بسم الله الرحمن الرحیم

فهرست فقه

تنجیس النجس و المتنجس

تنجیس النجس و المتنجس






مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 7‌
الجزء الثامن‌
[تتمة كتاب الطهارة]
[تتمة الركن الرابع في النجاسات و أحكامها]
[القول في أحكام النجاسات]
[سراية النجاسة من كل ما حكم بنجاسته إلى ملاقيه]
(القول) [في المقام] «1» الثاني (في أحكام النجاسات).)
المشهور بين أصحابنا- رضوان اللّه عليهم- أنّ كلّ ما حكم بنجاسته شرعا يؤثّر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة مسرية، عدا الماء الكثير و شبهه، بل القليل أيضا في الجملة أو مطلقا على الخلاف المتقدّم في محلّه، فينجّس الملاقي له و ينجس ما يلاقيه و هكذا بلغ ما بلغ.
و قد وقع الخلاف في ذلك في مقامين:
الأوّل: في اشتراط الرطوبة في السراية، و قد أنكره غير واحد في الميتة إمّا مطلقا أو في خصوص ميّت الإنسان، فزعموا سراية النجاسة منها إلى ما يلاقيها و لو مع الجفاف.
و قد تقدّم «2» تفصيل الكلام فيه مع ما فيه من الضعف في محلّه.
الثاني: في سراية النجاسة من كلّ ما حكم بنجاسته إلى ملاقيه.
و قد خالف في ذلك ابن إدريس، فإنّه قال في السرائر- بعد الكلام في‌
______________________________
(1) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق. و قد مرّ المقام الأوّل في ج 7، ص 7.
(2) في ج 7، ص 56 و ما بعدها.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 8‌
تغسيل الميّت-: و يغتسل الغاسل فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد، فإن مسّ مائعا قبل اغتساله و خالطه، لا يفسده و لا ينجّسه، و كذلك إذا لاقى جسد الميّت من قبل غسله إناء ثمّ أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع، فإنّه لا ينجس ذلك المائع و إن كان الإناء يجب غسله، لأنّه لاقى جسد الميّت، و ليس كذلك المائع الذي حصل فيه، لأنّه لم يلاق جسد الميّت، و حمله على ذلك قياس و تجاوز في الأحكام بغير دليل، و الأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر و إن كنّا متعبّدين بغسل ما لاقى جسد الميّت، لأنّ هذه نجاسات حكميّات و ليست بعينيّات، و الأحكام الشرعيّة نثبتها بحسب الأدلّة الشرعيّة.
و لا خلاف أيضا بين الأمّة كافّة أنّ المساجد يجب أن تنزّه و تجنّب النجاسات العينيّة، و قد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على أنّ من غسّل ميّتا له أن يدخل المسجد و يجلس فيه فضلا عن مروره و جوازه و دخوله إليه، فلو كان نجس العين، لما جاز ذلك، و أدّى إلى تناقض الأدلّة.
و أيضا فإنّ الماء المستعمل في الطهارة على ضربين: ماء استعمل في الصغرى، و الآخر ما استعمل في الكبرى، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا أنّه طاهر مطهّر، و الماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محقّقي أصحابنا أنّه أيضا طاهر مطهّر، و من خالف فيه من أصحابنا من قال: هو طاهر يزيل النجاسات العينيّات، و لا يرفع به الحكميّات، فقد اتّفقوا جميعا على أنّه طاهر، و من جملة الأغسال و الطهارات الكبار غسل من غسّل ميّتا، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات، لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله و إزالة حدثه طاهرا‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 9‌
بالاتّفاق و الإجماع اللّذين أشرنا إليهما «1». انتهى.
و لا يخفى عليك أنّ مقتضى دليله الأوّل إنكار سراية النجاسة من المتنجّسات الخالية من أعيان النجاسات مطلقا، إذ لا خصوصيّة لملاقي الميّت في ذلك.
اللّهمّ إلّا أن يقول بكون نجاسة الميّت أيضا حكميّة- كما حكي «2» القول بذلك عن المرتضى رحمه اللّه- فعلى هذا يكون مقصوده بقوله: «و هذه نجاسات حكميّات» نجاسة الميّت و ما يلاقيه.
لكن يبعّد ذلك- مضافا إلى عدم معروفيّة الخلاف عنه في نجاسة الميّت- التتبّع في كلماته في باب البئر و غيره ممّا يظهر منه كون نجاسة الميّت من ذي النفس مطلقا إنسانا كان أو غيره لديه عينيّة.
و أبعد من ذلك احتمال أن يكون مقصوده بملاقاة الإناء للميّت ملاقاته له مع الجفاف لا مطلقا، كما حكي القول بنجاسته الحكميّة في الفرض- بمعنى وجوب غسله و عدم تأثيره في تنجيس ملاقيه- عن بعض «3»، لأنّ كلامه كالصريح في عدم إرادته خصوص هذا الفرض، لأنّه ذكر مسألة الإناء من باب الاستطراد، و غرضه الأصلي إثبات عدم انفعال المائع الذي مسّه غاسل الميّت قبل التطهير الذي زعم عدم حصوله إلّا بالاغتسال، فغرضه ليس إلّا إنكار سراية النجاسة من الجسم المتنجّس بملاقاة الميّت، تشبّثا بعدم الدليل عليها، و كون الحكم بثبوت هذا‌
______________________________
(1) السرائر 1: 163- 164.
(2) الحاكي هو فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1: 66.
(3) راجع، ج 7، ص 56.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 10‌
الحكم للمتنجّس قياسا.
و لذا اعترضه المصنّف رحمه اللّه- في محكيّ المعتبر- بقوله: لمّا اجتمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميّت و أجمعوا على نجاسة المائع إذا وقع فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا بالقياس «1». انتهى.
و كيف كان فلا خفاء في ظهور عبارة الحلّي في الإنكار في مورد الكلام، كما أنّه لا خفاء في اقتضاء دليله منع السراية في المتنجّسات مطلقا.
و لعلّه ملتزم بذلك في غير المائعات الملاقية لأعيان النجاسات التي تتأثّر ذواتها بملاقاة النجس و لا تقبل التطهير.
كما ربما يظهر ذلك ممّا ذكره في كتابه بعد ذكر النجاسات و بيان وجوب إزالة قليلها و كثيرها من الثوب و نحوه حيث قال: و جملة الأمر و عقد الباب أنّ ما يؤثّر التنجيس على ثلاثة أضرب: أحدها يؤثّر بالمخالطة، و ثانيها بالملاقاة، و ثالثها بعدم الحياة. فالأوّل: أبوال و خرء كلّ ما لا يؤكل لحمه، و ما يؤكل إذا كان جلّالا، و الشراب المسكر و الفقّاع و المنيّ و الدم المسفوح و كلّ مائع نجس بغيره. و الثاني: أن يماسّ الماء أو غيره حيوان نجس العين، و هو الكلب و الخنزير و الكافر. و الثالث: أن يموت في الماء و غيره حيوان له نفس سائلة، و لا حكم لما عدا ما ذكر في التنجيس «2». انتهى، فإنّ الأجسام الجامدة الملاقية لأعيان النجاسات الخالية منها خارجة من هذه الأقسام، كما لا يخفى.
و كيف كان فقد اختار هذا القول- أي عدم سراية النجاسة من المتنجّسات‌
______________________________
(1) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها 5: 352، و انظر: المعتبر 1: 350.
(2) السرائر 1: 179.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 11‌
الخالية من أعيان النجاسات الى ما يلاقيها- المحدّث الكاشاني، و بالغ في نصرته، و أكثر الطعن- في جملة من كلماته- على المشهور القائلين بالسراية.
قال في محكيّ المفاتيح: إنّما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة، و أمّا ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين بالتمسّح و نحوه بحيث لا يبقى فيه شي‌ء منها فلا يجب غسله، كما يستفاد من المعتبرة «1».
على أنّا لا نحتاج إلى دليل على ذلك، فإنّ عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان، و لا حكم إلّا بعد البرهان «2».
ثمّ جرى على قلمه تعريضا على المشهور القائلين بالسراية بعض الكلمات التي لا يناسب صدورها من مثله، عصمنا اللّه من الزلل في القول و العمل.
و عن موضع آخر من كتابه- بعد ذكر النجاسات العشرة في طيّ مفاتيح- قال: مفتاح: كلّ شي‌ء غير ما ذكر فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة، للأصل السالم من المعارض، و للموثّق: «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» «3» «4».
انتهى.
و ظاهر هاتين العبارتين التزامه بسراية النجاسة من أعيان النجاسات، و وجوب غسل ما يلاقيها مطلقا و لو بعد زوال العين، و إنكارها بالنسبة إلى المتنجّس.
______________________________
(1) تأتي المعتبرة في ص 30.
(2) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة 5: 266، و انظر: مفاتيح الشرائع 1: 75.
(3) التهذيب 1: 284- 285/ 832، الوسائل، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
(4) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة 5: 267- 268، و انظر: مفاتيح الشرائع 1: 72- 73.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 12‌
لكن قد يلوح من بعض عبائره المحكيّة عنه- التي سيأتي نقلها- إنكار ذلك أيضا، و التزامه بدوران حكم النجاسة مدار عينها، إلّا في الموارد التي ثبت تعبّدا وجوب غسل ملاقيها، كالثوب و البدن، دون سائر الأجسام، و جعل ذلك وجها للحكم بطهارة البواطن و بدن الحيوانات بزوال العين عنها، لا لخصوصيّة فيها.
و ربما يلوح هذا المعنى- أي دوران حكم النجاسات مدار عينها- من السيّد رحمه اللّه في بعض كلماته المحكيّة عنه، كاستدلاله لجواز استعمال المائعات الطاهرة- غير الماء- في تطهير الثوب: بأنّ تطهير الثوب ليس إلّا إزالة النجاسة عنه، و قد زالت بغير الماء مشاهدة، لأنّ الثوب لا تلحقه عبادة «1».
و أصرح من ذلك ما حكي عنه من القول بجواز تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح بحيث يزول عنها العين، معلّلا لذلك: بزوال العلّة «2».
و عن المحدّث الكاشاني- بعد أن حكى هذا القول و الاستدلال عن السيّد- قال: و هو لا يخلو من قوّة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أمّا وجوب غسلها بالماء من كلّ جسم فلا، فما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهّره، إلّا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء، كالثوب و البدن، و من هنا يظهر طهارة البواطن بزوال العين، و طهارة أعضاء الحيوان النجسة غير الآدمي، كما يستفاد من الصحاح «3». انتهى.
______________________________
(1) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 59- 60، ضمن المسألة 30، و انظر: مسائل الناصريّات: 105، المسألة 22.
(2) حكاه عنه الفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع 1: 77، و كذا العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 232- 233، المسألة 249.
(3) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة 1: 406- 407، و انظر: مفاتيح الشرائع 1: 77.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 13‌
و لا يخفى عليك أنّ هذا المعنى الذي يظهر من السيّد ماله إلى إنكار السراية رأسا حتّى بالنسبة إلى النجاسات العينيّة.
لكنّ الظاهر بل المقطوع به: أنّ محطّ نظر هؤلاء الجماعة- كما هو صريح العبارة المحكيّة عن الحلّي- إنّما هو إنكار كون الأجسام الجامدة المتأثّرة بملاقاة النجاسات كأعيانها من حيث الحكم، و أمّا المائعات الملاقية لها التي تتأثّر ذواتها بملاقاة النجس فلا خلاف في كونها كأعيانها في وجوب إزالتها عن الثوب و البدن و غيره من آثار النجس، كما يشهد بذلك: التدبّر في كلماتهم.
ثمّ إنّا و إن استظهرنا من الحلّي و السيّد القول بمنع السراية لكنّ القائل به صريحا إنّما هو المحدّث الكاشاني، و لذا جلّ من تأخّر عنه- ممّن تعرّض لإبطال هذا المذهب- جعلوه من متفرّداته، و طعنوه بمخالفته للإجماع، بل عن بعضهم الترقّي عن ذلك، و طعنه بمخالفته للضرورة.
أقول: إن أريد بالضرورة غير معناها الذي تقدّم «1» الكلام في كفر منكره، فله وجه، و إلّا فرميه بذلك غفلة من الرامي، فإنّ ضروريّات الشرع في هذه الأعصار منحصرة في الأحكام الكثيرة الدوران في كلمات الشارع من الكتاب و السنّة القطعيّة، كالصلاة و الصوم و الزكاة و نحوها ممّا لا تختفي شرعيّتها على من راجع الكلمات المعلومة الصدور من الشارع. و أمّا ما عداها من الأحكام و إن كانت إجماعيّة أو ضروريّة لدى المتشرّعة في هذه الأعصار بأن عرفها جميعهم بحيث لم يحتملوا خلافها، فإثبات صدورها من الشارع و لو بعد تسليم كونها‌
______________________________
(1) في ج 7، ص 271 و ما بعدها.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 14‌
كذلك يحتاج إلى مقدّمات نظريّة، كقاعدة اللّطف، أو استكشاف رأي الرئيس من اجتماع المرؤوسين، أو قضاء العادة بوصول الحكم إليهم يدا بيد، إلى غير ذلك من المقدّمات التي غايتها بعد الإذعان بها صيرورة الحكم بواسطتها قطعيّا.
و الأحكام الضروريّة عبارة عن الأحكام التي قياساتها معها بأن كان صدورها من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو الأئمّة عليهم السّلام بديهيّا بحيث يكون الاعتراف بصدقهم كافيا في الإذعان بتحقّقها من غير احتياجها إلى توسيط مقدّمة خارجيّة من إجماع و نحوه.
و كيف كان فالذي يمكن أن يستدلّ به للسراية أمور:
الأوّل: إجماع العلماء عليها خلفا عن سلف،
كما يكشف عن ذلك إرسالهم إرسال المسلّمات التي لا يشوبها شائبة إنكار، مع تصريح جملة منهم بكونها إجماعيّة.
الثاني: معروفيّتها لدى المتشرّعة‌
و مغروسيّتها في أذهانهم على وجه يزعمونها من ضروريّات المذهب، فيستكشف بها وصول الحكم إليهم يدا بيد عن الأئمّة عليهم السّلام.
الثالث: الأخبار المستفيضة الدّالة عليها.
فمنها: ما يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس، و حرمة الانتفاع به إن كان مائعا و لو مع خلوّه من عين النجاسة، كالمستفيضة الدالّة على نجاسة الماء القليل الواقع فيه شي‌ء من النجاسات «1»، و الأخبار الدالّة على نجاسة السمن و‌
______________________________
(1) راجع الوسائل، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الأحاديث 1 و 2 و 4 و 7- 11.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 15‌
الزيت و غيرهما من المائعات التي مات فيها الفأرة و نحوها «1»، و ما دلّ على عدم جواز الاستصباح بأليات الغنم، المقطوعة من الحيّ، معلّلا «بأنّه يصيب الثوب و البدن، و هو حرام» «2».
و هذه الطائفة من الأخبار إنّما تنهض حجّة على من أنكر السراية رأسا و قال بدوران النجاسة مدار عينها، كما ربما يستشعر من عبارة السيّد و بعض عبائر المحدّث المتقدّم «3».
و نحوها الأخبار الدالّة على وجوب غسل الثوب و البدن و غيرهما من الأجسام الملاقية للنجس، الدالّة على عدم كفاية إزالة عينها بغير الغسل، بل في بعضها «4» الأمر بغسل الملاقي للميتة و نحوها ممّا لا يبقى فيه أثر محسوس بعد جفافه.
و لا يعارضها ما يظهر من بعض «5» الأخبار من دوران حكم النجاسة مدار عينها، لعدم المكافئة خصوصا مع إعراض الأصحاب عنه.
و منها: موثّقة عمّار: في الرجل يجد في إنائه فأرة و قد توضّأ من ذلك الإناء مرارا و اغتسل و غسل ثيابه، و قد كانت الفأرة متسلّخة، فقال: «إن كان رآها قبل أن‌
______________________________
(1) راجع الوسائل، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
(2) الكافي 6: 255/ 3، الوسائل، الباب 32 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح 1.
(3) أي: الفيض الكاشاني، و تقدّمت عبارته و كذا عبارة السيّد في ص 11 و 12.
(4) الكافي 3: 6- 61/ 4، التهذيب 1: 262/ 763، و 277/ 816، الوسائل، الباب 34 من أبواب النجاسات، ح 3.
(5) انظر: الكافي 3: 20/ 4، و الفقيه 1: 41/ 160، و التهذيب 1: 348/ 1022، و الوسائل، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 7.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 16‌
يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها، فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة، و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله، فلا يمسّ من ذلك الماء شيئا، و ليس عليه شي‌ء، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه» ثمّ قال: «لعلّه إنّما سقطت فيه في تلك الساعة [التي رآها]» «1».
و هذه الموثّقة كما تراها كادت تكون صريحة في نجاسة الماء الملاقي للميتة و تنجيس ما يلاقيه.
و منها: الأخبار «2» الدالّة على وجوب غسل الإناء الذي شرب منه الكلب و الخنزير.
و تقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار من وجهين:
أحدهما: أنّه يظهر من إطلاق الأمر بغسل الإناء مع عدم الملازمة بين ولوغ الكلب و الخنزير من مائه و بين ملاقاتهما للإناء: أنّ الماء الذي ولغ منه الكلب و الخنزير- كأعيان النجاسات- مؤثّر في تنجيس ملاقيه.
و الاستدلال بهذه الروايات بهذه النحو من التقريب، و كذا الاستدلال بموثّقة عمّار، المتقدّمة «3» إنّما يجدي في مقابل من أنكر السراية من المتنجّس رأسا حتّى في المائعات الملاقية لأعيان النجاسات.
و قد أشرنا إلى أنّه لم يعلم من أحد إنكار كون المائعات الملاقية للنجس‌
______________________________
(1) الفقيه 1: 14/ 26، التهذيب 1: 418- 419/ 1322، الوسائل، الباب 4 من أبواب الماء المطلق، ح 1، و ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) منها: ما في التهذيب 1: 225/ 644، و 261/ 760، و الاستبصار 1: 18- 19/ 39، و الوسائل، الباب 1 من أبواب الأسئار، ح 2 و 3.
(3) آنفا.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 17‌
بمنزلتها من حيث السراية، بل الظاهر- كما هو صريح الحلّي «1»- التزام الكلّ بذلك، فلا تكون هذه الروايات حجّة عليهم بهذا التقريب.
ثانيهما: أنّه يستفاد من الأمر بغسل الإناء- في هذه الأخبار و كذا من غيرها ممّا ورد في كيفيّة غسل الأواني و الفرش و البسط و نحوها- سراية النجاسة إلى ما يلاقيها برطوبة مسرية، و إلّا لم تكن فائدة في التكليف بتطهيرها، ضرورة أنّ تطهيرها بنفسه ليس واجبا نفسيّا، و ليست هذه الأشياء بنفسها ممّا يستعمل فيما يشترط بالطهارة، فالمقصود بتطهيرها ليس إلّا حفظ ما يلاقيها برطوبة مسرية- من الأشياء المشروطة بالطهارة- من النجاسة.
و يتوجّه عليه: أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأمر بغسل الأواني و نحوها- بعد البناء على ظهورها في الوجوب الغيريّ، كما هو الظاهر بل المتعيّن- إنّما هي حرمة استعمالها حال كونها متنجّسة في المأكول و المشروب المطلوب فيهما النظافة و الطهارة في الجملة و لو بالنسبة إلى المائعات التي يتنفّر الطبع من شربها في إناء يستقذره، و أمّا تأثيرها في نجاسة ما فيها على وجه تبقى نجاسته بعد نقله إلى مكان آخر فلا.
ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بغسل أوانيه الوسخة التي يستعملها في أكله و شربه، لا يفهم منه إلّا كراهة استعمالها حال كونها قذرة في الأكل و الشرب.
لا صيرورة ما يلاقيها برطوبة مكروها على الإطلاق.
و أمّا ما ورد في كيفيّة تطهير الفرش و نحوها فلم يظهر منها إرادة أزيد من‌
______________________________
(1) راجع: السرائر 1: 179.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 18‌
إزالة العين، مع أنّه لا يستفاد منها وجوب التطهير.
و يكفي في حسن تشريعه كون الحكمة فيه المبالغة في إزالة العين التي لا كلام في سراية النجاسة منها إلى ما يلاقيها، أو استحباب التنزّه عن استعمال النجس في سائر الأفعال التي يبتلى بها المكلّف، و إن لم يكن جوازها مشروطا بالطهارة.
و الحاصل: أنّ دعوى استفادة مثل هذا الحكم من مثل هذه الروايات مجازفة محضة، و إنّما يتوهّم دلالتها عليه لأجل مغروسيّة الحكم في الذهن، فيظنّ بواسطتها كونه هو الوجه في صدور الأمر بغسل الأواني و نحوها في هذه الروايات. و إلّا فليس في شي‌ء منها إشعار بذلك.
فالذي يمكن أن يستدلّ به عليه ليس إلّا الإجماع، بل لو سلّمت دلالة الأخبار على المدّعى، فهي غير مغنية عن الإجماع، كما توهّمه بعض من لا يعتمد على الإجماع في إثبات الأحكام الشرعيّة، فإنّ غايتها الدلالة على السراية بواسطة أو واسطتين، و أمّا بالوسائط فلا.
و دعوى القطع بالمناط مجازفة، لإمكان أن يكون لقلّة الوسائط دخل في التأثير، كما في القذارات الحسّيّة، فالتخطّي عن كلّ مرتبة بل عن كلّ نجاسة إلى غيرها يحتاج إلى دليل، و هو منحصر في الإجماع.
و أمّا معروفيّته لدى المتشرّعة: فهي أيضا بنفسها لا تصلح أن تكون دليلا له، لقضاء العادة بصيرورة الحكم- إذا كان ممّا يعمّ به الابتلاء- معروفا لدى العوام على وجه لا يحتملون خلافه إذا اتّفقت عليه كلمات العلماء و لو في الأعصار‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 19‌
المتأخّرة، فلا ملازمة بينه و بين وصول الحكم إليهم يدا بيد عن المعصوم، و حيث إنّ عمدة المستند هو الإجماع، فلا بدّ من تحقيق حاله.
فنقول: المدار في حجّيّة الإجماع لدينا على القطع بموافقة المعصوم- أو وجود دليل معتبر فيما بين المجمعين بحيث لو وصل إلينا تفصيلا، لوجدناه واجب الاتّباع من حيث الدلالة و السند، فلو فرض عدم حصول القطع بأحد الأمرين لأحد من اتّفاق كلمة علمائنا الإماميّة- رضوان اللّه عليهم- لم يجب عليه بل لا يجوز له متابعتهم إن كان من أهل النظر و الاستدلال، إذ لا دليل على اعتباره من حيث هو من شرع أو عقل، بل لم ينقل القول باعتباره تعبّدا من أحد من أصحابنا، و إن كان ربما يستشعر ذلك من استدلالاتهم به في الفروع و إرسالهم دليليّته إرسال المسلّمات، لكن ينافيه تصريحاتهم في الأصول بما هو مناط اعتباره.
نعم، زعم بعض كون الشهرة- التي هي أعمّ من اتّفاق الكلّ- من الظنون المعتبرة.
لكنّه مع كونه خلاف المشهور في غاية الضعف.
فالحقّ أنّ اتّفاق العلماء إنّما يكون حجّة من حيث إفادته للقطع بثبوت متعلّقه لأجل كونه سببا عاديّا لاستكشاف أحد الأمرين المتقدّمين، لا من باب التعبّد.
و أمّا الإجماع الذي هو حجّة من باب التعبّد فهو الإجماع الحقيقي المشتمل على مقالة المعصوم، و اعتباره على هذا التقدير أيضا ليس عندنا من‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 20‌
حيث نفس الإجماع، بل بواسطة وجوب التعبّد بمقالة المعصوم الذي هو أحد المجمعين.
و زعم كثير من أصحابنا- على ما يظهر من مراجعة كتبهم- أنّ اتّفاق جميع العلماء و لو في عصر واحد طريق عقليّ لاستكشاف رأي الإمام عليه السّلام بقاعدة اللّطف.
و هو خلاف التحقيق، لعدم تماميّة القاعدة، و لذا لم يعوّل عليها جلّ علمائنا المتأخّرين، و بنوا على أنّ طريق استكشاف رأي الإمام عليه السّلام من الإجماعات المتحقّقة في هذه الأعصار منحصر في الحدس الناشئ من الملازمة العادية بين اتفاق العلماء في جميع الأعصار و بين موافقة الإمام عليه السّلام، و لذا اعتبروا في حجّيّة الإجماع اتّفاق كلّ العلماء في جميع الأعصار أو جلّهم على وجه يستلزم عادة موافقة المعصوم.
و لا يخفى أنّ الأسباب العادية غالبا من قبيل المقتضيات ربما يمنعها من التأثير بعض الموانع المكتنفة بها، و حيث إنّا نفينا الملازمة العقليّة، و اعتمدنا على الملازمة العاديّة لم يجز لنا اتّباعهم في الموارد التي لم يحصل لنا القطع بالموافقة بواسطة بعض الأمور المنافية للحدس القطعيّ، كمعلوميّة مستند المجمعين، أو العثور على ما يحتمل استنادهم إليه، أو غير ذلك من الأمور المانعة من القطع.
و كونه نوعا سببا عاديّا للقطع و لو في خصوص المورد بالنسبة إلى نوع المكلّفين غير مجد بالنسبة إلى الشخص الذي لم يحصل له القطع، لما أشرنا إليه من أنّه لا دليل على اعتباره من باب التعبّد، و إنّما يدور حجّيته مدار صفة القطع،



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 21‌
فليس لأحد إلزام المحدّث الكاشاني و غيره- ممّن أنكر السراية- بمخالفته للإجماع، ضرورة أنّه لم يحصل له القطع بالحكم من اتّفاق العلماء، و إلّا لتبعهم، فإنّ القاطع مجبول على اتّباع قطعه، كما هو واضح.
نعم، قد يتوجّه على من يخالف الإجماع و يتفرّد بالقول: الطعن باعوجاج السليقة و انحراف الطريقة.
لكنّه غير مجد في جواز اتباعهم ما لم يعتقد المخالف انحرافه عن الطريقة في خصوص المورد.
هذا، مع أنّ الطعن في غير محلّه إذا كان تردّده في الحكم ناشئا عن التفاته إلى أسباب عقلائيّة موجبة للتشكيك، كما فيما نحن فيه، فإنّ في المقام شبهات لا بدّ إمّا من حلّها أو الالتزام بعدم السراية.
الأولى «1»: أنّه لو كان المتنجّس منجّسا مطلقا- كما هو معقد إجماعاتهم المحكيّة- للزم نجاسة جميع ما في أيدي المسلمين و أسواقهم، و لتعذّر الخروج من عهدة التكليف بالتجنّب عن النجس، و التالي باطل بشهادة العقل و النقل، فكذا المقدّم.
بيان الملازمة: أنّا نعلم أنّ أغلب الناس لا يتحرّزون عن النجاسات، و يخالطون غيرهم، فيستوي حال الجميع، لقضاء العادة بأنّه لو لم يتحرز شخص و لو في أقصى بلاد الهند من نجاسة في قضيّة واحدة و خالط الناس، لسرت النجاسة إلى جميع البلاد بمرور الدهور إلى أن استوعبت و وصلت إلى بيوتنا‌
______________________________
(1) أي الأولى من الشبهات المشار إليها آنفا.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 22‌
فضلا عن أنّ جميع من في العالم- عدا من شذ منهم- لا يتحرّزون عن النجاسات، فمقتضاه أن يكون لكلّ شي‌ء ممّا في أسواق المسلمين من مثل الدهن و السمن ممّا نبتلي به بل لكلّ شي‌ء ممّا بأيدينا من أثاث بيوتنا أسباب لا تتناهى لنجاسته.
و ربما اعترف جملة من الناس بعلمه بنجاسة جميع ما يصنع من المطعوم و المشروب و نحوهما في أسواق مثل بغداد من البلاد التي يختلط فيها الخاصّة و العامّة و اليهود و النصارى و غيرهم، و لا يتحرّز بعضهم عن مساورة بعض، و غفل عن أنّه إذا أمعن النظر لرأي عدم الفرق بينه و بين أثاث بيته، و لذا ترى جلّ الأشخاص الملتفتين إلى بعض هذه المقدّمات لا زال يصرّحون بأنّه لو لا البناء على الإغماض و المسامحة في أمر النجاسة، لتعذّر الخروج من عهدة التكليف بالاجتناب عنها، و من ابتلى بتربية طفل غير مميّز أو ابتلى في واقعة بنجاسة غفل عن تطهيرها و لم يفطّن إلّا بعد أن خالط الناس، لأذعن بذلك من غير أن يحتاج إلى تمهيد مقدّمات بعيدة.
و من زعم أنّ هذه الأسباب لا تؤثّر في حصول القطع لكلّ أحد بابتلائه في طول عمره بنجاسة موجبة لتنجيس ما في بيته من الأثاث مع إذعانه بأنّ إجماع العلماء على حكم يوجب القطع بمقالة المعصوم، لكونه سببا عاديّا لذلك، فلا أراه إلّا مقلّدا محضا لا يقوى على استنتاج المطالب من المبادئ المحسوسة فضلا عن أن يكون من أهل الاستدلال.
فلا ينبغي الارتياب في أنّه لو سرت النجاسة بالوسائط لعمّت على وجه يتعذّر التجنّب عنها فضلا عن أن يكون منافيا لعمومات نفي الحرج، و التوسعة في‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 23‌
الدين.
و دعوى أنّ أدلة نفي الحرج و نحوها لا تنفي السراية في الفرض، و إنّما تنفي التكليف بالاجتناب عن النجس في مواقع الحرج، فلا مانع من الالتزام بكون ما بأيدينا نجسا معفوّا عنه، فاسدة جدّا لا يهمّنا الإطالة في إبطالها، فالحقّ أنّ هذه المرتبة من السراية ممّا لا يمكن الالتزام به.
و يشهد لبطلانه- مضافا إلى ما عرفت- رواية أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟ فما علمت فيه ميتة فلا تأكله» «1» الحديث، فإنّه لو كانت النجاسة مسرية بالوسائط، لكان جعل الميتة في الجبن في مكان واحد سببا عاديّا لتحريم جميع ما في الأرض، فلم يكن وقع لاستيحاش الإمام عليه السّلام من ذلك.
الثانية «2»: استقرار سيرة المتشرّعة خلفا عن سلف على المسامحة في الاجتناب عن ملاقيات المتنجّس في مقام العمل بحيث لو تعدّى أحد عن الطريقة المألوفة عندهم في اجتناب النجاسات- بأن اجتنب مثلا عن أبنية البلاد، معلّلا بأنّ من عمّرها استعمل في تعميرها الآلات و الأدوات التي لا زال يستعملها في تعمير الكنيف من غير أن يطهّرها، أو اجتنب عن مساورة شخص، معتذرا بأنّ هذا الشخص يساور أشخاصا لا يزالون يساورون الكفّار و يباشرون الأنجاس- يطعنه جميع المتشرّعة بالوسواس، و يرونه منحرفا عن الطريقة المعروفة عندهم في‌
______________________________
(1) المحاسن: 495/ 597، الوسائل، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح 5.
(2) أي الشبهة الثانية.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 24‌
اجتناب النجاسات.
مع أنّه ربما يتشبّث في إثبات مطلبه بمقدّمات محسوسة لا ينكرها عليه أحد، و لو أرادوا إنكار شي‌ء من مقدّمات يتشبّثون باحتمالات سوفسطائيّة ممّا لا يعتني به عاقل في شي‌ء من حركاته و سكناته.
و ربما ينقضون عليه بما هو أبده نجاسة من ذلك، و يقولون: إذا تجتنب عن ذلك لم لا تجتنب عن الأجناس المنقولة من بلاد الكفر من المائعات و الجوامد المصنوعة فيها، أو لا تجتنب عن الدهن المشتري من أهل السواد الذين لا يتحرّزون عن النجاسات، أو نحو ذلك؟ فهذه السيرة العملية تكشف عن عدم معهوديّة الاجتناب عن مثل هذه الأمور في الشريعة من صدر الإسلام، بل المتأمّل في الأخبار و غيرها من الأمارات لا يكاد يرتاب في ذلك و لو مع قطع النظر عن السيرة، بل لا مجال للتشكيك في أنّ أمر النجاسة لو لم يكن في عصر الأئمة عليهم السّلام أوسع ممّا بأيدينا لم يكن أضيق من ذلك.
إذا عرفت ذلك، فنقول: هذا النحو من المسامحة و عدم الاعتناء بالمقدّمات البديهيّة الإنتاج ينافي إطلاق السراية و عموم وجوب الاجتناب عن كلّ نجس، إذ لا يعقل أن يجعل الشارع ملاقاة المتنجّس سببا للتنجيس مطلقا، و أوجب الاجتناب عن كلّ نجس، ثمّ رخّص في ارتكاب مثل هذه الأمور التي لا زال يتوارد عليها أسباب النجاسة على وجه لا يشتبه على أحد لو لم يكن بناؤه على الإغماض و المسامحة.
اللّهمّ إلّا أن تكون المسامحة في تشخيص الموضوع مأخوذة في‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 25‌
موضوعيّته للحكم، بأن أوجب الشارع- مثلا- الاجتناب عن النجس المعلوم بالمشاهدة أو بمقدّمات قريبة، لا مطلق النجس، أو جعل النجاسة اسما للأشياء المعهودة مقيّدة بكونها معلومة بالمشاهدة و نحوها، أو غير ذلك من التوجيهات التي ليس الالتزام بشي‌ء منها أهون من إنكار السراية، مع اشتراك الكلّ في مخالفته للإجماع.
و قد زعم صاحب الحدائق أنّ العلم بالنجاسة من مقوّمات موضوعها، بمعنى أنّ النجس الشرعي اسم للنجس المعلوم، و تخيّل أنّ هذا يجديه في حلّ بعض الإشكالات الواردة على السراية من نظائر ما عرفت.
و استشهد لذلك ببعض الأخبار المسوقة لبيان الحكم الظاهري.
مثل قوله عليه السّلام: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» «1» و نحو ذلك من الأخبار الدالّة عليه.
و أطال الكلام في إثبات مرامه، إلى أن قال في آخر كلامه: و لم أقف على من تنبه لما ذكرناه من التحقيق في المقام من علمائنا الأعلام إلّا السيّد الفاضل المحقق السيّد نعمة اللّه الجزائري في رسالة التحفة حيث قال- بعد أن نقل عن بعض معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس-: و نقل عنهم أنّ من أعظم أدلّتهم قولهم: إنّا قاطعون أنّ في الدنيا نجاسات، و قاطعون أيضا بأنّ في الناس من لا يتجنّبها، و البعض الآخر لا يتجنّب ذلك البعض، فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا المظنون النجاسة أو مقطوعها، إلى أن قال: فقلنا لهم: يا معشر‌
______________________________
(1) الكافي 3: 1/ 2 و 3، التهذيب 1: 215/ 619، الوسائل، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 5.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 26‌
الإخوان إنّ الذي يظهر من أخبار الأئمّة الهادين التسامح في أمر الطهارات، و إنّ الطاهر و النجس هو ما حكم الشارع بنجاسته و طهارته، لا ما باشرته النجاسة و الطهارة، فالظاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر، بل ما حكم الشارع بطهارته، و كذا النجس، و ليس له واقع سوى حكم الشارع بنجاسته، و قد حكم الشارع بطهارة المسلمين، فصاروا طاهرين، إلى أن قال: و بهذا التحقيق .. إلى آخر ما سيأتي نقله في المقام إن شاء اللّه «1». انتهى كلام صاحب الحدائق.
ثمّ ذكر تتمّة كلام المحدّث المتقدّم، التي أشار إليها بعيد ذلك، و هي هذه:
و بهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من أنّ من تطهّر بماء نجس، فاستمرّ الجهل به حتّى مات فصلاته باطلة، غايته عدم المؤاخذة عليها، لامتناع تكليف الغافل، و لو صحّ هذا الكلام، لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة، لكثرة النجاسة في نفس الأمر «2». انتهى.
أقول: أمّا ما حقّقه المحدّث الجزائري فممّا لا أرى له محصّلا، فإنّ أحدا لا ينكر توقّف النجاسة الشرعيّة على التوقيف الشرعي، لكنّ الخصم يدّعي أنّه ثبت بالإجماع و غيره من الأدلّة أنّ الشارع حكم بنجاسة كلّ ما باشرته النجاسة، فمتى أحرز موضوعه- كما في الفرض- يجب ترتيب حكمه عليه.
و هذا المحدّث بحسب الظاهر ليس منكرا للسراية رأسا حتّى يطالب خصمه بدليلها، و لذا جعله صاحب الحدائق موافقا لنفسه، فاعتراضه على الخصم لا يبعد أن يكون مبنيّا على توهّم كون العلم بالنجاسة من مقوّمات ماهيّتها، كما‌
______________________________
(1) الحدائق الناضرة 5: 245- 251.
(2) الحدائق الناضرة 5: 263.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 27‌
توهّمه صاحب الحدائق، لكن لم يقتصر هذا المحدّث على مجرّد ذلك حيث لم ينكر على خصمه ما ادّعاه من العلم بالسبب، بل قرّره على ذلك، و اعترف في آخر كلامه باقتضاء إطلاق سببيّة الملاقاة للتنجيس بطلان جميع العبادات، فكأنّه زعم أنّ العلم المأخوذ في الموضوع هو العلم الحاصل من الطرق المعتبرة شرعا لا مطلقا، فهذا النحو من التقييد- أي تقييد العلم بحصوله من أسباب مخصوصة- و إن كان نافعا في التفصّي عن الإشكال، دون ما زعمه صاحب الحدائق من تقييد الموضوع بمطلق العلم، لحصول مطلقه في الفرض بمقدّمات غير قابلة للإنكار، لكنّه أوضح بطلانا و أكثر مئونة من قول صاحب الحدائق، الذي يتوجّه عليه- بعد الغضّ عن بعض ما فيه، الذي من جملته مخالفته للإجماع، كما اعترف هو بنفسه في آخر كلامه المتقدّم «1» حيث قال: و لم أقف على من تنبّه لما ذكرناه من التحقيق، إلى آخره-:
أوّلا: أنّ تقييد موضوع النجاسة بالعلم بها- كما يظهر من عبارته و يقتضيه استدلاله بالأخبار التي تقدّمت الإشارة إليها- غير معقول، فإنّه دور صريح، و إنّما المعقول أخذ العلم بالموضوع الخارجي- كالملاقاة مثلا- إمّا مطلقا أو إذا كان حاصلا من سبب خاصّ- كالمشاهدة و نحوها- شرطا في تأثيره، و دخيلا في موضوعيّته للحكم الشرعي، بأن يقول الشارع مثلا: الملاقاة المعلومة بالمشاهدة أو مطلقا توجب نجاسة الملاقي، كما أنّ من المعقول أن يجعل العلم بالنجاسة إمّا مطلقا أو إذا كان حاصلا من سبب خاصّ شرطا شرعيّا واقعيّا لترتّب الأحكام‌
______________________________
(1) في ص 25.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 28‌
الشرعيّة المجعولة لها من حرمة الأكل و الشرب و تنجيس الملاقي و بطلان الصلاة الواقعة معها و وجوب إعادتها، إلى غير ذلك من الآثار الشرعيّة، فتنتفي الآثار واقعا عند انتفاء العلم.
و هذا بخلاف ما لو أطلق الشارع حكمه بسببيّة الملاقاة للتنجيس و وجوب الاجتناب عن كلّ نجس، فإنّه و إن لم يجب على المكلّف على هذا التقدير أيضا الخروج من عهدة هذا الواجب ما لم يحرز موضوعه، لكون العلم بالتكليف شرطا عقليّا في وجوب الامتثال، لكنّ الجهل بالتكليف على هذا التقدير لا ينفي واقعة، بل يجعل المكلّف معذورا في مقام الامتثال، و لا يعقل أن يتصرّف الشارع في موضع هذا الحكم العقلي بأن يجعل العلم الحاصل من سبب خاصّ شرطا في وجوب الامتثال بعد فرض إطلاق حكمه الشرعي، لرجوعه إلى التناقض، كما تقرّر جميع ذلك في محلّه.
فملخّص الكلام: أنّ كون العلم بالنجاسة من مقوّمات موضوعها- كما التزم به صاحب الحدائق- أمر غير معقول، إلّا أن يتكلف في تأويل كلامه بما يؤول إلى أحد التوجيهين المتقدّمين.
و ثانيا: أنّ أخذ العلم قيدا في موضوع النجاسة مخالف لظاهر «1» جميع الأدلّة الدالّة عليها حتّى الأخبار التي تمسّك بها لمدّعاه من مثل قوله عليه السّلام: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» «2» فإنّ ظاهرها كونها مسوقة لبيان الحكم الظاهري، و كون العلم بالموضوع طريقا لإحرازه، لا شرطا في موضوعيّته.
______________________________
(1) في «ض 10»: «لظواهر».
(2) تقدّم تخريجه في ص 25، الهامش (1).



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 29‌
و ثالثا: أنّ هذا التكلّف ممّا لا يجديه في حلّ الإشكال المقتضي لوجوب التحرّز عن مساورة الناس و لزوم بطلان جلّ العبادات المشروطة بالطهور أو كلّها، لأنّ الإشكال إنّما نشأ من فرض العلم بتحقّق النجاسة، كما يدّعيه الخصم، لا من شيوع الابتلاء بها في الواقع مع الجهل، كغيره من المحرّمات التي نعلم إجمالا بابتلاء غالب المكلّفين بها، و نحتمل كون ما نبتلي به من جملتها، فإنّه لا يجب التجنّب عمّا نبتلي به ما لم يكن في خصوصه علم تفصيليّ أو إجماليّ بلا شبهة، كما هو واضح.
فظهر بما ذكرنا أنّه لا يمكن التخلّص عن الإشكال بمثل هذه التوجيهات، كما أنّه لا يمكن التفصّي عنه بإنكار حصول العلم لآحاد المكلّفين في موارد ابتلائهم، لكونه مجازفة محضة لو لا ابتناؤه على الإغماض و المسامحة.
و قد أشرنا آنفا إلى عدم إمكان الالتزام بثبوت النجاسة واقعا في مثل هذه الموارد التي جرت السيرة على عدم التجنّب عنها، و ارتفاع التكليف عنها لمكان الحرج، لاستلزامه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بشي‌ء منها، كتجويز الوضوء و الغسل بالماء النجس أو مع نجاسة البدن مع التمكّن من التيمّم أو تطهير البدن و غير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.
و غاية ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذه الشبهة و سابقتها هو أنّ الموارد التي استقرّت فيها سيرة المتشرّعة على عدم التجنّب عن ملاقيات المتنجّس بالوسائط و المسامحة في أمرها ليست إلّا الموارد التي يكون الاجتناب عنها نوعا موجبا للحرج، بل مؤدّيا إلى اختلال النظام، و لا مانع من الالتزام بنفي‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 30‌
الأثر للملاقاة في مثل هذه الموارد و ثبوت العفو عنه وضعا و تكليفا، لمكان الحرج، و شهادة السيرة بذلك.
و لا يبعد أن يكون إطلاق كلمات الأصحاب- القائلين بكون المتنجّس منجّسا- منزّلا على غير هذه الموارد، فليتأمّل.
الشبهة الثالثة: دلالة الأخبار المعتبرة- التي أشار إليها المحدّث الكاشاني في عبارته المتقدّمة «1»- على عدم السراية.
منها: موثّقة حنّان بن سدير، قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه السّلام، فقال: إنّي ربما بلت فلا أقدر على الماء و يشتدّ ذلك عليّ، فقال: «إذا بلت و تمسّحت فامسح ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئا فقل: هذا من ذاك» «2».
و رواية حكم بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أبول فلا أصيب الماء و قد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط أو التراب ثمّ تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي، قال: «لا بأس» «3».
و رواية سماعة، قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام: إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجي‌ء منّي البلل ما يفسد سراويلي، قال: «لا بأس» «4».
______________________________
(1) في ص 11.
(2) الكافي 3: 20/ 4، التهذيب 1: 348/ 1022، و 353/ 1050، الوسائل، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 7.
(3) الكافي 3: 55- 56/ 4، الفقيه 1: 40- 41/ 158، التهذيب 1: 250/ 720، الوسائل، الباب 6 من أبواب النجاسات، ح 1.
(4) التهذيب 1: 51/ 150، الإستبصار 1: 56/ 165، الوسائل، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 4.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 31‌
و يحتمل قويّا جري هذه الرواية الأخيرة مجرى التقيّة.
و صحيحة العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذاه، قال: «يغسل ذكره و فخذيه» و سألته عمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: «لا» «1».
و ربما يستدلّ بصدر هذه الصحيحة على القول المشهور.
و فيه ما لا يخفى بعد التصريح بعدم غسل الثوب في ذيلها، و احتمال كون الواو في صدرها حاليّة، أو كون الأمر بغسل الفخذين لرعاية الاحتياط بملاحظة غلبة بقاء جزء من البول على رأس الحشفة، أو خروجه بعد المسح، و غير ذلك من الاحتمالات المانعة من صلاحيّة معارضة الصدر لظهور الذيل في نفي الوجوب.
و يمكن الاستدلال له أيضا بجملة من الأخبار التي لا يهمّنا الإطالة في إيرادها.
و ما يظهر من بعض من إنكار ظهور هذه الأخبار في المدّعى بإبداء احتمالات بعيدة مجازفة محضة.
نعم، يتوجّه على الاستدلال بمثل هذه الروايات أنّها أخبار آحاد قابلة للطرح و التأويل، و قد أعرض الأصحاب عن ظاهرها، فيجب ردّ علمها إلى أهله، و لا يجوز رفع اليد بواسطتها عن الحكم الذي انعقد الإجماع عليه، كما هو واضح.
______________________________
(1) التهذيب 1: 421/ 1333، الوسائل، الباب 26 من أبواب النجاسات، ح 1، و الباب 6 من تلك الأبواب، ح 2.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 32‌
و ممّا يقرّر الشبهات و يؤكّدها: خلوّ الأخبار عن التعرض لهذا الحكم، مع قضاء العادة بأنّه لو كان المتنجّس منجّسا على الإطلاق، لشاع التصريح به و بلوازمه في الأخبار، و لكان من أهم المسائل التي يسأل عنها الرواة ما يتفرع على هذه المسألة، مع أنّا لم نجد في الأخبار ما وقع فيها السؤال عن حكم ملاقيات المتنجّس، عدا الأخبار- التي تقدّم بعضها- الدالّة على نفي البأس عنها.
و دعوى أنّ مغروسيّة الحكم في أذهانهم أغنتهم عن المسألة عن فروعها، مدفوعة: بما نشاهد من حال العوام من أنّهم مع مغروسيّة السراية في أذهانهم لا زالوا يسألون عن فروعها التي يبتلون بها، و كيف لا! مع أنّ كثيرا من فروعها العامّة الابتلاء ممّا يتحيّر فيها العقول، فخلو الأخبار عن التصريح بهذا الحكم و عدم تعرّض السائلين للسؤال عن فروعها التي يعمّ الابتلاء بها ربما يورث القطع بعدم تحقّقه و عدم كون أمر النجاسة لديهم بهذه المرتبة من الضيق، المعروفة عندنا.
و الإنصاف أنّ ما قرّرناه من الشبهات و إن أمكن التفصّي عنها في الجملة ببعض التقريبات التي تقدّمت الإشارة إليها لكنّها مانعة من حصول القطع بمقالة المعصوم و استكشاف رأيه من اتّفاق العلماء بطريق الحدس خصوصا مع و هن الإجماع بمخالفة السيّد و الحلّي، فإنّه قد تمنع مخالفتهما من حصول الوثوق بمعروفيّة الحكم في عصرهم كمعروفيّته في هذه الأعصار، فيغلب على الظنّ استقرار المذهب عليه في الأعصار المتأخّرة عن عصر الشيخ، فلا يلزمه عادة وصول الحكم إليهم يدا بيد عن المعصوم، أو عثورهم على دليل معتبر غير ما‌



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 33‌
بأيدينا من الأدلّة، لإمكان اتّكال جلّهم على قاعدة اللّطف، التي لا نقول بها.
و كيف كان فقد أشرنا في صدر العنوان إلى أنّا لا نقول بحجّيّة اتّفاق العلماء من باب السببيّة أو الطريقيّة التعبّديّة، و إنّما نقول بحجّيّته، لكونه موجبا للقطع بمقالة المعصوم، فمن حصل له القطع بذلك فلا اعتراض عليه، و من لم يحصل له القطع به فليس له اتّباع المجمعين.
و كون إجماعهم سببا عاديّا للقطع غير مجد بعد فرض التخلّف في خصوص المورد.
نعم، لو اعتمدنا على قاعدة اللّطف أو قلنا بحجّيّة نقل الإجماع تعبّدا، لم يكن مناص عن الالتزام بكون المتنجّس منجّسا فيما لم يكن منافيا لما استقرّت عليه السيرة العمليّة، و مؤدّيا إلى الحرج الموجب لاختلال النظام، لكنّا لا نقول بشي‌ء منهما، و لم نجد من أنفسنا الجزم بمقالة المعصوم، و لذا أشكل علينا تأويل الأخبار المتقدّمة أو طرحها من غير معارض مكافئ.
و مع ذلك لا نقوى على مخالفة الأصحاب و الاستبداد بما نراه في مثل هذا الحكم الذي ربما يدّعى كونه ضروريّ المذهب، فالحكم عندي موقع تحيّر و تردّد، و لا جرأة لي في التخطّي عن الطريقة المعهودة لدى المتشرّعة المعتدلي الطريقة الذين لا يعدّون من أهل الوسواس و إن صعب عليّ تصوّر مناطه و الإذعان به، و لم يترجّح بنظري بالنظر إلى ما تقتضيه القواعد الاجتهاديّة إلّا ما تقدّمت «1» حكايته عن الحلّي.
______________________________
(1) في ص 7 و ما بعدها.



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 34‌
و لو سبقنا بعض مشايخنا المتأخّرين «1» إلى إنكار إطلاق كون المتنجّس منجّسا، لجزمت بذلك، إذ ليست مخالفة الأصحاب في هذه المسألة بأشكل من مخالفتهم في مسألة نجاسة البئر، بل كانت مخالفتهم في تلك المسألة أشكل بمراتب، لوضوح معروفيّة نجاسة البئر لدى المخالف و المؤالف من عصر الأئمّة عليهم السّلام، و مغروسيتها في أذهان الرواة و غيرهم من العلماء و مقلّديهم، دائرة على ألسنتهم و في جميع كتبهم الفقهيّة حتّى ارتكزت في نفوس العوام على وجه لم يذهب أثرها إلى الآن، و لذا كثيرا ما يسألون في موارد ابتلائهم عن حكم بئر ماتت فيها فأرة أو دجاجة أو غيرهما، زاعمين نجاستها بذلك، مع أنّ القول بها- على ما يظهر من بعض- قد نسخ منذ سنين متطاولة ربما تزيد عن ثلاثمائة سنة.
و أمّا هذه المسألة فلم نعثر على ما يشهد بمعروفيّتها على الإطلاق لدى‌
______________________________
(1) قوله: «و لو سبقنا بعض مشايخنا المتأخّرين» إلى آخره.
أقول و أنا المصنّف لهذا الكتاب: و لقد عثرت بعد حين على كلام طويل للسيّد صدر الدين طاب ثراه- في حاشيته على المختلف- صريح في إنكار السراية من المتنجّسات مطلقا، و نسبه كذلك إلى الحلّي و غيره، و نقل عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس [مشارق الشموس: 255] في مسألة الغسالة التأمّل في إثبات أن كلّ نجس منجّس بحيث يعمّ المتنجّسات، و أطال الكلام في النقض و الإبرام في إثبات مرامه، من أراده فليراجع.
و لو تأمّلت فيما حرّرناه في تحقيق المقام، لظهر لك أنّ ما ذهب إليه من إنكار السراية مطلقا حتى من المائعات الملاقية لأعيان النجاسات غير سديد، و أنّ نسبته كذلك إلى الحلّي محلّ نظر.
و لكنّه قدس سره بعد أن ذكر حجج القائلين بالسراية قال ما لفظه: أقول: ما ذكرناه من حجج هذا القول من الأخبار إن سلّم دلالتها على تنجيس الملاقي للنجاسة لشي‌ء آخر، فلا يمكن دعوى دلالتها على المراتب الأخر و إن ذهب لا إلى نهاية، و إنّما التعويل فيها على الإجماع، فتأمّل و لا تقلّد، فإن اطمأنّت نفسك به فاحكم و اعمل بمقتضاه، و أمّا الاحتياط فحديث آخر. انتهى.
(منه رحمه الله).



مصباح الفقيه، ج‌8، ص: 35‌
المتشرّعة في عصر الأئمّة عليهم السّلام، بل و لا بين العلماء في الطبقة الأولى، بل قد أشرنا فيما تقدّم «1» إلى أنّه ربما يشهد خلوّ الأخبار- سؤالا و جوابا- عن التعرّض لهذا الحكم و لفروعه بعدم معروفيّته لدى الرواة، كما يشعر تعرّض الحلّي لتفصيل مواقع السراية و إنكار السيّد لها رأسا- على ما يقتضيه ظاهر عبارته المتقدّمة «2»- بعدم كونها في عصرهم- كما نراها في هذه الأعصار- من المسلّمات، و ربما يستشمّ ذلك أيضا من عبارة الإسكافي، الآتية «3» في الفرع الآتي، فمخالفتهم في هذه المسألة أهون، و لكن منعتنا من ذلك وحشة الانفراد و كثرة عثرات المستبدّين بآرائهم، و لنعم ما قيل: إنّ مخالفة المشهور مشكل، و موافقتهم من غير دليل أشكل، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.
________________________________________
همدانى، آقا رضا بن محمد هادى،
مصباح الفقيه، 14 جلد، مؤسسة الجعفرية لإحياء التراث و مؤسسة النشر الإسلامي، قم - ايران، اول، 1416 ه‍ ق