأن الواحد في هذا الباب إذا أضيف إليه بمعنى الجمع، فحملا الكلام على المعنى، وهو الأصل، لكنه يبعد لقلة استعماله، فهو أصل قد رفض استعماله، وقد منعه المبرد ولم يجزه، ووجهه ما ذكرناه) (5) .
__________
(1) البحر المحيط 7 / 164
(2) المقتضب 2 / 171
(3) معاني القرآن 2 / 138
(4) شرح الهداية 2 / 394
(5) ينظر: الكشف عن وجوه القراءات 2 / 58
(1/36)
************
وأما القاضي عبد الحق بن عطية فاحتج لها - - كذلك - وبين أن سنين بمنزلة سنة: (وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة (مائة) إلى (سنين) وترك التنوين، وكأنهم جعلوا (سنين) بمنزلة سنة، إذ المعنى بهما واحد. قال أبو علي: إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع) (1) . انتهى كلام ابن عطية.
وممن احتج لها الإمام ابن زنجلة، حيث قال: (قال قوم (2) : ليست هذه القراءة مختارة، لأن العرب إذا أضافت هذا الجنس أفردت، فيقولون: (عندي ثلثمائة دينار) ، ولا يقولون (هؤلاء ثلثمائة رجال) ، إنما يقولون (ثلثمائة رجل) . بل هذه القراءة مختارة. وحجتهما أنهما أتيا بالجمع بعد قوله (ثلثمائة) على الأصل، لأن المعنى في ذلك هو الجمع. وذلك أنك إذا قلت (عندي مئة درهم) فالمعنى مئة من الدراهم. والجمع هو المراد من الكلام، والواحد إنما اكتفي به الجمع. إذا قيل (ثلثمائة سنة وثلثمائة رجل) ، لأن الواحد ها هنا يؤدي على معنى الجمع بذكر العدد قبله، فعاملوا الأصل الذي هو مراد المتكلم ولم يكتفيا بالواحد من الجمع) (3) .
هذه هي آراء علماء العربية، من أهل اللغة والنحو والقراءات، فهل بعد هذا البيان من شك في هذه القراءة المتواترة وهل يجوز ردها، أو التشكيك في صحتها؟ .

مثال (6) : قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً) (4) .
__________
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 3 / 510
(2) يعني بالقوم: الفراء ومن وافقه.
(3) حجة القراءات لعبد الرحمن بن محمد بن زنجلة / 414
(4) سورة الإسراء / 31
(1/37)
************
قرأ ابن كثير بكسر الخاء والمد (خطاء) ، وقرأ ابن ذكوان بفتح الخاء والطاء من غير مد، وقرأ الباقون بكسر الخاء وإسكان الطاء من غير مد، وكلهم نوّن وهمز (1)
* التلحين:
قال النحاس: (فأما قراءة من قرأ: كان خطاء، بالكسر والمد، فلا يعرف في اللغة، ولا في كلام العرب) (2) ، وقال أبو حاتم: هذه القراءة غلط غير جائز، ولا يعرف هذا في اللغة (3) . وقال المهدوي: (وقراءة ابن كثير على أنه مصدر ما قد استعمل مطاوعه، وفي بعد) (4) .
الرد: هو مصدر خاطأ على فاعل يخاطئ، مثل قاتل يقاتل قتالاً، وقد جاء مطاوعه (تخاطأ) على تفاعل، قال الشاعر وهو يصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب (5)

فإذا جاء تخاطأ حصل منه خاطأ وإن لم يستعمل (6) .
قال أبو علي الفارسي: (هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لم نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ فدلنا عليه، ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغا خلتي جابراً ... بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر يومي فلم يعجل (7)

وقال الآخر في كمأة:
تخاطأه القناص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب
__________
(1) السبعة / 182، النشر 2/ 227، والكشف عن وجوه القراءات 2 / 45، وينظر: مصحف القراءات العشر / 285
(2) معاني القرآن 4 / 148
(3) ينظر: البحر المحيط 7 / 43، والجامع لأحكام القرآن 10 / 221
(4) شرح الهداية 2 / 385
(5) ينسب هذا البيت لمحمد بن البسري. وموضع الشاهد فيه: قوله (تخاطأه) حيث جاء تخاطأ على تفاعل، ومن معانيه مطاوعة فاعل، فإذا جاء تخاطأ حصل منه خاطأ، وإن لم يستعمل. ينظر: الموضح في وجوه القراءات وعللها 2 / 755
(6) ينظر: المصدر السابق 2 / 755
(7) البيتان لأوفى بن مطر المازني، ينظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة 2 / 5، ولسان العرب مادة (خ ط أ) والجامع لأحكام القرآن 10 /223، والفريد في إعراب القرآن المجيد 3 / 271 ...
(1/38)
************
فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل) (1) .
وقال ابن مالك:
لفاعل: الفعال، والمفاعله ... وغير ما مر السماع عادله

أي: كل فعل على وزن فاعل فمصدره فاعل فعالاً ومفاعلة، مثل ضارب ضراباً ومضاربة، وقاتل قتالاً ومقاتلة، وخاصم خصاماً ومخاصمة (2) .
فهل يجوز لأحد أن يرد قراءة لأنه لا يعرف وجهها في العربية؟ أو يردها لأن استعمالها في العربية عن طريق السماع، ولم يصل إليه ذلك السماع؟ أو يردها لأنها تستعمل في العربية على قلة؟ . إن هناك ألفاظ فصيحة وهي كثيرة جداً لم يستعملها العرب، فنزل بها القرآن، فظن بعض النحاة أن هذه القراءة على لغة ليست فصيحة.

مثال (7) : قال تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) (3) .
قرأ ابن عامر بفتح الهمزة (أنهم) ، وقرأ الباقون بكسرها (إنهم) (4) .

* التلحين:
استبعد هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، قال أبو حيان: (واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر، ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي، أي لا تحسبنهم فائتين لأنهم لا يعجزون، أي لا يقع منك حسبان لفوتهم، لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون) (5) .
الرد: وجه الصواب في هذه القراءة على تقدير اللام، وهو متعلق بما قبله تعلق المفعول له، والتقدير لا يحسبن الذين كفروا سبقوا لأنهم لا يفوتون (6) .
جاء في الكشاف: (وقرئ بالفتح بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح) (7) .
__________
(1) الحجة / ... ، وينظر: البحر المحيط 7 / 43
(2) ينظر: شرح ابن عقيل 3 / 131
(3) سورة الأنفال / 59
(4) السبعة / 308، والكشف عن وجوه القراءات 1 / 494، والنشر في القراءات العشر 2 / 277، ومصحف القراءات العشر المتواترة / 184
(5) البحر المحيط 5 / 342
(6) الموضح في وجوه القراءات 2 / 582
(7) الكشاف 2 / 219
(1/39)
************
قال القاضي عبد الحق بن عطية: (وقرأ ابن عامر وحده من السبعة (أنهم لا يعجزون) بفتح الألف من (أنهم) ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون، أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون) (1) .
فخلاصة آراء العلماء في هذه الآية أن القراءة على حذف لام التعليل، فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي، أي لأنهم لا يعجزون (2) .

مثال (8) : قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه) (3) .
قرأ ابن عامر وحده (بالغدوة) بالواو، وكذلك في الكهف، وقرأ الباقون (بالغداة) بدون واو (4) .

* التلحين:
خطأ هذه القراءة أبو عبيدة، قال: (إنما نرى ابن عامر والسلمي قرأ تلك القراءة اتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو) (5) .
__________
(1) المحرر الوجيز 2 / 545
(2) التحرير والتنوير 9 / 144
(3) سورة الأنعام /52
(4) السبعة / 258، 390، والتيسير / 102، والكشف 1 /، والموضح 1 / 469، والنشر 2 / 258
(5) البحر المحيط 4 / 522
(1/40)
************
الرد: وجه ذلك أن غدوة وإن كان اسماً علماً صيغ لهذا الوقت المعلوم (1) ، ومن حقه أن لا يدخله الألف واللام، فإنه قدّر فيه التنكير والشياع، وذلك مستمر في جميع هذا الضرب من الأعلام، نحو ما حكاه سيبويه عن العرب: هذا يوم اثنين مباركاً فيه (2) ، فلما قدر في غدوة التنكير، جوز إدخال الألف واللام عليه، وهذا كما يقال: لقيته فينة، غير منصرف (3) ، ثم تقول: لقيته الفينة بعد الفينة، فندخل الألف واللام على ما يستعمل معرفة (4) .
قال أبو حيان مصوّباً قراءة ابن عامر ورادّاً على أبي عبيدة: (وهذا من أبي عبيدة جهل بهذه اللغة، التي حكاها سيبويه والخليل، وقرأ بها هؤلاء الجماعة، وكيف يظن بهؤلاء الجماعة القراء أنهم إنما قرؤوا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو؟ والقراءة إنما هي سنة متبعة. وأيضاً فابن عامر عربي صريح، كان موجوداً قبل أن يوجد اللحن، لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ونصر بن عاصم، أحد العرب الأئمة في النحو، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو، والحسن البصري، وهو من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامه، فكيف يظن بهؤلاء أنهم لحنوا. وأبو عبيدة جهل هذه اللغة، وجهل نقل هذه القراءة فتجاسر على ردها عفا الله عنه) (5) .

مثال (9) : قال تعالى: (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين) (6) .
__________
(1) الغدوة: البكرة مابين صلاة الغداة وطلوع الشمس، ينظر لسان العرب، مادة (غ د ا) .
(2) قال سيبويه: (اعلم أن غدوة وبكرة جعلت كل واحدة منهما اسماً للحين، كما جعلوا (أم حبين) اسماً للدابة معرفة، فمثل ذلك قول العرب: هذا يوم اثنين مباركاً فيه، وأتيتك يوم اثنين مباركاً فيه، جعل اثنين اسماً له معرفة، كما تجعله اسماً لرجل) الكتاب 3 / 293 ...
(3) للعلمية والتأنيث
(4) الموضح في وجوه القراءات 1 / 269 - 270
(5) البحر المحيط 4 / 522
(6) سورة الأعراف / 111
(1/41)
************
قرأ قالون (أرجه) باختلاس كسرة الهاء، وقرأ ورش والكسائي بكسر الهاء، وقرأ ابن كثير وهشام (أرجئه) بإشباع ضمة الهاء، وقرأ أبو عمرو (أرجئه) باختلاس ضمة الهاء، وقرأ ابن ذكوان (أرجئه) باختلاس كسرة الهاء، وقرأ الباقون بترك الهمز وإسكان الهاء (1) .
التلحين: لحّن أبو علي الفارسي قراءة ابن كثير (أرجئه) ، وقال: وهذا غلط. وقال أيضاً: ضم الهاء مع الهمز لا يجوز (2) .
الرد: قال ابن زنجلة: (أرجئهو مهموزة بواو بعد الهاء في اللفظ. وأصل هذه الهاء التي للمضمر أن تكون مضمومة بعدها واو كقولك (ضربتهو يا فتى) و (مررت بهو يا فتى) . . . وعلامة الأمر في (أرجئهو) زيادة الهمزة (3) .
فوجه هذه القراءة أنه أمر من أرجأت الأمر إذا أخرته، فالأصل فيه الهمز، والهاء أصله الضم أيضاً، وأن يتصل به واو بعده، فأجراه ابن كثير على الأصل في إلحاق الواو؛ لأنه جعل الهاء فاصلاً بين الساكنين، فلم يجتمعا (4) .
وقال أبو حيان: (وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة، وأنها لا تجوز قول فاسد، لأنها قراءة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة، وتلقتها الأمة بالقبول، ولها توجيه في العربية. . . فلا وجه لإنكار هذه القراءة) (5) .

مثال (10) : قال تعالى: (فاستجبنا له ونجينه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) (6) .
__________
(1) السبعة / 287 - 289، والموضح في وجوه القراءات وعللها 2 / 543، والنشر في القراءات العشر 1/ 311 - 312، ومصحف القراءات العشر المتواترة / 164
(2) البحر المحيط 5 / 135
(3) حجة القراءات / 290
(4) ينظر: الموضح في وجوه القراءات 2 / 543
(5) البحر المحيط 5 / 135
(6) سورة الأنبياء / 88
(1/42)
************
قرأ أبو بكر (شعبة) وابن عامر بنون واحدة، وتشديد الجيم. وقرأ الباقون بنونين وبالتخفيف (1) .
التلحين: لحن هذه القراءة الزجاج، حيث قال: (فأما ما روي عن عاصم بنون واحدة فلحن لا وجه له، لأن ما لا يسمى فاعله لا يكون بغير فاعل. وقد قال بعضهم: نجّي النجاء المؤمنين، وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم) (2) .
ولا أعجب من رأي الزجاج في تلحين هذه القراءة المتواترة، لكنني أعجب من رأي إمام من أئمة القراءات، احتج للقراءات ودافع عنها، هو مكي بن أبي طالب القيسي، حيث جعلها غير متمكنة في العربية، إذ يقول: (وحجة من قرأ بنون واحدة أنه بنى الفعل للمفعول، فأضمر المصدر، ليقوم مقام الفاعل، وفيه بعد من وجهين: أحدهما أن يقوم المفعول مقام الفاعل دون المصدر، فكان يجب رفع المؤمنين، وذلك مخالف للخط. والوجه الثاني: أنه كان يجب أن تفتح الياء من (نجى) ، لأنه فعل ماض، كما تقول:
(رمي. . .) فأسكن الياء، وحقها الفتح. فهذا الوجه بعيد في الجواز. وقيل: إن هذه القراءة على طريق إخفاء النون الثانية في الجيم. وهذا أيضاً بعيد، لأن الرواية بتشديد الجيم والإخفاء لا يكون معه تشديد. وقيل: أدغم النون في الجيم، وهذا أيضاً لا نظير له، لا تدغم النون في الجيم في شيء من كلام العرب لبعد ما بينهما. وإنما تعلق من قرأ هذه القراءة أن هذه اللفظة في أكثر المصاحف بنون واحدة، فهذه القراءة إذا قرئت بتشديد الجيم، وضم النون، وإسكان الياء غير متمكنة في العربية) (3) .
وليس غريباً أن يصف الزمخشري توجيه هذه القراءة بالتعسف، وذلك بقوله:
__________
(1) السبعة / 242، والكشف عن وجوه القراءات السبع 2 / 113، والموضح في وجوه القراءات وعللها 1/ 435، والنشر في القراءات العشر 2 / 253، 254، وينظر: مصحف القراءات العشر المتواترة / 329
(2) معاني القرآن وإعرابه 3 / 304
(3) الكشف عن وجوه القراءات السبع 2 / 113
(1/43)
************
(والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعّل، وقال: نجي النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين بالنجاء، فمتعسف بارد التعسف
(1) .
الرد: قال الفراء: (. . . أضمر المصدر في نجي فنوي به الرفع، ونصب
(المؤمنين) فيكون كقولك: ضرب الضرب زيداً، ثم تكني عن الضرب فتقول: ضرب زيداً. وكذلك نجي النجاء المؤمنين) (2) .
فتأويل هذه القراءة: نجّي النجاء المؤمنين، فيكون (النجاء) مرفوعاً، لأنه اسم ما لم يسمّ فاعله، و (المؤمنين) نصب لأنه خبر ما لم يسم فاعله، فتقول: (ضرب زيداً) . وحجتهم قراءة أبي جعفر؛ قرأ (ليجزى قوماً بما كانوا) (3) . وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون أراد: (ننجي) فأدغم النون في الجيم، و (المؤمنين) نصب لأنه مفعول به،
فـ (نجي) على ما ذكره أبو عبيد فعل مستقبل، وعلامة الاستقبال سكون الياء (4) .
جاء في الفريد في إعراب القرآن المجيد: (وقرئ (نجّي) بنون واحدة، وتشديد الجيم وإسكان الياء، وفيه أوجه: أحدها: أنه فعل ماض مبني للمفعول مسند إلى مصدره، وإسكان يائه تخفيف والمؤمنين نصب،لأنه المفعول الثاني، أي: نجي النجاء المؤمنين، كقولك: ضرب الضرب زيداً، وأنشد:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا (5)
__________
(1) الكشاف 3 / 133
(2) معاني القرآن 2 / 210
(3) سورة الجاثية / 14
(4) حجة القراءات /469
(5) هذا البيت لجرير بن عطية، يهجو به الفرزدق، بنظر الديوان /، وينظر: الخصائص 1 / 397، وخزانة الأدب 1 / 163، والحجة لابن خالويه / 226، وهمع الهوامع 1 / 162.
(1/44)
************
أي لسب السب. . . والثاني: أنه فعل مستقبل، إلا أن النون أدغمت في الجيم بعد قلبها جيماً، وهذا ضعيف، لأن النون تخفى عند الجيم، ولا تدغم فيها. والثالث: أن أصله ننجي بنونين، الأولى مضمومة، والثانية مفتوحة، فحذفت الثانية كراهة اجتماع المثلين، كما حذفت إحدى التائين من (ولا تفرقوا) (1) ، و (تساءلوا) (2) وشبههما، فبقي (نجي) كما ترى، وهذا أقرب الأوجه (3) .
وبعد هذه الجولة أقول: لقد دافع عن القراء كثير من جهابذة اللغة والنحو والتفسير والقراءات، فردوا على من لحن قراءات متواترة من النحويين، نسوق بعض تلك
الردود:
قال الصفاقسي: (القراءة لا تتبع العربية، بل العربية تتبع القراءة؛ لأنها مسموعة من أفصح العرب بإجماع، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) (4) .
وقال الفخر الرازي: (أنا شديد العجب من هؤلاء النحويين، إذا وجد أحدهم بيتاً من الشعر ولو كان قائله مجهولاً، جعله دليلاً على صحة القراءة، وفرح به، ولو جعل صحة القراءة دليلاً على صحته، لكان أولى) (5) .
وقال أبو حيان: (القراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسيره تعالى القرآن للذكر) (6) .
__________
(1) في قوله: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) سورة آل عمران / 103
(2) في قوله: تساءلون به والأرحام) سورة النساء / 1
(3) الفريد في إعراب القرآن المجيد 3 / 500
(4) غيث النفع / 49، 50
(5) من دراسات لأسلوب القرآن 1/27
(6) البحر المحيط /
(1/45)
************
وقال ابن الجزري: (حتى إن بعضهم قطع في قوله عز وجل: (مالك لا تأمنا) (1) أن الإدغام الذي أجمع عليه الصحابة - – رضوان الله عليهم – والمسلمون لحن، وأنه لا يجوز عند العرب، لأن الفعل الذي هو (تأمن) مرفوع، فلا وجه لسكونه، حتى أدغم في النون التي تليه. فانظر يا أخي إلى قلة حياء هؤلاء من الله تعالى | يجعلون ما عرفوه من القياس أصلاً، والقرآن العظيم فرعاً حاشا، العلماء المقتدى بهم من أئمة اللغة والإعراب. . .) (2) .
ولما كان أكثر القراء الذين تعرضوا للرد والتلحين من النحويين، هما ابن عامر الشامي، وحمزة الزيات الكوفي، رأيت أن أسوق بعض شهادات العلماء فيهما، ليتبين للقارئ من هو ابن عامر، ومن هو حمزة:
قال أبو علي الأهوازي: (كان عبد الله بن عامر إماماً عالماً، ثقة فيما أتاه، حافظاً لما رواه،. متقناً لما وعاه، عارفاً فهماً فيما جاء به، صادقاً فيما نقله، من أفاضل المسلمين، وخيار التابعين، وأجلة الراوين، لا يتهم في دينه، ولا يشك في يقينه، ولا يرتاب في أمانته، ولا يطعن عليه في روايته، صحيح نقله، فصيح قوله، عالياً في قدره، مصيباً في أمره، مشهوراً في علمه، مرجوعاً إلى فهمه، لم يتعد فيما ذهب إليه الأثر، ولم يقل قولاً يخالف فيه الخبر) (3) .
وقال أبو حيان: (ابن عامر عربي صريح، كان موجوداً قبل أن يوجد اللحن؛ لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان، ونصر بن عاصم أحد الأئمة في النحو، وهو ممن أخذ علم النحو على أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو) (4) .
__________
(1) سورة يوسف / 11
(2) منجد المقرئين / 200
(3) طبقات القراء 1 / 425
(4) البحر المحيط 4 / 136
(1/46)
************
وقال ابن الجزري عن ابن عامر: (كان إماماً كبيراً، وتابعياً جليلاً، وعالماً شهيراً، أمّ المسلمين بالجامع الأموي في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز. وناهيك بذلك منقبة، وجمع له بين الإمامة والقضاء ومشيخة الإقراء بدمشق، ودمشق إذ ذاك دار الخلافة، ومحط رجال العلماء والتابعين، فأجمع الناس على قراءته، وعلى تلقيها بالقبول، وهم الصدر الأول الذين هم أفاضل المسلمين) (1) .
وأما ابن مالك فقال في الكافية الشافية عند حديثه عن المتضايفين:
وعمدتي قراءة ابن عامر ... فكم لها من عاضد وناصر (2)

وأما حمزة فقال عنه ابن الجزري: (وكان إمام الناس في القراءة بالكوفة بعد عاصم والأعمش، وكان ثقة كبيراً، حجة راضياً فيما بكتاب الله، مجوداً عارفاً بالفرائض والعربية، حافظاً للحديث، ورعاً عابداً، خاشعاً ناسكاً، زاهداً قانتاً لله، لم يكن له نظير) (3) .
وقال سفيان الثوري: (غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض) (4) .
وقال عنه أيضاً: (ما قرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر) (5) .
وقال عنه الذهبي: (كان إماماً حجة، قيّماً بكتاب الله، حافظاً للحديث، بصيراً بالفرائض والعربية، عابداً خاشعاً قانتاً لله (6) .
وقال حمزة عن نفسه: (ما قرأت حرفاً إلا بأثر) (7) .

ثبت المصادر والمراجع
1 - القرآن الكريم.
2- إتحاف فضلاء البشر في القراءات العشر، الشيخ أحمد الدمياطي، طبع دار الندوة، بيروت لبنان، بدون تاريخ.
3 – الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) ، تحقيق: د. عبد الفتاح شلبي، المكتبة الفيصلية، الطبعة الثالثة 1405 هـ.
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 144
(2) الكافية الشافية 2 / 979
(3) النشر في القراءات العشر 1 / 166
(4) طبقات القراء 1 / 263
(5) المصدر السابق 1 / 263
(6) معرفة القراء الكبار 1 / 112
(7) المصدر السابق 1 / 114
(1/47)
************
4 - الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، الطبعة الأولى، دار الفكر، 1999م.
5 - أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم مكرم، طبع مؤسسة علي جراح الصباح، الكويت، الطبعة الثالثة 1987 م.
6 – أساس البلاغة للزمخشري، تحقيق عبد الرحمن محمود، دار المعرفة، بيروت، 1399هـ 1979م.
7 - إعراب القرآن أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، تحقيق د. زهير غازي زاهد، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ _1985م.
وط، برقم 222 تفسير.
8 ... – البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي النحوي، دار الفكر، بيروت الطبعة الثانية 1398هـ – 1987م.
9 - البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الثانية، بلا
10 – البيان في إعراب غريب القرآن، أبو البركات بن الأنباري، تحقيق د. طه عبد الحميد طه، طبع دار الهجرة إيران 1403هـ.
11 – تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، دار مكتبة الحياة، بلا.
12 – التفسير الكبير، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 هـ) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، بلا.
13 - تفسير النسفي، لعبد الله بن أحمد النسفي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، بلا.
14 - تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، مطبعة دار المعارف النظامية، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، بلا.
15 – التيسير في القراءات السبع، للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني،
استانبول، مطبعة الدولة 1930 م، أعادت طبعه مكتبة المثنى، ببغداد.
16 -جامع البيان في تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، طبع دار الحديث، القاهرة 1407هـ – 1987م.
(1/48)
************
17 – الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، طبع دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997 م.
18 – جمال القراء وكمال الإقراء، لعلم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي، تحقيق عبد الكريم الزبيدي، دار البلاغة، بيروت، الطبعة الأولى 1413 هـ 1993م.
19 - جمهرة أنساب العرب، لعلي بن أحمد بن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ.
20- الحجة في القراءات السبع، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه
21- الحجة للقراء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد، لأبي علي الفارسي، تحقيق بدر الدين قهوجي، وبشير جويحالي، طبع دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م.
22– الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق علي النجار دار العربي، بيروت (د – ت) .
23 – دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبد الخالق عضيمة الطبعة الأولى، القاهرة 1972م.
24 – الدراسات النحوية في تفسير ابن عطية، د. ياسين جاسم المحيمد، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2000م.
25 - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ – 1994م.
26 – سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، بلا.
27 - السبعة في القراءات، ابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، 1972.
28 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، المكتبة التجارية بيروت، بلا.
29 – شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، دار الفكر، بلا.
30 – شرح أشعار الهذليين: صنعة أبي سعيد السكري، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، ومراجعة محمود محمد شاكر، مكتبة دار العروبة، القاهرة. بلا.
(1/49)
************
31 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، لبهاء الدين عبد الله بن عقيل، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، طبع مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة العشرون، 1400هـ – 1980 م.
32 – شرح طيبة النشر، لأحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن الجزري، تحقيق الشيخ علي محمد الضباع، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، الطبعة الأولى، 1369 هـ – 1950 م.
33 – شرح الكافية الشافية لجمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك، تحقيق د. عبد المنعم أحمد هريدي، دار المأمون للتراث، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1402 هـ ـ 1982 م.
34 - شرح المفصل لابن يعيش بن علي، المطبعة المنيرية مصر 1928م
35 - شرح الهداية للإمام أبي العباس أحمد بن عمّار المهدوي. تحقيق ودراسة الدكتور: حازم سعيد حيدر، طبع مكتبة الرشد (الرياض) الطبعة الأولى: 1995م.
36 - صحيح البخاري محمد بن إسماعيل البخاري، المطبعة المنيرية مصر 1928م
37 - صحيح مسلم بشرح النووي، مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د – ت) .
38 - الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، تصحيح أدوارد سخو، مطبعة ليدن، 1332هـ.
39 – غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار، لأبي الحسن بن أحمد بن الحسن الهمذاني العطار، تحقيق د. أشرف محمود فواد طلعت، طبع الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، جدة، الطبعة الأولى 1414هـ، 1994 م.
40 - غاية النهاية في طبقات القراء، لشمس الدين محمد بن محمد بن الجزري، طبعة برجستراسر، الطبعة الثانية 1400 هـ ـ 1980 م.
41 – غيث النفع في القراءات السبع، علي النوري الصفاقسي، بهامش سراج القارئ المبتدئ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، الطبعة الثالثة 1273 هـ – 1954 م.
(1/50)
************
42 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، دار المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ ـ _ 1995 م.
43 – الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم، تحقيق د. يوسف البقاعي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1422هـ – 2002 م.
44 – القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدرة، الشيخ محمد فهد خاروف، مراجعة الشيخ محمد كريم راجح، مكتبة المهاجر، دمشق 1412 هـ – 1992 م.
45 - القراءات وأثرها في التفسير والأحكام، د. محمد بن عمر بن سالم بازمول، دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى 1417 هـ – 1996 م.
46 – القراءات القرآنية وأثرها في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1417هـ ـ - 1996 م.
47 - القراءات وأثرها في علوم العربية، د. محمد سالم محيسن، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى،1418 هـ _ 1998م.
48 - الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد، مؤسسة المعارف، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
49 - الكتاب، سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الثالثة 1408هـ – 1988م.
50 - الكشاف، لمحمود عمر الزمخشري، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ – 1997م.
51 - الكشف عن وجوه القراءات وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق د. محي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1420هـ – 1981م.
52 - لطائف الإشارات لفنون القراءات، لشهاب الدين القسطلاني، تحقيق الشيخ عامر السيد عثمان، والدكتور عبد الصبور شاهين، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (لجنة إحياء التراث الإسلامي) 1392هـ.
53 - لمحات في علوم القرآن لمحمد الصباغ، الطبعة الأولى، بيروت 1974م.
(1/51)
************
54 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، القاضي عبد الحق بن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1413هـ – 1993م
55- المرشد الوجيزإلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لشهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، تحقيق طيار آلتي قولاج، دار صادر، بيروت، 1395 هـ.
56- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وزملائه، دار الفكر، بلا.
57 - المستنير في تخريج القراءات المتواترة، د. محمد سالم محيسن، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ – 1989م.
58– معاني القرآن الكريم للإمام أبي جعفر النحاس، تحقيق محمد على الصابوني، طبع جامعة أم القرى، الطابعة الأولى: 1988م.
59 – معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده الشلبي، عالم الكتب، الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م.
60- معاني القرآن أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، عالم الكتب بيروت، الطبعة الثالثة 1401هـ 1983م.
61 – معاني النحو، أ. د. فاضل السامرائي – دار الحكمة – بغداد، (د – ت) 62 – معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، اعتنى بطبعه د. محمد عوض مرعب، والآنسة فاطمة محمد أصلان، دار إحياء التراث العربي، بيروت،الطبعة الأولى 1422هـ – 2001 م.
63 – معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، لشمس الدين الذهبي، تحقيق بشار عواد معروف، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1408 هـ، 1988م.
64 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب – ابن هشام الأنصاري تحقيق د.مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر بيروت الطبعة الخامسة 1979م.
65 - المغني في توجيه القراءات العشر المتواترة، د. محمد سالم محيسن، دار الجيل بيروت، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1408هـ – 1988م.
(1/52)
************
66- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ن 1988م.
67- منجد المقرئين ومرشد الطالبين، لمحمد بن محمد بن الجزري، اعتنى به علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1419 هـ.
68 من قضايا القرآن، أ. د. إسماعيل أحمد الطحان، مكتبة الأقصى، قطر، الدوحة، الطبعة الثانية 1415 هـ، 1994م.
69– مواقف النحاة من القراءات القرآنية، د. ياسين جاسم المحيمد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ ـ - 2001 م.
70- الموضح في وجوه القراءات وعللها، نصر بن علي بن محمد أبي عبد الله النحوي، تحقيق د. عمر حمدان الكبيسي، الطبعة الأولى، جدة، 1414 هـ – 1993 م.
71 - النشر في القراءات العشر، أبو الخير محمد بن محمد الجزري، دار الكتب العلمية، بيروت (د – ت) .
72 - نزهة الألباء، في طبقات الألباء، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، الزرقاء، الطبعة الثالثة 1405هـ 1985 م.
73 – نظرية النحو القرآني، لأحمد مكي الأنصاري، دار القبلة للثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1405 هـ.
74 – هداية القاري إلى تجويد كلام الباري، لعبد الفتاح السيد عجمي المرصفي، الطبعة الأولى 1402 هـ.
75 - الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع، عبد الفتاح القاضي، طبع مكتبة الوادي بجدة، ومكتبة الدار بالمدينة المنوّرة، الطابعة السادسة: 1995 م.
76 – وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ – 1997 م.
(1/53)
************









الكتاب: البحث اللغوي عند العرب
المؤلف: د أحمد مختار عبد الحميد عمر
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: الثامنة 2003
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
الباب الأول: دراسات تمهيدية
الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب
القرآن الكريم
...
الباب الأول: دراسات تمهيدية
الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب
من الممكن حصر المصادر التي استقى منها اللغويون العرب مادتهم فيما يأتي:
1- القرآن الكريم.
2- القراءات القرآنية.
3- الحديث النبوي.
4- الشعر.
5- الشواهد النثرية.
وإن وجد بينهم خلاف حول بعضها. وإليكم بيان ذلك:
1- القرآن الكريم:
وقد اعتبروه في أعلى درجات الفصاحة، وخير ممثل للغة الأدبية المشتركة، ولذا وقفوا منه موقفًا موحدًا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه، ولا يعرف أحد من اللغويين قد تعرض لشيء مما أثبت في المصحف بالنقد والتخطئة1. ويقول الراغب الأصفهاني في كتابه "المفردات" مبينًا قيمة اللفظ القرآني: "ألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب
__________
1 بل كانوا يدافعون عن النص القرآني ضد ما يوجه إليه من شبهات كما فعل ابن هشام في "شذور الذهب" حين نقل ما يروى عن عثمان أنه قال: "إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها". وما يروى عن عائشة أنها قالت: "هذا خطأ من الكاتب" "في قوله تعالى: "والمقيمين" و "الصابئون" و"إن هذان" فقد ذكر أن الخبر باطل لوجوه منها:
أ- أن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات فكيف يقرون اللحن في القرآن؟.
ب- أن العرب كانت تستقبح اللحن فكيف لا تستقبحه في القرآن؟
ج- أن المصحف يطلع عليه العربي وغيره.
د - أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب "التابوه" بالهاء فأمره عثمان أن يكتبها بالتاء على لغة قريش.
هـ- أن عمر بلغه قراءة ابن مسعود "عتى" فأمره أن يدعها ويقرئ الناس بلغة قريش فإن الله إنما أنزله بلغتهم، "شرح شذور الذهب بحاشية الأمير، ص 18".
(1/17)



*************
وزبدته، وواسطته، وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء ... وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء ... وما عداها ... كالقشور والنوى بالاضافة إلى أطايب الثمرة".
والمراد بالقرآن النص القرآني المدون في المصحف، وهو غير القراءات، يقول الزركشي في "البرهان": "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان والإعجاز.
والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما ... "1. ويقول الآمدي في "الإحكام": "أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلًا متواترًا"2.
ومن الحقائق المسلمة أن القرآن نزل أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغتهم. ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة3، وكانت الإباحة بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام وذلك بعد الهجرة4. فلما جاء عثمان وأراد جمع القرآن في المصاحف ونسخها "اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش"5، ولذلك "جعل مع زيد النفر القرشيين لئلا يكون شيء من القرآن مرسومًا على غير لغتهم"6. وقال عثمان للقرشيين.
"إن اختلفتم في شيء أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش"7.
__________
1 البرهان 1/ 318.
2 الأحكام 1/ 228.
3 القراءات واللهجات، ص 8.
4 النووي على مسلم 6/ 103.
5 الإتقان 1/ 63.
6 المقنع ص 109.
7 المرجع ص 5.
(1/18)



*************
2- القراءات القرآنية:
وهي الوجوه المختلفة التي سمح النبي بقراءة نص المصحف بها قصدًا للتيسير، والتي جاءت وفقًا للهجة من اللهجات العربية. يقول ابن الجزري في كتابه "النشر"1: "فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها ... حيث أتاه جبريل فقال له: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أسأل الله معافاته ومعونته إن أمتي لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف".
ويقول: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابًا ... فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف وتأبى الطباع".
ثم ينقل ابن الجزري عن ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" قوله: "فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذلي يقرأ "عتى حين"
__________
1 النشر 1/ 22.
(1/19)



*************
يريد "حتى" ... والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ "قيل لهم" و"غيض الماء" بالإشمام ... وهذا يقرأ "عليهم" و"منهم".. والآخر يقرأ "عليهمو ومنهمو" بالصلة ... إلى غير ذلك.. ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه".
شروط قبول اللغويين للقراءة:
يحتاج موقف اللغويين من القراءات القرآنية وشروط قبولهم لها إلى توضيح، لأن هناك خلطًا كثيرًا وقع في هذه القضية. وأحب بادئ ذي بدء أن أميز بين منهجين مختلفين وموقفين متباينين من القراءات القرآنية:
أولهما: موقف القراء وعلماء الأصول.
والآخر: موقف اللغوييين والنحاة.
الفريق الأول حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها وسيلة تعبد وتقرب إلى الله، وشرطًا لصحة الصلاة، ومصدرًا للتشريع.
أما الفريق الثاني فقد حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها أحد المصادر اللغوية المعتمدة، وشاهدًا لا يصح النظر إليه بمعزل عن سائر الشواهد اللغوية.
الفريق الأول: حين غلب المقياس الديني- وضع لقبول القراءة شروطًا ثلاثة هي:
1- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
2- موافقة العربية ولو بوجه.
3- صحة سندها واتصال روايتها1.
__________
1 النشر لابن الجزري ص 1- 9.
(1/20)



*************
أما الفريق الثاني -وهو الذي يهمنا - فقد وضع لصحة القراءة شرطًا واحدًا هو صحة الرواية عن القارئ العدل حتى لو كان فردًا، وسواء رويت القراءة بطريق التواتر أو الآحاد، وسواء كانت سبعية أو عشرية أو شاذة.
بل إن ابن جني في كتابه "المحتسب" كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك في قوله: "إنه نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالرواية من أمامه وورائه. ولعله أو كثيرًا منه مساو في الفصاحة للمجتمع عليه".
وإذا كان اللغويون لم يشترطوا النقل المتواتر في أي نص لغوي؛ فلماذا يشترطونه في القراءة القرآنية. وإذا كانوا قد صرحوا بقبول نقل الواحد إذا كان الناقل عدلًا رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا1 فلماذا يوضع قيد على قبول القراءة دون غيرها؟ بل أكثر من هذا يصرح السيوطي بأن العدالة وإن كانت شرطًا في الراوي فهي ليست شرطًا في العربي الذي يحتج بقوله.
وإلى جانب عدم اشتراط اللغوي للتواتر لم يشترط اتصال السند ورفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- واللغويون بهذا يتعاملون مع القراءة على أنها نص عربي رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته على فرض التشكك في نسبة القراءة إلى الرسول.
وبهذا يدخل في باب الاحتجاج اللغوي كثير مما عده القراء من باب التفسير أو الشرح اللغوي.
أما شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف للعثمانية؛ فلا يتقيد به اللغوي كذلك. بل هو يرى في هذا الشرط حدًّا من فائدة تعدد القراءات وإضاعة للحكمة من تشريعه، وهي التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها كما سبق أن ذكرنا.
إن العادات النطقية والقدرة على التلفظ ببعض الأصوات دون بعض إنما ترتبط بالجانب الصوتي لا الكتابي. وإلا فأي صعوبة نطقية تتحقق
__________
1 الاقتراح للسيوطي ص 86.
(1/21)



*************
في أن يقرأ القارئ الكلمة كما قرئت "فتبينوا" أو "فتثبتوا" وأي صعوبة في أن ينطق كلمة "عباد" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كما قرأها ابن كثير وابن عامر ونافع وغيرهم "عِنْدَ الرحمن"، أو كما قرأها أُبي وسعيد بن جبير: "عَبْد الرحمن". "بفتح العين وسكون الباء" أو كما قرأها ابن عباس: "عُبَّاد الرحمن" "بضم العين وتشديد الباء"؟ وهل تظهر الحكمة من تعدد القراءات في مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، حينما قرئت "منه" تارة. "مِنّةً" "بكسر الميم وتشديد النون والنصب" وتارة: "مَنُّه" "بفتح الميم وضم النون المشددة والإضافة"، وتارة: "مِنَّة" "بكسر الميم وتشديد النون والرفع".
فإذا كان مثل هذه القراءات يدخل في باب المقبول مع غياب حكمة التخفيف فيها، فلماذا نستبعد قراءات أخرى تبدو حكمة التخفيف واضحة منها لمجرد مخالفتها لرسم المصحف؟ والأمثلة كثيرة على القراءات التي تدخل في باب العادة الكلامية أو الخاصة اللهجية -مما يقبله اللغوي دون تردد- ويستبعده القارئ لمخالفته رسم المصحف مثل:
1- {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بِضَنِينٍ} ، التي قرئت: "بِظَنين".
وكلنا يلاحظ التداخل بين صوتي الضاد والظاء حتى في لغة المعاصرين، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين الضاد والظاء.
2- قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ، وقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} فقد قرأهما ابن مسعود على خلاف سائر القراء حين أبدل الكاف قافًا في الأولى فصارت "قشطت" وأبدل القاف كافًا في الثانية فصارت، "تكهر". والصلة الصوتية بين القاف والكاف أوضح من أن تحتاج إلى تعليق، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين القاف والكاف.
(1/22)



*************
3- قراءة ابن مسعود: "عتى حين" في: "حتى حين"، وهي خاصة لهجية معروفة منقولة عن هذيل.
4- ومثل هذا يقال عن قراءة: "إنا أنطيناك الكوثر" بدلًا من {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، وقد قرأ بها كل من الحسن وطلحة وابن محيصن وأم سلمة.
بل إنني أرى أن شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف العثمانية قد فتح بابًا دخل منه بعض القراء واللغويين الذين غلبوا جانب الرسم على جانب الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية.
وهذا باب خطير دخل منه كثير من الطاغين في القراءات حين ردوا كثيرًا مما روى منها إلى الاجتهاد في النطق بما هو مرسوم.
ولهذا كان حمزة بن حسن الأصفهاني في كتابه "التنبيه على حدوث التصحيف" حريصًا على أن يوضح أن احتمال الهجاء لا يكفي بل لا بد أن يقرأ بهما لتصيرا قراءتين. أما إذا احتمل الهجاء لفظين ولم يقرأ بهما فلا تصيران قراءتين. وضرب الأصفهاني أمثلة لقراءات وافقت رسم المصحف ولم تصح الرواية فيها فعدت من التصحيف، منها القراءات المنسوبة إلى حماد الراوية، قال الأصفهاني: "وكان حماد الراوية يقرأ القرآن دون رواية فكان يقع في التصحيف"، ومما صحفه، "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غِرَّةٍ "بكسر الغين" وَشِقَاقٍ"، بدلًا من {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، وكذلك: "لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُعنِيهِ" بدلًا من "شأن يغنيه".. وغير ذلك.
أما شرط "موافقة العربية ولو بوجه" فلا يرى اللغوي ضرورة له، لأنه أمر متحقق لا محالة حين يتحقق شرط الرواية، ولهذا يقول ابن الجزري: "وقولنا في الضابط: "ولو بوجه" نريد به وجهًا من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة
(1/23)



*************
بالإسناد الصحيح...." وحين أرد بن الجزري أن يمثل لما نقله الثقة ولا وجه له في العربية لم يجد ما يمثل به إلا ما كان من قبيل السهو والخطأ، ومع ذلك عقب بقوله: "وهو قليل جدًّا بل لا يكاد يوجد"1.
ومن الغريب أن نجد من بين المشتغلين بالقراءات من المعاصرين من يحاول إسقاط ما عدا القرءات السبع من الكتب، ويرفض إثباتها أو الإشارة إليها لأي غرض من الأغراض. فأقصى ما يمكن أن يقوله قائل: أنه لا تصح الصلاة بغير المتواتر، لأنه ليس بقرآن. ولكن إذا لم يكن قرآنًا، أليس من وجهة النظر اللغوية البحتة كلامًا عربيًّا فصيحًا؟ وإذا كان يحظر التعبد به أو قراءته في الصلاة، أليس هناك مجالات أخرى لروايته والاستشهاد به؟ يقول القسطلاني2: "إن من قرأ بالشواذ غير معتقد أنها قرآن ولا يوهم أحدًا ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يحتج بها، أو الأحكام الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها". وبهذا ينبغي أن تدخل القراءات بجميع درجاتها ومستوياتها في الدرس الأدبي واللغوي دون حرج.
نظرة اللغويين إلى القراءة:
تختلف نظرة اللغويين إلى القراءة باختلاف الغاية من الاستشهاد بها. فإن كانت الغاية إثبات وجود اللفظ في اللغة، أو ضبط نطقه أو ذكر معناه، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا ولا تبني قاعدة، إذا كانت الغاية كذلك فلا يهم كثرة النماذج اللغوية الموافقة لهذه القراءة أو قلتها، كما لا يهم أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا. وقد قبل اللغويون روايات الآحاد بالنسبة لجميع الشواهد اللغوية في مثل هذه الحالة.
__________
1 النشر 1/ 10، 16.
2 لطائف الإشارات ص 73.
(1/24)



*************
أما إذا كانت الغاية من الاستشهاد وضع قاعدة، أو استنباط حكم أن تقنين نمط فإن اللغوي حينئذ يضع القراءة إلى جانب غيرها من النصوص، ويوازن بينها، ويبني القاعدة على الكثير الشائع، سواء كان مقروءًا به، أو غير مقروء، وسواء كانت القراءة متواترة أو غير متواترة، والقراءة حينئذ لا تتميز بوضع خاص، ولا تنفرد بنظرة معينة بالنسبة لسائر المصادر اللغوية. وكيف تتميز والنص القرآني نفسه لم يعط أي ميزة في مجال التقعيد على غيره من النصوص؟
ألم يتوقف اللغويون عند بعض الآيات القرآنية فحفظوها ولم يقيسوا عليها لأنها لم تأت طبقًا للنموذج الشائع في لغة العرب؟
أينا يسمح بأن يقيس المتعلم على الآية القرآنية "إنّ" بنون مشددة "هذان لساحران" فيرفع الطرفين بعد "إنّ"؟ "الآية 63 طه" وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي من القراء السبعة.
ومثل هذا يقال عن قراءة معظم السبعة {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} "النساء 162".
فالقراءة إذن في مجال التقنين والتقعيد لا تعزل عن بقية المصادر اللغوية وهي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر الجاهلي والإسلامي ومأثور النثر من حكم وأمثال وخطب ... وهي توضع مع غيرها في سلة واحدة ويصنف الجميع ويحلل ثم توضع القاعدة على ما تثبت كثرته ويتضح شيوعه واطراده، لأنه هو الذي يمثل اللغة المشتركة أو القاعدة التي يجب محاكاتها والالتزام بها.
ومعنى هذا أن معيار اللغوي ومنهجه يختلف عن معيار القارئ ومنهجه، وأن أي محاولة لفرض منهج القراءة على اللغويين سيعني فرض منهج علم على علم آخر، كما سيظهر اللغوي بمظهر المضطرب أو المتناقض في أقواله وأفعاله.
(1/25)



*************
وعلى هذا فحين يقول اللغويون عن القراءات.
1- "والقراء لم يطالبوا بأن يحملوا القراءة على ما يجوز في كلام العرب بل إن قراءتهم مردودة إلى الرواية" "رسالة الملائكة للمعري".
2- "الرواية تصلها إلى رسول الله، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ "المحتسب لابن جني".
3- "والسلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال: إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأثم من قال ذلك" "إعراب القرآن للنحاس".
فليس معنى هذا أنهم لا بد أن يقعدوا عليها بصورة مطلقة، وأن يخالفوا أمثلتهم الكثيرة ليبنوا على ما كان منها قليلًا. كما أنه ليس معنى رفضهم التقعيد على بعض القراءات أنهم يرفضون قبول القراءات ككل.
وبهذا يمكننا أن نفهم وجهة نظر اللغويين القدماء الذين استبعدوا من مجال الاستشهاد قراءات سبعية مثل:
1- قراءة ابن عامر: "وَكَذلِك زُيّنَ" -بضم الزاي- "لِكَثِيرٍ مِن الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ" -بضم اللام- "أَوْلادَهِمْ" -بفتح الدال- "شُرَكَائهم" بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول.
2- قراءة حمزة: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ" بالجر على عطف الظاهر على الضمير المتصل دون إعادة حرف الجر. وقد وضح أبو على الفارسي ذلك قائلًا: "وهذا ضعيف في القياس وقليل في الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن".
(1/26)



*************
3- قراءة نافع: "وَجَعَلْنَا لَكُم فِيْهَا مَعَائِش" بإبداء ياء مفعلة همزة في الجمع، وهي ليست زائدة. وقد قال المازني تعليقًا على هذه القراءة: "أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، ولم يكن يدري ما العربية"، وقال الزجاج: "ولا أعلم لها وجهًا إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة".
وفي نفس الوقت قبلوا في الاستشهاد قراءات غير سبعية مثل:
أ- قراءة الحسن: "اهبطوا مصر" بمنع مصر من الصرف.
ب- قراءة الحسن: "ولا خوف" بفتحة واحدة "عليهم ولا هم يحزنون".
ح- قراءة الأعمش: "وإن منها لما يهبط" بضم الباء "من خشية الله".
فالنوع الأول وإن حقق شروط القراء لم يحقق شروط اللغويين، والنوع الثاني وإن لم يحقق شروط القراء فقد حقق شروط اللغويين.
مناقشة اللغويين المعاصرين:
أدى عدم تفرقة كثير من اللغويين المعاصرين بين الاستشهاد بالقراءة في مجال اللغة والاستشهاد بها في مجال النحو، وعدم التزام كثير من النحاة بالاستشهاد بالقراءة في مجال النحو رغم تصريحاتهم الكثيرة بأن القراءة سنة، وأن الرواية تصلها إلى الرسول - أدى هذا وذاك إلى التلبيس على كثير من الباحثين وإيقاعهم في الحيرة والاضطراب حين أرادوا التوفيق بين تصريحات اللغويين ومواقف النحاة:
"أ" فالدكتور عبد الفتاح شلبي1 يرى أن موقف قدامى النحاة من القراءات كان موقف مهادنة لأن مدرسة الإقراء ومدرسة النحو
__________
1 رسالته للدكتوراه المعنونة "أبو على الفارسي" - غير مرقمة الصفحات.
(1/27)



*************
نشأتا متصلتين، ثم حينما أخذتا في الانفصال تميزتا حتى بلغ من انفراج الشقة بينهما أن عرض النحاة المتأخرون بمشايخ القراء وضعفهم في العربية.
ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذا الرأي بعد أن وجدنا من النحاة الأول من كان يلحن القراء ويتعرض لهم بالنقد والتخطئة.
1- فقد حكى البغدادي في خزانته أن النحاة في عصر أبي عمرو ابن العلاء أنكروا على القراء قراءتهم "وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِي" بكسر الياء، ففزع أحدهم إلى أبي عمرو بن العلاء قائلًا له: إن أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال له: هي جائزة أيضًا لا تبال1.
وممن طعن في هذه القراءة من قدامى النحاة الفراء الذي وصفها بأنها من وهم القراء إذ ظنوا أن الباء في "بِمُصْرخي" خافضة للفظ كله، مع أن الياء للمتكلم2. كذلك طعن فيها أبو عبيدة وقال: "نراهم قد غلطوا ظنا أن الباء تكسر لما بعدها". وطعن فيها أيضًا أبو حاتم والأخفش والزجاج وغيرهم3.
2- قرأ نافع وابن عامر: "أَتُحَاجُوني" بنون خفيفة، كما قرأ نافع: "فَبِمَ تُبَشِّرُون". وقد خطأ أبو عمرو بن العلاء القراءتين محتجًّا بأنه لا يقال. "أنتم تقوموا" بحذف نون الأعراب4 كما خطأها
__________
1- خزانة الأدب 2/ 259.
2- معاني القرآن للفراء، ورقة 89، والبحر المحيط 5/ 419.
3- البحر المحيط 5/ 419.
4- إعراب القرآن للنحاس، ورقة 60، 97. وجمهور النحاه على جواز الجمع بين النونين بدون ادغام وبادغام وجواز الاكتفاء بنون واحدة. وقد اختلف النحاة في المحذوف منهما.
"انظر إعراب القرآن للنحاس ورقة 97، وأوضح المسالك 1/ 79 الهامش رقم 1.
(1/28)



*************
أبو حاتم وقال: "هذا يكون في الشعر اضطرارًا"1.
3- قرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: "هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُم"2 بنصب أطهر. وقد قال أبو عمرو بن العلاء في شأن هذه القراءة: "من قرأ: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم" فقد تربع في لحنه"3. وقال الخليل: هذا لا يجوز. وقال سيبويه: احتبى ابن جؤية في اللحن في قوله: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم"4.
4- قرأ حمزة: "ولا يحسبن الَّذِين كفروا سبقوا"، وقد قال النحاس عن هذه القراءة: وما علمت أحدًا من أهل العربية بصريًّا ولا كوفيًّا إلا وهو يمنع أن تقرأ هذه القراءة5.
5- قرأ الحسن وأبو جعفر: "أَنْ نُتخذ مِن دونك مِن أولياء" بضم نون نتخذ، وقد قال عن هذه القراءة أبو عمرو بن العلاء وعيسى ابن عمر: لا يجوز نتخذ، إذ لو كانت كذلك لحذفت "مِن" الثانية فقلت: "أن نتخذ من دونك أولياء"6.
6- قرأ بعضهم: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم" ففصل بالمفعول بين المضاف والمضاف إليه. وقد قال أبو حيان عن هذه القراءة: "جمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم"7.
__________
1 البحر المحيط 5/ 458.
2 البحر المحيط 5/ 247.
3 البديع لابن خالويه ص 60، ومجالس ثعلب 2/ 247 والبحر المحيط 5/ 247.
4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 87، ومجالس ثعلب 2/ 427.
ووجهة نظر المنكرين أن "هنّ" في الآية لا تصلح أن تكون ضمير فصل لأن ما بعدها فضلة.
5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 132، ومعاني القرآن للفراء ورقة 129.
6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 133.
7 البحر المحيط 4/ 229.
(1/29)



*************
"ب" والدكتور مهدي المخزومي بقسم النحاة إلى فريقين فالبصريون يلجئون إلى التأويل عند مواجهتهم قراءة من القراءات السبع لا سبيل إلى إنكارها، ويغلطون ما عداها. أما الكوفيون فلهم موقف آخر يغاير البصريين كل المغايرة. فقد قبلوا القراءات واحتجوا بها وعقدوا على ما جاء فيها كثيرًا من أصولهم وأحكامهم. وهم إذا رجحوا القراءات التي يجتمع القراء عليها فلا يرفضون غيرها، ولا يغلطونها، لأنها صواب عندهم أيضًا. كذلك يعد الدكتور المخزومي القراءات المختلفة - حتى الشاذ منها- من مصادر دراسات الفراء، ويقول: إنه لا يني يستشهد بها ويصوبها ويحتج بها1.
"ج" والأستاذ إبراهيم مصطفى يقول: كان في حلب ... مدرسة نحوية عظيمة أسسها أبو عبد الله الحسين بن أشهد بن خالويه "سنة 370" وأبو الفتح عثمان بن جني المتوفي سنة 392. ولهذه المدرسة أسلوب في البحث يتميز بعنايتها بالقرآن وجمع روايته وتوجيه ما سمي منها شاذًّا"2 وقريب منه ما يقوله الدكتور عبد الفتاح شلبي عن ابن جني من "أنه كان أسلم موقفًا من شيخه الفارسي ومن المبرد بتأليفه كتاب المحتسب"3.
ولا يسعنا كذلك أن نسلم بأي من هذه الآراء، فقد اتضح لنا بعد طول البحث والاستقصاء أن موقف النحويين من القراءات موقف موحد لا يختلف فيه كوفي عن بصري، ولا يشذ فيه ابن خالويه أو ابن جني أو غيرهما عنهم. فهم جميعًا كانوا ينقدون القراءة ويقيسونها بمقاييسهم النحوية وهم جميعًا كانوا لا يتورعون عن تخطئة القراءة سواء كانت سبعيه أو عشرية أو شاذة أو غيرها، وهم جميعًا كانوا لا يقطعون القراءة إلا إذا وجدوا لها من كلام العرب نظيرًا، وهم جميعًا كانوا
__________
1 مدرسة الكوفة صفحات 166، 388، 389.
2 المهرجان الألفي لأبي العلاء ص 364، 365.
3 أبو على الفارسي.
(1/30)



*************
لا يتحرجون عن تخطئة القراءة أو تلحينها إذا عجزوا عن فهمها أو توجيهها، لا فرق في ذلك بين من اشتغل بالقراءة إلى جانب النحو أو تخصص للدرس النحوي.
ونعرض من بين القراءات التي خطأها ابن خالويه وابن جني الأمثلة الآتية:
1- قرأ بعضهم: "وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَال" وقد قال ابن خالويه عن هذه القراءة: وإنما يجوز مثل هذا في الشعر كقول الشاعر:
فلو أن واش باليمامة1.
2- ويقول ابن خالويه في قراءة: "سَاحِرَانِ تَظّاهَرَا" بالتشديد: تشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما تشدد في المضارع2.
3- ويقول كذلك ابن خالويه في قراءة: "وَلَه أَخّ" بالتشديد: فقال ابن دريد: التشديد لغة وقال ابن خالويه: وأهل العربية يرونه لحنًا.
وغير ذلك3.
4- قرأ الحسن: "وَمَا تَنَزّلَتْ بِه الشَّيَاطُون"، وقد قال عنها ابن جني: "الشياطون غلط"4، على الرغم مما هو ثابت أنها قد سمعت من بعض العرب فقد حكى أبو العلاء المعري في كتابه "عبث الوليد" عن بعض العلماء أنه سمع أعرابيًّا يقول: "هذه بساتون بني فلان"5.
__________
1 البديع ص 25.
2 المرجع ص 113.
3 المرجع ص 25 وانظر كذلك الحجة لابن خالويه ورقة 46 والبديع له ص 35.
4 المحتسب ورقة 118.
5 عبث الوليد ص 226.
(1/31)



*************
5- قرأ يحيى بن عامر: "وإن أدرىَ لعله"، "وإن أدرىَ أقريب" وقد قال ابن جني: "أنكر ابن مجاهد تحريك هاتين الياءين، وظاهر الأمر لعمري كذلك"1.
6- قرأ ابن محيصن: "ثم أطّره" وقد قال ابن جني: "هذه لغة مرذولة"2.
أما القراءات التي خطأها الكوفيون فقد سبقت نماذج منها ونضيف ما يأتي إلى ما سبق:
1- قرأ بعضهم: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" وقد قال عنها الفراء: "وفيه قبح"3.
2 - قال الفراء في قراءة الحسن: "وما تنزلت به الشياطون": "غلط الشيخ"4.
3 استقبح الكسائي قراءة: "بيت طائفة" بادغام التاء في الطاء، مع أنها قراءة أبي عمرو والكوفيين5.
نعم إن الكوفيين كانوا أقل تخطئة للقراءات، وأكثر قبولًا لها من البصريين، ولكن ذلك لا يرجع- في نظرنا- إلى احترامهم للقراءات وحسن تقبلهم لها، وإنما يرجع إلى ما عرفوا به من توسع في أصول اللغة، وقياس على القليل، واعتداد بالمثال الواحد6، فأمكنهم بذلك توجيه كثير من القراءات وتخريجها على مقتضى أصولهم. ومن هنا قلت تخطئتهم لها. وإذا كان الدكتور مهدي المخزومي قد ساق أمثلة قبل فيها الكوفيون.
__________
1 المحتسب ورقة 103.
2 المرجع ورقة 22.
3 معاني القرآن للفراء ورقة 36
4 البحر المحيط 7/ 46.
5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 43. وانظر أمثلة أخرى في معاني القرآن للفراء ورقة 110، 177، ومعاني القرآن للنحاس ورقة 178.
6 انظر: من أسرار اللغة ص 11.
(1/32)



*************
بعض القراءات وصححوها1، فإن هذا لا يكفي لإثبات دعواه. وقد ذكرنا أمثلة مضادة تكفي لهدم تلك الفكرة، ولا نزعم أنها كل ما أنكره الكوفيون من قراءات.
وإذا كان الكوفيون -كما يقول الدكتور مهدي المخزومي- يستشهدون بالقراءات فلماذا يحاولون الاستدلال على صحتها بالتماس وجه لها في العربية تخرج عليه؟ ولماذا يخطئون ما يعجزون عن تخريجه؟ وأنت ترى ذلك واضحًا في قول إمام من أئمتهم وهو الفراء: "وقرأ الحسن: "إلا من هو صال الجحيم" فإن كان أراد واحدًا فليس بجائز، لأنك لا تقول هذا قاض ولا رام "بالضم"، وإن يكن عرف فيها لغة مقلوبة مثل عاث وعثا فهو صواب"2 فعلام هذا الترديد؟ ولماذا يتوقف تصحيح القراءة على سماع نظير لها من لغة العرب؟ لقد اشتهر الكوفيون بأنهم يقيسون على المثال الواحد، فلماذا لا يقيسون على القراءة ولو لم يكن لها نظير فيما نقلوه من لغة العرب، ويعتبرونها هي المثال الواحد؟.
إن ترك هذا يعني -في نظرنا- أن القراءة عندهم لا ترقى إلى مرتبة الشاهد في الاستدلال، ويعني كذلك أن القراءة لا يوثق فيها بمفردها، ولا يصح الاستشهاد بها إلا مع سند من كلام العرب وهذا ينفي فكرة استشهادهم بالقراءات واحترامهم لها.
وليس معنى هذا أنهم كانوا يرفضون كل لفظ يرد في القراءات وإنما معناه أنهم كانوا لا يكتفون بالقراءات حين يرد فيها لفظ من الألفاظ بل يدعمونها بنص آخر شعري أو نثري حتى يمكن أن يؤخذ بها.
ونحن لا نعيب على النحاة عدم استشهادهم المطلق بالقراءات ورفضهم بناء اللغة الأدبية المشتركة عليها إلا ما وافق منها الأصول العامة وجرى على النمط العربي الفصيح، فذلك عين الصواب كما سبق.
__________
1 مدرسة الكوفة ص 284 - 395.
2 معاني القرآن للفراء ورقة 160.
(1/33)



*************
أن بينا، وإنما نعيب عليهم وصفهم بعض القراءات بأنه قبيح أو رديء أو وهم أو غلط1. وقد كان في إمكانهم أن يصفوها بأنها جاءت على لهجة محلية أو أقل فصاحة فلا تبني عليها قاعدة، دون أن يطعنوا على القارئ أو يشككوا في صحة القراءة. ونحن لا ندعي -ولا غيرنا- أن القراءات كلها على مستوى واحد من الفصاحة2، فما هي في معظم حالاتها إلا تمثيل للهجات، واللهجات تتفاوت فيما بينها في درجات الفصاحة، ولهذا يقول أبو نصر القشيري: "فإننا لا ندعي أن كل القراءات على أرفع الدرجات في الفصاحة"3.
وقد كان الطبري أكثر توفيقًا في تعليقه على بعض القراءات حين كان يقول: "وأعجب القراءتين إليّ كذا"، وكذلك كان الفراء في تعليقات له مثل "وأنه لأحب الوجهين إليّ"، ومثل: "ولست أشتهي ذلك".
__________
1 من سوء تعبيرهم قول المبرد عن قراءة لأبي عمرو: "هي لحن لا يجوز في كلام ولا شعر"، وقوله عن قراءة أخرى: "لو صليت خلف إمام يقرأ بها لأخذت نعلي ومضيت"، وقول الزمخشري عن قراءة لابن عامر أنها "شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجًا مردودًا فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن".
2 لم أجد أحدًا من الباحثين قد وضع القرآن وقراءاته في مستوى واحد من الفصاحة إلا الأستاذ عباس حسن الذي قال: "بعض القراء قرأ: "ما ودعك"، أفيكون هذا شذوذًا في الاستعمال مع قراءة القرآن به، وكيف يتفق القول أن يكون القرآن أسمى لغة عربية بيانية مع اشتماله على الشاذ"؟ "مجلة رسالة الإسلام العدد 3 السنة 10 ص 284". وهو هنا يخلط بين حقيقتين متغايرتين ويثبت لإحداهما ما هو للأخرى.
3 القراءات واللهجات ص 131.
(1/34)



*************
3- الحديث النبوي:
المشهور بين الباحثين أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها، يقول الشيخ أحمد الإسكندري: "مضت ثمانية قرون والعلماء من أول أبي الأسود الدؤلي إلى ابن مالك لا يحتجون بلفظ الحديث في اللغة إلا الأحاديث المتواترة"1. ويقول أبو حيان معترضًا على ابن مالك لاستشهاده بالحديث: "على أن الواضعين الأولين لعلم النحو والمستقرئين للأحكام من لسان العرب، والمستبطين المقاييس كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين، وكمعاذ والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك"2.
وقد حاول المتأخرون أن يعللوا هذا الرفض المزعوم وانتهوا إلى أنه يرجع لسببين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى والثاني أنه وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع3.
والذي نحب أن نلفت النظر إليه أن هؤلاء القدماء الذين نسب إليهم رفضهم الاستشهاد بالحديث لم يثيروا هذه المسألة، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به. وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا -خطأ- أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به، ثم حاولوا تعليل ذلك.
وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك في صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع -إن لم يكن يقطع فعلًا- أنهم كانوا يستشهدون به ويبنون عليه قواعدهم، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معا.
__________
1 مجلة المجمع 1/ 299.
2 التذييل والتكميل 5/ 168.
3 خزانة الأدب 1/ 5، 6، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169.
(1/35)



*************
ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون وسنده في ذلك ما يأتي:
1- أن الأحاديث أصح سندًا من كثير مما ينقل من أشعار العرب.
ولهذا قال صاحب "المصباح المنير" بعد أن استشهد بحديث: "فأثنوا عليه شرًّا" على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر - قال: "قد نقل هذا العدل الضابط عن العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم يكتفون بالنقل عن واحد ولا يعرف حاله"1.
2- أن من المحدثين من ذهب إلى "أنه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا لمن أحاط بجميع دقائق اللغة، وكانت جميع المحسنات الفائقة بأقسامها على ذكر منه فيراعيها في نظم كلامه. وإلا فلا يجوز له روايته بالمعنى"2. على أن المجوزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون في الكتب، وفي حالة الضرورة فقط3. وقد ثبت أن كثيرًا من الرواة في الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية. ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف4.
3- أن كثيرًا من الأحاديث دون في الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدي رجال يحتج بأقوالهم في العربية. فالتبديل على فرض ثبوته إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه، فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك5.
__________
1 المصباح المنير مادة "ثني". وانظر مجلة المجمع 3/ 201.
2 ابن علان في "شرح الاقتراح" ص 94.
3 مجلة المجمع اللغوي 3/ 204.
4 تعليق الفرائد للدماميني- باب الفاعل "غير مرقم الصفحات".
5 ابن علان ص 94، تعليق الفرائد- باب الفاعل.
(1/36)



*************
4- أن هناك أحاديث عرف اعتناء ناقلها بلفظها لمقصود خاص، كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته -صلى الله عليه وسلم- ككتابه لهمدان، وكتابه لوائل ابن حجر، والأمثال النبوية 1.
5- وإذا كان قد وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف؛ فإن هذا لا يقتضي ترك الاحتجاج به جملة، وإنما غايته ترك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط، وحمله على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة2، وقد وقع في الأشعار غلط وتصحيف، ومع ذلك فهي حجة من غير خلاف، وإذا كان العسكري قد ألف كتابًا في تصحيف رواة الحديث، فقد ألف كتابًا فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف3.
6 لو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به، إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به"4، فقد تكون العلة لتركه "عدم تعاطيهم إياه". وقد ثبت فعلًا أن أوائل النحاة من شيوخ سيبويه حتى زمن تدوين صحيح البخاري لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث لأنه لم يكن مدونًا في زمانهم5.
7- على أني وجدت من قدامى اللغويين من استشهد بالحديث في مسائل اللغة كأبي عمرو بن العلاء6 والخليل7 والكسائي8.
__________
1 خزانة الأدب 1/ 6 عن الشاطبي.
2 مجلة المجمع اللغوي 3/ 207.
3 المرجع والصفحة.
4 خزانة الأدب 1/ 5.
5 شرح كافية المتحفظ ورقة 16، وانظر خديجة الحديثي ص 412
6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 138.
7 العين 1/ 70- 72 وغير ذلك كثير.
8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 72.
(1/37)



*************
والفراء "1" والأصمعي "2" وأبي عبيد "3" وابن الأعرابي "4" وابن السكيت "5" وأبي حاتم "6" وابن قتيبة 7 والمبرد 8 وابن دريد 9 وأبي جعفر النحاس10 وابن خالويه11 والأزهري 12 والفارابي 13 والصاحب بن عباد 14 وابن فارس 15 والجوهري 16 وابن سيده 17 وابن منظور والفيروزأبادي وغيرهم. ولا يختلف موقف النحاة عن هذا، إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل مثلًا بالحديث في اللغة، ثم لا يستشهد به
__________
1 معاني القرآن للفراء ورقة 40، 85.
2 الأضداد للأصمعي ص 12، 23، 27.
3 إعراب القرآن للنحاس ورقة 173، والغريب المصنف لأبي عبيد ص 118، 478.
4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 167.
5 الأضداد لابن السكيت ص 167، 172، والقلب والإبدال له 31.
6 الأضداد لأبي حاتم ص 36، 136، والمخصص لابن سيده ص 40.
7 المسائل والأجوبة لابن قتيبة ص 8.
8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 200.
9 الجمهرة 1/ 16، 18، 21، 25، 26، 27، 31، 33، 34، 43، 44، 45، 48، 50،.... إلخ.
10- شرح المعلقات للنحاس ورقة 72، ومعاني القرآن له ورقة 44.
11 "كتاب ليس" لابن خالويه ص 5، 6، 11، 24، 40، 41، 50، 67، 74، 77، 83، 157، 163 ... إلخ.
12 1/ 30، 33، 38، 42، 57، 68، 86، 88، 94، 98، 100، 113 ... إلخ.
13 انظر ديوان الأدب 1/ 73، 138، 139، 153، 201، 211.
14 المحيط للصاحب بن عباد 3/ 9، 17، 21، 66، 69، 89، 92، 123، 125، 127، 151، 178.... إلخ.
15 مقاييس اللغة 1/ 14، 16، 24، 41، 43، 44، 54، 55، 63، 65 ... إلخ.
17 المخصص 1/ 18، 22، 40، 48، 50، 60، 77، 108، 160 ... إلخ.
(1/38)



*************
في النحو، وهما صنوان يخرجان من أصل واحد، وممن استشهد بالحديث من النحاة: أبو عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه 1 والفراء 2 والكوفيون 3 والمبرد4 والزجاجي والزمخشري5 وابن خروف6 وابن الخباز7 وابن مالك8 وابن عقيل9 وابن الدماميني 10 والأشموني11 والسيوطي وغيرهم وغيرهم 12 وفاقهم في ذلك كل ابن مالك وبلغ الذروة في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" حيث عقده للأحاديث التي يشكل إعرابها، وذكر لها وجوهًا يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح. بل إن ابن الضائع "13" وأبا حيان14 وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من
__________
1 وقد استشهد بثلاثة عشر حديثًا في الكتاب "انظرها في موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث لخديجة الحديثي ص 53 وما بعدها وص 67".
وانظر خديجة الحديثي ص 42، 43، 46، 50.
2 شرح المفصل لابن يعيش 4/ 103، والإنصاف 2/ 300.
3 الإنصاف 2/ 300، 303، 367،368.
4 احتج المبرد في المقتضب بالحديث في ثلاثة عشر موضعًا "انظر خديجة الحديثي ص 97".
5 شرح الجمل لابن عصفور ورقة 65، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 7، 31، 4/ 6، 153، وخديجة الحديثي ص 111.
6 تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب لابن خروف ص 38.
7 شرح ألفية ابن معطي لابن الخباز ورقة 30، 71، 79، 100.
8 انظر كتابه شواهد التوضيح، في أماكن كثيرة.
9 شرحه على الألفية 1/ 58، 293، 538، 547.
10 حاشية على المغني ورقة 22، 23.
11 شرح الأشموني 1/ 82، 85، 96، 119، 183، 204، 225، 266، 292، 322، 400.
12 همع الهوامع 1/ 40، 171، 223، 2/ 25. وانظر استشهادات الزجاج وابن السراج وابن الأنباري وابن النحاس وابن درستويه وابن خالويه وابن علي الفارسي والرماني وابن حني. ... في خديجة الحديثي ص 98 وما بعدها.
13 شرح الجمل لابن الضائع "غير مرقم الصفحات" باب الاستثناء، باب الاختصاص، باب لولا.
14 التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيان 1/ 4، 139.
(1/39)



*************
بعض الحديث. وقد فطن إلى هذا ابن الطيب الفاسي فقال: "بل رأيت الاستشهاد بالحديث في كلام أبي حيان نفسه مرات ولا سيما في مسائل الصرف"1. ولكن إحقاقًا للحق أقول: إن شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها. فهي قليلة بالنسبة إليها وبخاصة عند قدامى النحاة. وقد رأينا كيف أن سيبويه لم يستشهد إلا بثلاثة عشر حديثًا فقط.
8- وقد وجدت في "المزهر" للسيوطي نصًّا يؤيد ما ذهبت إليه، فهو يقول: "قال أبو الحسن الشاري: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرًا لحذفه شواهد القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه ... ولما علم بذلك الإمام ابن التياني عمل كتابه "فتح العين" وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة ... دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث ... "2.
فهذا صريح في أن الخليل كان يستشهد بالحديث في كتابه "العين". ولم يكن الخليل بدعًا من اللغويين، فما صنعه الخليل صنعه غيره من أئمة اللغة.
9- وقد انتهى ابن الطيب الفاسي إلى نفس النتيجة التي انتهيت إليها إذ قال: "ذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف جمع من أئمة اللغة منهم ابن مالك وابن هشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيده وابن فارس وابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي....
__________
1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 16. وقد حصرت الدكتورة خديجة الحديثي لأبي حيان في كتابيه ارتشاف الضرب، ومنهج المسالك ثمانية وعشرين حديثًا انفرد في الاحتجاج بها، وبنى عليها حكمًا جديدًا أو معنى جديدًا أو استعمالًا جديدًا "ص 339، 363".
2 المزهر 1/ 88.
(1/40)



*************
وغيرهم ممن يطول ذكره. وهو الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه. على أنا لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في "شرح التسهيل"، وأبو الحسن بن الضائع في "شرح الجمل" وتابعهما ... السيوطي"1.
10- كذلك انتهت الدكتورة خديجة الحديثي إلى ما انتهيت إليه وأرخت بداية الاحتجاج بالحديث النبوي بأبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه2.
وإذن فقد كان المتأخرون مخطئين فيما ادعوه من رفض القدماء الاستشهاد بالحديث، وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضًا برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما يتأثرون خطاهم وينهجون نهجهم. ونحن نحمل ابن الضائع وأبا حيان تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة، فهما أول من روج لها ونادى بها3، وعنهما أخذها العلماء دون تمحيص أو تحقيق، ثقة في حكمها أو تخففًا من البحث وركونًا إلى الراحة والتماسًا لأيسر السبل.
ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة ما يأتي:
1- أن القدماء لم ينصوا على الاستشهاد بالحديث واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة "النصوص الأدبية القديمة" ثم حين جاء من تلوهم ودونوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث بنص مستقل، فلما جاء ابن الضائع وأبو حيان وغيرهما، ولم يجدوا نصًّا مستقلًّا يعد الحديث من مصادر اللغة ظنوا أن القدماء لم يكونوا
__________
1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 15.
2 موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث ص 78. وقد جمعت المؤلفة لمن يسمون بنحاة ما قبل الاحتجاج سبعة وثمانين حديثًا نبويًّا، وتسعة وعشرين حديثًا مرويًّا عن آل البيت والصحابة1 ص 189".
3 المرجع والصفحة، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169، وخزنة الأدب 1/ 5.
(1/41)



*************
يستشهدون به وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة. وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص وتابعوهم من غير بحث.
ويؤيد هذا الافتراض أن السيوطي1 استنبط من قول بعضهم:
"النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله تعالى وكلام فصحاء العرب" أن اللغويين لم يكونوا يستشهدون بالحديث، فعقب على ذلك بقوله: "فقصره عليهما ولم يذكر الحديث".
2- أن سيبويه في احتجاجه بالحديث لم يكن يقدم له بما يوضح أنه من الحديث، فالتبس الحديث بغيره على الباحثين حتى نسب إليه أبو حيان وغيره عدم الاحتجاج بالحديث. وربما كان السبب في إغفال سيبويه للنسبة أنه كان يحتج بالحديث بأي عبارة منثورة من كلام العرب الفصحاء ... ولم يكن إغفاله النسبة إلى النبي خارجًا عما فعله مع معظم الشواهد الشعرية والنثرية التي لم يهتم بنسبتها إلى شخص معين2.
__________
1 الاقتراح ص 18.
2 خديجة الحديثي ص 78، 412.
(1/42)



*************
4- الشعر:
لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى لهم حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه.
وقد كان اللغويون يستشهدون بالشعر المجهول قائله إن صدر عن ثقة يعتمد عليه. ولذا اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها1. وقد كان سيبويه يحرص على إطلاق البيت من النسبة فكان إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه. وإنما امتنع سيبويه عن تسمية الشعراء "لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعر يروي لشاعرين، وبعضه مجهول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به". وأما الأبيات المنسوبة في الكتاب إلى قائليها "فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها الجرمي. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها"2.
بل إن اللغويين والنحاة قد صرحوا بأن تعدد الروايات في البيت الواحد لا يسقط حجيتها، وأن كل رواية -ما دامت قد نقلت عن ثقة- يصح الاستشهاد بها. يقول ابن ولاد: "الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها. ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد ... ولغة الرواة من العرب في البيت الواحد يجعل كل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة"3.
وحديثنا عن الشاهد الشعري يجرنا إلى الحديث عن قضية "الضرورة الشعرية" أو ما يسمى "بضرورة الشعر" حينما يحاول اللغوي أو النحوي أن يستبعد البيت من مجال الاستشهاد. فما حد هذه الضرورة؟ ومتى يكون الشاعر مضطرًّا اضطرارًا يسقط حجية الاستشهاد ببيته؟ لقد اختلف النحاة في ذلك إلى فريقين: ففريق يرى -وهو جمهورهم-
__________
1 خزانة الأدب 1/ 8، 178.
2 خزانة الأدب 1/ 8، 78. وانظر مقال الدكتور رمضان عبد التواب: "أسطورة الأبيات الخمسين".
3 الانتصار لابن ولاد ص 19، 193.
(1/43)



*************
أن الضرورة هي "ما وقع في الشعر مما لم يقع في النثر سواء أكان للشاعر غنه مندوحة أم لا"1.
ومذهب ابن مالك -وهو الصحيح عن سيبويه- أنها "ما ليس للشاعر مندوحة عنه"2. ويبين أثر هذا الخلاف فيما جاء في الشعر ووجدت فيه المندوحة، فالجمهور يقصره على السماع، وابن مالك يقيس عليه. "ولذلك أجاز وصل ال بالمضارع قليلًا، ولم يجعله ضرورة استدلالًا بقوله:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
لتمكنه من أن يقول: "المرضي حكومته"3. وحيث لم يقل ذلك مع الاستطاعة، ففي ذلك، أشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"4.
وكأني بأصحاب المذهب الأول قد وسعوا في مدلول الضرورة، وأطلقوها دون قيد لتكون سيفًا مصلتًا، وسلاحًا يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه؛ فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير.
وكأن ذلك لم يكفهم فرموا بعض الأبيات بالضرورة، لا فرارًا من الإخلال بالوزن أو القافية، بل فرارًا من الزحاف، وهو ما تأباه النظرة الفاحصة المتأنية.
ولهذا نجد أبا العلاء المعري في كثير من كتبه -وقد كان ذا نظرة تحررية- يهاجم رأي الجمهور وينصر مذهب الأقلية، ولا يترك فرصة للذود عنه والانتصار له إلا انتهزها فهو يرى أن الزحاف لا يحمل الشاعر على ارتكاب ضرورة، فهو كثير في الشعر، وبخاصة في بعض الأوزان.
__________
1 موطئة الفصيح لابن الطيب الفاسي، ورقة 19، 20، والضرائر للألوسي ص 6.
2 موطئة الفصيح ص 19، 20.
3 موطئة الفصيح ورقة 20.
4 خزانة الأدب 1/ 15.
(1/44)



*************