بسم الله الرحمن الرحیم

التمهید-بررسی اعتبار رسم المصحف

فهرست مباحث علوم قرآنی
التمهيد في علوم القرآن-هفوة من عظيم‏
التمهيد في علوم القرآن-فالارجح ان عاصما هو الذى قرأ بالضم فيما اقرأه على حفص‏
التمهيد في علوم القرآن-تحمسات عاطفية فارغة-اضطراب الزرقاني زاعما اتساع افق اطلاعه اخیرا-رجوع ابن الجزری في النشر عما قاله في رد ابي شامة في المنجد‏
خطأ الکاتب في المصحف
قول عثمان إن في القرآن لحنا ستقیمه العرب بألسنتها
اختلاف رسم مصاحف، پشتوانه تعدد قراءات



التمهيد في علوم القرآن ج‏1 400 4 - اختلاف المصاحف: ..... ص : 398
و على أيّة حال فإنّ الاختلاف بين المصاحف المبعوثة الى الآفاق، شي‏ء واقع، و يؤسف عليه، و كانت البذرة الاولى التي انبثق منها اختلاف القراءات فيما بعد.
و فيما يلي عرض نموذجي عن اختلاف مصاحف الآفاق، اعتمدنا فيه على نصّ ابن أبي داود في كتابه «المصاحف» (ص: 39 الى 49).
(ملحوظة): مصحفنا اليوم يتوافق- أكثريّا- مع مصحف الكوفة، سوى مواضع نرمز إليها في الجدول التالي بعلامة (*).
غير أنّ مصحف البصرة كان أدقّ من سائر المصاحف- كما أشار إليه حديث الشامي الآنف‏ - تدلّنا على ذلك، الآية: 87 من سورة المؤمنون:




التمهيد في علوم القرآن ج‏1 346 منجزات المشروع: ..... ص : 346
منجزات المشروع:
اجتازت اللجنة المصاحفيّة في عملها ثلاث مراحل أساسيّة:
1- جمع المصاحف أو الصحف التي فيها قرآن، من أطراف البلاد الإسلاميّة و إمحائها.
2- البحث عن مستندات و منابع صحيحة لغرض النسخ عليها مصاحف متحدة و بثّها بين المسلمين.
3- مقابلة هذه المصاحف الموحّدة، لغرض التأكّد من صحتها أوّلا، و عدم وجود اختلاف بينها ثانيا.
و أخيرا إلزام المسلمين كافّة على قراءتها و منع غيرها من قراءات.
و اللجنة- و إن اجتازت هذه المراحل- و لكنّها في شي‏ء من التساهل و إهمال جانب الدقّة الكاملة، و لا سيّما في المرحلة الثالثة التي كانت بحاجة شديدة الى اهتمام أكثر.
ففي مرحلة جمع المصاحف و إمحائها فقد أرسل عثمان الى كلّ افق من يجمع المصاحف أو الصحف التي فيها قرآن و أمر بها أن تحرق‏ .
______________________________
(1) يصرّح الطبري: بترديده بشأن واقعة نهاوند: ج 4 ص 114 حوادث سنة 21.
(2) صحيح البخاري: ج 6 ص 226.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏1، ص: 347
قال اليعقوبي: و كتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار و الخلّ. و قيل: أحرقها. فلم يبق مصحف إلّا فعل به ذلك، خلا مصحف ابن مسعود، فامتنع أن يدفع مصحفه الى عبد اللّه بن عامر. فكتب إليه عثمان أن اشخصه. فدخل ابن مسعود المسجد و عثمان يخطب، فقال عثمان: إنّه قد قدمت عليكم دابّة سوء. فكلّم ابن مسعود بكلام غليظ. فأمر به عثمان فجرّ برجله حتى كسر له ضلعان: فتكلّمت عائشة و قالت قولا كثيرا .
*** و في المرحلة الثانية، كان عثمان في بدء الأمر زعمها هينة، و من ثم اختار لها جماعة غير أكفاء، ثم لجأ أخيرا الى جماعة آخرين و فيهم الأكفاء مثل سيّد القرّاء الصحابي الكبير ابي بن كعب. كما و أرسل الى الربعة التي كانت في بيت حفصة، و هي الصحف التي جمع فيها القرآن أيام أبي بكر. فطلبها لتكون سندا وثيقا للمقابلة عليها و الاستنساخ منها. فأبت حفصة لأوّل أمرها أن تدفعها إليه، و لعلّها خافت أن تأخذ مصيرها الى الحرق و التمزيق كسائر المصاحف! حتى عاهدها عثمان ليردّنها فبعثت بها إليه‏ .
و هكذا وجّه نداء عامّا الى كافة المسلمين: عزمت على من عنده شي‏ء من القرآن سمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) لما أتاني به‏ .
فجعل الرجل يأتيه باللوح و الكتف و العسيب فيه القرآن. و ربّما كانوا ينتظرون اناسا كانوا أحدثهم بالعرضة الأخيرة، حتى يأتوهم بالقرآن.
قال ابن سيرين: كانوا إذا تدارءوا في شي‏ء- أي اختلفوا في آية- أخّروه قال بعضهم: و لعلّهم كانوا يؤخّرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة.
______________________________
(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 159- 160.
(2) تهذيب التهذيب: ج 1 ص 187. و الطبقات: ج 3 ص 62.
(3) المصاحف للسجستاني: ص 9. و صحيح البخاري: ج 6 ص 226.
(4) المصاحف للسجستاني: ص 24.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏1، ص: 348
فيكتبونها على قوله‏ .
و قال أنس بن مالك: كنت فيمن أملي عليهم، فربّما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقّاها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) و لعلّه يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبل الآية و ما بعدها، و يدعون موضعها حتى يجي‏ء الرجل أو يرسل إليه‏ .
هذا ... و ربّما كان ابي بن كعب يملي عليهم القرآن فيكتبونه، أو يرسلون إليه فيصحّح لهم ما اشتبهت عليهم قراءتها.
جاء في حديث أبي العالية: أنّهم جمعوا القرآن من مصحف ابي. فكان رجال يكتبون يملي عليهم ابي بن كعب‏ .
و قال عبد اللّه بن هانئ البربري- مولى عثمان-: كنت عند عثمان، و هم يعرضون المصاحف- أي يقابلون النسخ مع بعضها البعض- فأرسلني بكتف شاة الى ابي بن كعب فيها: «لم يتسن» و فيها: «لا تبديل للخلق اللّه»، و فيها:
«فامهل الكافرين» فدعا ابي بدواة فمحى اللامين و كتب «لخلق اللّه». و محى «فأمهل». و كتب «فمهل» و كتب «لم يتسنه» فألحق فيها الهاء .
*** أمّا المرحلة الثالثة فكان التساهل فيها أوضح، حسب ما أودعت في المصحف العثماني من أخطاء و مناقضات إملائيّة بما لا يستهان بها، كما و لم تتحد نسخ المصاحف مع بعضها البعض، فكان بين المصاحف المرسلة الى الآفاق اختلاف. الأمر الذي يؤخذ على أعضاء اللجنة، و لا سيّما عثمان نفسه، الذي عثر على تلك الأخطاء و أهملها تساهلا بالأمر! يحدّثنا ابن أبي داود عن بعض أهل الشام، كان يقول: مصحفنا و مصحف‏
______________________________
(1) المصدر: ص 25.
(2) المصدر: ص 21.
(3) المصدر: ص 30.
(4) الإتقان: ج 1 ص 183.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏1، ص: 349
أهل البصرة أحفظ من مصحف أهل الكوفة. لأنّ عثمان لمّا كتب المصاحف بلغه قراءة اهل الكوفة على حرف عبد اللّه. فبعث إليهم بالمصحف قبل أن يعرض- أي قبل مقابلته على سائر النسخ- و عرض مصحفنا و مصحف أهل البصرة قبل أن يبعث بهما .
و هو تسريع في إرسال المصحف الى قطر كبير قبل مقابلته بدقة.
كما و أنّ وجود اختلاف بين مصاحف الأمصار- على ما يحدّثنا ابن أبي داود أيضا - لدليل على مدى الإهمال الذي سمحوا به في ناحية المقابلة و الإتقان من صحّة النسخ.
و جانب أفضح من هذا التساهل الغريب: ما روى ابن أبي داود- أيضا-:
أنّهم عند ما فرغوا من نسخ المصاحف أتوا به الى عثمان، فنظر فيه فقال: قد أحسنتم و أجملتم. أرى فيه شيئا من لحن!- لكن- ستقيمه العرب بألسنتها؟ ثم قال: لو كان المملي من هذيل و الكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.! .
قلت: ما هذا الائتكال الغريب، و الفرصة في قدرته؟! أ لم يكن كتاب اللّه العزيز الحميد جديرا بالاهتمام به ليكون خلوا من كلّ خطأ أو لحن؟! ثم ما هذا التمنّي الكاذب، و في استطاعته بدء الأمر أن يختار ممليا من هذيل و كتبة من ثقيف، و هو يعلم أنّ فيهم الجدارة و الكفاءة، الأمر الذي كان يعوزه من انتدبهم من بطانته حينذاك!! نعم كانت مغبّة هذا التساهل أن حصلت اختلافات في القراءة فيما بعد، و كان كرّا على ما فرّوا منه. و سنفصّل كلّ ذلك في فصول قادمة.
عدد المصاحف العثمانية:






التمهيد في علوم القرآن ج‏2 127 تحقيق الاركان الثلاثة ..... ص : 122
هذا جل ما ذكره القوم بشأن تحقيق الاركان الثلاثة لقبول القراءة و وصفها بالصحة. و قد نقلنا كلام ابن الجزرى بطوله، فان تحقيقه كان هو الفصل الحاسم، المعروف بين ائمة الفن خلفا عن سلف. و لم يزد على تحقيقه أحد فيما أعلم. و قد تلقته العلماء بالقبول عبر العصور.
و ان مناقشتنا التالية- لهذه الاركان- سوف تدور على بنود ذكرها هذا الامام المحقق، كمقياس اساسى لملاحظتها و تحقيقها فى ضوء الواقعية الراهنة، التى ترفض المحاباة فى مجال البحث و التمحيص.

مناقشة هذه الاركان‏
: تلك شروط ثلاثة (السند و الرسم و العربية) ذكرها السلف و تبعهم عليها الخلف تقليديا، من غير ما تحقيق عن واقع الامر، و هل تصلح هذه الاركان حلا لمشكلة «اختلاف القراءات»؟ انها مشكلة لا تنحل بهكذا مسائل شكلية لا واقع لها، اذا ما جاس الباحث خلال الديار.
و قد لمس الائمة القدامى قصور هذه الاركان عن التعريف بصحيح القراءة، و من ثم أخذوا فى تحريفها و تحويرها يمنة و يسرة، و لكن من غير جدوى فاستبدلوا من شرط «التواتر»- الذى كان رائجا على ألسنة غوغاء الناس- كفاية صحة الاسناد، و لكن اذا لم يوجد لبعض القراء اسناد فما ذا؟.
و كذلك شرط «موافقة الرسم»، رسم أى مصحف؟
أ هو مصحف عثمان «الام»؟، فلم يكن بمعرض العامة.
أم هى المصاحف الاولى المبعوثة الى الآفاق؟. فلم يعد لها وجود منذ عام «74» حيث جمعها الحجاج بأمر عبد الملك بن مروان، فى مرسوم سلطانى عام. و قد حاول بعض الائمة (الامام مالك) العثور على نسخة منها فلم يستطع.
ثم ان قيد: «و لو احتمالا»، يذهب بأثر هذا الاشتراط رأسا.
و اما شرط «العربية» فقيد: «و لو بوجه»، أبطل أثره نهائيا، اذ ما من قراءة شاذة إلا و لها وجه فى العربية و لو بعيدا.
هذا اجمال مناقشتنا فى هذه البنود، التى اعتبروها شروطا أساسية لمعرفة صحيح القراءة عن ضعيفها.

و اليك التفصيل:- اما موافقة الرسم- و هو عمدة الشروط- فالمصحف الام- مصحف عثمان المختص به- او مصحف المدينة المودع فى مسجدها، فانه لم يكن بمعرض العموم، فضلا عن ان المعتمد- فى تصريح الجماعة- هو مطلق المصاحف العثمانية الاولى، لا خصوص المصحف الام.
قال الامام شهاب الدين القسطلانى: و اما قول القائل: «و وافق لفظه خط المصحف المصحف الامام» ففيه نظر، من جهة تقييده بالامام، و هو مصحف عثمان الذى أمسكه لنفسه، لان المعتمد: موافقة أحد المصاحف العثمانية، كما فى النشر و غيره‏ .
و دليلا على ذلك انهم اكتفوا بموافقة سائر المصاحف كمصحف الشام و مكة و غيرهما. فقد أجازوا قراءة ابن كثير- قارئ مكة-:
تجرى من تحتها الانهار- التوبة: 100- بزيادة «من» لان مصحف مكة كان مشتملا عليها و ان كان مصحف المدينة خاليا
______________________________
(1) لطائف الاشارات لفنون القراءات ج 1 ص 68.
(2) الكشف ج 1 ص 505.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 129
عن ذلك‏ .
و قرأ ابن عامر- قارئ الشام-: و لدار الآخرة- الانعام:
32- بلام واحدة. لان مصحف الشام كان هكذا . و قرأ الباقون بلامين «و للدار الآخرة» .
فلم يكن مقياس «موافقة المصحف» هو المصحف الامام، بل جميع المصاحف العثمانية- الخمسة او السبعة- المبعوثة الى الآفاق.
و لكن كيف الحصول على موافقتها؟ و لم يعد لها وجود، قبل ان ينتهى القرن الاول، اذ لم يمض على حياتها اقل من نصف قرن إلا و قد أكل عليها الزمان و شرب و لم يبق لها أثر على صفحة الوجود.
و ذلك منذ أن تحول الخط (خط المصحف بالخصوص) من حالته البدائية الاولى الى مراحل جديدة، ايام ولاية الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق، ابتداء من سنة 74 ه فما بعد. فقد أخذت المصاحف فى تطور و تحسن فى خطها و نقطها و تشكيلها و سائر المحسنات.
و قد بعث الحجاج بمصاحف- من الطراز الحديث- الى الآفاق، و أمر بجمع سائر المصاحف، و منها المصاحف العثمانية الاولى، و حتى ان المصحف الامام- و كان محتفظا به فى وعاء فى المسجد النبوى- صلّى اللّه عليه و آله- أخفاه آل عثمان ضنا به.
حكى ابو احمد العسكرى- فى كتاب «التصحيف»-: ان الناس غبروا يقرءون فى مصحف عثمان بن عفان نيفا و اربعين سنة، الى ايام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف و انتشر بالعراق، ففزع الحجاج ابن يوسف الى كتابه و سألهم ان يضعوا لهذه الحروف المشتبهة
______________________________
(1) راجع: الجزء الاول ص 353.
(2) راجع: الجزء الاول ص 353.
(3) الكشف ج 1 ص 429.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 130
علامات ... .
و يحدثنا محرز بن ثابت، مولى سلمة بن عبد الملك، عن أبيه، قال:
كنت فى حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف (منقطة، و مشكلة، و مخمسة، و معشرة، على يد نصر بن عاصم الليثى، و صاحبه يحيى بن يعمر، تلميذى ابى الاسود الدؤلى‏ ) ثم بعث بها الى الامصار، و بعث بمصحف الى المدينة فكره ذلك آل عثمان. فقيل لهم:
أخرجوا مصحف عثمان ليقرأ، فقالوا- ضنا به- اصيب المصحف يوم مقتل عثمان.
قال محرز: و بلغنى ان مصحف عثمان صار الى خالد بن عمرو ابن عثمان.
قال: فلما استخلف المهدى العباسى، بعث بمصحف الى المدينة، فهو الذى يقرأ فيه اليوم. و عزل مصحف الحجاج، فهو فى الصندوق الذى دون المنبر.
قال ابن زبالة: حدثنى مالك ابن أنس- امام المالكية- (93- 179) قال: ارسل الحجاج الى أمهات القرى بمصاحف، فارسل الى المدينة بمصحف منها كبير، و هو اول من ارسل بالمصاحف الى القرى، و كان هذا المصحف فى صندوق عن يمين الاسطوانة التى عملت علما لمقام النبى صلّى اللّه عليه و آله و كان يفتح فى يوم الجمعة و الخميس، و يقرأ فيه اذا صليت الصبح. فبعث المهدى بمصاحف لها أثمان، فجعلت فى صندوق، و نحى عنها مصحف الحجاج، فوضعت عن يسار السارية، و وضعت لها منابر كانت تقرأ عليها، و حمل مصحف الحجاج فى صندوقه، فجعل عند الاسطوانة التى عن يمين المنبر .
______________________________
(1) التصحيف ص 13. راجع: ابن خلكان- فى ترجمة الحجاج- ج 2 ص 32.
(2) معرفة القراء الكبار- الذهبى- ج 1 ص 58.
(3) وفاء الوفاء للسمهودى، ج 2 ص 667- 668.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 131
قال ابن وهب: سألت مالكا عن مصحف عثمان، فقال: ذهب‏ .
و يروى الشاطبى عن مالك، أنه قال: «ان مصحف عثمان تغيب فلم نجد له خبرا بين الاشياخ» و فى كلامه هذا: انه حاول العثور عليه فلم يستطع، الامر الذى يدل على انقطاع اثره من صفحة الوجود بالكلية، و الا فلو كان له وجود، لما كان يختفي عن مثل مالك.
تلك حالة المصاحف العثمانية الاولى لم يعد لها أثر فى الوجود، أما سائر المصاحف فلا تصلح مقياسا لموافقتها او مخالفتها. لان قيمة تلكم المصاحف الاولى كانت باعتبار انتمائها الى الصحابة الاولين، اما غيرها فلم يثبت لها هذا الاعتبار.
و لعلك تقول: يحتمل ان تلكم المصاحف المتأخرة كتبت على نفس كتابة المصاحف الاولى حرفيا، قلت: هذا احتمال، و لا يمكننا ان نعتمد احتمالا نحتمله ما لم نستوثق من تحققه واقعا قطعيا. هذا فضلا عن التصريح بانها كتبت على اسلوب حديث كان يختلف عن اسلوب المصاحف الاولى بكثير، و الا لم تعد حاجة الى جمعها، فكانت تنقط و تشكل فحسب، اما ابعادها عن صفحة الوجود فلا سبب له سوى التغيير الجذرى الحاصل فيما بعد.
نعم، اصل املاء الخط- فى صورته البدائية- بقى محفوظا- نسبيا- لم يمسوه بيد اصلاح، حسب ما قدمنا . و سجل جزئياته ارباب المصاحف كابن الانبارى و ابن ابى داود و غيرهما، و كانوا هم حلقة الاتصال بيننا و بين المصاحف الاولى بعض الشي‏ء، الامر الذى لا نستطيع الاستيثاق بكليته تماما.
______________________________
(1) البرهان فى علوم القرآن ج 1 ص 222.
(2) وفاء الوفاء ج 2 ص 669.
(3) فى الجزء الاول ص 317.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 132
و أخيرا فان اضافة قيد «و لو احتمالا» ذهبت بفائدة هذا الاشتراط حيث اكثر القراءات الشاذة، بل و المرفوضة بالاجماع ايضا، يمكن توفيقها مع ظاهر الرسم حيث لا نقط و لا تشكيل و لا ألفات و لا غير ذلك من علائم فارقة حسبما تقدم.
مثلا قراءة ابن مقسم: «خلصوا نجبا» بالباء يحتملها الخط.
و كذا قراءة ابن محيصن: «فلا تشمت بى الاعداء» بفتح تاء المضارعة .
و قراءة ابى حنيفة: «انما يخشى اللّه- بالرفع- من عباده العلماء- بالنصب» . و قراءة الحسن: «لا ريبا فيه» بالنصب و التنوين‏ .
و قراءته: «ظلمات» بسكون اللام حيثما وقع فى القرآن‏ . و قراءته:
«يخطف» بكسر الياء و الخاء و الطاء، مع تشديدها . و قراءته:
«و علم آدم» بالبناء للمجهول‏ و قراءة المطوعى: «يسمعون كلم اللّه» بلا الف، و كسر اللام‏ . و قراءة ابن السميفع: «ننحيك» بالحاء . و قراءة الحسن: «او تنسها» بتاء الخطاب‏ و قراءة ابن محيصن: «فأحيا به الارض» بضم هاء الضمير . و قراءة قتادة: «فاقيلوا انفسكم» بالياء . و قراءة ابن زيد «فاذا عزمت» بضم التاء . و قراءة الحسن: «فرغ عن قلوبهم» بالراء المهملة
______________________________
(1) اعجاز القرآن للرافعى. قانون التفسير ص 170.
(2) اتحاف فضلاء البشر ص 231. تأويل مشكل القرآن ص 61.
(3) القرطبى- التفسير ج 14 ص 344.
(4) القراءات الشاذة. عبد الفتاح ص 23 و 24 و 25 و 26.
(9) تفسير القرطبى ج 8 ص 379.
(10) القراءات الشاذة ص 29 و 31.
(12) تفسير القرطبى ج 4 ص 252.
(13) القرطبى ج 4 ص 252.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 133
و الغين المعجمة . كل ذلك يحتمله الخط العارى عن النقط و التشكيل.
و غير ذلك مما يطول. راجع كتب القراءات الشاذة، تجد غالبية تلكم القراءات يمكن توفيقها مع ظاهر الرسم الاول، فأين «موافقة الرسم» من صلاحية كونها دليلا على تعيين القراءة الصحيحة عن الشاذة؟! اما شرط «السند»- لتكون القراءات بأسرها متصلة الاسناد الى النبى صلّى اللّه عليه و آله فهذا شى‏ء لا نستطيع تعقله، فضلا عن امكان اثباته.
اولا: القراء مختلفون فى القراءات، و كل قارئ له اسلوب خاص و منهج يختص به دون من سواه. و له فى كل آية فنون من انواع القراءة، بل فى كل كلمة يقرؤها على أساليب يبتدعها كفن.
أ فهل يصح ان ننسب كل هذه القراءات المتنوعة من كل قارئ قارئ، فى جميع آى القرآن، الى النبى صلّى اللّه عليه و آله؟! أ فهل نستطيع ان ننسب مثل تاءات البزى‏ و ادغام ابى عمرو
______________________________
(1) اتحاف فضلاء البشر ص 360.
(2) هو صاحب قراءة ابن كثير من السبعة، توفى 250 ه. كان يشدد التاء التى تكون فى اوائل الافعال المستقبلة حالة الوصل، نحو: «و لا تيمموا الخبيث»- البقرة:
267- و هى لغة غريبة عن متعارف العرب اطلاقا. انظر: التيسير ص 83. و النشر ج 2 ص 232. و الكشف ج 1 ص 314.
(3) هو أحد السبعة، توفى 154 ه كان يدغم المثلين اذا كان من كلمتين، سواء سكن ما قبله او تحرك، نحو: شَهْرُ رَمَضانَ‏ البقرة: 185- و هو من الجمع بين ساكنين على غير حده. انظر: التيسير ص 20.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 134
و اسكان حمزة و نبر الكسائى‏ و مدة ورش‏ و غير ذلك من مبتدعات القراء المستنكرة، الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟
قال ابن قتيبة: «و لا يجعل لحن اللاحنين من القراء المتأخرين حجة على الكتاب. و قد كان الناس قديما (على بداوتهم) يقرءون بلغاتهم (وفق لهجاتهم الفطرية).
ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الامصار (المتحضرين) و ابناء العجم‏ ليس لهم طبع اللغة (لم تكن اللغة من فطرتهم) و لا علم التكلف (لم يتقنوا علم العربية) فهفوا فى كثير من الحروف (القراءات) و زلوا و قرءوا بالشاذ و أخلوا.
منهم رجل (حمزة) ستر اللّه عليه عند العوام بالصلاح، لم أر اكثر تخليطا و اشد اضطرابا منه‏ ، نبذ فى قراءته مذاهب العرب و اهل‏
______________________________
(1) فى قوله تعالى: فَمَا اسْتَطاعُوا- الكهف: 97- قرأها: «فما اسطاعوا» بادغام التاء فى الطاء مع سكون السين. انظر التيسير ص 146. و النشر ج 2 ص 316.
(2) كان ينبر بالحرف، اى يهمزه، و قريش لم تكن تهمز فى كلامها، فلا تقول فى «النبى»: «النبي‏ء». انظر: النهاية ج 5 ص 7 و قد تقدم ذلك.
(3) هو صاحب قراءة نافع من السبعة، توفى 197 ه. كان هو و حمزة أطول القراء مدا، راجع: التيسير ص 30. و الاتحاف ص 37.
(4) يريد غالبية القراء المعروفين، و هم من ابناء العجم. قال الدانى: و ليس فى القراء السبعة من العرب غير ابن عامر و ابى عمرو، و الباقون هم موال. التيسير ص 6.
(5) كان يستعمل فى الحرف ما يدعه فى نظيره، ثم يؤصل اصلا و يخالف الى غيره لغير ما علة. قرأ: وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏- فاطر: 43- اسكن الهمز و الياء فى «السيئ» الاول. و اعرب الثانى. (تأويل المشكل ص 63). و أصل اسكان جميع الياءات التى اختلف فيها القراء إلا ياء «محياى» فانه فتحها و كسر ياء «بمصرخي» و ليست بياء اضافة. (الكشف ج 1 ص 328) و طعن كثير من النحاة فى هذه القراءة، قال الفراء لعلها من وهم القراء، فانه قل من سلم منهم من الوهم، و لعله ظن ان الباء فى «بمصرخي» خافضة للفظ كله، و الياء للمتكلم خارجة من ذلك. و قال الاخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب و لا من النحويين. (راجع:
البحر المحيط ج 5 ص 419).



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 135
الحجاز، بافراطه فى المد و الهمز و الاشباع. و افحاشه فى الاضجاع و الادغام. و قد شغف بقراءته العوام‏ . رأوه عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبينين، فتوهموا أن ذلك لفضيلة و حذق بها.
و ليس هكذا كانت قراءة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- و لا خيار السلف و لا التابعين.
قال: و ما اقل من سلم من هذه الطبقة من الغلط و الوهم، فقد قرأ بعض المتقدمين (يريد الحسن البصرى) : ما تلوته عليكم و لا ادرأتكم به (يونس: 16) فهمز، و انما هو من «دريت بكذا و كذا».
و قرأ (اى الحسن ايضا): و ما تنزلت به الشياطون (الشعراء:
210) توهم انه جمع بالواو و النون‏ .
و قرأ آخر (يريد ابن محيصن) : فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ (الاعراف: 150) بفتح التاء، و كسر الميم، و نصب «الاعداء». و انما هو من أشمت اللّه العدو فهو يشمته، و لا يقال: شمت اللّه العدو.
و قرأ الاعمش‏ : وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ‏ (إبراهيم: 22) بكسر الياء، كأنه ظن ان الباء تخفض الحرف كله و اتبعه على ذلك حمزة» .
______________________________
(1) لكن ظاهر الائمة قبول قراءاته اطلاقا، فهذا مكى اشبع كتابه بقراءات حمزة محتجا بها. و كذا غيره من أئمة القراءات الذين دونوا قراءات السبعة او العشرة و غيرهم قال الذهبى: قد انعقد الاجماع بأخرة على تلقى قراءة حمزة بالقبول و الانكار على من تكلم فيها. (ميزان الاعتدال ج 1 ص 605).
(2) راجع القراءات الشاذة لابن خالويه ص 46. و البحر المحيط ج 5 ص 133.
(3) راجع: القراءات الشاذة ص 108. و الكشاف ج 3 ص 129. و البحر ج 7 ص 46 و القرطبى ج 13 ص 142.
(4) راجع: البحر المحيط ج 4 ص 296.
(5) راجع: البحر ج 5 ص 419. و الاتحاف ص 272. و الكشاف ج 2 ص 300.
(6) تأويل مشكل القرآن ص 58 الى ص 64.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 136
و جعل يسرد من امثال هذه القراءات الغريبة من ائمة السلف، مما لا يمكن استنادها الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطعيا.
و بعد ... كيف يصح لنا ان ننسب امثال هذه الغرائب- باسم القراءات السبع او الحروف السبعة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و هل ذاك الا جفاء و ظلم بساحة قدسه الشريف؟! نعم غاية ما هناك، ان أرباب كتب القراءات لفقوا لكل قارئ اسنادا متصلا الى النبى صلّى اللّه عليه و آله، و هذا لا يعنى اسناد جميع قراءاته و أفنانها و تنوعاتها اليه- صلّى اللّه عليه و آله-.
هذا فضلا عن انها أسانيد تشريفية مصطنعة، كما لم يعرف لبعض القراء اسناد ظاهر كابن عامر مثلا، حسبما تقدم.
ثانيا، كيف خفيت رواية تلك القراءة عبر عشرات السنين، حتى ظهرت على يد أحد هؤلاء القراء؟ فهذا الكسائى (توفى 198) له قراءات خاصة، و بعضها مستنكرة، كيف خفيت على من تقدمه لمدة قرن و نصف، ثم ظهرت على لسانه هو؟.
ثالثا: ما تلك الاستنكارات على كثير من قراءات السبعة، ان كانت قراءاتهم جميعا مأثورة بالاثر الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟
و ما تلك التعاليل و الحجج الاجتهادية لتوجيه القراءات؟ اذ لم تعد حاجة الى تعاليل لو كانت منقولة عن النبى صلّى اللّه عليه و آله بسند صحيح!
و قد تقدم توضيح ذلك جميعا.




*********************

التمهيد في علوم القرآن ج‏2 145 اختيارنا فى ضابط القبول ..... ص : 145
اختيارنا فى ضابط القبول‏
و نحن اذ كنا نعتبر القرآن ذا حقيقة ثابتة، و مستقلا بذاته، متغايرا عن القراءات جملة، فان مسألة «اختيار القراءة الصحيحة» عندنا منحلة، و هى التى تتوافق مع النص المتواتر بين المسلمين، منذ الصدر الاول فإلى الآن. و لم يكن اختلاف القراءات سوى الاختلاف فى كيفية التعبير عن هذا النص، حسب اجتهادات القراء و لا عبرة بهم اطلاقا، و انما الاعتبار بالنص الاصل المحفوظ كاملا على يد الامة عبر الاجيال.
و قد تقدم كلام الامام بدر الدين الزركشى: «القرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان ... الخ» و كلام سيدنا الاستاذ الامام الخوئى- دام ظله-: «تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لان الاختلاف فى كيفية (اداء) الكلمة، لا ينافى الاتفاق على اصلها ... الخ» .
و هكذا تعاهد المسلمون نص القرآن أمة عن أمة، نقلا متواترا فى جميع خصوصياته الموجودة، نظما و ترتيبا، و رسما و قراءة، بكل‏
______________________________
(1) فى صفحة 48- 47 و راجع: البرهان ج 1 ص 318.
(2) فى صفحة 80 و راجع: البيان ص 173.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 146
أمانة و اخلاص عبر العصور، معجزة قرآنية خالدة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ اى على يد هذه الامة مع الابدية.
و عليه فالقراءة الصحيحة هى: التى تتوافق مع هذا النص المتفق عليه لدى عامة المسلمين، و غيرها شاذة غير جائزة اطلاقا، و لا سيما اذا كانت تخالفه جوهريا فباطلة بالاجماع.
و توضيحا لهذا الاجمال لا بد من تمهيد مقدمة، نستوضح فيها مسألة «تواتر النص القرآنى» ثم التعرج الى مسألة «اختيار القراءة الصحيحة» نظرا للعلاقة القريبة بين المسألتين فى صميم هذا البحث، و اليك بايجاز:-

تواتر القرآن‏
: مما يبعث على اعتزاز جانب هذه الامة، هو تحفظهم على كتاب اللّه نصا واحدا- كما انزل على النبى محمد صلّى اللّه عليه و آله- طول التاريخ.
المسلمون- على اختلاف نزعاتهم و تباين آرائهم و مذاهبهم- اتفقوا كلمة واحدة، منذ الصدر الاول- عهد الصحابة الاولين- و هكذا عبر الاجيال، أمة بعد أمة، حتى العصر الحاضر، و سيبقى مع الدهر، على نص القرآن الاصيل، فى جميع حروفه و كلماته، و نظمه و ترتيبه، و قراءته. تلقوه من الرسول الاعظم صلّى اللّه عليه و آله و توارثوه يدا بيد، فى حيطة كاملة و حذر فائق.
و ما نقرؤه اليوم هو الذى كان يقرؤه المسلمون فى العهد الاول.
و ما نجده اليوم من النص المثبت بين الدفتين، هو الذى اثبته السلف الصالح كما اخذوه من فى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلا تحوير
______________________________
(1) سورة الحجر: 9.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 147
و لا تحريف قط.
حدث محمد بن سيرين (ت 110) عن عبيدة السلمانى (ت 73) قال: «القراءة التى عرضت على النبى صلّى اللّه عليه و آله فى العام الذى قبض فيه، هى القراءة التى يقرؤها الناس اليوم» .
و قال خلاد بن يزيد الباهلى (ت 220): قلت ليحيى بن عبد اللّه ابن ابى مليكة (ت 173): ان نافعا حدثنى عن ابيك عن عائشة، أنها كانت تقرأ: «اذ تلقونه» بكسر اللام و ضم القاف‏ - و تقول: انها من «ولق الكذب»! فقال يحيى: ما يضرك ان لا تكون سمعته عن عائشة، و ما يسرنى أنى قرأتها هكذا، و لي كذا و كذا! قلت: و لم؟ و أنت تزعم أنها قد قرأت! قال: لانه غير قراءة الناس. و نحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا و بينه الا التوبة او نضرب عنقه. نجي‏ء به نحن عن الامة عن النبى صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه عز و جل، و تقولون أنتم: حدثنا فلان الاعرج عن فلان الاعمى! ان ابن مسعود يقرأ ما بين اللوحين، ما أدرى ما ذا؟ انما هو و اللّه ضرب العنق او التوبة .
انظر الى هذا الوصف الجميل عن تواتر النص و أصالته: يرويه أمة عن أمة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. لا فلان عن فلان.!
و يجعل المعيار لمعرفة القراءة الصحيحة هى: «قراءة الناس».
و يجعل غيرها شاذة لا تجوز قراءته بتاتا او يضرب عنق باريها، و ليس سوى انه خارج عن قراءة الناس ..!
قال هارون بن موسى الازدى صاحب القراءات (ت ح 200):
______________________________
(1) الاتقان ج 1 ص 50.
(2) و القراءة المشهورة: «تلقونه» بفتح اللام و القاف المشددة. سورة النور: 15.
(3) المرشد الوجيز ص 180.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 148
ذكرت ذلك لأبي عمرو بن العلاء (ت 154)- اى القراءة المعزوة الى عائشة- فقال: قد سمعت هذا قبل ان تولد- خطابا الى هارون- و لكنا لا نأخذ به. و فى رواية اخرى قال ابو عمرو: انى أتهم الواحد الشاذ اذا كان على خلاف ما جاءت به العامة .
فقد جعل ابو عمرو من «رواية العامة» مقياسا لمعرفة القراءة الصحيحة الجائزة، و اما غيرها فمردود و غير جائز الاخذ اطلاقا.
و قال محمد بن صالح (ت 168): سمعت رجلا يقول لأبي عمرو ابن العلاء: كيف تقرأ «لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد»؟ فقال:
«لا يعذب» بالكسر فقال له الرجل: كيف؟ و قد جاء عن النبى صلّى اللّه عليه و آله «لا يعذب» بالفتح! فقال له ابو عمرو: لو سمعت الرجل الذى قال: سمعت النبى- صلّى اللّه عليه و آله- ما أخذت عنه أو تدرى ما ذاك؟ لانى أتهم الواحد الشاذ اذا كان على خلاف ما جاءت به العامة» .
هذه الرواية كسابقتها فى جعل «ما جاءت به العامة» معيارا لمعرفة القراءة الصحيحة عن الشاذة.
و قال ابن قتيبة (ت 276): «كل ما كان من القراءات موافقا لمصحفنا، غير خارج من رسم كتابه، جاز لنا ان نقرأ به. و ليس لنا ذلك فيما خالفه. لان المتقدمين من الصحابة و التابعين قرءوا بلغاتهم، و جروا على عادتهم، و خلوا أنفسهم و سوم طبائعهم، فكان ذلك جائزا لهم، و لقوم من القراء بعدهم مأمونين على التنزيل، عارفين بالتأويل، فاما نحن- معشر المتكلفين- فقد جمعنا اللّه بحسن اختيار السلف لنا على‏
______________________________
(1) المرشد الوجيز ص 181.
(2) هى القراءة المشهورة. الفجر: 26.
(3) مناهل العرفان ج 1 ص 452 نقلا عن منجد المقرئين لابن الجزرى.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 149
مصحف هو آخر العرض، و ليس لنا ان نعدوه، كما كان لهم ان يفسروه و ليس لنا ان نفسره. و لو جاز لنا ان نقرأه بخلاف ما ثبت فى مصحفنا، لجاز لنا ان نكتبه على الاختلاف و الزيادة و النقصان و التقديم و التأخير.
و هناك يقع ما كرهه لنا الائمة الموفقون» هذا كلام امام محقق، يجعل من «مصحفنا»- معشر المسلمين- مقياسا لمعرفة القراءة الصحيحة، و ينبه على ان اختيار السلف «هو آخر العرض» الذى لا يمكن تغييره بتاتا: «و ليس لنا ان نعدوه».
و قال الحجة البلاغى: «و من أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل، استمرت مادته و صورته و قراءته المتداولة، على نحو واحد، فلم يؤثر شيئا على مادته و صورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف فى قراءته من القراء السبعة المعروفين و غيرهم. فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له و لو فى بعض النسخ، و لم يسيطر عليه ايضا ما روى من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته فى الكتب كجامع البخارى و مستدرك الحاكم ...
و ان القراءات السبع فضلا عن العشر انما هى فى صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة او نقصها، و مع ذلك ما هى الا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا و لا وثوقا، فضلا عن وهنها بالتعارض و مخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين فى السنين المتطاولة ...
اذن فلا يحسن ان يعدل فى القراءة عما هو المتداول فى الرسم، و المعمول عليه بين عامة المسلمين فى أجيالهم، الى خصوصيات هذه القراءات. مضافا الى انا- معاشر الشيعة الامامية- قد امرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس، اى نوع المسلمين و عامتهم» . و كلام شيخنا
______________________________
(1) تأويل مشكل القرآن ص 42.
(2) آلاء الرحمن ج 1 ص 30 الفصل الثالث من مقدمة التفسير.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 150
الامام البلاغى هو الحكم الفصل فى هذا المضمار، و سوف نبنى عليه اختيارنا فى هذا المجال. قدس اللّه نفسه الشريفة.
و يدلك- ايضا- على تواتر النص الموجود، من غير ان يؤثر عليه شى‏ء من اختلاف القراءات: تلك المخالفات فى رسم الخط و ربما كتبت وفق قراءة العامة و ثبتت رغم تقلبات الدهور و مر العصور، فلم تغيرها قراءة قارئ او ريشة قلم كاتب.
من ذلك قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ‏- البقرة 259- الهاء زائدة للوقف. كتبت و قرئت هكذا منذ العهد الاول و ثبتت على مر الدهور، قال عبد اللّه بن هانئ البربرى- مولى عثمان- كنت عند عثمان و هم يعرضون المصاحف، فارسلنى يكتف شاة الى ابى بن كعب فيها:
«لم يتسن». و فيها: «لا تبديل للخلق اللّه» و فيها: «فأمهل الكافرين».
فدعا بدواة فمحى اللامين و كتب «لخلق اللّه». و محى «فأمهل» و كتب «فمهل». و كتب «لم يتسنه» فألحق فيها الهاء .
و لو لا انه السماع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتبها ابى بالهاء، كما ان اختلاف القراء فيما بعد، و تطور الكتابة و الخط، كليهما لم يؤثرا على تغيير الكلمة عما كتبها الاوائل و قرأها السلف و من ورائهم عامة المسلمين عبر الاجيال.
و كذلك‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ‏- الفتح: 10- و وَ ما أَنْسانِيهُ‏- الكهف: 65- بضم هاء الضمير فى هذين الموضعين فحسب دون ما سواهما من القرآن‏ لا لعلة مفهومة لنا، و لو لا انه المأثور خلفا عن سلف لم يكن ما يدعو الى التزام المسلمين به طول التاريخ.
و مثله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ- العلق: 18- باسقاط الواو فى جميع المصاحف قديما و حديثا. و قوله: أَكْرَمَنِ‏ و أَهانَنِ‏- الفجر: 15
______________________________
(1) الاتقان ج 1 ص 183. و راجع: الجزء الاول ص 296.
(2) راجع: الكشف ج 2 ص 66.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 151
و 16- باسقاط ياء المتكلم لفظا و خطا فى جميع المصاحف.
و قوله: إِنْ هذانِ‏- طه: 63- هكذا ثبتت فى المصاحف و قرأها المسلمون منذ الصدر الاول فإلى الآن، لم يجرأ أحد على تغييرها و ان زعم الزاعمون انها لحن‏ حتى ان أبا عمرو قال:
انى لأستحى أن أقرأ «ان هذان لساحران» . و لكن أنى له بتغييرها استحيى ام لم يستحى، و قد قرأها المسلمون هكذا فى جميع الاعصار و الامصار. الامر الذى يدلنا- بوضوح- ان للقرآن بذاته حقيقة ثابتة احتفظ عليها المسلمون، بعيدا عن متناول القراء.
و هكذا قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ‏- البقرة: 186- بحذف الياء من «الداع» مع كونه معرفا باللام. و كذلك حذف ياء المتكلم من «دعان». قرأها المسلمون هكذا عبر العصور، و كذلك أثبتوها فى مصاحفهم، و هل يجرأ أحد على تغييرها؟ فليفعل فاعل ان استطاع!! و كذا قوله: «كتابيه» و «حسابيه» و «ماليه» و «سلطانيه»- الحاقة: (19 و 20 و 25 و 26 و 28 و 29) باثبات هاء السكت لفظا و خطا، و فتح ياء المتكلم كذلك. من غير ان تكون للقراء فى ذلك يد، و انما هى متابعة محضة لعامة المسلمين ورثوها كذلك من السلف الاول فلا يمكن تغييرها أبدا. و أمثال ذلك كثير فى القرآن الكريم.
و ايضا فان قضية تشكيل المصحف على يد ابى الاسود، و تنقيطه على يد تلميذيه نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر لدليل حاسم على ان القرآن كان ذا حقيقة ثابتة فى صدور المسلمين، فجاء تقييدها فى المصحف على يد زعماء الامة، خشية تحريف من لا عهد له بالقرآن.
______________________________
(1) تأويل مشكل القرآن ص 25.
(2) تفسير الرازى ج 22 ص 74.
(3) راجع: الجزء الاول ص 309 و 310.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 152
و ها تلك المصاحف المرسومة وفق المصطلح الاول باقية، لا تختلف فى اعرابها و حركاتها و مرسوم كلماتها عما بأيدينا من المصاحف الحاضرة.
و يزيدك وضوحا: وجود قطع قرآنية جاءت فى كلمات السلف، لغرض الاستشهاد او التفسير او نحو ذلك، لا تختلف عن النص الموجود.
الامر الذى يدل على ذلك التعاهد العام على نص واحد للقرآن، تعاهده المسلمون فى جميع العصور.
كما ان مخالفات جرت على ألسن بعض السلف، وقعت موضع انكار العامة و عرفت منذ العهد الاول أنها غير نص الوحى، و سجلها التاريخ بعنوان الشذوذ او الخطاء المحض.
من ذلك: قراءة ابى بكر لما احتضر: و جاءت سكرة الحق بالموت- ق: 19- قال ابو بكر الانبارى: لما احتضر ابو بكر ارسل الى عائشة، فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
لعمرك ما يغنى الثراء و لا الغنى‏ اذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر

فقال ابو بكر: هلا قلت- كما قال اللّه-: «و جاءت سكرة الحق بالموت ذلك ما كنت منه تحيد» .
و منذ ذلك العهد هب ارباب التاريخ و المفسرون و المحدثون يرمون قراءته هذه بالشذوذ المخالف للرسم‏ فلو لا ان للقرآن حقيقة ثابتة معهودة عند الجميع لما كان لهذا الغوغاء سبب واضح.
و قرأ عمر بن الخطاب: و السابقون الاولون من المهاجرين و الانصار الذين اتبعوهم باحسان- براءة: 100- قرأ برفع‏
______________________________
(1) القرطبى ج 17 ص 12- 13. فى اشهر الروايتين.
(2) راجع: البرهان ج 1 ص 335 و النشر ج 1 ص 26- 28.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 153
«الانصار» و باسقاط الواو من «و الذين اتبعوهم» لزعم زعمه تقدم‏ - فهب زيد بن ثابت يجادله فى قراءته هذه الخارجة عن متعاهد العامة، فلم يتنازل عمر لكلام زيد حتى حاكمه الى ابى بن كعب، فجعل ابى يستشهد بآيات اخرى حتى قبل‏ .
و هكذا قراءة ابى حنيفة: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- فاطر: 28- برفع اسم الجلالة و نصب «العلماء» .
و أنت اذا لاحظت المصاحف الاثرية القديمة، و قارنتها مع المصاحف الحاضرة، المخطوطة و المطبوعة، فانك تجدها جميعا متحدة فى الاسلوب و الخط و ثبت الكلمات فى بنيتها و صورتها و ما الى ذلك.
اما اختلاف الحركات فسوف نتعرض له.
كل ذلك دليل واضح على تلك الوحدة المتفق عليها عند المسلمين جميعا فى جميع الادوار. الامر الذى يكشف عن حرص هذه الامة الشديد على حراسة كتابها المجيد. تحقيقا لمعجزة هذا الكتاب السماوى الخالد إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ اى على يد هذه الامة على مر الدهور و كر العصور، فلم يزل و لا يزال باقيا و محفوظا عن كل تغيير او تبديل حتى يوم النشور.
و ان اختلاف القراء- طول التاريخ- لم يستطع تغييرا لا فى لفظه و لا فى خطه. فيا لها من معجزة خالدة، تبعث على اعتزاز هذه الامة بكتابها المحتفظ على نص الوحى الالهى عبر الاجيال.
و عليه فالمعيار لتعيين القراءة هى: موافقتها مع النص الاصل المحفوظ لدى عامة المسلمين، بشروط نعرضها فى الفصل التالى،
______________________________
(1) فى صفحة: 42.
(2) القرطبى ج 8 ص 238.
(3) و تنسب الى عمر بن عبد العزيز- ايضا- راجع القرطبى: ج 14 ص 344.
(4) سورة الحجر: 9.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 154
و هناك نعالج مسألة تعارض الرواية او اللغة مع القراءة المأثورة.
و هنا سؤال: اذا كانت القراءة الحاضرة هى ما تعاهده المسلمون امة عن امة فما وجه نسبتها الى حفص؟ و سنتعرض للاجابة على ذلك، بأنها نسبة مقلوبة، و ان حفص هو الذى حاول موافقة قراءة العامة، و من ثم قال ارباب التراجم: ان قراءة حفص عن عاصم ترتفع الى امير المؤمنين على عليه السلام‏ و لا شك ان قراءته عليه السلام هى قراءة عامة المسلمين المتواترة منذ العهد الاول. و سيوافيك تفصيل حل هذا الاشكال فى فصل قادم.
ملاك صحة القراءة
: و بعد ... فإذ قد تبين حديث تواتر القرآن، و ثبات نصه الاصل مدى الاجيال فان ملاك صحة القراءة هى موافقة ذاك النص المحفوظ لدى عامة المسلمين.
و تتحقق هذه الموافقة فى كل قراءة اذا ما توفرت فيها الشروط التالية:- اولا: موافقتها مع الثبت المعروف بين عامة المسلمين، فى مادة الكلمة و صورتها و موضعها من النظم القائم، حسب تعاهد المسلمين خلفا عن سلف.
ثانيا: موافقتها مع الافصح فى اللغة و الافشى فى العربية، و يعرف ذلك بالمقارنة مع القواعد الثابتة يقينا من لغة العرب الفصحى.
ثالثا: ان لا يعارضها دليل قطعى، سواء أ كان برهانا عقليا ام سنة متواترة ام رواية صحيحة الاسناد مقبولة عند الائمة.
فاذا اجتمعت فى قراءة هذه الشروط جميعا، فانها هى القراءة المختارة، الجائزة فى الصلاة و غيرها. اما الفاقدة لجميعها او لبعضها
______________________________
(1) معرفة القراء الكبار ج 1 ص 117.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 155
فانها تصبح شاذة و لا اقل من الشك فى ثبوتها قرآنا، فلا تجوز قراءتها فى صلاة و لا فى غيرها بعنوان انها قرآن.
و توضيحا لهذه البنود الثلاثة نعرض ما يلي:
اما موافقة الثبت المعروف ففي أمور ثلاثة حسبما أشرنا:

1- (فى مادة الكلمة الاصلية) ففي مثل قوله تعالى: «فتبينوا» من التبين، او هى فتثبتوا من التثبت‏ أيهما النص الاصل؟
و كذا قوله: نُنْشِزُها بالزاى او ننشرها بالراء .
و قوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ‏ بفتح اللام و القاف المشددة، من التلقى بمعنى الاخذ. او تَلَقَّوْنَهُ‏ بكسر اللام و ضم القاف، من ولق الكذب‏ .
و قوله: «ادكر بعد أمة» بضم الهمز و تشديد الميم المفتوحة، بمعنى المدة. او بعد أمه بفتح الهمز و تخفيف الميم المفتوحة و الهاء، بمعنى السفه‏ .
و قوله «فزع» بالزاى و العين من التفزيع و هو ازالة الفزع بمعنى الخوف، او فرغ بالراء و الغين من التفريغ و هو الاخلاء .
______________________________
(1) سورة الحجرات: 6. قرأ حمزة و الكسائى بالثاء، و قرأ الباقون بالباء. الكشف ج 1 ص 394.
(2) سورة البقرة: 259. قرأ الكوفيون و ابن عامر بالزاى، و قرأ الباقون بالراء. الكشف ج 1 ص 310.
(3) سورة النور: 15. الثانية قراءة محمد بن السميفع. و الاولى قراءة الباقين. القرطبى ج 12 ص 204.
(4) سورة يوسف: 45. الثانية منسوبة الى ابن عباس، و الاولى قراءة الباقين. القرطبى ج 9 ص 201.
(5) سورة سبأ: 23. الثانية قراءة الحسن، و الاولى قراءة الباقين. الاتحاف ص 360.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 156
و قوله‏ «يَقُصُّ الْحَقَّ» بالصاد. او يقضى الحق بالضاد مع الياء .
و قوله: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏ بالضاد بمعنى «بخيل». او بالظاء بمعنى «متهم» .
و قوله: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ‏ بتقديم الهمز على التاء و تخفيف اللام، بمعنى القصور. او «يتأل» بتقديم التاء على الهمز و تشديد اللام، بمعنى الحلف‏ .
و قوله: فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ‏ او فامضوا الى ذكر الله‏ .
و من هذا الباب القراءة بالزيادة و النقصان. نحو قوله تعالى:
و ما عملت ايديهم او وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ‏ بزيادة هاء الضمير .
و قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ او ان الله الغنى الحميد باسقاط ضمير الفصل‏ .
و قوله: تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ او من تحتها الانهار بزيادة
______________________________
(1) سورة الانعام: 57. الاولى قراءة نافع و ابن كثير و عاصم. و الثانية قراءة الباقين.
القرطبى ج 6 ص 439.
(2) سورة التكوير: 24. الثانية قراءة ابن كثير و ابى عمرو و الكسائى. و الاولى قراءة الباقين. الاتحاف ص 434.
(3) سورة النور: 22. الثانية قراءة ابى جعفر. الاتحاف ص 323.
(4) سورة الجمعة: 9. الثانية قراءة ابن الخطاب و ابن شهاب. القرطبى ج 18 ص 102.
(5) سورة يس: 35. الثانية هى المعروفة و عليها ثبت مصحف الكوفة. الكشاف ج 2 ص 437 و الاولى قراءة حمزة و الكسائى و ابى بكر. الكشف ج 2 ص 216.
(6) سورة الحديد: 24. الثانية قراءة نافع و ابن عامر، و كذلك ثبت اسقاطها فى مصاحف المدينة و الشام و الاولى قراءة الباقين، و كذلك مصاحف الكوفة و البصرة و مكة.
الكشف ج 2 ص 312.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 157
مِنَ‏ .
و تقدمت امثلة كثيرة على ذلك‏ .
لا شك ان الصحيح فى مثل ذلك هى احدى القراءتين و تكون الاخرى باطلة لان المصحف اول ما شكل و نقط كان تشكيله و تنقيطه على أحد الامرين، و هو الذى كان معروفا و متعاهدا بين عامة المسلمين، و لم يكن ابو الاسود و لا تلميذاه مترددين فى وضع العلائم المذكورة، و ثبت الكلمات و الحروف وفق مرتكزهم العام، كما تلقوها يدا بيد من غير ترديد أصلا.
و انما الاختلاف جاء من قبل اجتهاد القراء المتأخرين، شيئا خارجا عن النص الاصل المعروف عند عامة الناس.
و من ثم لما سأل الفضيل بن يسار، الامام الصادق عليه السلام عن حديث نزل القرآن على سبعة احرف،
قال: كذبوا- اعداء اللّه- و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد.
ثم لتعيين هذا الحرف الواحد جعل الامام عليه السلام المقياس معهود عامة المسلمين‏
قال: «اقرأ كما يقرأ الناس»
. و
فى رواية اخرى: «اقرءوا كما علمتم» .
فجعل المقياس «كما يقرأ الناس» اى عامة المسلمين، و لم يعتبر من قراءة القراء شيئا، و الرواية الاخرى اصرح «كما علمتم» اى تعاهدتموه جيلا عن جيل و أمة عن أمة، لا قراءة افراد هم آحاد.
و على ضوء هذا المقياس، فقراءة «ننشزها» بالزاى هى الصحيحة، لان ثبت المصحف قديما و حديثا و الذى تعاهدته الامة هو بالزاى.
______________________________
(1) براءة: 100 الثانية قراءة ابن كثير وفق ثبت مصحف مكة بالاثبات، الاتحاف ص 244.
(2) راجع: ص 106 فما بعد.
(3) راجع: وسائل الشيعة ج 4 ص 821- 822.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 158
و هكذا الصحيح: «فتبينوا»، و «بعد أمة»، و «فزع»، و «يقص» و هكذا لنفس التعليل. و القراءة الاخرى ساقطة عندنا و غير جائزة اطلاقا.
اما الجماعة فحيث و جدوا انفسهم تجاه أمر واقع، و هو حجية القراءات- و لا سيما السبعة- جميعا، و من ثم جعلوا يأولون بركن (موافقة المصحف) بزيادة قيد «و لو احتمالا».
و ما ذاك الا تعليل بعد الوقوع، و تطبيق للمقياس على القراءات، لا عرض القراءات على المقياس.
و نحن فى فسحة عن هذا المأزق، بعد ان لا نرى من حجية القراءات سوى واحدة، و هى التى وافقت ثبت المصحف المعروف، و غيرها ساقطة رأسا.

2- (فى صورة الكلمة) و نعنى بها بنية الكلمة الاشتقاقية، ففي مثل قوله تعالى‏ رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بصيغة الطلب، او باعِدْ بصيغة الماضى‏ ، حيث المادة واحدة، و الاختلاف فى بنية الكلمة الاشتقاقية، يتردد الامر- لا محالة- فى اختيار احدى القراءتين.
و كذا قوله: قالَ أَعْلَمُ‏ بصيغة المتكلم، او بصيغة الامر .
و قوله: وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ بصيغة المتكلم المعلوم، او «يجازى» بصيغة الغائب المجهول‏ .
______________________________
(1) سورة سبأ: 19، الثانية قراءة يعقوب من العشرة، و الاولى قراءة الباقين. الاتحاف ص 331.
(2) سورة البقرة: 259. الثانية قراءة حمزة و الكسائى. و الاولى قراءة الباقين. الكشف ج 1 ص 312.
(3) سورة سبأ: 17. الثانية قراءة نافع و ابن كثير و ابى عمرو و ابن عامر، و ابى بكر و ابى جعفر. و الثانية قراءة الباقين. الاتحاف ص 359.



التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 159
و قوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ‏ ثلاثيا بمعنى انقطاع الدم، او يَطْهُرْنَ‏ مزيدا فيه من باب التفعل على معنى التطهر بالماء .
و قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ من باب المفاعلة كناية عن الجماع، او لمستم بمعنى مطلق الامساس‏ .
و من هذا القبيل اختلاف اعراب الكلمة بما يؤدى الى اختلاف المعنى، كقوله: وَ أَرْجُلَكُمْ‏ بالخفض فيجب المسح، او بالنصب فيجب الغسل‏ على احتمال مرجوح زيفه الشيخ ابو جعفر الطوسى بايفاء و تفصيل‏ .
و قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ‏ برفع «آدم» فاعلا، و نصب «كلمات» مفعولا به. او بنصب «آدم» و رفع «كلمات» بمعنى ان الكلمات استنقذت آدم من سخط ربه‏ .
و قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع اسم الجلالة و نصب العلماء او بالعكس‏ .
و فى مثل هذا الاختلاف- ايضا- تكون احدى القراءتين‏
______________________________
(1) سورة البقرة: 222. قرأه الحرميان و ابو عمرو و ابن عامر و حفص مضموم الهاء مخففا. و قرأ الباقون بفتح الهاء مشددا. الكشف ج 1 ص 294.
(2) سورة النساء: 43. الثانية قراءة حمزة و الكسائى. و الاولى قراءة الباقين. الكشف ج 1 ص 391.
(3) سورة المائدة: 6. الثانية قراءة نافع و ابن عامر و الكسائى و حفص، و الاولى قراءة الباقين. الكشف ج 1 ص 406.
(4) راجع: التهذيب ج 1 ص 66- 75.
(5) سورة البقرة: 37. الثانية قراءة ابن كثير. و الاولى قراءة الباقين. الكشف ج 1 ص 237.
(6) سورة فاطر: 28. الثانية قراءة ابى حنيفة. القرطبى ج 14 ص 344.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 160
صحيحة و الاخرى باطلة، على أصولنا حسبما تقدم.
لكن وجه الاختيار هنا يختلف عن صورة اختلاف المادة، فقد يكون وجه الاختيار هو العرف العام كما هناك، و قد يكون بالاعتبار القطعى، و قد يكون بمرجح رواية صحيحة الاسناد، او نحو ذلك مما سنتعرض له. ففي مثل «باعد» نختار صيغة الطلب لاجماع القراء المعروفين، و اجماعهم طريق الى معرفة النص الاصل المعروف بين عامة المسلمين.
و فى «اعلم» نختار صيغة المتكلم، حيث قراءة الاكثرية، و لاعتبار عدم وجود من يطلب منه العلم سوى نفسه.
و فى «نجازى» نرجح قراءة النون بقرينة صدر الآية: «ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازى الا الكفور».
و فى «يطهرن» نرجح التخفيف، نظرا لان شرط جواز اتيانهن بلا كراهة امران، انقطاع الدم و الاغتسال. و اما على قراءة التشديد فيبقى أمر انقطاع الدم مسكوتا عنه.
و فى «لامستم» يكون الترجيح مع الالف، لانه اجماع المحققين من الفقهاء، و عليه روايات اهل البيت- عليهم السلام-.
و فى «ارجلكم» نختار النصب لان وجه الخفض فى العربية ضعيف للغاية.
و اما قراءة نصب «آدم» و رفع «كلمات» فيستبشعها الذوق السليم، فضلا عن مخالفتها لمتبادر اذهان العموم فى امثال هذه التراكيب، و مثلها قراءة ابى حنيفة المستنكرة.
نعم، ليس الاختلاف فى مثل قراءة «كفوا» او «هزءا» او «هيت‏




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 161
لك» او «أف» او فى مثل الامالة و الاشباع و التخفيف و التحقيق و الاشمام و الروم و امثال ذلك، من هذا الباب، اذ أنها اختلافات فى اللهجات و فى الاداء و التعبير، و قد اجاز النبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعرب أن تقرأ القرآن بلهجاتها المختلفة، حسبما فسرنا
حديث‏ «انزل القرآن على سبعة احرف»
بذلك، كما
ورد قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فاقرءوا كيف شئتم» .
و عليه فبأيها قرئت كانت صحيحة، اللهم الا اذا خرجت عن متعارف العامة الى حد يستبشع منه، كما فى اكثر ادغامات ابى عمرو و المد الزائد و التحقيق البالغ و النبر و نحو ذلك. فانها غير جائزة و لا تصح القراءة بها فى الصلاة اطلاقا.

3- فى (موضع الكلمة). فالقراءة بالتقديم و التأخير باطلة، لانها خارجة عن الرسم المعهود بين المسلمين، كما فى قوله تعالى: فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ‏- براءة: 111- قرأ حمزة و الكسائى بتقديم المفعول على الفاعل، و الباقون بتقديم الفاعل على المفعول، و الثانية هى المشهورة و كقراءة ابى بكر: «و جاءت سكرة الحق بالموت».
و القراءة المأثورة هى: «و جاءت سكرة الموت بالحق» .
______________________________
(1) قرء: بكسر الهاء و فتح التاء و بفتح الهاء و ضم التاء. و بفتحهما. و بالهمز بدل الياء مع ضم التاء. و بفتح الهاء و كسر التاء. و بالجمع بين الياء و الهاء. مجمع البيان ج 5 ص 222.
(2) قرء: بضم الهمز و فتح الفاء المشددة من غير تنوين. و بكسر الفاء منونة. و بالكسر من غير تنوين. و بضم الفاء من غير تنوين. و بتخفيف الفاء ايضا. مجمع البيان ج 6 ص 408.
(3) راجع: تأويل مشكل القرآن ص 34.
(4) تفسير القرطبى ج 8 ص 268.
(5) المصدر ج 17 ص 12.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 162
و لا شك ان الترجيح فى مثل هذا الاختلاف- ايضا- مع المشهورة، و الاخرى باطلة، لمخالفتها الرسم و المتعاهد بين عامة المسلمين جميعا.
*** و أما موافقة الافصح فى اللغة و الافشى فى العربية، فلان القرآن نزل على درجة أعلى من البلاغة، و يستحيل ان يستعمل كلمة يمجها الذوق العربى السليم، او يخالف قياسا تسلمته العرب الفصحى عادة طبيعية متعارفة. و الا لكانت العرب تستغرب من القرآن فى بدء أمره او تستنكر منه ما يبطل به التحدى الذى يصرخ به القرآن علانية و على رءوس الاشهاد.
ان اجازة القراءات الضعيفة، و اسنادها الى العهد الاول، اجرام بشأن القرآن الكريم، و حط من عظمته الغالية.
اننا لا نجيز مثل تاءات البزى‏ و ادغامات ابى عمرو
______________________________
(1) تقدم ذلك فى صفحة: 68. كان يشدد التاء الواقعة فى اوائل الافعال فى حالة الوصل فى مثل قوله تعالى: «و لا تنابزوا» و «فاذا هى تلقف» و «لتعارفوا» ...
الى أحد و ثلاثين موضعا فى القرآن. و هو من الجمع بين الساكنين على غير حده، و هو تكلف محض خارج عن قانون لغة العرب فى سهولة التعبير و الاداء.
راجع: التيسير ص 83. و النشر ج 2 ص 232. و المرشد الوجيز ص 174.
(2) كان ابو عمرو لا يدغم المثلين اذا اجتمعا فى كلمة واحدة، نحو «جباههم» و «بشرككم» و «أ تعدانني». سوى موضعين، احدهما فى البقرة 200 «مناسككم» و الثانى فى المدثر 42 «ما سلككم» فادغم الكاف فى الكاف.
اما اذا كان المثلان من كلمتين فكان يدغم الاول فى الثانى، سواء سكن ما قبله او تحرك فى جميع القرآن، نحو: «لا ابرح حتى» و «يشفع عنده» و «قيل لهم» و «نسبحك كثيرا» و «الناس سكارى» و «خزى يومئذ».
و هو من الجمع بين الساكنين و اسقاط لحركة الكلمة الاعرابية او الحركة القياسية، من غير سبب معروف عند العرب. راجع: التيسير ص 20.





التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 163
و نبرات الكسائى‏ و مدات حمزة و كثير من تكلفات ابتدعها القراء تفننا بالقرآن‏ و ابتعادا عن مألوف العرب، الذين نزل القرآن على لغتهم و على أساليب كلامهم الدارج الفصيح.
و قد قال تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏- الزمر: 28- وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا- الاحقاف: 12- كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏- فصلت: 3- فقد شاء اللّه ان لا يكون فى القرآن عوج، و لكن القراء تكلفوا فاعوجوا بكثير من كلماته المستقيمة.!!
و فى ضوء هذا البيان نخطئ- صريحا- كثيرا من قراءات القراء المعروفين جاءت على خلاف اساليب لغة العرب الفصحى، فان رعاية كتاب، هو لامة كبيرة، اولى من رعاية نفر كانت تعوزهم المعرفة بأساليب الكلام الفصيح. و قد تقدم طعن ابن قتيبة فى قراء لحنوا فى القراءة، ممن ليس لهم طبع اللغة و لا علم التكلف، فهفوا فى كثير من الحروف و زلوا و قرءوا بالشاذ و أخلوا .
فقراءة الحسن- و هو من الاربعة-: «و ما تنزلت به الشياطون» غلط بلا ريب‏ .
و كذلك قراءة ابن عامر- و هو من السبعة-: «قتل اولادهم شركائهم» باضافة «قتل» الى «شركائهم» و فصل «اولادهم»- و هو
______________________________
(1) تقدم فى الصفحة: 24 و 25 و 69 و قد نهى النبى- ص- عنه، فضلا عن كونه كالمتقيئ مما يستبشعه الذوق و ينفر منه الطبع. راجع: النهاية ج 5 ص 7 و اللطائف ج 1 ص 67- 68.
(2) تقدم فى الصفحة: 134- 135.
(3) راجع: الصفحة: 35 و 36 و 135.
(4) تقدم فى الصفحة: 36.
(5) راجع الصفحة: 37. و البحر ج 7 ص 46. و الكشاف ج 3 ص 129.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 164
مفعول به- بين المضاف العامل و المضاف اليه الفاعل.
قال ابو البركات ابن الانبارى: و اما نصب «اولادهم» و جر «شركائهم» فهو ضعيف فى القياس جدا ... و مثل هذا لا يكون فى اختيار الكلام بالاجماع، و اختلفوا فى ضرورة الشعر، فاجازه الكوفيون و أباه البصريون و هذه القراءة ضعيفة فى القياس بالاجماع‏ .
و هكذا قراءة حمزة- من السبعة-: وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ‏- النساء: 1- بخفض «الارحام» عطفا على العائد المجرور. قال ابو محمد: و هو قبيح عند البصريين، قليل فى الاستعمال، بعيد فى القياس، لان المضمر فى «به» عوض من التنوين، و لان المضمر المخفوض لا ينفصل عن الحرف، و لا يقع بعد حرف العطف، و لان المعطوف و المعطوف عليه شريكان، فكما لا يجوز «و اتقوا اللّه الذى تساءلون بالأرحام» فكذلك لا يجوز الخفض عطفا لان الضمير المعطوف عليه- على هذا التقدير- عائد، و لا يصلح المعطوف ان يحل محل العائد.
و قراءة قنبل- صاحب قراءة ابن كثير-: أرسله معنا غدا يرتعى و يلعب- يوسف: 12- باثبات الياء فى «يرتعى» و اسكان الباء فى «يلعب» . فى حين انه يجب الجزم فى جواب الطلب.
فرفع «يرتعى» و جزم «يلعب» مما يدل على ان لا معرفة له باصول العربية اطلاقا. كما قال ابن قتيبة: و ما اقل من سلم من هذه الطبقة فى حرفه من الغلط و الوهم‏ .
و كذا قراءته: انه من يتقى و يصبر- يوسف: 90- باثبات الياء
______________________________
(1) البيان فى غريب اعراب القرآن ج 1 ص 342- 343.
(2) الكشف عن وجوه القراءات السبع ج 1 ص 375- 376.
(3) التيسير ص 131. و المرشد الوجيز ص 175.
(4) تأويل المشكل ص 61.
التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 165
فى الفعل الاول و اسكان الثانى‏ و لا وجه لهذا الافتراق فى حين انهما معا فى حيز «من» الجازمة، بدليل الفاء بعدها.
و قد تقدم كثير من قراءات وقعت موضع انكار أئمة العربية، كانت مخالفة لقواعد اللغة التى تجرى عليها لغة العرب الفصحى‏ .
و انا لنحكم قواعد العربية الفصحى على قراءات القراء، حيث لا نأتمن وقوفهم على أصول اللغة و لا معرفتهم التامة بأساليب الكلام البليغ الفصيح‏ .
دفاع مثلوم‏
: قرأ ابو عمرو بن العلاء: «بارئكم» و «بأمركم» و «ينصركم» «و يشعركم» و نحو ذلك بالاسكان حيث وقع فى القرآن‏ . و هو اسقاط لحركة اعرابية من غير سبب معروف. و علل بأنه شبه حركة الاعراب بحركة البناء، فاسكن حركة الاعراب استخفافا، لتوالى الحركات. تقول العرب: «أراك منتفخا» بسكون الفاء.
قال ابو محمد: و هو ضعيف مكروه. قال: فانه فرق بين حركة الاعراب التى تدل على معنى، و بين حركة البناء التى لا تدل على معنى. و ايضا فان حركة الاعراب تتغير حسب تغير المعنى، فلم يجز ان يلحقها تغيير آخر، و حركة البناء ثابتة فجاز ان تتغير بالاسكان استخفافا، و اسكان حرف الاعراب بعيد ضعيف، و اسكان حركة البناء، اذا استثقلت مستعمل كثير. قال: و الاختيار تمام الحركات لانه‏
______________________________
(1) المرشد الوجيز ص 175.
(2) فى صفحة: 34- 38. و 66- 73.
(3) راجع: تأويل المشكل لابن قتيبة، ص 61. و المرشد الوجيز ص 174.
(4) النشر ج 2 ص 212.





التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 166
الاصل، و عليه جماعة القراء، و لان الاسكان اخلال بالكلام و تغيير للاعراب‏ . و قد انكر سيبويه قراءة الاسكان، و رآها باطلة فى مذهب العرب الاصيل‏ .
هذه قراءة ابى عمرو الرديئة، و هذا كلام جهابذة الفن و اساطين العربية المعترف بهم لدى الائمة اجمع.
و لكن أبا عمرو الدانى- فى كتابه «جامع البيان»- بعد ان ذكر اسكان «بارئكم» و «يأمركم» فى قراءة ابى عمرو، و بعد حكاية انكار سيبويه لذلك، قال: «و الاسكان أصح فى النقل و اكثر فى الاداء، و هو الذى أختاره و آخذ به ... الى ان قال: و ائمة القراء لا تعتمد فى شى‏ء من حروف القرآن على الافشى فى اللغة و الاقيس فى العربية، بل على الأثبت فى الاثر و الاصح فى النقل. و الرواية اذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية و لا فشو لغة، لان القراءة سنة متبعة يلزم قبولها و المصير اليها».
قال الزرقانى- تعقيبا على هذا الكلام-: «و هذا كلام وجيه، فان علماء النحو انما استمدوا قواعده من كتاب اللّه و سنة رسوله و كلام العرب، فاذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو و ما قعدوا من قواعد، و وجب أن يرجعوا هم بقواعدهم اليه، لا أن نرجع نحن بالقرآن الى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه، و الا كان ذلك عكسا للآية، و اهمالا للاصل فى وجوب الرعاية» .
قلت: عدم اعتماد القراء على الافشى فى اللغة و الاقيس فى العربية، انما هو لضئالة معرفتهم باصول الكلام الفصيح، و من ثم خلطوا و خبطوا.
______________________________
(1) الكشف ج 1 ص 241.
(2) راجع كتاب سيبويه ج 2 ص 308.
(3) مناهل العرفان ج 1 ص 422.




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 167
كما خلط ابو عمرو الدانى مسألة «أصالة القرآن» بمسألة «القراءات» و تبعه فى هذا التخليط الغريب الاستاذ الزرقانى تقليديا من غير تفكير.
اذ المتبع هو نص القرآن الاصل المتواتر بين المسلمين. و عليه اعتمد ائمة العربية فى استقاء القواعد العامة المعتمد عليها. أما القراءات فشى‏ء يرجع الى اجتهادات القراء، و اللحن متفش بينهم و ما اقل من سلم من هذه الطبقة من الغلط و الوهم، و لا يجعل لحن اللاحنين حجة على الكتاب، على حد تعبير ابن قتيبة .
انا اذا وجدنا لحنا فى قراءة قارئ، نقوم فى وجهه دفاعا عن سلامة القرآن عن الاعوجاج، علما بان القرآن نزل على الصحيح الافصح‏ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏ .
و يعذر القوم حيث حسبوا من انفسهم تجاه امر واقع، و من ثم زعموا من كل قراءة أنها سنة متبعة، وفاتهم أن لا مستند لهذا التعبد الاعمى. و لا تثبت قرآنية القرآن بقراءة رويت عن فلان او فلان، و قد اوضحنا ان لا سند لا حاد القراءات متصلا الى النبى صلّى اللّه عليه و آله و لا مساس لها بمسألة «تواتر القرآن» اطلاقا.
اذن فتحكيم القواعد على القراءات، ليس تحكيما لها على القرآن، بل تحكيما للتوصل الى واقع القرآن. فكل قراءة وافقت الافصح فى اللغة و الافشى فى العربية، و توفرت فيها سائر الشرائط، نعتبرها صحيحة و نتسلمها قرآنا، بكاشف هذا التوافق.
و القواعد- التى نعتبرها مقاييس لمعرفة القرآن- هى المعترف بها لدى الجميع، و التى تسالمت عليها علماء اللغة و الادب، المستقاة من كلام العرب الاصيل، الامر الذى يوجد عند نحاة البصرة أكثر و ادق مما عند الكوفيين، و من ثم فان وقفة مثل «الدانى» المغربى‏
______________________________
(1) تأويل المشكل ص 58 و 61.
(2) سورة الزمر: 28.
التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 168
فى وجه مثل «سيبويه» غريبة جدا.
و نتساءل القوم: بما ذا انكر الامام احمد على حمزة قراءاته؟ لو لا انه وجدها خارجة عن اساليب التعبير العربى الاصيل فى مداته و توالى سكناته و ما الى ذلك! و هل نتسلم قراءة من قرأ: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدرأتكم به- يونس: 16- بالهمز؟ لمجرد أنها قراءة بعض المتقدمين‏ فى حين انها تقلب معنى الآية، لانها من «درى» بمعنى علم لا من «درأ» بمعنى دفع.
و قراءته- ايضا-: و ما تنزلت به الشياطون- الشعراء: 210- و هى غلط محض‏ .
و قراءة ابن محيصن: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ- الاعراف: 150- بفتح تاء المضارعة، و نصب «الاعداء». و انما هو من: أشمت اللّه العدو، و لا يقال: شمت اللّه العدو .
و قراءة ابن عامر: كُنْ فَيَكُونُ‏ بالنصب فى البقرة: 117. و فى آل عمران: 47. و فى النحل: 40. و فى مريم: 35. و فى يس: 82. و فى غافر: 68. و من الغريب ان مثل الكسائى تابعه فى النحل و يس‏ .
و قد اجمع المحققون على ان النصب هنا ضعيف، كما اتفق باقى القراء على الرفع، لان «كن» ليس امرا على حقيقته، لانه ليس خطابا لموجود، و انما معناه: فانما يكونه فيكون‏ .
______________________________
(1) هى قراءة الحسن. راجع: البحر المحيط ج 4 ص 133.
(2) انظر: القرطبى ج 13 ص 142.
(3) تأويل المشكل ابن قتيبة ص 61 و انظر: البحر ج 4 ص 296.
(4) انظر: التيسير ص 76.
(5) راجع: التفصيل فى غريب اعراب القرآن لابن الانبارى ج 1 ص 119- 120.
و الكشف ج 1 ص 261.





التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 169
و هكذا قراءات ضعيفة- تقدم بعضها- من السبعة و غيرهم تشى بضعف مقدرة قرائها، و أنكرها المحققون من العلماء النقاد، سواء فى مجال الفقاهة ام فى حقل الادب الرفيع، فكيف نوافق على قرآنيتها و نضرب بجميع الاصول و القواعد عرض الجدار؟! فالذى تقتضيه قواعد التمحيص: هو النظر فى منشأ القراءة، فان كانت عن مستند وثيق و عن دراية صحيحة الاصول، تقبل و يعترف بقرآنيتها ايضا، و كل قراءة خالفت اصول التمحيص الصحيح فهى ضعيفة شاذة يجب نبذها رأسا. سواء أ كانت عن السبعة أم عن غيرهم، و تقدم كلام ائمة التحقيق فى ذلك.
و أما عدم المعارضة بالاقوى حجة، فلان القراءة حجة حيثما لا يعارضها حجة أقوى، حسب قانون «التعادل و الترجيح» فى باب تعارض الادلة.
فمثل «ارجلكم» بالخفض و ان قرأ بها بعض القراء، لكنها- فضلا عن مخالفتها للقياس الافصح فى باب العطف- معارضة بدلائل أقوى ترجح النصب.
لان الخفض عطفا على مدخول الباء يتنافى و لزوم استيعاب مسح الرجل طولا. اذ «مسح» فعل متعد بنفسه، لكنه كان يقتضى الاستيعاب فى الممسوح، اقتضاء لاطلاق المتعلق. فدخلت الباء للدلالة على كفاية مجرد التماس (الالصاق) بين الماسح و الممسوح فى الرأس، الامر الذى يختلف بشأن الرجلين.
فهو عطف على محل المجرور، ليكون المسح قد تعلق بالرجلين وفق الاصل.
(و قد فصلنا القول فى ذلك فى الجزء الرابع من التمهيد عند الكلام عن روايات التحريف).




التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 170
فذلكة البحث‏
و الذى يتمخض من بحوثنا السالفة بشأن ملاك اختيار القراءة الصحيحة هو ما يلي:
1- مراجعة ثبت المصحف المتواتر خلفا عن سلف، فى مادة الكلمة و صورتها و موضعها الخاص.
2- و عند احتمال وجهين او وجوه، فالمرجع هى قراءة عامة المسلمين أمة عن أمة. و هى محفوظة فى الصدور، و فى عامة المصاحف القديمة و الحديثة.
3- و من الطرق الى معرفة قراءة العامة هو اجماع القراء المعروفين او اتفاق اكثريتهم الغالبة.
4- و اذا تكافأ الاحتمالان، او استوت القراءتان، فالترجيح مع الاوفق بالعربية و الافصح و الافشى فى اللغة.
5- و اخيرا فاذا قام دليل قطعى على اتباع قراءة، فتكون هى الافصح و الاقوى سندا لا محالة.
هذه زبدة ملاك اختيار القراءة و تمييز المقبول عن المرفوض.
كما تبين: ان لا شأن للقراءات- عندنا- بالذات، سوى انها طرق الى معرفة القرآن المتواتر عند عامة المسلمين، و ذلك اذا توفرت فيها شروط القبول.
نصوص ضافية
: ورد من أئمة اهل البيت- عليهم السلام- نصوص ضافية بشأن‏
______________________________
(1) مستخرجة من الكافى الشريف، لثقة الاسلام الكلينى- قدس سره- ج 2 ص 627 كتاب فضل القرآن، باب النوادر، رقم: 8 و 12 و 13 و 15 و 23 و 27.





التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 171
القرآن الكريم تشير الى أهم مواضيع بحوثنا الآنفة، و تشى بعمق نظر و دقة تحقيق راعتها الائمة- عليهم السلام- بشأن هذا الكتاب الخالد.
و مدى اهتمامهم- ع- بحراسة نصه بعيدا عن التحريف و التأويل:
1-
قال محمد بن الوراق: عرضت على ابى عبد اللّه عليه السلام كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب، و كتب فى آخره سورة من ذهب، فأريته اياه فلم يعب فيه شيئا الا كتابة القرآن بالذهب، و قال: «لا يعجبنى ان يكتب القرآن الا بالسواد كما كتب أول مرة».
انظر الى هذه الدقة و الحرص الشديد على سلامة القرآن، ليبقى محفوظا كما كتب اول مرة، حتى فى لون الخط، لئلا يشتبه بغيره من الزوائد و التحسينات المتأخرة.
2- و
قال الامام محمد بن على الباقر عليه السّلام: «القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكن الاختلاف يجي‏ء من قبل الرواة».
يعنى: قراءة واحدة، فان القرآن نزل بنص واحد، و انما الاختلاف فى رواية ذلك النص حسب اجتهادات القراء.
و قد اوضحه الحديث التالى:
3- و
قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد».
عنى عليه السلام نفى القراءات المتداولة التى كان الناس يزعمونها متواترة عن النبى صلّى اللّه عليه و آله فانكر ذلك، حيث القرآن نزل بنص واحد. اما اختلاف اللهجات- حسبما فسرنا بها الحروف السبعة- فلا ينفيها الامام- عليه السلام- كما جاء فى روايات اخرى‏ .
4-
قال‏





التمهيد في علوم القرآن ج‏2 81 القرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان ..... ص : 79
بقى هنا اعتراض: ان القراءات اذا لم تكن متواترة جميعا فان القرآن يصبح فى بعض آية- و هو الذى اختلفت القراءة فيه- غير متواتر، كما فى «مالك» و «ملك» و قد قرئ بالوجهين، فايهما النص؟
و قد استدل ابن الحاجب- فى مختصر اصوله- بذلك لاثبات تواتر القراءات السبع‏ . قال: و الا فيلزم ان يكون بعض القرآن غير متواتر. اذ لو اختلف القراء فى كلمة، كما فى مثل «غيابة» او «غيابات»، و مثل «آية» او «آيات»، و «ملك» او «مالك» و نحو ذلك مما قرئ بوجهين او باكثر، فان التزمنا بتواتر القراءات جميعا فهو، و الا فأى‏
______________________________
(1) نقلا عن البيان ص 174.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 82
القراءتين تكون قرآنا لتكون الاخرى غير قرآن، و اذا ترددنا فى ذلك فان معناه الترديد فى النص الاصلى، و هذا لا يلتئم و القول بتواتر النص القرآنى.
و الجواب: ان النص الاصلى هو ما ثبت فى المصحف الكريم، و الذى اجمعت الامة عليه نصا واحدا. و انما جاء الاختلاف فى كيفية قراءته و فى اسلوب تعبيره، الامر الذى لا يتنافى و ثبوت تواتر الاصل، كما فى كثير من اشعار الشعراء القدامى، حيث اصل البيت او القصيدة ثابتة له بالتواتر و ان كان الرواة مختلفين فى بعض الكلمات او الحركات.
و يزيدنا وضوحا ما قدمناه سابقا: ان اختلاف القراء كان عن اجتهاد منهم فى تحقيق الكلمة تعبيرا، فى حين وحدة النص الثابت فى المصحف، و ذلك لان اختلافهم جاء من قبل عراء المصحف الاول عن أى علامة مائزة، و عن الاشكال و النقط، بل و عن الالفات، و ربما زيادات خارجة عن اسلوب الخط الصحيح، لمكان جهل العرب الاوائل باصول الكتابة المتقنة.
فقد كتبوا «ملك» بميم و لام و كاف. و لكن بما ان عادتهم كانت على حذف الالفات جريا مع مرسوم خط السريان، و من ثم اجتهد بعض القراء زاعما ان الكلمة مرسومة على نفس النمط، فقرأها «مالك» بالالف، مستندا فى ذلك الى تعاليل و حجج تؤيد اختياره. فقد قرأ عاصم و الكسائى بالالف محتجين بقوله تعالى‏ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ‏ (آل عمران: 26) و ادلة اخرى سردها ابو محمد بتفصيل‏ .
______________________________
(1) راجع: الكشف فى القراءات السبع ج 1 ص 25- 26.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 83
و قرأ الباقون «ملك» بلا الف، جريا مع ظاهر الرسم، محتجين بقوله تعالى‏ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏ (الحشر: 23) و ادلة اخرى.
و هكذا كلمة: غَيابَتِ الْجُبِ‏ (يوسف: 10) كانت مرسومة هكذا «غيبت الجب» قرأها نافع بالالف جمعا، زاعما انها مرسومة محذوفة الالف فى كلا الموضعين بعد الياء و بعد الباء. فقرأها «غيابات». و عللها بان كل ما غاب عن النظر من الجب غيابة. و قرأ الباقون مفردا «غيابة» على ظاهر الخط، معللين بان يوسف لم يلق الا فى غيابة واحدة .
كما ان‏ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ‏ (يوسف: 7) كانت مكتوبة «آيت» بلا الف، و من ثم قرأها ابن كثير بالتوحيد جريا مع ظاهر الخط محتجا بأن شأن يوسف كله آية واحدة. كما فى قوله‏ وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً (المؤمنون: 50). و قرأ الباقون «آيات» اعتمادا على ان الالف محذوفة و لانتقال يوسف من حال الى حال، ففي كل حال جرت عليه آية .
اذن فليس اختلاف القراءة بالذى يضر بوحدة النص الاصل، الثابت فى المصحف الاول، مما تسالمت عليه الامة عبر التاريخ.
و قد اخرج ابن أشتة فى كتاب «المصاحف». و ابن ابى شيبة فى «فضائل القرآن». من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلمانى، قال:
«القراءة التى عرضت على النبى صلّى اللّه عليه و آله فى العام الذى قبض فيه، هى القراءة التى يقرؤها الناس اليوم» .
و الى ذلك- ايضا- أشار الحديث عن الامام الصادق عليه السلام قال: «القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكن الاختلاف يجي‏ء من قبل‏
______________________________
(1) الكشف ج 2 ص 5.
(2) الكشف ج 2 ص 5.
(3) الاتقان ج 1 ص 50.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 84
الرواة» .
و لك أن تسأل: اذا اختلفت القراءة فى نص واحد، فمن أين يعرف النص الاصل؟ بعد احتمال الخط لكلتا القراءتين.
قلنا: سنشرح- فى فصل قادم- شروط اختيار القراءة الصحيحة، الموافقة للنص الاصل، و هى: القراءة المشهورة، المعروفة بين الناس، و تلقتها الامة بالقبول فى جميع ادوارها. و من ثم فان القراءات التى كانت تخرج عن محدودة العرف العام، كانت تقع موضع انكارهم، و تقدمت أمثلة على ذلك‏ .
و سؤال آخر: هل لا يقدح اختلاف مصاحف الامصار الاولية- على ما شرحنا فى الجزء الاول- فى تواتر النص الاصل الواحد؟
قلت: كلا، فان الثبت الاصل- ايضا- من بين تلكم المصاحف، هو ما اجمعت عليه الامة و وقع موضع اتفاقهم، و شاع و ذاع عبر التاريخ و كان ثبت غيره فى سائر المصاحف مهجورا، و من ثم فهو شاذ منبوذ.
مثلا: اختلف مصحف الشام مع مصحف الكوفة، فكان ثبت الشام:
و أوصى بها إبراهيم (البقرة: 132) و كان ثبت الكوفة: «و وصى».
لكن الامة اعترفت بالثانى و نبذت الاول. و هو دليل قاطع على ان الصحيح هو ذاك دون الآخر. و من ثم لا تجوز القراءة وفق المأثور عن مصحف الشام فى خصوص هذه الآية.
______________________________
(1) الكافى ج 2 ص 631.
(2) صفحة: 71.


التمهيد في علوم القرآن، ج‏2، ص: 85
و جاء فى مصحف المدينة و الشام: سارعوا بلا واو (آل عمران:
133) و فى مصحف الكوفة و البصرة: «وَ سارِعُوا». و وقع اجماع الامة على الثانى.
و جاء فى مصحف المدينة و الشام: قالَ الْمَلَأُ بلا واو (الانعام:
32). و فى مصحف العراقين: «و قال الملاء». و لكن وقع اجماع الامة على الاول.
و جاء فى مصحف المدينة و الشام: هو الذى ينشركم (يونس:
22) و فى مصحف العراقين: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ‏ و الاجماع على الثانى. و هكذا ...
و الخلاصة: ان طريقنا الى معرفة النص الاصل، هو اجماع الامة فى مختلف عصورها و على تباين نزعاتها، لكنها اتفقت على كتابها الكريم، كلام اللّه العزيز الحميد، فاحتفظت بنصه الاصل متغلبة على كافة عوامل الاختلاف فى هذا المجال. و ما هى الا معجزة قرآنية باهرة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ (الحجر: 9) اى بين اظهركم لا فى اللوح المحفوظ. فلم يزل و لا يزال هذا الكتاب الالهى الخالد يشق طريقه الى الامام، مع الابدية بسلام.
الاحرف السبعة و القراءات السبع‏