بسم الله الرحمن الرحیم
رسالة حول مسألة رؤیة الهلال، ص 43-46
نعم يبقي هنا سؤال معرفة مناط اتّحاد الاُفق و اختلافه.
و الذي يمكن أن يُغري بعضَ الأعلام إلى الميل إلى برفض مسألة الاتّحاد في الآفاق بالنسبة إلى دخول الشهر هو عدم تعيين مناطٍ خاص لهذه المسألة في كتب النّجوم والهيئة. حيث إنّ الشافعيّة الموافقين لنا في لزوم الاتّحاد في الآفاق التزم بعضهم بأنّ مناط الاختلاف هو مسافة القصر و بعضهم بأنّ المناط هو أربعةٌ و عشرون فرسخاً كلّ ذلك دعويً بلا دليل و قياسٌ بمسافة القصر في الصلاة و أين هذا من ذاك؟ و الذي يسهّل الخطب أوّلاً: أ نّ عدم تعيين الآفاق لا يوجب رفع اليد عن الحكم الذي بيّنّا و الالتزامَ بخلافه الذي لا يمكن الالتزام به. و ثانياً: أنّ الاتّحاد و الاختلاف في الآفاق بالنسبة إلى رؤية القمر هو الاتّحاد و الاختلاف في مطالعه كما عليه العلماء. و لكن لم يُرَ لأحدٍ منهم تعيين ضابطةٍ كلّيّةٍ للمطالع.
[بيان ضابطة كلّيّة لتعيين الحدّ في اشتراك الاُفق]
و الذي ألهمنا الله تبارك و تعالى في ضبط قاعدة كلّيّةٍ للآفاق المتحدة بالنسبة إلى مطالع القمر، هو الاستمداد من زمان غروب القمر في النواحي المختلفة؛ و هو الرابطة بين الزمان و المكان: زمان مكث القمر فوق الاُفق حتّى يغرب، و المكان البعيد شرقاً عن محلّ الرُّؤية. بيان ذلك: أنّ كلّ درجةٍ من مكث القمر فوق الاُفق يطول أربع دقائق؛ لأنّ غروبه إنّما هو بسبب الحركة الوضعيّة للأرض من المغرب إلى المشرق. و الأرض تسير نحوالمشرق كلّ درجةٍ منها في أربع دقائق. فإذا فرضنا أنّ البعد المعدل الذي هو عبارة عن الفصل بين مَغيبي النيّرين في محلّ الرُّؤية يكون عشر درجات أحياناً؛ ففي هذه الصورة يغرب القمر بَعد أربعين دقيقةً؛ بمعنى أنّ الأرض تسير نحو المغرب عشر درجات طولاً في مدّة أربعين دقيقةً حتّى تُخفي القمر تحتها؛ و بهذه الحركة يصير محلّ الرُّؤية بعيداً عن المدار بقدر أربعين دقيقةً؛ و يصل إلى محلٍّ لم ير القمر حين يراه جميع البلاد التي قبله.
فالبلاد الواقعة بين محلّ الرُّؤية، و المحلّ الذي يكون طوله نحو المشرق أربعين دقيقةً، متّحدة الآفاق مع محلّ الرُّؤية؛ لأنّ القمر في زمان الرُّؤية يكون قابلاً لها في جميع هذه البلاد ولو بلحظةٍ. البلاد التي تكون قريبةً بالنسبة إلى محلّ الرُّؤية ترى القمر أطول زماناً من البلاد التي تكون بعيدةً عنه؛ و الجميع مشترك في إمكان الرُّؤية؛ و هو المُعبّر عنه بالآفاق المشتركة. لكنّ القمر لم يطلع في جميع الشهور على نسق واحدٍ حتّى تكون الآفاق المتحدة مع محلّ الرُّؤية ثابتةً بل بناءً على ما مرّ عليك من طلوع القمر في بعض الأحيان قريباً من تقويم الشّمس، و في بعضها بعيداً عنه و هو المعبّر عنه بالبُعد السّوي أوّلاً؛ و من قرب مغربَيهما تارةً و بُعدهما أُخرى، و هو المعبّر عنه بالبعد المعدل ثانياً؛ و بارتفاعه عن الاُفق تارةً وانخفاضه أُخرى ثالثاً؛ و بلحاظ اختلاف النّواحي و الأصقاع طولاً و عرضاً رابعاً؛ و بسائر الجهات الدخيلة في الرُّؤية خامساً؛ لابدّ و أن نبيّن تقويم القمر في أوّل كلّ شهرٍ عليحدة، حتّى نحكم باتّحاد آفاق البلاد التي يكون فيها الهلال قابلاً للرؤية بحسب تلك الشهور. و معلوم أنّه لا يتيسّر لنا الوصول إلى هذا المرام إلاّ بحساب رياضيّ دقيقٍ جدّاً لكلّ شهرٍ بحذائه؛ لكنّ القواعد الشرعيّة المبنيّة على المسأهلات تأبى ذلك كلّه؛ فاعتبار المطالع المحوِجة إلى الحساب و تحكيم المنجّمين غير مقبولٍ شرعاً. فلا مناص إلاّ بالأخذ بالقدر المشترك في الآفاق؛ أي الذي يشترك فيه جميع الشهور. فبناءً عليه نقول: إنّ أقلّ درجة البعد المعدل للقمر حتّى يصير قابلاً للرؤية يكون ثماني درجات؛ فأقلّ مدّة بقاء القمر في السماء فوق الاُفق المحلّي في أوّل دخول الشهر يكون على حوالي نصف ساعةٍ بعد غروب الشّمس؛ و يغيب بعد مضيّ هذه المدّة؛ فكلّ بلدٍ شرقيّ قريب العرض بالنسبة إلى محلّ الرُّؤية إذا كان الاختلاف بينه و بين محلّ الرُّؤية بقدر نصف ساعةٍ طولاً، يجوز له رؤية الهلال في الاُفق بعد الغروب بمدّة عشرين دقيقةً، أو خمس عشرةً دقيقةً، أو عشر دقائق، أو خمسة دقائق، أو دقيقتين، إلى دقيقة واحدةٍ، حتّى إلى لحظةٍ واحدةٍ، إذا حصلت الرُّؤية في بلدها وقت غروب الشّمس. فجميع هذه البلاد، متّفقة الآفاق مع محلّ الرُّؤية و إن لم يَرَ أهلُها الهلال. مثلاً إذا رئي الهلال في طهران، فيجوز رؤيته في سِمْنان الواقع في شرقه بتسع دقائق طولاً؛ و في دَامْغان بثلاث عشرة دقيقةً، و في شاهرود بستَّ عشرة دقيقةً؛ و في سَبْزوار بسبع و عشرين دقيقةً؛ و في نَيسابور باثنين و ثلاثين دقيقةً؛ و في المشهد الرضويّ على ثاويه آلاف التحيّة و الثناء بثلاث و ثلاثين دقيقةً. و كذا تجوز الرُّؤية في البلاد القريبة طولاً من هذه البلاد، و إن اختلفتا عرضاً في الجملة، كآمل و ساري شمالاً و قُمّ و إصْبَهان جنوباً. و كذا تجوز الرُّؤية في البلاد الغربيّة بالنسبة إلى طهران طولاً إذا كان عرضها قريباً من عرضه، كهَمَدان و كِرْمَنْشاه و خانِقَيْن و بغداد و القاهرة و غيرها. فإذن يستفاد ممّا ذكرنا ضابطةٌ كلّيّة و هي: الآفاق المشتركة عبارةٌ عن جميع البلاد الغربيّة القريبة العرض بالنسبة إلى مطلع القمر، و جميع البلاد الشرقيّة التي كانت مشتركةً في إمكان الرُّؤية مع بلدٍ الرُّؤية ولو بلحظةٍ؛ واقعةً في الطول الجغرافيائي بمسافة اثنتين و ثلاثين دقيقةً زماناً.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال؛ ص: 3
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 3
كلام العلّامة الخوئي حول رؤية الهلال
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضّٰالِّينَ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 7
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللّه على محمّد و آله الطّاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين لا يخفى أنّ سماحة الآية الحجّة أستاذنا العلّامة المحقّق الحاج السيّد أبى القاسم الخوئي مدّ ظلّه العالي أصدر فتوى منه حول مسألة رؤية الهلال، على عدم لزوم اتّحاد البلاد في الآفاق، و كفاية الرّؤية الإجماليّة لجميع الأصقاع و النّواحي في العالم.
و أدرجها مع ما استدلّ عليه دام ظلّه في رسالة منهاج الصّالحين.
و لمّا كانت هذه الفتوى مع الأدلّة الّتي أقامها عليها غير تامّة عندي على حسب نظري القاصر، كتبت رسالة و أرسلتها إلى حضرته، و بيّنت فيها مواضع النّقد و التّزيف، و أقمت براهين و شواهد على أنّ الحقّ هو فتوى المشهور، بلزوم الاتّحاد في الآفاق في الرؤية، و عدم كفاية الرؤية للآفاق البعيدة.
و ها نحن نورد أوّلا عين عباراته دام ظلّه في رسالة المنهاج، ثمّ نورد عين الرّسالة المرسلة، حتّى تتبيّن مواقع الجواب، و يتّضح تطبيقه على مواضع ما أفاده مدّ ظلّه من كلامه.
قال مدّ ظلّه: مسئلة 75:
إذ ارئى الهلال في بلد كفى في الثّبوت في غيره مع اشتراكهما في الآفاق، بحيث إذ ارئى في بلد الرؤية، رئي فيه، بل الظّاهر كفاية الرؤية في بلد ما في الثّبوت لغيره من البلاد مطلقا بيان ذلك: البلدان الواقعة على سطح الأرض تنقسم إلى قسمين:
أحدهما ما يتّفق مشارقه و مغاربه أو تتقارب.
ثانيهما ما تختلف مشارقه و مغاربه اختلافا كبيرا.
أمّا القسم الأوّل، فقد اتّفق علماء الإماميّة على أنّ رؤية الهلال في بعض هذه
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 8
البلاد كافية لثبوته في غيرها، فإنّ عدم رؤيته فيه إنّما يستند لا محالة إلى مانع يمنع من ذلك، كالجبال أو الغابات أو الغيوم أو ما شاكل ذلك.
و أمّا القسم الثّاني (ذات الآفاق المختلفة) فلم يقع التّعرّض لحكمه في كتب علمائنا المتقدّمين، نعم حكى القول باعتبار اتّحاد الأفق عن الشّيخ الطّوسي في المبسوط، فإذن المسألة مسكوت عنها في كلمات أكثر المتقدّمين، و انّما صارت معركة للآراء بين علمائنا المتأخّرين.
المعروف بينهم القول باعتبار اتّحاد الأفق و لكن قد خالفهم فيه جماعة من العلماء و المحقّقين، فاختاروا القول بعدم اعتبار الاتّحاد و قالوا بكفاية الرّؤية في بلد واحد لثبوته في غيره من البلدان و لو مع اختلاف الأفق بينهما.
فقد نقل العلّامة في التّذكرة هذا القول عن بعض علمائنا و اختاره صريحا في المنتهى و احتمله الشّهيد الأوّل في الدّروس و اختاره صريحا المحدّث الكاشاني في الوافي و صاحب الحدائق في حدائقه و مال إليه صاحب الجواهر في جواهره و النّراقي في المستند و السيّد أبو تراب الخونسارى في شرح نجاة العباد و السيّد الحكيم في مستمسكه.
و هذا القول أي كفاية الرّؤية في بلد ما لثبوت الهلال في بلد آخر و لو مع اختلاف افقها هو الأظهر. و يدلّنا على ذلك أمران:
الأوّل: أنّ الشّهور القمريّة إنّما تبدأ على أساس وضع سير القمر و اتّخاذه موضعا خاصّا من الشّمس في دورته الطّبيعيّة و في نهاية الدّورة يدخل تحت شعاع الشّمس و في هذه الحالة (حالة المحاق) لا يمكن رؤيته في أيّة بقعة من بقاع الأرض، و بعد خروجه عن حالة المحاق و التمكّن من رؤيته ينتهى شهر قمرىّ و يبدء شهر قمرىّ جديد.
و من الواضح أنّ خروج القمر من هذا الوضع هو بداية شهر قمرىّ جديد لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها و مغاربها، لا لبقعة دون اخرى، و إن كان القمر مرئيا في بعضها دون الآخر، و ذلك لمانع خارجيّ كشعاع الشّمس أو حيلولة بقاع الأرض أو ما شاكل ذلك، فإنّه لا يرتبط بعدم خروجه من المحاق، ضرورة أنّه ليس لخروجه منه أفراد عديدة، بل هو فرد واحد متحقّق في الكون، لا يعقل تعدّده بتعدّد البقاع و هذا بخلاف طلوع الشّمس، فإنّه يتعدّد بتعدّد البقاع المختلفة، فيكون لكلّ بقعة طلوع خاصّ بها.
و على ضوء هذا البيان فقد اتّضح أنّ قياس هذه الظّاهرة الكونيّة بمسئلة طلوع الشّمس و غروبها، قياس مع الفارق، و ذلك لأنّ الأرض بمقتضى كرويّتها تكون بطبيعة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 9
الحال لكلّ بقعة منها مشرق خاصّ و مغرب كذلك، فلا يمكن أن يكون للأرض كلّها مشرق واحد و لا مغرب كذلك، و هذا بخلاف هذه الظّاهرة الكونيّة، أى خروج القمر عن منطقة شعاع الشّمس، فإنّ لعدم ارتباطه ببقاع الأرض و عدم صلته بها لا يمكن أن يتعدّد بتعدّدها.
و نتيجة ذلك: أنّ رؤية الهلال في بلد ما أمارة قطعيّة على خروج القمر عن الوضع المذكور الّذي يتّخذه من الشّمس في نهاية دورته، و بداية لشهر قمرىّ جديد لأهل الأرض جميعا، لا لخصوص البلد الّذي يرى فيه و ما يتّفق معه في الأفق.
و من هنا يظهر أنّ ذهاب المشهور إلى اعتبار اتّحاد البلدان في الأفق مبنىّ على تخيّل ارتباط خروج القمر عن تحت الشعاع ببقاع الأرض، كارتباط طلوع الشّمس و غروبها، إلّا انّه لأصله- كما عرفت- لخروج القمر عنه ببقعة معيّنة دون أخرى، فإنّ حاله مع وجود الكثرة الأرضيّة و عدمها سواء.
الثّاني: النّصوص الدّالّة على ذلك و نذكر جملة منها:
1- صحيحة هشام بن الحكم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام: أنّه قال فيمن صام تسعة و عشرين قال: إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوما.
فإنّ هذه الصّحيحة بإطلاقها تدلّنا بوضوح على أنّ الشّهر إذا كان ثلاثين يوما في مصر كان كذلك في بقيّة الأمصار بدون فرق بين كون هذه الأمصار متّفقة في آفاقها أو مختلفة، إذ لو كان المراد من كلمة مصر فيها المصر المعهود المتّفق مع بلد السائل في الأفق لكان على الإمام عليه السّلام أن يبيّن ذلك، فعدم بيانه مع كونه عليه السّلام في مقام البيان كاشف عن الإطلاق.
2- صحيحة أبي بصير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن اليوم الّذي يقضى من شهر رمضان، فقال: لا تقضه الّا أن يثبت شاهدان عادلان من جميع أهل الصّلاة متى كان رأس الشّهر، و قال: لا تصم ذلك اليوم الّذي يقضى الّا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه.
الشاهد في هذه الصّحيحة جملتان: الأولى قوله عليه السّلام: «لا تقضه إلّا ان يثبت شاهدان عادلان من جميع أهل الصّلاة» إلخ فإنّه يدلّ بوضوح على أنّ رأس الشّهر القمريّ واحد بالإضافة إلى جميع أهل الصّلاة على اختلاف بلدانهم باختلاف آفاقها
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 10
و لا يتعدّد بتعدّدها.
الثانية قوله عليه السّلام: لا تصم ذلك اليوم إلّا أن يقضي أهل الأمصار، فإنّه كسابقه واضح الدّلالة على أنّ الشّهر القمريّ لا يختلف باختلاف الأمصار في آفاقها، فيكون واحدا بالإضافة إلى جميع أهل البقاع و الأمصار و إن شئت فقل: إنّ هذه الجملة تدلّ على أنّ رؤية الهلال في مصر كافية لثبوته في بقيّة الأمصار، من دون فرق في ذلك بين اتّفاقها معه في الآفاق أو اختلافها فيها، فيكون مردّه إلى أنّ الحكم المترتّب على ثبوت الهلال، أى خروج القمر عن المحاق حكم لتمام أهل الأرض، لا لبقعة خاصّة.
3- صحيحة إسحاق بن عمّار قال: سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان، فقال: و لا تصمه إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه.
فهذه الصّحيحة ظاهرة الدّلالة بإطلاقها على أنّ رؤية الهلال في بلد تكفى لثبوته في سائر البلدان بدون فرق بين كونها متّحدة معه في الأفق أو مختلفة، و إلّا فلا بدّ من التّقييد بمقتضى و رودها في مقام البيان.
4- صحيحة عبد الرّحمن بن ابى عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان، فقال: لا تصم إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه.
فهذه الصحيحة كسابقتها في الدّلالة على ما ذكرناه.
و يشهد على ذلك ما ورد في عدّة روايات في كيفيّة صلاة عيدي الأضحى و الفطر و ما يقال فيها من التّكبير من قوله عليه السّلام في جملة تلك التكبيرات:
أسألك بحقّ هذا اليوم الّذي جعلته للمسلمين عيدا.
فإنّ الظّاهر أنّ المشار إليه في قوله عليه السّلام: «هذا اليوم» هو يوم معيّن خاصّ الّذي جعله اللّه تعالى عيدا للمسلمين، لا أنّه كلّ يوم ينطبق عليه أنّه يوم فطر أو أضحى على اختلاف الأمصار في رؤية الهلال باختلاف آفاقها.
هذا من ناحية، و من ناحية اخرى أنّه تعالى جعل هذا اليوم عيدا للمسلمين كلّهم، لا لخصوص أهل بلد تقام فيه صلاة العيد.
فالنّتيجة على ضوئهما أنّ يوم العيد واحد لجميع أهل البقاع و الأمصار على اختلافها في الآفاق و المطالع.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 11
و يدلّ أيضا على ما ذكرناه الآية الكريمة في أنّ ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في آفاقهم، ضرورة أنّ القرآن نزل في ليلة واحدة، و هذه اللّيلة الواحدة هي ليلة القدر و هي خير من ألف شهر و فيها يفرق كلّ أمر حكيم.
و من المعلوم أنّ تفريق كلّ أمر حكيم فيها لا يخصّ بقعة معيّنة من بقاع الأرض، بل يعمّ أهل البقاع أجمع. هذا من ناحية و من ناحية أخرى قد ورد في عدّة من الرّوايات أنّ في ليلة القدر يكتب المنايا و البلايا و الأرزاق و فيها يفرق كلّ أمر حكيم.
و من الواضح أنّ كتابة الأرزاق و البلايا و المنايا في هذه اللّيلة إنّما تكون لجميع أهل العالم، لا لأهل بقعة خاصّة، فالنّتيجة على ضوئهما أنّ ليلة القدر ليلة واحدة لأهل الأرض جميعا، لا أنّ لكلّ بقعة ليلة خاصّة.
هذا مضافا إلى سكوت الرّوايات بأجمعها عن اعتبار اتّحاد الأفق في هذه المسألة، و لم يرد ذلك حتّى في رواية ضعيفة.
و منه يظهر أنّ ذهاب المشهور إلى ذلك ليس من جهة الرّوايات، بل من جهة ما ذكرناه من قياس هذه المسألة بمسألة طلوع الشّمس و غروبها و قد عرفت أنّه قياس مع الفارق- انتهى ما أفاده أطال اللّه عمره.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 13
الموسوعة الاولى حول رؤية الهلال
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 15
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و صلّى اللّه على محمد و آله الطّاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.
السّلام عليك يا أمير المؤمنين و إمام الموحّدين و سيّد الوصيّين و قائد الغرّ المحجّلين و رحمة الله و بركاته
و حياة أشواقى إليك و تربة الصّبر الجميل |
|
ما استحسنت عيني سواك و ما صبوت الى خليل |
أيا كعبة الحسن الّتي لجمالها |
|
قلوب أولى الألباب لبّت و حجّت |
بريق الثّنايا منك أهدى لنا سنا |
|
بريق الثّنايا فهو خير هديّة |
و أوحى لعيني أنّ قلبي مجاور |
|
حماك فتاقت للجمال و حنّت |
و لولاك ما استهديت برقا و لا شجت |
|
فؤادي فأبكت إذ شدت ورق أيكة |
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 16
سلام على السّيد السّند و الحبر المعتمد استاذنا الأفخم العلم العالم العلّام حجّة المسلمين و الإسلام الآية العظمى الحاج السّيد أبي القاسم الخوئي أمدّ اللّه أظلاله الشّارفة و بلّغه غاية مناه بحقّ محمّد و عترته الطّاهرة.
أرج النّسيم سرى من الزّوراء |
|
سحرا فأحيا ميّت الأحياء |
و لفتية الحرم المنيع وجيرة ال |
|
- حيّ المريع تلفّتى و عنائي |
وا حسرتا ضاع الزّمان و لم أفز |
|
منكم اهيل مودّتي بلقاء |
و متى يؤمّل راحة من عمره |
|
يومان يوم قلى و يوم تناء |
يا ساكني البطحاء هل من عودة |
|
أحيى بها يا ساكني البطحاء |
أن ينقضي صبري فليس بمنقض |
|
وجدي القديم بكم و لا برحائى |
واها على ذاك الزّمان و ما حوى |
|
طيب المكان بغفلة الرّقباء |
أيّام أرتع في ميادين المنى |
|
جذلا و أرفل في ذيول حباء |
ما أعجب الأيّام توجب للفتى |
|
منحا و تمنحه بسلب عطاء |
و كفى غراما إن أبيت متيّما |
|
شوقي إمامي و القضاء ورائي |
و بعد إهداء أحسن مراتب السّلام و أكمل التّحيّات و أتمّ الإكرام و إبراز غاية ودّى و إخلاصي و ولهي و فرط اشتياقى إلى لقيا طلعتك المنيرة و وجهك الميمون و الاستمطار من شآبيب فيضك الواسع و نفحات سرّك المصون.
أحمده على آلائه الّتي منها أن وفّقني للمثول بين يديك في هذه اللّحظات بهذه الوريقات بالكتابة الّتي هي إحدى اللّقائين؛ كما أحمده على بلائه الّذي منه أن حرمني منذ سنين عديدة عن التّشرّف باستلام عتبة باب العلم و معدن الحكمة مولانا أمير المؤمنين عليه صلوات اللّه و الملائكة المقرّبين؛ و عن زيارة سماحتك بوّابه الآية الحجّة؛ جعله الله من عباده المخلصين و أوليائه المقرّبين؛ آمين ربّ العالمين.
ثمّ انّى طالما كنت مطّلعا على فتياكم في مسألة رؤية الهلال و عدم لزول الاشتراك
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 17
في الآفاق في رسالة منهج الصّالحين؛ و لكنّ المانع من تذكاري إيّاكم بجهات المسألة أوّلا: أنّ اختلاف الآراء أمر دارج بين الطّلبة و الأعلام؛ و ثانيا: أنّ مثلي مع ضيق النّطاق و قصور الباع و البضاعة المزجاة لا يليق للتعرّض حوم هذه المسائل؛ و لكن لمّا كان عيد الفطر في هذه السّنة معركة عجيبة في جميع النّواحي و باعثا للاختلاف الشديد الموجب لترك الجماعات و سقوط الأبّهة و العظمة و بروز النّفاق و أيادى الشّيطان؛ هذا من ناحية؛ و من ناحية اخرى؛ أنّ صدرك الواسع و حجرك المبسوط أجازا للمشتغلين من قديم الأيّام، البحث و النّقد، و إن طالا و اتّسعا مع اللّطف و الكرامة و الإرشاد و الهداية؛ صلّيت و استخرت الله ثمّ أجزت نفسي و تجرّأت أن أكتب لسماحتك مطالب حول هذه المسألة، فإن تلقّيتها بعين القبول و الرّضا فلا مناص من تجديد النظر و تبديل الكلام بفتوى لزوم الاشتراك في الآفاق. و ما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت و إليه أنيب.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الحمد لله ربّ العالمين الّذي جعل الشّمس ضياء و القمر نورا ليعلم النّاس عدد السّنين و الحساب. قال عزّ من قائل فٰالِقُ الْإِصْبٰاحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْبٰاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1»، و قال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ «2» و قال الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ «3».
و صلّى الله على خير من اوتى جوامع الكلم و فصل الخطاب، نبيّنا الأعظم، محمّد بن عبد الله الحميد المحمود و على آله الطّيبين الطّاهرين أمناء المعبود.
و بعد فهذه رسالة حول مسألة رؤية الهلال، جمعت فيها ما مرّ على فكرى القاصر و خطر على قلبي الفاتر، من لزوم اشتراك البلدان في الآفاق بالنسبة إلى رؤية الهلال في الحكم بدخول الشّهر الهلاليّ و عدم كفاية الرؤية في الآفاق البعيدة.
فنقول بحول الله و قوّته و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العلىّ العظيم:
إنّ البحث حول هذه المسألة يقع في جهتين، الأولى: الجهة العلميّة، و الثّانية:
الجهة الشّرعيّة.
______________________________
(1) سورة الأنعام: 6- الآية 96.
(2) سورة البقرة: 2- الآية 189.
(3) سورة الرحمن: 55- الآية 5.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 18
أمّا البحث عن الجهة الأولى
فسرد الكلام فيها يقع بعد تمهيد مقدّمات
و إن كان بعضها نافعا للجهة الشرعيّة أيضا.
الأولى: نسبة القرب و البعد بين الكرتين من الكرات السّماويّة لا تختلف،
سواء جعلنا الاولى ساكنة و الأخرى متحرّكة أو بالعكس، فما في فرضيّة بطلميوس من سكون الأرض و حركة الشّمس حولها و حركة القمر حول الأرض لا يوجب اختلافا في القرب و البعد و النّسبة سواء.
إنّ مدار حركة الأرض حول الشّمس في الهيئة الجديدة عبارة عن منطقة البروج الّتي كانت مدارا لحركة الشّمس حول الأرض في الهيئة القديمة.
و لذلك لا يرى الاختلاف الفاحش بين الزّيجات المستخرجة من مرصودات المتقدّمين كصاحب المجسطى: بطلميوس و البتّانى و الحكيم محيي الدين المغربيّ و المحقّق الطوسيّ و الرّاصدين في سمرقند و الزّيج الهندي و الزّيج البهادرىّ و أصحاب زيج الغ بيك و بين حساب منجّمى الغرب جميعا، و القليل من الاختلاف المشاهد بينهما إنّما هو بسبب أدقّية نظر المتأخّرين.
و العجب أنّ زيج لورية الفرانسوىّ مثل الزّيج البهادرىّ في غالب المحاسبات و هو أدقّ الزّيجات. نعم إن كان بينهما فرق و اختلاف ففي الثّواني و الثّوالث و الرّوابع و أحيانا في الدّقائق لا في الدّرجات في الأغلب، هذا مع بعد العهد و طول الزّمن.
الثّانية: أنّ القمر يدور حول الأرض من المغرب إلى المشرق دورا كاملا
يساوى 360 درجة في طول 27 يوما و 8 ساعات تقريبا. و هذه المدّة تسمّى شهرا نجوميّا. فالقمر يطوي المدار نحو المشرق كلّ درجة منه قريب ساعتين.
و بما أنّ الأرض بحركتها الانتقاليّة أيضا تسير نحو المشرق دورا كاملا يساوى 360 درجة في طول 365 يوما و ربع يوم، فتطوى المدار نحو المشرق كلّ يوم ما يقرب درجة و هو 59 دقيقة و 58 ثانية يعني أقلّ من درجة بقليل فلا بدّ عند محاسبة الشّهر الهلاليّ الملحوظ فيه الزّمان الحاصل بين اقترانيهما المتواليين أن يلاحظ مجموع مقدار حركة القمر و حركة الأرض و هذا الزّمان يبلغ 29 يوما و 13 ساعة تقريبا و هذه المدّة تسمّى شهرا هلاليّا.
فالقمر في الشهر الهلاليّ يدور في المدار دورا أزيد من الدّورة الكاملة و هو
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 19
389 درجة تقريبا.
الثالثة: أنّ الشّهر القمريّ و هو فصل زمان مقارنتي الشمس و القمر المتواليتين
أو مقابلتهما كذلك أو فصل زمان وقوعي الشّمس و القمر المتواليين على خطّ نصف النّهار الواحد يطول تسعة و عشرين يوما و اثنتي عشرة ساعة و أربعا و أربعين دقيقة تحقيقا.
(44/ 12/ 29) فلمّا كان هذا المقدار يتعسّر ضبطه بل يتعذّر العلم به لعامّة النّاس فلا يعرفه إلّا الأوحديّ العالم الخبير بالزّيجات المستخرجة من الأرصاد الصّحيحة الدّقيقة جعلوا «1» شهرا واحدا ثلاثين يوما و آخر تسعة و عشرين يوما و هكذا إلى آخر السّنة فيصير مجموع الأيّام على هذا النّهج في السّنة الكاملة القمريّة يساوى ثلاثمأة و أربعا و خمسين يوما و ثمان ساعات و ثمان و أربعين دقيقة 48/ 8/ 354 (44/ 12/ 29) 12 ثمّ لمّا كان هذا المقدار أزيد من 354 يوما بثمان ساعات و ثمان و أربعين دقيقة (48/ 8) جعلوا للسّنوات القمريّة كبائس فجعلوا لكلّ ثلاث سنين تقريبا سنة كبيسة و لكلّ ثلاثين سنة إحدى و عشرة سنة كبيسة تحقيقا و جعلوا في هذه السّنة الشّهور التّامّة سبعة و الشّهور النّاقصة خمسة فيصير المجموع 355 يوما و على هذا النّهج كانوا يستخرجون التّقاويم و جعلوا الكبائس سنة 2 و 5 و 7 و
______________________________
(1) و سمّوا الأوّل شهرا وسطيّا و هذا الشهر شهرا حقيقيّا و الأوّل مبنى الأرصاد و الثّاني يستخرج من الأوّل بعد محاسبة التعديلات و غيرها (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 20
10 و 13 و 16 و 18 و 21 و 24 و 27 و 29.
كلّ هذا على منهج الملل و الأقوام قبل الإسلام و بعده الّذين جعلوا الشّهور القمريّة مبدء تواريخهم بلا نظر إلى الأمور الشرعيّة.
الرّابعة: أنّ كلّ كوكب إذا أشرق على كوكب آخر أصغر منه
يكون نصف الطرف المستشرق من الكوكب الأصغر المواجه للكوكب الأكبر أكبر من الطّرف الآخر المظلم الّذي لا يواجه الكوكب المشرق.
فإذن يحدث بهذا الإشراق ظلّ مخروطىّ ممدود تكون قاعدته الدائرة الصغيرة المنطبقة على دائرة فصل النّور و الظّلمة.
فلمّا كانت الأرض أصغر من الشّمس بكثير فبطلوع الشمس و إشراقها يحدث ظلّ مخروطيّ طويل تكون قاعدته ما يقرب من الدائرة العظيمة فيظلم نصف الأرض الواقع في هذا المخروط.
و بما أنّ الأرض تدور حول نفسها مرّة واحدة في كلّ يوم و ليلة بحركتها الوضعيّة فلا محالة يدور هذا الظّلّ المخروطيّ حول الأرض دائما و لا يمكث آنا أبدا و إن شئت فقل إنّ الأرض تدور دائما في هذا الظّلّ المخروطيّ.
فابتداء اللّيل في كلّ ناحية هو أوّل دخول الأرض في هذا المخروط. فلا محالة لا يكون في جميع العالم ابتداء اللّيل إلّا في خطّ واحد «1» شمالا و جنوبا و هذا الخطّ هو
______________________________
(1) ما ذكرنا من انطباق أوّل اللّيل على خطّ واحد شمالا و جنوبا إنّما هو على المسامحة للدّلالة على المقصود على سبيل التقريب إلى الذّهن، و الّا ففي الحقيقة لا يكون أوّل اللّيل في نقطة من الأرض الّا إذا دخلت هذه النّقطة في نقطة من دائرة الظّل المخروطىّ و هذه الدائرة صغيرة لا تكاد تمرّ على القطبين لكنّها في أوّل الحمل و أوّل الميزان حيث انطبقت دائرة معدّل النّهار على منطقة البروج تكون موازية لدائرة نصف نهار مارّ على القطبين و في غيرهما حيث تسير الأرض شمالا و جنوبا و يصير المعدّل بعيدا عن المنطقة إلى نهاية مقدار 23 درجة و 30 دقيقة و 17 ثانية فلا محالة خرجت عن الموازاة، و هكذا الأمر بالنسبة إلى آخر اللّيل و هو الخروج عن الظّلّ. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 21
نصف النّهار للبلاد الواقعة جميعا في طول واحد إذا بلغ حدّ غروب الشّمس.
و بهذه المناسبة لا يكون آخر اللّيل و هو الخروج عن الظّلّ إلّا في خطّ واحد كذلك.
و لا يكون نصف اللّيل و ثلثه و ربعه و خمسه و هكذا إلّا في خطوط خاصّة لا يتعدّاها إلى غيرها.
و بالمناسبة الإضافيّة أيضا لا يكون أوّل النّهار و آخره و وسطه إلّا في خطوط خاصّة بعينها لا يتعدّاها إلى غيرها، لأنّ الظّلّ المخروطىّ حيث يتحرّك، يتحرّك بتبعه نصف كرة الأرض المستضيء بتبع حركة الظّلّ المخروطىّ، ففي كلّ نقطة من نقاط العالم على حسب اختلاف مشرقه و مغربه يوم خاصّ و ليلة خاصّة.
فاللّيل و النّهار في بلدة طهران مثلا غير اللّيل و النّهار في ما يليها من البلاد الواقعة في المشرق و المغرب كسمنان و همدان مثلا.
الخامسة: قسّموا الدائرة الكاملة ثلاثمأة و ستّين درجة،
فقسّموا الأرض بما انّها تدور حول نفسها على محور القطبين شرقا و غربا على 360 درجة.
و اعتبروا هذا التّقسيم في البلاد مبتدئا من جزائر خالدات الّتي كانت في غرب إسبانيا مائلا نحو المشرق و سمّوها بالطّول الجغرافيائى.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 22
مثلا قالوا إنّ طول مكّة 77 درجة «1» يعنى انّها بعيدة عن هذه الجزيرة شرقا بهذا المقدار.
و لمّا أصبحت هذه الجزائر غريقة تحت الماء «2» ذهبوا يعيّنون المبدء من رصد كرنويج الواقع في ناحية الشّمال الغربيّ من مدينة لندن و ذلك، لأنّ هذه المدينة واقعة في ما يقرب من أوّل المعمورة طولا من الرّبع المسكون و لا يختلف طولها عن جزائر خالدات إلّا بدرجات قليلة أوّلا، و لأنّ فيها رصدا يمكن النظر إلى الكواكب جميعا و إلى السّيّارات و الشّمس و القمر و إرصادها في أيّ نقطة من المدار ثانيا.
فإذا وصل مركز الشّمس إلى نصف النّهار بالنّسبة إلى ذلك الرّصد، جعلوا يقدّرون أوّل مبدء الطّول.
المنجّم المعروف: فلا فلامستيد في القرن الثامن عشر الميلادى كان رئيسا لهذا الرّصد، و ألّف تأليفات نافعة لطول البلاد و عرضها و خرائط مهمّة و طرقا نافعة لإرصاد الكواكب.
و قسّموا الأرض أيضا جنوبا و شمالا على مأة و ثمانين درجة و سمّوها بالعرض الجغرافيائى، و كان المبدء خطّ الاستواء المسمّى بالدائرة الاعتداليّة أو معدّل النّهار إلى قطبي الشّمال و الجنوب.
و قسّموا النّواحي الشّماليّة على 90 درجة مائلا نحو الشّمال حتّى إذا وصل نفس القطب الشّمالي.
مثلا عرض بلدة طهران يساوى 59 ثانيه و 41 دقيقه و 35 درجة يعنى انّها واقعة في العرض الشّمالي على هذا البعد من دائرة معدّل النّهار و قسّموا النّواحي الجنوبيّة أيضا كذلك و سمّوها بالعرض الجنوبي.
السّادسة: أنّ الأرض كرويّة لا مسطّحة
و هذه النظريّة قد أصبحت في هذا العصر من البديهيات الّتي لا مجال للنّقد و البحث فيها أىّ مجال فإذن تطلع الكواكب و تغرب و منها القمر في ناحية دون أخرى.
السابعة: أنّ الأفق الحقيقيّ في كلّ ناحية هو محيط الدّائرة العظيمة
الّتي تنصف
______________________________
(1) قال في شرح الجغمينى: طول مكة من جزائر خالدات (عزى) اى سبع و سبعون درجة و عشر دقائق و عرضها (كأم) أي إحدى و عشرون درجة و أربعون دقيقة. (منه عفى عنه)
(2) و هذا بعد ما حاسبوا الطّول من ساحل البحر الغربي من إسبانيا في مدة طويلة.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 23
كرة الأرض بنصفين متساويين بحيث يمرّ الخطّ القائم المارّ على رؤوس أهل هذه النّاحية على مركز هذه الدائرة. و الأفق المحلّى في كلّ ناحية هو أكبر دائرة صغيرة على سطح الأرض يراها أهل هذه النّاحية، موازية للدّائرة العظيمة.
مثلا إذا قام إنسان في بيداء سهل بلا جبل يرى في غاية مدّ بصره أنّ السماء متّصلة بالأرض بالدّائرة الّتي تحيطها من كلّ جانب. هذه الدّائرة تسمّى بالأفق المحلّى.
و المناط في إمكان رؤية الكواكب و عدمه، كونها فوق الأفق المحلّى و كونها تحت هذا الأفق، لا الأفق الحقيقي، و هذا واضح.
الثامنة: أنّ القمر في حال المقارنة مع الشمس تنطبق الدّائرة الظّاهرة «1» منه على الدائرة المستضيئة
من شعاع الشّمس فإذن لا يرى نصفه الّذي يسامت الأرض. و هذه الحالة تسمّى بالمحاق لمحق نوره.
______________________________
(1) المراد من الدائرة الظّاهرة من القمر هو نصفه الذي يسامت الأرض في أيّ حال و زمان. و هذه الدائرة ربما تكون مرئيّة بتمامها و يسمّى البدر و هو في حال المقابلة، و ربما تكون غير مرئية أصلا و يسمّى المحاق و هو في حال المقارنة ربما تكون بعضها مرئيّة فقط و هو في حال كونه هلالا و في سائر أحواله كالتّسديس و التّربيع و التّثليث. (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 24
و هذا على قسمين:
الأوّل: حالة الكسوف و هي حالة اجتماع الأرض و القمر في درجة واحدة من برج واحد على عرض واحد و على رأى القدماء اجتماع الشمس و القمر كذلك.
الحالة الثانية: فيما إذا كانا في برج واحد و درجة واحدة و لكن لم يكونا في عرض واحد، بل كان الاختلاف بينهما قليلا إلى خمس درجات شمالا أو جنوبا، أو أكثر من الخمس باختلاف المنظر.
و ذلك لأنّ القمر تختلف نسبة حركته إلى منطقة البروج فتارة يميل إلى الجنوب خمس درجات و اخرى إلى الشّمال كذلك، فإذن لا يتحقّق الكسوف لاختلاف العرض و إن كانت المقارنة حقيقيّة، و لكن لمحق نوره لا يرى أبدا.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 25
و علّة عدم رؤيته إنّ وضعه قريب جدّا في الظّاهر «1» للمحلّ الّذي تشغله الشّمس في السّماء فيوجّه نحو الأرض نصف كرته المظلم المحجوب عن الأشعّة الشّمسيّة.
و هذا يتّفق في كلّ شهر هلاليّ مرّة واحدة.
و لو لا اختلاف العرض في القمر لكان في كلّ شهر هلاليّ يتحقّق كسوف في آخره و خسوف في وسطه لكن لمكان اختلاف العرض لا يتحقّق الكسوف في المحاق أواخر الشّهور، و بملاحظة محق نوره تسمّى هذه الحالة حالة المحاق.
و إذا خرج القمر عن هذه الحالة لا بدّ أن يرى على شكل هلال ضعيف، لكنّ دقّة القطر المنوّر للهلال جدّا تمنعنا عن رؤيته إلى حدّ يسير في الفضاء و يبعد عن الشّمس بقدر يصير قابلا لرؤيته بشكل الهلال. هذا الفصل من الزّمان يسمّى تحت الشعاع و هو ما إذا كان الفاصل بين جرمي الشمس و القمر على قدر نصف جرميهما.
و امّا مدّة مكث القمر تحت الشعاع فبعد خروجه من المحاق إلى أن يسير في المدار ما يقرب ثمان درجات، و حيث نعلم أنّ زمان سير القمر في المدار في كلّ درجة
______________________________
(1) يعني ليس وضعه حينئذ قريبا من المحل الحقيقي للشمس، بل وضعه قريب من المحل الذي يظهر لنا من الشمس، و هو امتداد شعاع أبصارنا إليها. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 26
يطول ما يقرب ساعتين، فإذن يخرج القمر عن تحت الشعاع بعد ستّ عشرة ساعة تقريبا.
اعلم أنّ حالتي المحاق و تحت الشعاع جميعا تطولان ثمان و أربعين ساعة تقريبا، لأنّ القمر يدخل تحت شعاع الشمس قبل المقارنة باثنتي عشرة درجة في المقارنة و يخرج عن تحت الشعاع بعد اثنتي عشرة درجة من المقارنة فالمجموع أربع و عشرون درجة المساوي لسير القمر في المدار زمانا لثمان و أربعين ساعة.
بعضهم يسمّى المحاق و تحت الشّعاع باسم واحد و عبّر عنهما بالمحاق أو تحت الشّعاع، و لا مشاحة في التعبير.
التّاسعة: أنّ حركة الأرض حول الشمس لم تكن على كيفيّة واحدة
بحيث تنطبق دائرة معدّل النّهار على دائرة منطقة البروج دائما، بل تختلف نسبة المعدّل إلى المنطقة في كلّ يوم من الأيام.
ففي أوّل الحمل الّذي هو أوّل نقطة الاعتدال الرّبيعيّ، تنطبق الدائرتان، و يكون اليوم و اللّيلة في جميع نقاط الأرض متساويين.
ثمّ تميل دائرة المعدّل عن المنطقة إلى طرف الشّمال «1» شيئا فشيئا، ميلا دائما مستمرّا، ثلاثة أشهر إلى آخر الجوزاء و أوّل السّرطان.
و في جميع هذه المدّة تختلف نسبة الأيّام إلى لياليها في جميع نقاط الأرض إلّا
______________________________
(1) التعبير الى طرف الشّمال على مبنى القدماء و ما هو المشاهد بالحسّ و المتعارف في التعبير من حركة الشّمس حول الأرض و امّا بالنسبة إلى الواقع و هو حركة الأرض حول الشّمس فتمايل المعدّل عن المنطقة إلى طرف الجنوب يقرب الصّيف و تصير الأيّام في النواحي الشّمالية أطول من اللّيالي و أوّل السّرطان الّذي هو أوّل نقطة الانقلاب الصّيفي في النّواحي الشماليّة يكون آخر ميل المعدّل عن المنطقة جنوبيّا. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 27
في نفس خطّ الاستواء و حواليه تقريبا و آخر انتهاء ميل المعدّل عن المنطقة يكون ثلاث و عشرين درجة و ثلاثين دقيقة و سبع عشرة ثانية شماليّة (17 و 30 و 23 لي). «1»
و أوّل السّرطان و هو أوّل نقطة الانقلاب الصّيفيّ يكون أطول أيّام السّنة في النّواحي الشّماليّة بالنّسبة إلى خطّ الاستواء و دائرة المعدّل، و أقصرها في النّواحي الجنوبيّة، و هذا آخر نقطة الميل الشّمالي، ثمّ يميل المعدّل إلى المنطقة جنوبا من أوّل السّرطان شيئا فشيئا ثلاثة أشهر إلى آخر السّنبلة و أوّل الميزان فيرجع المعدّل إلى حالته الأوّليّة فينطبق على المنطقة، فتساوى الأيّام و اللّيالي مرّة أخرى في جميع بقاع الأرض.
ثمّ يميل المعدّل أيضا نحو الجنوب من أوّل الميزان الّذي هو أوّل نقطة الاعتدال الخريفي، شيئا فشيئا حتّى يبلغ ثلاث و عشرين درجة و ثلاثين دقيقة و سبع عشرة ثانية جنوبيّة (17 و 30 و 23 بي) في مدّة ثلاثة أشهر إلى آخر القوس و أوّل الجدي. و يكون عندئذ أقصر أيّام السّنة في النّواحي الشماليّة و أطولها في النّواحي الجنوبيّة، و هذا آخر الميل الجنوبي.
ثم يميل المعدّل أيضا نحو الشمال من أوّل الجدي الّذي هو أوّل نقطة الانقلاب الشّتويّ، ثلاثة أشهر إلى آخر الحوت و أوّل الحمل، فتنطبق الدائرتان أيضا و يتساوى الملوان.
و مدّة هذا الميل الشّمالي و الجنوبي في دورة كاملة لحركة الأرض حول الشمس المسمّاة بالحركة الانتقاليّة تبلغ اثنى عشر برجا كاملا، لا ربط لها بالشهور الهلاليّة، و تسمّى بالسّنة الشمسيّة.
ثمّ تكرّرت السّنوات بدوران الأرض حول الشمس مع ميل المعدّل عن المنطقة شمالا و جنوبا على هذا المنهج دائما.
العاشرة: أنّ حركة القمر حول الأرض ليست على كيفيّة واحدة
بحيث ينطبق مداره على منطقة البروج دائما بل ينطبق بعض الأحيان على المنطقة ثمّ يميل عن
______________________________
(1) اعلم أنّ القدماء ضبطوا غاية ميل المعدّل عن المنطقة 23 درجة و ثلاثين دقيقة و لكنّ المتأخّرين ضبطوها 23 درجة و 27 دقيقة و تخيّلوا أنّ القدماء لم تكن محاسباتهم المبنيّة على ارصادهم دقيقة لكن قبل خمس عشرة سنة جائت كشفيّة جديدة في عالم النّجوم و هو أنّ غاية ميل المعدّل عن المنطقة لا تكون امرا ثابتا بل متغيّرة دائما على جهة النقصان فإذن تبيّن أنّ محاسبة القدماء صحيحة و هذا الاختلاف حصل من مرور الدّهور. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 28
المنطقة شمالا ما يقرب خمس درجات، ثمّ يرجع إلى المنطقة، ثمّ يميل عن المنطقة جنوبا ما يقرب خمس درجات، ثمّ يميل إلى المعدّل.
و تستمرّ حركة القمر على هذه الوتيرة دائما «1».
الحادي عشرة: الشّهر القمريّ على أربعة أقسام:
الأوّل: الشّهر القمريّ الحسابىّ، و هو فصل زمان مقارنتي النيّرين المتواليتين، و يكون تسعة و عشرين يوما و اثنتي عشرة ساعة و أربع و أربعين دقيقة (44 قه- 12 عت- 29 يوما) و هذا لا يختلف بمرّ الدّهور الثاني: الشّهر القمريّ الوسطى، و هو جعل شهر ثلاثين ثمّ تسعة و عشرين ثمّ
______________________________
(1) اعلم أنّ مدار الأرض حول الشمس ليس بيضيّا صحيحا مهندسيّا بل انّما هو شبه الدائرة و وقعت الشمس خارجة عن مركزها و لهذا سمّى هذا المدار في ألسنة العرف بالبيضيّ، كهذا الشكل شكل مدار الأرض و ليس هذا بيضيّا.
ثمّ انّ هذا المدار انّما هو بسبب شكل مدار الأرض أولا و جذب القمر و المرّيخ و زحل و بقيّة السيّارات و الشّمس ايّاها ثانيا. فنتيجة جميع هذه العوامل صيّرت المدار على هذا النّهج (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 29
ثلاثين ثمّ تسعة و عشرين و هكذا على هذا المنهج. «1»
و صحّحوا المقادير الجزئيّة الخارجة عن هذه الضّابطة بجعل كبائس كما عرفت.
و عليه الملاحدة الإسماعيليّة.
الثالث: الشّهر القمريّ الهلاليّ الفلكيّ، و هو المبدوّ بأوّل زمان إمكان رؤية الهلال عند الفلكيّين.
و لا يكون هذا إلّا تسعة و عشرين يوما أو ثلاثين يوما على حسب اختلاف المقامات و الأوضاع الفلكيّة الدّخيلة في الرؤية عند الخبير المتضلّع باستخراج التقاويم.
فإذن تارة يكون شهر تسعة و عشرين ثمّ ثلاثين ثمّ تسعة و عشرين ثمّ ثلاثين و تارة يكون شهران متواليان أو ثلاثة أشهر متواليات، تسعة و عشرين، و لا يمكن أزيد من ذلك، و تارة يكون شهران متواليان أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر متواليات، ثلاثين، و لا يمكن أزيد من ذلك. فلا يمكن أربعة أشهر متواليات تسعة و عشرين، و لا خمسة أشهر متواليات ثلاثين.
الرّابع: الشّهر القمريّ الهلاليّ الشرعيّ، و هو المبدوّ برؤية الهلال خارجا، لا إمكان رؤيتها كما ستعرف إنشاء الله تعالى.
الثانية عشرة: الأمور الدّخيلة في إمكان رؤية الهلال في أوّل الشّهر الهلاليّ وجوه:
الأوّل: اختلاف البلاد طولا،
لأنّ كلّ بلد يكون طوله أقلّ من جزائر خالدات أو من رصد كرنويج، أقرب في الرّؤية، لغروب النيّرين فيه بعد غروبهما من البلد الّذي يكون طوله أكثر.
فيمكن أن يرى الهلال فيه دون ذلك، و إن كان عرضهما سواء.
مثلا إذا فرضنا في بلدة طهران الّتي يكون طوله من نصف نهار كرنويج واحدا و خمسين درجة و نصف درجة و تغرب الشمس فيها قبلها بثلاث ساعات و ستّ و عشرين
______________________________
(1) لا يخفى أن محاسبة الشهور الوسطيّة على هذا المنهج هو المتّفق عليه بين الفلكيّين المتفكرين في خلق السماوات و الأرض كلّهم لا يكتفون بها بل يعيّنون الشهور الحقيقية بعد محاسبة المقادير الجزئيّة المعروفة بالتعديلات، فتصير شهورا هلاليّة فلكيّة حقيقيّة كما في القسم الثالث و أمّا الملاحدة من الإسماعيليّة فلا يعتنون بالشهور الحقيقيّة بل يبنون في محاوراتهم و أعمالهم على الشهور الوسطيّة و يلتزمون بالكبائس كما بيّنّاه. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 30
دقيقة (3 عت و 26 قه)، ان يكون القمر وقت الغروب تحت الشعاع و ان يكون إلى خروجه درجة واحدة، فإذن يخرج بعد ساعتين.
ففي طهران و جميع البلاد الّتي يكون طولها أزيد من ساعة و ستّ و عشرين دقيقة، لا يكون الهلال قابلا للرّؤية، و إن كانت متساوية في العرض بالنسبة إلى طهران في الجملة.
و في جميع البلاد الّتي يكون طولها أقلّ من ساعة واحدة و ستّ و عشرين دقيقة، يكون قابلا لها.
الثّاني: اختلاف البلاد عرضا. و هذا من ثلاث جهات:
الجهة الأولى، بعد المعدّل عن المنطقة و قربه منها،
لما ذكرنا أنّ أيّام السّنة تختلف طولا و قصرا على حسب درجة اختلاف بعد المعدّل عن المنطقة، و من هذه النّاحية أيضا يختلف وقت غروب الشمس في الأماكن المختلفة عرضا، فيمكن أن تغرب الشّمس في ناحية و لم يخرج القمر عن تحت الشّعاع، ثمّ تغرب في ناحية أخرى و قد خرج عن تحته، فيرى الهلال في الثّانية دون الأولى.
مثلا في بلدة طهران الّتي يكون عرضها الشمالي (59 ثانية و 41 دقيقة و 35 درجة) يكون أطول أيّام السّنة و هو أوّل السّرطان، ما يقرب أربع عشرة ساعة و نصف ساعة، و في نفس اليوم يكون النّهار في بلدة جنوبيّة من المعدّل بحيث يكون عرضها الجنوبيّ بهذا المقدار و هو (59 ثانية و 41 دقيقة و 35 درجة) جنوبيّة و كانت متساوية الطّول لطهران، أقصر أيّام السّنة، و هو تسع ساعات و نصف ساعة تقريبا، فإذن يكون الاختلاف بينها و بين طهران خمس ساعات، فيطلع الشّمس في طهران بنصف هذا المقدار و هو ساعتان و نصف ساعة قبل تلك البلدة و يغرب ايضا بعدها بهذا المقدار. فحينئذ إذا فرضنا وقت الغروب في تلك البلدة، كون القمر تحت الشّعاع بدرجة واحدة، لم ير الهلال فيها، و بعد سيره في المدار بدرجة واحدة تطول ساعتين، يخرج و يرى في طهران، لأنّ غروب الشمس في طهران إنّما هو بعد نصف ساعة من خروج القمر عن تحت الشّعاع.
الجهة الثّانية، بعد القمر عن المعدّل شمالا و جنوبا ما يقرب عشر درجات.
فإذا كان القمر بعيدا عنه شمالا لم ير الهلال في بعض النّواحي الجنوبيّة، و إذا كان بعيدا عنه جنوبا لم ير الهلال في بعض النّواحي الشّماليّة، و إن كانت النّواحي متساوية الطّول.
الجهة الثالثة، لمّا كان مدار حركة القمر حول الأرض غالبا حول المعدّل،
فكلّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 31
بلد يكون أبعد من المعدّل شمالا و جنوبا، يكون دائرة مدار حركة القمر حولها بالنسبة إليه، أبعد من المناطق الاستوائيّة، فيكون اضطجاعها إلى الأفق أكثر.
فيلزم أوّلا، أن يكون الهلال عند الغروب إلى الأفق أقرب.
و ثانيا، تكون الأغبرة المجتمعة في حوالي الأفق فيه أكثر و تكون الرّؤية أصعب.
و هذه الجهة موجبة لامتناع الرّؤية أو صعوبتها في البلاد الّتي يكون عرضها كثيرا، بخلاف ما إذا كان مدار القمر في البلد أقرب إلى الانتصاب، فتكون الرّؤية أسهل.
الثالث: الأوضاع الفلكيّة
و هي أمور:
الأمر الأول، بعد تقويم القمر عن تقويم الشمس المعبّر عنه ببعد سوى «1»
و هو بعد مكان القمر عن الشمس في السّماء «2»، لأنّ القمر إذا بعد عن الشمس مقدارا قريبا من اثنتي عشرة درجة أو أقلّ بقليل أو أكثر كذلك، خرج عن تحت الشعاع «3» و صار قابلا للرّؤية، و المعروف عند المحقّقين أنّ أقلّ مقدار بعد سوى عشر درجات.
لكنّ المقامات تختلف، لأنّه ربما خرج في أوّل الغروب فيكون قابلا للرّؤية و لكن بصعوبة، لأنّ القطر المنوّر للهلال حينئذ دقيق جدّا، و أمّا إذا خرج مثلا في أوّل النّهار قبل غروب الشّمس باثنتي عشرة ساعة، يسير في المدار إلى الغروب ستّ درجات، فحينئذ يكون بعده عن الشمس عند الغروب بثمان عشرة درجة، فيزيد بعد سوى و يصير القطر المنوّر ضخيما يرى بالسّهولة.
الأمر الثاني، بعد مغرب القمر عن مغرب الشمس زمانا المعبّر عنه بالبعد المعدّل
و هو بعد زمان مغيبيهما، ثمّ يحاسب على حسب الدّرجات مكانا فيصير بعد جرم القمر عن جرم الشمس في السّماء لكن على جهة الغروب.
لأنّه كلّما كان هذا الفصل أطول كان زمان مكث الهلال فوق الأفق أكثر، فيرى فوق الأفق بسهولة. و أمّا إذا كان هذا البعد قليلا، يغرب القمر بعد غروب الشمس بفاصلة قليلة، و لا يكون قابلا للرّؤية.
______________________________
(1) سوى بالضّم و القصر، فما ربما يسمع أو يرى في بعض الكتب من ضبطه بالفتح و المدّ أو بالكسر و المدّ أو القصر فهو لحن (منه عفى عنه).
(2) اى تفاوت تقويمي النّيّرين اى تقويم الشمس الحقيقيّ، و تقويم القمر المرئيّ (منه عفى عنه).
(3) لا يخفى أنّ تحت الشعاع على قسمين: أحكامي و هلالي. و ما حدّدناه في طيّ كلامنا باثنتي عشرة درجة انما هو في الأحكامىّ، و أمّا الهلالي فهو أقلّ منه كثيرا (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 32
و المذكور في الكتب المشهورة، أنّه ينبغي أن يكون البعد بين مغربي النّيّرين أكثر من عشرة أجزاء و قيل: ينبغي أن يكون ما بينهما عشرة أجزاء أو أكثر، حتّى يكون مكث الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس ثلثي ساعة أو أكثر، حتى يكون مكث الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس ثلثي ساعة أو أكثر، و لكنّ التّحقيق أنّ الهلال يرى ببعد تسع درجات أيضا.
لأنّ الأرض تدور حول نفسها كلّ درجة في أربع دقائق، و في هذه المدّة يقرب الهلال من محلّ غروبه درجة واحدة، فإذا كان بعد مغرب القمر عن مغرب الشمس عشر درجات، فبعد حاصل ضربهما و هو (40 4 10) أربعون دقيقة يخفى الهلال تحت الأفق.
و اعلم أنّ من جملة ما هو دخيل في البعد المعدّل، حالة ترقّص القمر عند علماء الفلك، فيشاهد القمر كأنّه واقف مضطرب.
ففي هذه الحالة يكون مكث القمر فوق الأفق أكثر ممّا لم يكن فيه هذه الحالة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 33
فتكون الرّؤية أسهل.
حالة التّرقّص هي حالة مدار سير القمر حول الشمس فيما يقرب القمر من زاوية مداره المضرّس بقليل و فيما يبعد عنها كذلك.
و هذا المدار المضرّس هو مداره حول الشّمس الحاصل من نتيجة سير القمر حول الأرض و سير الأرض حول الشمس.
ثمّ اعلم أنّ ممّا هو دخيل في الرؤية و سهولتها، ارتفاع الهلال من الأفق لأنّه كلّما كان أكثر كانت الرؤية أسهل.
هذا و لكنّ الارتفاع ليس دخيلا فيها بحذاء البعد السّوي و البعد المعدّل، بل هو أمر تابع لمقدارهما فبحصول مقدار بعديهما يحصل قدر الارتفاع قهرا.
و امّا انحراف القمر عن الشّمس شمالا أو جنوبا و تعيين القطر المنوّر للهلال على حسب الثّواني الفلكيّة فليسا دخيلين في الرؤية البتّة، و ما ترى أنّ بعض الفلكيّين يحاسبونهما- في مستخرجاتهم فهو من باب المعاونة على تعيين محلّ الهلال و كيفيّة مشاهدته.
الرّابع: العوامل الفيزيكيّة،
كوجود الأبخرة المائيّة في الهواء و عدمها.
ففي فصل الشّتاء تكون الأبخرة المائيّة المتلألأة كثيرة في الهواء فيرى الهلال تحتها رقيقا و تكون الرؤية أصعب.
و في فصل الصّيف تكون الأبخرة المائيّة قليلة، و الموادّ المحرقة و الغازات غير
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 34
المائيّة كثيرة، فينعكس النّور و ينكسر، فيرى الهلال تحتها غليظا ضخيما، فتكون الرؤية أسهل.
هذا مضافا إلى جهات أخرى غير مستمرّة، مثل السّحب و الغيوم و الرّياح الموجبة لكدورة الهواء و تضريس بعض الأراضي و الجبال و كلالة البصر، فتكون الرؤية أصعب.
بخلاف الصّحو و صفاء الهواء و تسطيح الأرض و حدّة البصر الموجبة لسهولة الرؤية، لكن لا يمكن ظبطها.
الثالث عشرة: إنّ متقدّمي علماء النّجوم، أعرضوا عن تخريج ضابطة كلّيّة لرؤية الهلال في جميع الشّهور،
و ذلك لتعذّر تعيين ضابطة كلّيّة للأهلّة، من حيث البعد السوي و البعد المعدّل و الارتفاع و انحرافه عن مغيب الشمس و مكثه فوق الأفق و سائر الجهات الفلكيّة الّتي لا يمكن إدراج جميعها تحت قاعدة كلّيّة أبدا.
و امّا متأخّروهم فقد أتعبوا أنفسهم في تخريج هذه الضّابطة، لكن لم يأتوا بشيء في المقام، و كلّ ما أوردوه ناقص مراعى فيه بعض الجهات دون بعض.
و قد أتعب نفسه المحقق الطوسي كثيرا على ما في زيج ايلخانى و غيره من الكتب، و ذكر نتيجة محاسباته من لحاظ البعد بين تقويمي النّيّرين و بين مغربيهما المعبّر عنهما بالبعد السّوي و البعد المعدّل، و ذهب إلى أنّ البعد المعدّل إذا كان عشر درجات فالهلال قابل للرؤية أىّ نحو كان.
فبنى على أنّ في كلّ ناحية يكون الهلال قابلا للرؤية يبقى في السماء أربعين دقيقة، لما مرّ عليك من ضرب عشر درجات في أربع دقائق.
و لم يكن في علماء الإسلام فلكي خبير مثل هذا المحقّق مجدّا في تعيين هذه القاعدة الشّاملة، و لذلك ترى أنّ أصحاب التّقاويم المستخرجة من بعده، ذهبوا إلى هذا المرام و لم يتعدّوا عنه و بنوا على أنّ أقلّ درجة البعد المعدّل لا بدّ و ان يكون عشر درجات حتّى يصير الهلال قابلا للرؤية.
و لكنّه (قدّه) مع هذا التّعب لم يأت بحساب صحيح دقيق، بل هو عين التقريب، لأنّه أوّلا:
أدخل تحت محاسباته بعد السّوي الواقعي و البعد المعدّل الواقعي، و هذا غير مجد، بل لا بدّ من محاسبة بعد السّوي المرئيّ و البعد المعدّل المرئيّ، لأنّه باختلاف المناظر يختلف بعداهما، و المرئيّ منهما يختلف باختلاف النّواحي و البلاد و باختلاف الشّهور
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 35
و لا يكون تحت ضابط «1». و ثانيا:
أنّه ذهب إلى أنّ أقلّ بعد سوى عشر درجات، مع أنّه إذا اجتمع سائر الشرائط بنحو أعلى من كثرة البعد المعدّل و الارتفاع ربما يمكن الرؤية مع تسع درجات بالنّسبة إلى بعد سوى «2». هذا مع أنّه ادّعى فلكىّ خبير جدّا أنّه رصد الهلال أوّل الغروب من دخول شهر من الشّهور، فوجد البعد المعدّل ثمان درجات.
فإذن تعيين الضّابطة الكلّيّة الحقيقيّة لرؤية الهلال عند المنجّمين من الأمور المستحيلة، نعم لا بأس بما ذكروه على سبيل التقريب.
الرّابع عشرة: الأعراب قبل الإسلام كانوا يعرفون الصّور الفلكيّة و منازل القمر،
و المنازل الثّمانية و العشرون للقمر كانت من مخترعاتهم، و ايضا كانوا خبيرين بحساب الأنواء الّتي هي التغييرات الجوّيّة، و مواضع الطّلوع و الغروب.
و كانوا يستدلّون من أوقات الطّلوع و سقوط المنازل على اختلاف الأهوية، و واقفين بهذه الأمور إلى حدّ لم يكن يعرف مثله لسائر الملل و الأقوام، بحيث يعرف هذه المواضع من علم النّجوم من خصائصهم في زمان الجاهليّة.
الأعراب كانوا يميّزون الكواكب السّيّارات من الثّوابت، نرى اسم زحل و عطارد في أشعارهم في الجاهليّة، و أيضا نرى في مسطوراتهم اسم زحل و مشتري و مرّيخ قبل نقل العلوم من يونان ففي أشعار كميت المتولّد في سنة 60 من الهجرة و المتوفّى في سنة 126 نرى اسم زحل و مرّيخ.
يقولون: إنّ الأعراب الجاهليّة من بنى تميم كانوا يعبدون عطارد.
و يستفاد من مسطورات المولّفين السّريانيّين و اليونانيّين في القرن الخامس و السّادس قبل المسيح أنّ الأعراب المجاورين الشّام و العراق كانوا يعبدون كوكب زهرة في زمان ظهوره الصّباحىّ.
______________________________
(1) و لذلك ترى أنّ أرباب الزيجات و أصحاب الأرصاد يحاسبون اختلاف المنظر في الخسوفين و الهلال بلا كلام فلا تقريب من هذه الحيثيّة في محاسباتهم و لكنّ المحقّق المذكور لم يذهب في تعيين الضّابطة الكليّة إلى محاسبة اختلاف المنظر فأصبحت محاسباته في هذا المقام على سبيل التقريب (منه عفى عنه).
(2) و قد تقدّم أنّ التحقيق أنّ الهلال يرى على بعد تسع درجات أيضا، و بذلك صرّح الرّاصدون بسمرقند، بل بأقل من تسع درجات بقليل أيضا. (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 36
و هذا الّذي ذكرنا مختصر ممّا ذكر من اختصاصاتهم بالنّجوم و تبحّرهم في الأنواء، و التفصيل في كتب عبد الرّحمن الصّوفي و المجسطى للبطلميوس و أنواء أبي حنيفة الدّينوري و روضة المنجّمين للحكيم شهمودان الرّازي من كتب القدماء و كتاب علم الفلك «1»، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، للمستشرق الايطاليائى: نلّينو. و المستشرق الفرانسوىّ سديّو الّذي ترجم باللّغة الفرنسيّة مقدّمة كتاب زيج الغ بيك ابن شاهرخ بن أمير تيمور. ذكر في مقدّمة كتابه هذا ما يفيد تضلّع الأعراب في النّجوم و الأنواء.
الخامس عشرة: السّنوات القمرية و شهورها لم تكن من مختصّات الإسلام و مخترعاته،
بل غالب الملل القديمة كانوا يتّخذون السّنوات القمريّة و شهورها في أمورهم.
ملّة الصّين الّذين كانوا يتقدّمون في علم النّجوم على سائر الملل، و ذلك قبل ألفي سنة من ميلاد المسيح، و كانوا يستخرجون تقاويم الكواكب و يحسبون الكسوفات و الخسوفات، و كانوا يعيّنون عبور ثمانية و عشرين كوكبا من دائرة نصف النّهار، و يعيّنون دورة حركة الشّمس على مقدار 365 يوما و ربع يوم، كانوا يتّخذون في أمورهم و محاوراتهم و تواريخهم السّنين القمريّة و شهورها.
متن: المنجّم المعروف اليوناني الّذي كانت حياته قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، اكتشف أنّ تسع عشرة سنة شمسيّة تشمل مأتين و خمس و ثلاثين رؤية للهلال، و بعد هذه المدّة أهلّة القمر عادت على ترتيبها الأوّل و موضعا الشّمس و القمر عادا على كيفيّتهما الأولى بالنّسبة إلى الأرض.
إنّ هذه المدّة سمّيت عند اليونانيّين بالدّورة الذّهبيّة.
و الأعراب الجاهليّة بأجمعهم كانوا يتّخذون الشّهور القمريّة في مواقيتهم، و عند هذه الطوائف جميعا كان مبدء الشّهر القمريّ، رؤية الهلال بعد خروجه عن تحت الشّعاع. و لم ينسب إليهم العلم بمعرفة السّنة الشّمسيّة و شهورها.
إذا تمهّدت هذه المقدّمات، نقول: اتّفقت الأقوام و الملل الّذين كانوا قبل الإسلام و منها العرب الجاهلي الّذين كانوا يتمسّكون في تواريخهم بالشّهور القمريّة و سنواتها، و بعد الإسلام إلى حدّ الآن على أنّ مبدء كلّ شهر هو رؤية القمر بعد خروجه عن تحت الشّعاع.
______________________________
(1) هذا الكتاب قد ترجم باللّغة الفارسيّة أخيرا بعنوان: تاريخ نجوم إسلامي. و فيه بحث تاريخي للنّسىء الوارد في القرآن الكريم و بحوث أخرى.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 37
و ذلك لا يكون إلّا في وقت غروب الشّمس يوم التاسع و العشرين أو الثلاثين، و بذلك يدخل الشّهر اللّاحق الّذي مبدؤه أوّل دخول اللّيل.
و بهذه المناسبة يجعلون ليلة كلّ يوم، اللّيلة الّتي قبله لا اللّيلة الّتي بعده.
و كلّ شهر من هذه الشّهور يكون ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين يوما. و هذا أمر رائج دارج بين جميع الأقوام.
و هذا مبنيّ على أنّ لرؤية الهلال الدّالّة على كون القمر فوق الأفق دخلا في تحقّق الشّهر الهلاليّ و إلّا لم يتحقّق شهر ثلاثونىّ أبدا و لا شهر تسعة و عشرون ابدا، لما عرفت أنّ كلّ شهر قمرىّ في جميع الأزمنة دقيقا (44 دقيقه و 12 ساعت و 29 يوما) فإذا جعلنا مبدء الشّهر هو خروج القمر عن تحت الشعاع مثلا و هو أمر وحدانيّ في جميع العالم، فربما يخرج القمر عن تحت الشعاع بعد ساعة من اللّيل و ربما بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات، و هكذا، و ربما يكون خروجه أوّل طلوع الفجر أو أوّل طلوع الشمس أو بعد ساعة من طلوعها أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات، أو في وسط النّهار وقت زوالها، فلا- يمكن تعيينه و تقديره بوجه من الوجوه.
و السّرّ في ذلك أنّا ذكرنا أنّ القمر يخرج عن تحت الشعاع بعد اثنتي عشرة درجة من المقارنة، و كلّ درجة يطول ساعتين زمانا.
فعلى هذا إذا فرضنا في حين من الأحيان مثل وقت غروب الشمس بأفق طهران لمّا يخرج القمر عن تحت الشعاع و يخرج بعد سيره في المدار بقدر الدّرجتين المساويتين لأربع ساعات زمانا، ففي نفس الغروب لم يدخل الشّهر الجديد قطعا، و لكن بعد سيره بقدر درجتين بمدّة أربع ساعات يخرج القمر و يدخل الشهر الجديد قطعا، فعلى هذا لا بدّ و أن تكون هذه الساعات من الشّهر الماضي و بقيّة ساعات اللّيل من الشّهر الآتي بلا كلام.
مثلا إنّ أربع ساعات من ليلة الثلاثين من رمضان تكون من رمضان و بقيّة السّاعات تكون من ليلة العيد و إذا فرضنا أن يكون سير القمر تحت الشّعاع في المدار بقدر ثلاث درجات في مدّة ستّ ساعات زمانا، فلا بدّ و أن نحسب ستّ ساعات اللّيل من شهر رمضان و الباقي من ليلة العيد.
أو أن يكون سيره تحت الشعاع في المدار بعد خمس درجات، و هي تطول عشر
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 38
ساعات، فليلة الثلاثين كلّها تكون من شهر رمضان، إذا كان اللّيل مثلا عشر ساعات، و بمجرّد طلوع الفجر يدخل الفطر و هكذا إذا خرج عن تحت الشعاع و هو تحت الأرض.
مثلا إذا فرضنا كون القمر عند الغروب بأفق طهران تحت الشعاع بعشر درجات و يطول خروجه عنه على مقدار عشرين ساعة، فلا محالة يخرج عن تحت الشعاع و هو واقع تحت الأرض، فلا بدّ و أن نلتزم بأنّ ثلث يوم الثّلاثين أو نصفه أو ثلثيه و هكذا من شهر رمضان و الباقي من الشّوّال.
و هكذا يكون دخول الشّهر في كلّ نقطة نقطة من بقاع الأرض طولا، غيره في نقطة أخرى بحسب ساعات اللّيل و النّهار.
فهل يمكن لأحد أن يلتزم بهذه المحاذير الّتي يساوى الالتزام بها، إنكار ضروريّات الإسلام، بل جميع الملل و الأديان، بل جميع الأمم و الأقوام؟ كلّا.
فبهذه الوجوه لم يلتزم أحد، بل لم يتفوّه بأنّ الشّهور القمريّة، هي نفس الخروج عن تحت الشّعاع. بل الجميع متّفقون على أنّ للرؤية دخلا في ذلك.
فجميع الملل بانون على الرؤية، فإذا رأوه حكموا بانقضاء الشّهر السّابق و دخول اللّاحق.
فإذن لمّا كانت الأرض كرويّة، و هي معذلك تدور حول نفسها بحركتها
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 39
الوضعيّة من المغرب إلى المشرق دائما في كلّ يوم و ليلة تامّة، و هو أربع و عشرون ساعة تقريبا أزيد من الدّورة الكاملة الّتي تساوى ثلاثمأة و ستّين درجة بدرجة «1» واحدة، دورا كاملا، و في ساعة واحدة تدور أزيد من خمس عشرة درجة بقليل، و في دقيقة واحدة أزيد من ربع درجة بقليل، و لا تلبث لحظة إلّا و هي تدور حول قطبيها، و بذلك تتبدّل دوائر أنصاف النّهر، و تبعد كلّ نقطة فرضناها عن نقطة طلوع القمر بحسب طول البلاد دائما، فإذا فرضنا خروج القمر عن تحت
______________________________
(1) إنما قيّدنا اليوم بأربع و عشرين ساعة تقريبا، لأنّ الأرض تدور حول نفسها بحركتها الوضعيّة من المغرب إلى المشرق دورا كاملا يساوى ثلاثمأة و ستين درجة في ثلاث و عشرين ساعة و ستّ و خمسين دقيقة تحقيقا. و يسمّى هذا باليوم النجوميّ. و لمّا تدور الأرض أيضا من المغرب إلى المشرق بحركتها الانتقاليّة في كلّ يوم ما يقرب درجة واحدة الّتي تطول أربع دقائق تقريبا، فيصير المجموع واحدة و ثلاثمأة و ستّين درجة في أربع و عشرين ساعة تقريبا، و يسمّى هذا باليوم الشّمسى. امّا اليوم النجوميّ فثابت في جميع أيّام السّنة، و ذلك لأنّ حركة الأرض من أيّ دائرة من دوائر أنصاف النّهريّة، إذا فرضت مسامتة أىّ كوكب في السّماء إيّاه إلى دور كامل ينتهي إلى مسامتة ذلك الكوكب لتلك الدائرة، لا يختلف أبدا. و أمّا اليوم الشمسى فيختلف، لأنّ حركة الأرض الانتقاليّة بيضويّة، فيختلف بسببها هذه الأربعة من الدّقائق في أيّام السّنة، فبعضا يكون أقلّ، و بعضا يكون أكثر، فلذا قلنا أربع عشرين ساعة تقريبا. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 40
الشّعاع يراه الّذين كان القمر فوق آفاقهم المحليّة، و لا يراه أهل غير هذه الآفاق ممّن كان القمر تحت آفاقهم.
فبناء على ما ذكرنا، كرويّة الأرض مع بعد البلاد بعضها عن بعض طولا من المغرب إلى المشرق، و عرضا من دائرة المعدّل إلى القطبين، هما السّببان الأصليّان في اختلاف الآفاق بالنّسبة إلى مطالع القمر و مغاربه، و ليس المانع من الرؤية و طلوعه مجرّد مانعيّة الجبال أو الغيوم أو ما شابههما.
مثلا إذا فرضنا مضىّ ساعة أو ساعتين من اللّيل بأفق طهران، فإذا طلع القمر و خرج عن تحت الشّعاع في إسبانيا، رآه أهل هذا البلد، و أين المانع من رؤية أهالي طهران إيّاه من غيم أو جبل؟
بل المانع هو اختلاف الأفق. فطلوع القمر في إسبانيا أمر واضح لكونه فوق افقهم، و امّا بالنّسبة إلى أهالي طهران فلا، لكونه واقعا تحته.
و بهذا تبيّن أنّ الشّهر الهلاليّ يختلف مبدؤه حسب اختلاف البلاد في رؤية القمر.
نعم، البلاد الّتي لم تر الهلال، لا لعدم كون القمر تحت الأفق، بل لعارض سماويّ مثل السّحب و الغيوم أو أرضىّ مثل الكثب و الجبال و الأتلال، فهي متّحدة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 41
الأفق مع البلاد الّتي رآه أهلها.
فإذن، الرّؤية ليست موضوعا لدخول الشّهر في كلّ ناحية على الإطلاق، بل موضوعا دالّا على ثبوت الهلال القابل للرؤية فوق الأفق.
و بما ذكرنا ظهر أوّلا:
أنّ نفس خروج القمر عن تحت الشّعاع لا مدخل لها في تحقّق الشهر الهلالي أصلا.
و ثانيا: أنّ للرّؤية دخلا في هذا التحقّق.
و ثالثا: في كلّ بلد تحقّق الرؤية في أوّل اللّيل أو ما قار به من البلاد في الآفاق، تحقّق مبدء الشّهر. و في كلّ بلد لم تتحقّق الرّؤية و كان غير مشتركة الأفق مع البلد المرئيّ فيه، لا يتحقّق مبدء الشهر بل الشّهر يبتدئ من اللّيلة التّالية. و هذا يكون في البلاد الشّرقيّة عن أفق الرؤية إجمالا.
و رابعا: أنّ الرؤية الفعليّة ليست موضوعا لدخول الشّهر في كلّ بلدة بلدة، بل الرّؤية الفعليّة إجمالا طريق إلى ثبوت الهلال فوق الأفق.
فالبلاد المتّحدة الآفاق كلّها في هذا الحكم سواء و البلاد المختلفة الآفاق، كلّ واحد منها تابع لحكم نفسه.
و خامسا: أنّ لطلوع القمر و غروبه دخلا في تحقّق الشّهر، و هذا يختلف باختلاف المطالع و المغارب بالنسبة إلى القمر. كما أنّ الشّمس تختلف مشارقها و مغاربها في النّواحي و الأماكن المختلفة و لا فرق بين الشّمس و القمر في ذلك.
و امّا الاستدلال بأنّ الشّهر الهلالي لا ربط له بالآفاق الأرضيّة و المطالع و المغارب، و إنّما هو حادثة سماويّة لا دخل لها بالأرض- مضافا إلى أنّه دعوى بلا دليل- فتدفعه الأدلّة المتقنة المتقدّمة الّتي لا مناص لنا من قبولها و الالتزام بها.
و لعمري ما الفرق بين طلوع القمر إذا خرج عن تحت الشّعاع و بين الكسوف، في أنّ كلّ واحد منهما أمر سماويّ فكيف إذا تحقّق الكسوف المرئيّ في ناحية و غير المرئيّ في ناحية أخرى، يلتزم به و بما يترتّب عليه من الأحكام في هذه النّاحية، و لا يلتزم به و لا يترتّب عليه الأحكام في تلك الناحية، و لا يلتزم ذلك في طلوع القمر.
فكما أنّ للنّواحى المختلفة من الأرض دخلا في تحقّق الكسوف و هو اختلاف
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 42
البلاد طولا و عرضا، فكذلك الأمر في طلوع القمر، و الفرق بينهما تحكّم جدّا.
إن قلت: فرق بين الكسوف و خروج القمر عن تحت الشّعاع، لأنّ الكسوف ليس أمرا سماويّا، و لا ربط له بالقمر، بل هو عبارة عن احتجاب الشّمس لأهل الأرض بحيلولة القمر، الحاصل بدخول الأرض في الظّلّ المخروطىّ من القمر، كما ورد هذا العنوان في الرّواية، بأنّه كسفت عنّا الشّمس.
فالاحتجاب إنّما هو بالنسبة إلى الأرض و أهلها، و معلوم أنّ الاحتجاب مختلف بالنسبة إلى سكنة الأرض، و لا يكونون جميعا تحت هذا الحجاب.
فأذن في كلّ ناحية من الأرض حصل الاحتجاب، تترتّب عليه أحكامه من صلاة الآيات و غيرها و في كلّ ناحية لم يحصل، لا تترتّب عليه الأحكام.
قلت: خروج القمر عن تحت الشعاع أيضا كذلك، لأنّه عبارة عن خروجه من مقارنة الشّمس بمسافة معيّنة بالنّسبة إلى أهل الأرض، فلو لا أهل الأرض و محاذاتهم، لا تتحقّق المقارنة و الخروج أبدا و مع غضّ النّظر عن الأرض، لا يختلف حال القمر في المحاق و تحت الشّعاع عن سائر أحواله، و هو يدور في السّماء حول الأرض دائما بلا تغيير كيفيّة و لا تبديل حال، و لكن إذا لاحظنا محاذاة الأرض بالنسبة إليه، فتختلف الأحوال، ففي حال المقارنة يصير المحاق، و بعدها يرى بشكل الهلال، و في التسديس و التربيع و التثليث بإشكال مختلفة، و في المقابلة بشكل البدر. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ.
و المحصّل: أنّه إذا قطع النّظر عن محاذاة الأرض و نواحيها المختلفة و ملاحظة اختلاف مناظر أهلها بالنسبة إلى القمر فكما أنّه لا يتحقّق خروج عن تحت الشّعاع، لا يتحقّق كسوف أيضا، و إذا لوحظ محاذاة الأرض و اختلاف مناظر أهلها، فكما أنّ الكسوف له ربط بالأرض، كذلك الخروج عن تحت الشّعاع بلا فرق.
و لا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه من النّقض إنّما هو بالنّسبة إلى الكسوف فقط، و امّا الخسوف و هو دخول القمر في الظّلّ المخروطىّ من الأرض، فالنّقض غير واضح، حيث إنّ ظلمة القمر و كدورته حادثة سماويّة كما ورد في الرّواية بأنّه خسف القمر، فبحيلولة الأرض ينخسف القمر في السّماء على كلّ حال و إن كانت الأرض دخيلة في تحقّقه، فلقائل أن يقول في بادى نظره: إنّ ظلمة القمر واقعة سماويّة و إن كان بالتأمّل التّام يظهر أنّ الخسوف أيضا كذلك.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 43
فان قلت: سلّمنا و لكنّ الدّليل الشرعيّ قائم بأنّ في كلّ ناحية رئي الكسوف يحكم فيها بأحكام دون ناحية أخرى.
قلنا: هكذا الأمر بالنسبة إلى طلوع القمر، ففي كلّ ناحية رئي خروجه عن تحت الشعاع حكم بدخول الشّهر القادم، دون ناحية لم ير الخروج فيها.
نعم يبقى هنا سؤال معرفة مناط اتّحاد الأفق و اختلافه.
و الّذي يمكن أن يغري بعض الأعلام إلى الميل برفض مسألة الاتّحاد في الآفاق بالنسبة إلى دخول الشّهر هو عدم تعيين مناط خاصّ لهذه المسألة في كتب النّجوم و الهيئة.
حيث إنّ الشافعيّة الموافقين لنا في لزوم الاتّحاد في الآفاق التزم بعضهم بأنّ مناط الاختلاف هو مسافة القصر «1» و بعضهم بأنّ المناط هو أربعة و عشرون فرسخا «2» كلّ ذلك دعوى بلا دليل و قياس بمسافة القصر في الصّلاة و أين هذا من ذاك؟
و الّذي يسهّل الخطب أوّلا:
أنّ عدم تعيين الآفاق لا يوجب رفع اليد عن الحكم الّذي بيّنّا و الالتزام بخلافه الّذي لا يمكن الالتزام به.
و ثانيا: أنّ الاتّحاد و الاختلاف في الآفاق بالنسبة إلى رؤية القمر هو الاتّحاد و الاختلاف في مطالعة كما عليه العلماء. و لكن لم ير لأحد منهم تعيين ضابطة كلّيّة للمطالع.
و الّذي ألهمنا اللّه تبارك و تعالى في ضبط قاعدة كلّيّة للآفاق المتّحدة بالنسبة إلى مطالع القمر، هو الاستمداد من زمان غروب القمر في النّواحي المختلفة، و هو الرابطة بين الزمان و المكان: زمان مكث القمر فوق الأفق حتّى يغرب، و المكان البعيد شرقا عن محلّ الرؤية.
بيان ذلك: أنّ كلّ درجة من مكث القمر فوق الأفق يطول أربع دقائق، لأنّ غروبه إنّما هو بسبب الحركة الوضعيّة للأرض من المغرب إلى المشرق. و الأرض تسير نحو المشرق كلّ درجة منها في أربع دقائق.
______________________________
(1) التزم به الشيخ يوسف الأردبيلي الشافعي في كتابه: الأنوار لإعمال الأبرار، في ص 228 من الجزء الأوّل، و الرافعي كما في حاشية الحاج إبراهيم لهذا الكتاب المطبوعة بذيل نفس الصّفحة.
(2) كما في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، في ص 434 من الجزء الأول من الطّبعة الرابعة مستدلا بأنّه هو البعد الحاصل لاختلاف مطالع القمر.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 44
فإذا فرضنا أنّ البعد المعدّل الّذي هو عبارة عن الفصل بين مغيبي النّيّرين في محلّ الرؤية يكون عشر درجات أحيانا، ففي هذه الصّورة يغرب القمر بعد أربعين دقيقة، بمعنى أنّ الأرض تسير نحو المغرب عشر درجات طولا في مدّة أربعين دقيقة حتّى تخفى القمر تحتها، و بهذه الحركة يصير محلّ الرؤية بعيدا عن المدار بقدر أربعين دقيقة، و يصل إلى محلّ لم ير القمر حين يراه جميع البلاد الّتي قبله.
فالبلاد الواقعة بين محلّ الرؤية، و المحلّ الّذي يكون طوله نحو المشرق أربعين دقيقة، متّحدة الآفاق مع محلّ الرؤية، لأنّ القمر في زمان الرؤية يكون قابلا لها في جميع هذه البلاد و لو بلحظة.
البلاد الّتي تكون قريبة بالنسبة إلى محلّ الرؤية ترى القمر أطول زمانا من البلاد الّتي تكون بعيدة عنه، و الجميع مشترك في إمكان الرؤية، و هو المعبّر عنه بالآفاق المشتركة.
لكنّ القمر لم يطلع في جميع الشهور على نسق واحد حتّى تكون الآفاق المتّحدة مع محلّ الرؤية ثابتة بل بناء على ما مرّ عليك من طلوع القمر في بعض الأحيان قريبا من تقويم الشّمس، و في بعضها بعيدا عنه و هو المعبّر عنه بالبعد السّوي أوّلا، و من قرب مغربيهما تارة و بعدهما اخرى، و هو المعبّر عنه بالبعد المعدّل ثانيا، و بارتفاعه عن الأفق تارة و انخفاضه اخرى ثالثا، و بلحاظ اختلاف النّواحي و الأصقاع طولا و عرضا رابعا، و بسائر الجهات الدّخيلة في الرؤية خامسا، لا بدّ و أن نبيّن تقويم القمر في أوّل كلّ شهر على حدّه، حتّى نحكم باتّحاد آفاق البلاد الّتي يكون فيها الهلال قابلا للرّوية بحسب تلك الشهور.
و معلوم أنّه لا يتيسّر لنا الوصول إلى هذا المرام إلّا بحساب رياضيّ دقيق جدّا لكلّ شهر بحذائه، لكنّ القواعد الشّرعيّة المبنيّة على المساهلات تأبى ذلك كلّه، فاعتبار المطالع المحوجة إلى الحساب و تحكيم المنجّمين غير مقبول شرعا.
فلا مناص إلّا بالأخذ بالقدر المشترك في الآفاق، أي الّذي يشترك فيه جميع الشهور.
فبناء عليه نقول: إنّ أقلّ درجة البعد المعدّل للقمر حتّى يصير قابلا للرؤية يكون ثماني درجات، فأقلّ مدّة بقاء القمر في السّماء فوق الأفق المحلّى في أوّل دخول الشّهر يكون على حوالي نصف ساعة بعد غروب الشمس، و يغيب بعد مضىّ هذه المدّة، فكلّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 45
بلد شرقيّ قريب العرض بالنسبة إلى محلّ الرؤية إذا كان الاختلاف بينه و بين محلّ الرؤية بقدر نصف ساعة طولا، يجوز له رؤية الهلال في الأفق بعد الغروب بمدّة عشرين دقيقة، أو خمس عشرة دقيقة، أو عشر دقائق، أو خمسة دقائق، أو دقيقتين، إلى دقيقة واحدة، حتّى إلى لحظة واحدة، إذا حصلت الرؤية في بلدها وقت غروب الشمس.
فجميع هذه البلاد، متّفقة الآفاق مع محلّ الرؤية و إن لم ير أهلها الهلال.
مثلا إذا رئي الهلال في طهران، فيجوز رؤيته في سمنان الواقع في شرقه بتسع دقائق طولا، و في دامغان بثلاث عشرة دقيقة، و في شاهرود بستّ عشرة دقيقة، و في سبزوار بسبع و عشرين دقيقة، و في نيسابور باثنين و ثلاثين دقيقة، و في المشهد الرّضويّ على ثاويه آلاف التحية و الثناء بثلاث و ثلاثين دقيقة.
و كذا تجوز الرؤية في البلاد القريبة طولا من هذا البلاد، و إن اختلفا عرضا في الجملة، كآمل و سارى شمالا و قم و أصفهان جنوبا.
و كذا تجوز الرؤية في البلاد الغربيّة بالنسبة إلى طهران طولا إذا كان عرضها قريبا من عرضه، كهمدان و كرمنشاه و خانقين و بغداد و القاهرة و غيرها.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 46
فإذن يستفاد ممّا ذكرنا ضابطة كلّيّة و هي:
الآفاق المشتركة عبارة عن جميع البلاد الغربيّة القريبة العرض بالنسبة إلى مطلع القمر: و جميع البلاد الشرقيّة الّتي كانت مشتركة في إمكان الرؤية مع بلد الرؤية و لو بلحظة، واقعة في الطّول الجغرافيائى بمسافة اثنتين و ثلاثين دقيقة زمانا. «1»
هذا كلّه البحث عن الجهة العلميّة في هذه المسألة
و أمّا الجهة الشّرعيّة،
فنقول: إنّ الموضوعات العرفيّة الّتي هي موضوعات للأحكام الشّرعيّة، لا بدّ و أن يؤخذ معناها، و مدى نطاق سعتها و ضيقها، و إطلاقها و تقييدها، و سائر خصوصيّاتها من العرف كالبيع مثلا.
فإذا قال الشّارع يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ، و شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، و غيرها من الآيات، يريد تشريع هذا الأحكام مترتّبة على ما هو شهر عند العرف.
و نحن نرى أنّ العرف، كان يسمّى الشّهر، و ابتداؤه الّذي هو أوّل دخول اللّيل عند ما وجد الهلال المرئيّ فوق الأفق، و لو بعد ساعات من خروجه عن تحت الشعاع.
فبناء عليه، ليلة أوّل رمضان، هو أوّل ليلة لم يسبق برمضان و لو بساعة واحدة.
مثلا إذا فرضنا أنّ القمر خرج عن تحت الشعاع، و رئي في إسبانيا و مادريد البعيدتين عن طهران بثلاث ساعات و ستّ و عشرين دقيقة غربا، مضى من اللّيل بأفق طهران هذا المقدار، و مضى من البلاد الشّرقيّة بالنسبة إليه. كبلاد الصّين و اليابان أكثر
______________________________
(1) و لا يذهب عليك أنّ هذه الضابطة لكلّية في اشتراك الآفاق انّما هي على تقدير كفاية مجرّد وجود الهلال فوق الآفاق في دخول الشهور القمريّة فتكون الرؤية في محلّ دليلا على وجود الهلال فوق الأفق في هذا العرض العريض، و امّا على تقدير لزوم إمكان تحقق الرؤية الفعليّة في كلّ بلد بلد بعد رؤية فعليّة في بلد ما كما سيجيء بيانه بما لا مزيد عليه فغير سديد فعليه لا تنتج الرؤية في بلد الّا دخول الشهر في ذلك البلد فقط و لا يسرى الحكم إلى أىّ بلد آخر إلّا إذا اتّحدا عرفا (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 47
من هذا المقدار جدّا، فهذا اللّيل يعدّ من الشّهر السابق.
و ربما طلع القمر في إسبانيا أوّل دخول ليلهم، و قد طلع الفجر في تلك البلاد الشّرقيّة.
فأهل إسبانيا إذا رأوا هلال رمضان، يصبحون صائمين، و أهل الصّين و اليابان، يصبحون مجوّزين للإفطار.
و هؤلاء إذا رأوا هلال شوّال، يصبحون مفطرين، و هؤلاء يصبحون صائمين.
هذا مضافا إلى أنّ الشّارع فيما اتّفق الفريقان بروايات مستفيضة صرّح بأنّ المدار في دخول الشّهر هو الرؤية في الصيام و الحجّ و العمرة و قضاء الدّيون و سائر الأمور، مثل الأحكام و المسنونات المترتّبة على الشّهور كرجب و شعبان و المحرّم و الصّفر و غيرها، فالخروج عن هذا و الاتزام بخروج القمر عن تحت الشعاع في مبدئيّة الشّهر، و هو آن واحد و لحظة واحدة في جميع العالم، يوجب الخروج عن جميع هذه الأحكام البالغة إجمالا حدّ الضّرورة من الدّين، و الالتزام بفقه جديد، لا يشبه شيء منها شيئا من الفقه، و قلب السّنّة ظهر البطن.
هذا مضافا إلى أنّ الالتزام بمجرّد خروج القمر عن تحت الشعاع، يستلزم العلم بدخول الشهر بسبب العلم بخروج القمر و لو لم تتحقّق في العالم رؤية أبدا، فتصير الرؤية كاشفة محضة، مع أنّ الرّوايات تدلّ على موضوعيّتها فإذن لا بدّ من الحكم بدخول الشهر إذا علمنا خروجه بالإرصاد، و الآلات الحديثة الّتي رئي بها القمر، فيما إذا كانت الرؤية بالعيون العادية غير المسلّحة محالا، أو بحساب المنجّم الماهر الخبير المطّلع من الزّيجات الدقيقة، فهو يحسب لنا دقيقا أنّ خروج القمر عن تحت الشعاع إنّما يكون بعد 44 قه و 12 عت و 29 يوما من الشهر الماضي تقريبا، «1» و يدلّنا على هذه الشهور واحدا بعد واحد إلى عشر آلاف سنة، فنستريح من هذه الضّوضاء.
إن قلت: إنّ الروايات دلّت على أنّ للرؤية دخلا في الجملة في تحقّق الحكم، فلا بدّ بعد خروج القمر عن تحت الشعاع رئي في ناحية ما، حتّى نحكم بدخول الشّهر.
______________________________
(1) انّما قيدناه بالتقريب لأنّ ما هو الثابت غير المتغيّر دائما و هو (44 قه و 12 عت و 29 يوما) انّما هو الفصل بين مقارنتي النيرين و لكن حيث كان زمان الخروج عن تحت الشعاع متغيرا فالفصل بين الخروجين يكون هذا المقدار على سبيل التقريب. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 48
قلت: إنّا نعلم علما يقينيّا، أنّ خروج القمر عن تحت الشعاع في أيّة نقطة من نقاط العالم تحقّق، يراه خلق كثير من أهالي تلك النّواحي، فالرؤية قد تحقّقت، و رؤيتنا على حسب المدّعى غير لازم، فالشّهر داخل بلا رؤية منّا في آفاقنا القريبة، فتصير إناطة الروايات بالرؤية لغوا، لأنّ الرؤية الإجماليّة على أىّ حال موجودة.
إن قلت: لا يمكن الالتزام بذلك، لأنّ ظاهر الأخبار، هو الرّؤية الحاصلة منّا، أو الواصل إخبارها إلينا فهي الدّخيلة.
قلت: فإذن لا مناص من رفع اليد عن الحكم بدخول الشهر بمجرّد الخروج عن تحت الشعاع مع رؤية ما. و هذه التّوالي الّتي أشرنا إلى بعضها لا يكاد يخفى على المتأمّل في حاقّ المسألة.
و كذلك لم يذهب أحد من العلماء الى هذا، و الّذين ذهبوا إلى عدم لزوم الاشتراك في الآفاق ذهبوا إلى أنّ خروج القمر عن تحت الشعاع و رؤيته و لو بعد ساعات من اللّيل في أفق ما دخيل في جعل اللّيل من أوّله من الشهر الجديد بنحو الشرط المتأخّر. و سيأتي الكلام في عدم نهوض أدلّتهم على هذا المرام أيضا.
فإن قيل: إذا خرج القمر عن تحت الشّعاع و رئي في بلد ما، نحكم بدخول الشهر في جميع البلاد، مبتدئا باللّيل، و نلتزم بأنّ الساعات السابقة عن خروج القمر تحسب من ذلك الشهر.
مثلا إذا خرج و رئي في إسبانيا ليلة العيد، نحكم بأنّ تلك اللّيلة الّتي مضى منها في طهران قدر ثلاث ساعات و ستّ و عشرين دقيقة، كلّها ليلة الفطر، و هكذا في جميع البلاد إلى الصّين و اليابان نحكم بأنّ جميع اللّيلة يحسب من الفطر، و إن مضى من بعضها قدر تسع أو عشر ساعات.
قلنا: أوّلا إنّه دعوى بلا دليل.
و ثانيا، إذا التزم بأنّ مناط دخول الشهر القمريّ، هو نفس خروج القمر عن تحت الشعاع، و هو أمر واحد سماويّ في جميع العالم، لا ربط له بالأرض و مشارقها و مغاربها، و هذا عمدة الدّليل الّذي ربما يتمسّك به مع الإطلاقات على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، و كفاية رؤية ما في بلد ما لجميع العالم، فإذن إنّ ذلك البناء مناف للدليل، و خروج عن البناء الّذي بنى، و هدم لأساسه من رأس. ثمّ إنّه إذا خرج القمر عن تحت الشعاع في النّصف الآخر من كرة الأرض، في أوّل نهاره، أو وسطه، أو آخره، فكيف
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 49
يمكن الحكم بأنّ هذه المدّة الطويلة، من أوّل اللّيل، إلى هذا الحدّ من الزمان، يكون من الشهر اللّاحق.
و من هذا يعلم، أنّ دفع الإشكال، بأنّ عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، انّما هو في فوق الأرض، دون تحتها، لا يدفع المحذور أبدا، بل يزيد في الإشكال.
فنسأل أوّلا: إذا حكم بأنّ المناط، هو نفس الخروج، و هو أمر وحدانيّ، لا يتغيّر بحركة الأرض و المشارق و المغارب، فكيف الفرق بين فوق الأرض و تحتها، فهل هذا إلّا هدم لأساس الدليل؟ و ثانيا: أيّ مزيّة في جعلنا هذا الحكم لفوق الأرض، دون تحتها، بل نجعله لتحت الأرض دون فوقها و معلوم أنّ الفوقيّة و التحتيّة أمران إضافيان، لا يلتزم بأحدهما دون الآخر إلّا بالدليل.
ثمّ أين مبدأ تمييز البلاد الّتي تكون فوق الأرض دون تحتها؟ و البلد الّذي جعل مبدأ للحكم أىّ بلد من البلاد؟
إذا جعلنا هذا البلد مثل الصّين و اليابان، فجميع قارّة آسية و اروبة و إفريقيّة، يكون مشمولا للحكم، و أمّا إذا جعلناه مثل إيران و عراق، فجميع الممالك الغربيّة و بعض الممالك الإمريكيّة، يكون مشمولا له، و إذا جعلناه مثل إسبانيا و برتقال، فجميع الممالك الإمريكيّة يكون مشمولا له.
هذا إذا أريد ترتّب الحكم على عنوان الفوقيّة، و أمّا إذا أريد ترتّبه على النّواحي القريبة الّتي يكون اختلافها بالنسبة إلى محلّ الرؤية ستّ ساعات مثلا، دون البعيدة الواقعة تحت الأرض، الّتي يكون اختلافها اثنتي عشرة ساعة أو أكثر.
ففيه: أىّ مناط خارجيّ في تعيين محلّ القرب و البعد، و أىّ دليل شرعيّ لهذا الفرق؟ و الإطلاقات إن يؤخذ بها فلا مجال فيها لهذا التفصيل، و إن لم يؤخذ بها، فانصرافها إلى كلّ بلدة يكون الهلال فوق افقها، و المانع من رؤيته أمر عارضيّ من سحب أو غيوم، و المعبّر عنها بالبلاد المتّحدة الآفاق، هو المتعيّن.
و إذا أريد أنّ الإطلاقات منصرفة إلى النّواحي المعمورة من الأرض، و حيث إنّ تحتها لا يكون معمورا في ذلك الزّمان، لا يكون الحكم شاملا له.
ففيه: هلّا يلتزم هذا في الصّلاة و الصوم و الحجّ و غيرها من الأحكام، و التزم باختصاصه بالنّسبة إلى رؤية الهلال و مطالع القمر؟
مع أنّ سياق جميع إطلاقات الأحكام الواردة من هذه الجهة على نسق واحد.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 50
و الحقّ عدم الفرق في المعمورة و غيرها، لأنّه مضافا الى أنّ القدر المتيقّن في الخارج أو في مقام التخاطب لا يوجب الانصراف، تدفعه العمومات المنصوصة مثل قوله تعالى وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً، «1»، و قوله تعالى وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ «2»، و قوله عليه السّلام: إنّ لله تبارك و تعالى حكما يشترك فيه العالم و الجاهل، لا فرق بين أهالي الأراضي المعمورة و غيرها، من حيث الشّمول و الإطلاق و التقييد و سائر الجهات.
فهذه أمور كلّما دقّق فيها النّظر، تزيد في الاشكال و الغموض، فرفع اليد عنها لا يمكن إلّا برفع اليد عن الحكم المبحوث عنه، و هو أتقن و أسهل.
و ممّا ذكرنا تبيّن أنّ ذهاب المشهور إلى لزوم الاشتراك في البلدان مبنىّ على دخالة رؤية القمر في دخول الشهر، و أنّ للمطالع و المغارب بالنّسبة إلى القمر دخلا في دخول شهر و خروج شهر، و عدم كفاية نفس خروج القمر عن تحت الشّعاع في هذا الأمر، لا على تخيّل ارتباط خروج القمر عن تحت الشّعاع ببقاع الأرض، كارتباط طلوع الشّمس و غروبها بها.
فإنّ من الواضح أنّ نفس الخروج لا صلة لها ببقاع الأرض، مع غمض النظر عن المحاذاة، و لكنّ الرؤية بعد الخروج الدخيلة في تكوين الشهر القمري بما لها من الأحكام، لها صلة ببقاع الأرض.
لأنّ حالة القمر، مع وجود النّواحي الكثيرة، المختلفة الأوضاع في الأرض، و عدمها و إن كانت سواء و لكنّ حالة رؤية القمر الّتي هي الأسّ، لم تكن مع هذه و عدمها سواء.
و هذه علّة ذهاب المشهور إلى فتواهم.
و لذلك ترى أنّ من أشكل على لزوم الاشتراك في الآفاق، لم يستدلّ بعدم ارتباط هذه الحادثة السماويّة ببقاع الأرض.
بل كما ذهب إليه العلّامة في أوّل كلامه في المنتهى، و كما في الجواهر، بمنع اختلاف المطالع في الرّبع المسكون، إمّا لعدم كرويّة الأرض، بل لكونها مسطّحة، فلا تختلف المطالع حينئذ، و إمّا لكونه قدرا يسيرا لا اعتداد باختلافها بالنّسبة إلى علوّ
______________________________
(1) سورة سبأ 34- الآية 28.
(2) سورة أنبياء 21- الآية 107.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 51
السّماء.
كما أنّ صاحب الحدائق الّذي أصرّ على عدم لزوم الاشتراك، إصرارا لم نر مثله لأحد في هذه المسألة بنى لزوم الاشتراك في الآفاق على كرويّة الأرض، لكنّه حيث أبطل كرويّتها، و استدلّ على تسطيحها بالأدلّة السّمعيّة و الأخبار النّبويّة و لوازم كلّها بعيدة عن المقام، التزم بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق. و كما قال الشّيخ المحقّق فخر الدين في شرحه في القواعد:
و مبنى هذه المسألة، على أنّ الأرض هل هي كرويّة أو مسطّحة، و الأقرب الأوّل، لأنّ الكواكب تطلع في المساكن الشّرقيّة قبل طلوعها في المساكن الغربيّة، و كذا في الغروب.
و كلّ بلد غربيّ بعد عن الشّرقيّ بألف ميل، يتأخّر غروبه عن غروب الشرقيّ ساعة واحدة، و إنّما عرفنا ذلك بإرصاد الكسوفات القمريّة، حيث ابتدأت في ساعات أقلّ من ساعات بلدنا في المساكن الشّرقيّة، فعرفنا أنّ غروب الشّمس في المساكن الشّرقيّة، قبل غروبها في بلدنا، و غروبها في المساكن الغربيّة، بعد غروبها في بلدنا.
و لو كانت الأرض مسطّحة، لكان الطّلوع و الغروب في جميع المواضع في وقت واحد.
و لأنّ السائر على خطّ من خطوط نصف النّهار إلى الجانب الشماليّ، يزداد عليه ارتفاع الشّمالي، و انخفاض الجنوبي و بالعكس- انتهى. أى ارتفاع الكوكب الشّمالي و انخفاض الكوكب الجنوبي.
و بالجملة إنّ كرويّة الأرض، لمّا أصبحت في هذا العصر من الأمور البديهيّة، بما استدلّ عليه هذا الشّيخ المحقّق و نظائره من المحقّقين، و الواضحة باستعمال الآلات الحديثة و بأنّ السائر من أيّة نقطة من نقاط الأرض على الخطّ المستقيم، إذا سار إلى المشرق، ينتهي إلى نفس النّقطة من طرف المغرب، و بالعكس.
و كذا بسائر الأدلّة الّتي ذكر بعضها في مقدّمة تفسير البيان، على مؤلّفة التّحيّة و الإكرام، لم يكن مجال لاحتمال عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، و الذهاب إلى القول بكفاية رؤية ما، في الحكم بثبوت الشهر في جميع العالم.
فما ذهب إليه صاحب الحدائق ساقط من رأس.
و أمّا العلّامة في التذكرة، و إن نقل هذا عن بعض علمائنا، لكنّه صرّح بلزوم
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 52
الاشتراك في الآفاق، و لم يمل إلى عدم اعتباره.
بل ردّ جميع الأدلّة الّتي أقامها بعض الشّافعيّة و أحمد بن حنبل و اللّيث بن سعد و بعض علمائنا، قائلين إنّه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية، و في الباقي بالشّهادة، فيجب صومه، لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، و قوله عليه السّلام: فرض الله شهر رمضان، و قد ثبت أنّ هذا اليوم منه، و لأنّ الدّين يحلّ به، و يقع النّذر المعلّق عليه، و لقول الصّادق عليه السّلام: فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، و قال عليه السّلام في من صام تسعا و عشرين، قال: إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر، أنّهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يوما، و لأنّ الأرض مسطّحة، فإذا رئي في بعض البلاد، عرفنا أن المانع في غيره شيء عارض.
ردّ العلّامة جميع هذه الأدلّة، بقوله:
إنّ الهلال ليس بمحلّ الرؤية، و نمنع كونه من رمضان في حقّ الجميع، فإنّه المتنازع، و لا نسلّم التعبّد بمثل هذه الشّهادة، فإنّه أوّل المسألة، و قول الصّادق عليه السّلام محمول على البلد المتعارف لبلد الرؤية، جمعا بين الأدلّة، و نمنع تسطيح الأرض، بل المشهور كرويّتها انتهى.
و أمّا في المنتهى، فلم يصرّح بهذه الفتوى، كما توهّم.
نعم، يظهر منه البناء أوّلا، و لكنّه في آخر كلامه رجع و أفتى بأنّ عدم تساوى البلاد في حكم الرؤية بناء على كرويّة الأرض، هو الحقّ.
فها نحن ننقل عين عباراته، كي يتّضح المرام.
قال رحمة الله عليه: إذا رأى الهلال أهل بلد، وجب الصّوم على جميع النّاس، سواء تباعدت البلاد أو تقاربت، و به قال أحمد و اللّيث بن سعد و بعض أصحاب الشّافعيّ.
و قال الشيخ قدّس سرّه: إن كانت البلاد متقاربة، لا تختلف المطالع، كبغداد و بصرة، كان حكمها واحدا، و إن تباعدت كبغداد و مصر، كان لكلّ بلد حكم نفسه، و هو القول الآخر للشّافعيّ.
و اعتبر بعض الشّافعيّة في التباعد مسافة التّقصير، و هو ثمانية و أربعون ميلا، فاعتبر لكلّ بلد حكم نفسه إن كان بينهما هذه المسافة و روى عن عكرمة أنّه قال: لأهل
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 53
كلّ بلد رؤيتهم، و هو مذهب القاسم و سالم و إسحاق.
لنا أنّه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية، و في الباقي بالشّهادة، فيجب صومه، لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، و قوله عليه السلام: فرض الله صوم شهر رمضان. و قد ثبت أن هذا اليوم منه و لأنّه يحلّ به الدين و يجب به النّذر و يقع به الطلاق و العتاق المختلفان به عندهم فيجب صيامه لأنّ البيّنة العادلة شهدت بالهلال، فيجب الصّوم، كما لو تقاربت البلاد، و لأنّه شهد برؤيته من يقتل قوله، فيجب القضاء لو فات، لما رواه الشّيخ عن ابن مسكان و الحلبي جميعا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال فيها: الّا أن يشهد لك بيّنة عدول، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك، فاقض ذلك اليوم، و في رواية منصور بن حازم، عنه عليه السّلام: فإن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه، و في الحسن عن أبى بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه سئل عن اليوم الّذي يقضى من شهر رمضان، فقال: لا تقضه إلّا أن يشهد (يثبت خ ل) شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة، متى كان رأس الشّهر، و قال: لا تصم ذلك اليوم الّذي يقضى، إلّا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا، فصمه.
علّق عليه السّلام وجوب القضاء بشهادة العدلين من جميع المسلمين، و هو نصّ في التعميم، قربا و بعدا ثمّ عقّبه بمساواته لغيره من أهل الأمصار، و لم يعتبر عليه السلام القرب في ذلك، و في حديث عبد الرّحمن بن أبى عبد الله عن أبى عبد الله عليه السّلام: فإن شهد أهل بلد آخر، فاقضه و لم يعتبر القرب أيضا، و في الصّحيح عن هشام بن الحكم عن أبى عبد الله عليه السلام، قال في من صام تسعة و عشرين، قال: إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤية الهلال، قضى يوما.
علّق عليه السلام قضاء اليوم على الشّهادة على مصر، و هو نكره شائعة، يتناول الجميع على البدل، فلا تخصيص في الصّلاحيّة لبعض الأمصار إلّا بدليل.
و الأحاديث كثيرة بوجوب القضاء، إذا شهدت البيّنة بالرؤية، و لم يعتبروا قرب البلاد و بعدها، ثمّ نقل رواية عاميّة، دليلا على القول الآخر، إلى أن قال
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 54
و لو قالوا: إنّ البلاد المتباعدة تختلف عروضها، فجاز أن يرى الهلال في بعضها دون بعض، لكرويّة الأرض، قلنا: إنّ المعمورة منها قدر يسير، و هو الرّبع، و لا اعتداد به عند السّماء.
و بالجملة، إن علم طلوعه في بعض الأصقاع (الصّفائح خ ل)، و عدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه، لكرويّة الأرض، لم يتساو حكما هما، أمّا بدون ذلك فالتّساوي هو الحقّ. انتهى.
هذا ما أفاده العلّامة في المنتهى، نقلناه بطوله، و آخره كما ترى، ينافي أوّله صريحا، كما اعترف به صاحب الجواهر- قدّه.
لأنّ ما ذكره أوّلا من الاستدلال، فهو من قبيل احتمالات الفقيه في بدو بحثه حول المسئلة، و إيراد غاية ما يمكن أن يستدلّ به المخالف في نقيض المطلوب، ثمّ يختار ما عنده بحسب رأيه.
و لذلك ترى أن ما أفاده أوّلا، هو عين ما نقل في التّذكرة عن بعض الشّافعيّة و اللّيث بن سعد و أحمد بن حنبل و بعض علمائنا، ثمّ ردّ كلّ واحد من هذه الوجوه، و التذكرة هو أتقن كتب العلّامة و أحسنها. و ممّا يشهد على ذلك أنّه أدخل في جملة أدلّته نفس ما تمسّك به المخالفون من حلول الطّلاق و العتاق به و معلوم انّه مناف لمذهبه لمكان مانعيّة التعليق فيهما. و بالجملة اختيار العلامة في المنتهى هو عدم تساوى البلاد، إن علم طلوع القمر في بعض الأصقاع، و عدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه، لكرويّة الأرض.
و أمّا بدون ذلك، أى إن يعلم عدم طلوعه في بعضها الغير المتباعد، بجهة أخرى، غير كرويّة الأرض، مثل ما إذا كانت السّماء متغيّمة، غير مصحية، أو لعدم كرويّة الأرض كما إذا فرض تسطيحها، فالتّساوي هو الحقّ.
و هذا بعينه مذهب المشهور.
لكنّ صاحب الحدائق، المصرّ على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، بانيا على مذهبه من تسطيح الأرض، و الرّادّ على الفاضل الخراساني- ره- في الذخيرة ردّه على العلّامة ما استدلّ به في أوّل كلامه، أوّل ما استدرك به العلّامة في كلامه الأخير، حيث قال:
و أمّا قوله أخيرا: و بالجملة إلى آخره، فالظاهر أنّه إشارة إلى منع ما ادّعوه من الطّلوع في بعض، و عدم الطّلوع في بعض للتباعد، و أنّه غير واقع، لما ذكره أوّلا من أنّ المعمورة من الأرض قدر يسير، لا اعتداد به بالنّسبة إلى سعة السّماء، و أنّه لو فرض حصول العلم بذلك فالحكم عدم التّساوي، فلا منافاة لأوّل كلامه، كما استدركوه عليه.
و مخلصه، أنّا نقول بوجوب الصّوم، أو القضاء مع الفوات، متى تثبت الرؤية في
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 55
بلد آخر قريبا أو بعيدا، و ما ادّعوه من الطلوع في بعض و عدم الطلوع في آخر، بناء على ما ذكروه من الكرويّة ممنوع- انتهى.
و أنت خبير بأنّ هذا تأويل لم يرض به صاحبه.
العلّامة كان ينادى صريحا، بأنّه إذا احتمل كون الهلال فوق الأفق و أمكن الرؤية، لتسطيح الأرض، أو لكرويّتها، لكن لكون المعمورة منها بالنسبة إلى سعة السّماء قليلا، لا تمنع من رؤيته، ففي هاتين الصّورتين فالحقّ هو التّساوي، و أمّا إذا فرضنا كرويّتها، و قلنا بأنّ الكرويّة تمنع من الرؤية، ففي هذه الصّورة لم يكن الهلال فوق الأفق في البلاد المتباعدة، بل يخفى تحت قوس الأرض، فلا يحكم بدخول الشّهر.
و هذا بعينه مذهب المشهور.
ثمّ أين في كلامه إنكار الكرويّة، مع أنّه في التذكرة صرّح بمنع التّسطيح، و أنّ المشهور كرويّة الأرض، و ذكرنا أيضا استدلال ولده: فخر المحقّقين في شرحه على القواعد على كرويّتها.
ثمّ إنّه على فرض ذهاب العلّامة إلى مذهب غير المشهور، بانيا على عدم كرويّة الأرض، كيف يمكن أن يورد كلامه تأييدا لخلاف مذهب المشهور، حيث أنّ الكرويّة ثابتة قطعا، فلا مجال لبقاء حكمه المبنىّ على عدم الكرويّة أىّ مجال.
هذا مع أنّه في القواعد ذهب إلى الحكم بلزوم التّقارب في البلاد بلا احتمال خلاف.
و أمّا الشّهيد (ره) في الدّروس، فقد قطع بلزوم تقارب البلاد في الرؤية، و لم يمل إلى غيره أصلا حيث قال: و البلاد المتقاربة كالبصرة و بغداد متّحد، لا كبغداد و مصر، قاله الشيخ، و يحتمل ثبوت الهلال لمن في البلاد المغربيّة، برؤيته في البلاد المشرقيّة، و إن تباعدت، للقطع بالرؤية عند عدم المانع- انتهى.
و هذا كلامه، كما ترى ينادى صريحا بلزوم التقارب، و أمّا احتمال ثبوت الهلال في المغرب برؤيته في المشرق، فليس من باب الميل إلى اتّحاد البلاد شرقا و غربا، و إلّا لما خصّ بالبلاد الغربيّة بل لأنّ القمر إذا رئي في البلاد الشّرقيّة، رئي في غالب البلاد الغربيّة، كما فصّلنا سابقا، لاتّحاد أفق الرؤية في مطلعة و مغربه في ذلك، فغالب البلاد الغربيّة متّحد الأفق في طلوع القمر مع البلاد الشّرقيّة المرئيّ فيها القمر، و لا عكس. و لعلّ من نسب اليه ذلك، لم يطالع نفس الدّروس، و اكتفى بما نقله
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 56
صاحب الجواهر (قدّه) من كلامه بعد ذكر الأدلّة الّتي أقيمت على خلاف مذهب المشهور حيث قال:
و لعلّه لذا قال في الدّروس، بعد نسبة ما في المتن إلى قول الشيخ: و يحتمل ثبوت الهلال في البلاد المغربيّة برؤيته في البلاد المشرقيّة، و إن تباعدت، للقطع بالرؤية عند عدم المانع- انتهى.
و أنت بأدنى تأمّل تعرف: بأنّ صاحب الجواهر (ره) أخطأ في إسناد هذه النّسبة إلى الشّهيد (قدّه)، و لو بلفظ لعلّ الدّال على التّرجّي و الاحتمال، و لم يفهم مغزى مراده.
الشّهيد (ره) لم يذهب إلى الميل باتّحاد البلاد في الحكم بثبوت الشّهر، بل كان بصدد بيان الآفاق المتّحدة موضوعا، فذهب إلى اتّحاد البلاد الغربيّة في مطالع القمر، إذا طلع في البلاد الشّرقيّة. و أين هذا من ذاك؟
تبصرة: إنّ العلّامة في التذكرة و القواعد، و الشّهيد في الدّروس، فرّعوا على المبنى المشهور، من عدم كفاية رؤية بلد للبلاد المتباعدة فروعا، و نحن نذكرها بلفظ الدّروس:
منها: ما لو رأى الهلال في بلد، و سافر الى بلد آخر يخالفه في حكمه، انتقل حكمه إليه، فيصوم زائدا أو يفطر على ثمانية و عشرين، حتّى لو أصبح معيّدا، ثمّ انتقل، أمسك.
و لو أصبح صائما للرؤية ثمّ انتقل، ففي جواز الإفطار نظر. (أى لو رأى الهلال مثلا في ليلة الجمعة ثمّ سافر إلى بلدة بعيدة مشرقيّة، قد رئي الهلال فيها ليلة السّبت، أو بالعكس، صام في الأول واحدا و ثلاثين يوما، و يفطر في الثّاني على ثماني و عشرين يوما). و زاد في الجواهر:
بأنّه لو أصبح معيّدا، ثمّ انتقل ليومه، و وصل قبل الزّوال أمسك بالنّيّة و أجزأه و لو وصل بعد الزّوال مع القضاء، و لو أصبح صائما للرؤية، ثمّ انتقل، احتمل جواز الإفطار لانتقال الحكم، و عدمه لتحقّق الرؤية و سبق التكليف بالصّوم- انتهى. ثمّ قال: كلّ هذه الفروع ساقطة على المختار من عدم لزوم الاشتراك في الآفاق.
و أمّا صاحب المستند (ره) «1» فهو بعد ما ذكر علل اختلاف البلدان في رؤية الهلال، و أنّه راجع الى طول البلاد من جهة واحدة، و إلى عرضها من جهتين قال: ثمّ الحقّ الّذي لا محيص عنه عند
______________________________
(1) و هو الحاج مولى احمد النّراقي (ره) خالنا الأعلى من طرف الأمّ أعني أخا أمّ أمّ أمّ أمي فأبوه و هو الحاج مولى المهدى النراقي (ره) كان جدّنا الأعلى من طرف الأمّ أعني أبا أمّ أمّ أمّ أمّي (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 57
الخبير كفاية الرؤية في أحد البلدين للبلد الآخر مطلقا، سواء كان البلدان متقاربين أو متباعدين كثيرا، لأنّ اختلاف حكمها موقوف على العلم بأمرين، لا يحصل العلم بأحدهما البتّة:
أحدهما: أن يعلم أنّ مبنى الصّوم و الفطر على وجود الهلال في البلد بخصوصه، و لا يكفى وجوده في بلد آخر، و أنّ حكم الشّارع بالقضاء بعد ثبوت الرؤية في بلد آخر، لدلالته على وجوده في هذا البلد أيضا. و هذا ممّا لا سبيل إليه.
لم لا يجوز أن يكفي وجوده في بلد لسائر البلدان أيضا مطلقا.
و ثانيهما: أن يعلم أنّ البلدين مختلفان في الرؤية البتة، أي يكون الهلال في أحدهما دون الآخر، و ذلك أيضا غير معلوم، إذ لا يحصل من الاختلاف الطّولىّ و العرضيّ إلّا جواز الرؤية، و وجود الهلال في أحدهما دون الآخر، و أمّا كونه كذلك البتّة فلا، إذ لعلّه خرج القمر عن تحت الشّعاع قبل مغربيهما، و إن كان في أحدهما أبعد من الشعاع من الآخر.
و العلم بحال القمر، و أنّه في ذلك الشّهر بحيث لا يخرج عن تحت الشّعاع في هذا البلد عند مغربه، و يخرج في البلد الآخر غير ممكن الحصول، و إن أمكن الظّنّ به، لابتنائه على العلم بقدر طول البلدين و عرضهما و قدر بعد القمر عن الشّمس في كلّ من المغربين، و وقت خروجه عن تحت الشّعاع فيهما و القدر الموجب للرؤية من البعد عن الشّعاع.
و لا سبيل إلى معرفة شيء من ذلك إلّا بقول هيوىّ واحد، أو متعدّد راجع قول راصد أو راصدين يمكن خطاء الجميع غالبا.
و بدون حصول العلم بهذين الأمرين، لا وجه لرفع اليد عن إطلاق الأخبار أو عمومها.
فإن قيل: المطلقات إنّما ينصرف إلى الأفراد الشّائعة، و ثبوت هلال أحد البلدين المتباعد كثيرا من الآخر نادر جدّا.
قلت: لا أعرف وجها لندرته، و إنّما هي يكون لو انحصر الأمر في الثّبوت في الشّهر الواحد، و لكنّه يقيّد بعد الشّهرين و أكثر أيضا، و ثبوت الرؤية بمصرفى بغداد، أو ببغداد لطوس، أو للشّام في أصفهان و نحو ذلك بعد شهرين أو أكثر ليس بنادر، لتردّد القوافل العظيمة كثيرا- انتهى.
و هذا كما ترى أنّه (ره) أناط حكم المشهور بالعلم بكبرى المسألة، و العلم بصغراها.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 58
أمّا الكبرى، فهو لزوم وجود الهلال في بلد بخصوصه، و عدم كفاية وجوده في بلد آخر.
و أمّا الصّغرى فهو العلم باختلاف البلدان في الرؤية، أي العلم بكون الهلال في أحدهما دون الآخر.
ثمّ أنكر كلتا المقدّمتين، بأنّه لا سبيل إلى إثبات الكبرى، و لا يمكن الالتزام بأنّ الشّارع أناط مبنى الصّوم و الفطر على وجود الهلال في بلد بخصوصه، لا في بلد آخر.
و أنّه لا سبيل إلى إثبات الصغرى، لأنّ الهلال إذا رئي في بلد، لا يحصل لنا العلم بعدم كونه في البلد المتباعد، لأنّ العقل يحكم بجواز عدمه في بلد آخر، و لا يحكم بعدمه بتّا، لما بيّن من الجهات المختلفة الدّخيلة في رؤية الهلال الموجبة لصعوبة الحكم بعدمه في بلد آخر عند عدم رؤيته.
ثمّ رتّب على عدم العلم بحصول هذين الأمرين، تحكيم الإطلاقات و العمومات الواردة، و عدم جواز رفع اليد عنها. انتهى ما أردنا إيراده من كلامه.
أقول: أمّا العلم بكبرى المسئلة، فهو الجمع بين الأخبار المستفيضة بين الخاصّة و العامّة الدالّة على لزوم الرؤية في دخول الشّهر، و الأخبار الدالّة على لزوم القضاء بعد ثبوت الرؤية في بلد آخر، كما اعترف به العلّامة في التّذكرة.
و هذا الجمع كما نذكره إنشاء الله تعالى، بنحو الحكومة، لا التّعارض، لأنّ أخبار وجوب القضاء بعد ثبوت الرؤية في بلد آخر، حاكمة على الأخبار الأوّل الدّالة على لزوم الرّؤية، حيث إنّها تحكم عليها بتوسيع دائرة الرّؤية، و أنّها غير مختصّة برؤية أهل البلد، بل الرّؤية أعمّ من رؤيتهم و رؤية غيرهم. و بهذا نلتزم بأنّ الحكم بالقضاء بعد ثبوت الرّؤية في بلد آخر، لدلالته على تحقّق الرؤية في هذا البلد تنزيلا، بعد ما سنبيّن بما لا مزيد عليه، من عدم تسليم عموم خبر أو إطلاقه في هذا المورد، و أنّ ما ظاهره العموم أو الإطلاق منصرف الى الأفراد الشائعة، و هي البلدان المتقاربة.
و أمّا ما أفاده من عدم عرفان وجه لندرة الحكم للبلدين المتباعدين، فستعرف أنّه غير مقبول، مضافا إلى جهات أخرى، عقلية و نقليّة مانعة من قيام المطلقات على إطلاقها.
و أمّا العلم بصغرى المسئلة، فإنّا لا ندّعي العلم بعدم وجود الهلال في الآفاق البعيدة، بل ندّعي العلم بوجوده في الآفاق القريبة المتّحدة كما بيّنّا سابقا، و بهذا نلتزم
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 59
باتّحاد الحكم فيها.
و أمّا الآفاق البعيدة، فنحكم بعدم وجود الهلال فيها بالأصل.
و هذا الأصل و إن لم يثبت به الموضوع الموجب للحكم الشّرعيّ، لكنّه يثبت به عدم ثبوت الحكم الشّرعيّ المترتّب على نقيضه من الصيام و الفطر، فلا نحكم بهما للاستصحاب.
مضافا إلى الأخبار الواردة الدّالّة على وجوب إبقاء الشّهر، إلى أن يرى الهلال أو يتمّ ثلاثين.
و العجب، أنّه- ره- تمسّك بعموم الحكم و إطلاقه عند الشّك في الموضوع، و هذا لا مجال له عند الخبير بالقواعد.
و أمّا صاحب الوافي- قدّه- فقال: و الظّاهر أنّه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد، أو البعيدة عنه، لأنّ بناء التكليف على الرؤية، لا على جواز الرؤية و لعدم انضباط القرب و البعد لجمهور النّاس، و لإطلاق اللّفظ.
فما اشتهر بين متأخّري أصحابنا من الفرق، ثمّ اختلافهم تفسير القرب و البعد بالاجتهاد، لا وجه له- انتهى.
أقول: إنّ بناء التّكليف على نفس الرؤية مسلّم، و لكن لا نسلّمه بالجملة، كما اعترف به هو (ره) و حكم باتّحاد جميع البلدان مع عدم الرؤية إلّا في بعضها.
و أمّا مناط التكليف على جواز الرؤية بعد تحقّق رؤية ما، فلحكومة أخبار القضاء على أخبار لزوم الرؤية بتوسيع دائرة الرؤية كما عرفت.
و عدم انضباط القرب و البعد للجمهور، لا يوجب رفع اليد عن الحكم، بل حالهما كسائر الموضوعات غير المنضبطة فلا بدّ من الرجوع إلى أهل الخبرة، و عند عدم التمكّن، إلى الأصول الموضوعيّة.
و الشّهرة بين متأخّري الأصحاب من الفرق، لا تدلّ على عدم اشتهار الفرق بين متقدّميهم، بل الأمر كذلك، لبنائهم على الرؤية، و الحكم بالثّبوت في البلاد غير المرئيّ فيها الهلال، الّتي يصل إليها الخبر من الخارج عادة.
و لم يعرف منهم الحكم في البلاد المتباعدة غير المرئيّ فيها الهلال، الّتي لا يصل إليها الخبر، إلّا بعد أزمنة طويلة بحسب ذلك العصر.
و لو كان بنائهم على ترتيب أحكام الثّبوت فيها، لنقل إلينا يقينا، لأنّ الصّيام و
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 60
الفطر، في رمضان ليسا من الأمور الخفيّة، لرجوعهما إلى مجتمع أهل البلد.
و اختلافهم في تفسير القرب و البعد بالاجتهاد، كاختلافهم في غالب موضوعات الأحكام سعة و ضيقا، لا دخل له في الحكم.
ثمّ وجه هذا الحكم المشهور، ما سنبيّن من انصراف الإطلاقات الواردة إلى الأفراد الشّائعة.
و أمّا صاحب الجواهر- قدّه- الذاهب إلى عدم لزوم الاشتراك في البلدان، بناء على عدم الاختلاف في المطالع في الرّبع المسكون، فبما قدّمنا لك من المقدّمات العلميّة، تعرف أنّ ما ذهب إليه غير مقبول.
و أمّا السيّد الحكيم قدّه، فقال في مستمسكه:
أقول: لأجل أنّه لا ينبغي التأمّل في اختلاف البلدان في الطّول و العرض، الموجب لاختلافها في الطلوع و الغروب، و رؤية الهلال و عدمها، فمع العلم بتساوي البلدين في الطّول، لا إشكال في حجيّة البيّنة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر.
و كذا لو رئي في البلاد الشّرقيّة، فإنّه تثبت رؤيته في الغربيّة بطريق أولى.
أمّا لو رئي في الغربيّة، فالأخذ بإطلاق النّصّ غير بعيد، إلّا أن يعلم بعدم الرؤية، إذ لا مجال حينئذ للحكم الظّاهريّ، و دعوى الانصراف إلى المتقاربين غير ظاهرة.
نعم يحتمل عدم إطلاق النّصّ بنحو يشمل المختلفين، لوروده من حيث تعميم الحكم لداخل البلد و خارجها لا من حيث تعميم المختلفين و المتّفقين، لكنّ الأوّل أقوى.
انتهى.
أقول أوّلا: إنّ ما أفاده من عدم الإشكال في حجّيّة البيّنة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر فيما إذا تساوى البلدان في الطّول على إطلاقه محلّ إشكال، بل منع، لما عرفت بما لا مزيد عليه:
من أنّ الطّول و العرض، كليهما دخيلان في مطالع القمر. «1»
فأبحاثنا في المقدّمات، تغنيك عن البحث هيهنا.
و ثانيا، و بهذا المناط يشكل أيضا بل يمنع، بأولويّة الحكم بثبوت الرؤية في
______________________________
(1) فيمكن أن يكون البلدان متساويين طولا و مختلفين عرضا على حدّ يرى الهلال في أفق قليل العرض و لا يرى في آخر كثير العرض. (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 61
البلاد الغربيّة فيما إذا رئي في البلاد الشّرقيّة.
نعم لا إشكال فيه في الجملة، و هو فيما إذا كانت البلاد متّحدة طولا، مع اختلاف يسير في العرض.
و ثالثا، إنّ حكمه بعدم البعد عن الأخذ بإطلاق النّصّ فيما رئي في البلاد الغربيّة، لإثباته في البلاد الشّرقيّة محلّ منع، لأنّ انصراف النّصوص في الإطلاقات الواردة ممّا لا محيص عنه.
و بذلك يخرج المختلفان من حيّز الحكم، و لا ينافي هذا من حيث تعميم الحكم لداخل البلد و خارجه.
ثمّ إنّ عدم ذكر الاختلاف في هذه المسئلة في كلمات أكثر المتقدّمين، ليس إلّا لاتّفاقهم على أنّ الرؤية الكاشفة عن وجود الهلال فوق الأفق، شرط في الحكم بدخول الشّهر في البلد الّذي رئي فيه الهلال، مع ما يقاربه من البلاد.
فحكموا جميعا، طبقا للروايات الواردة، على أنّ الدّخيل هو الرّؤية، و يستند عدم الرؤية لا محالة في البلاد المتقاربة، المتّحدة الآفاق، إلى مانع كالجبال و السحب و الأبخرة و الرّياح و ما شابهها.
و أمّا البلاد المتباعدة، فحكمهما أيضا دائر مدار الرؤية، متى رأى أهلها الهلال حكموا بدخول الشّهر و إلّا فلا.
فحكمهم بأنّ الرؤية الكاشفة شرط في دخول الشّهر كافل لجميع هذه الموارد.
هذا مع ما في صحيح مسلم «1» عن يحيى بن يحيى و يحيى بن أيّوب و قتيبة و ابن حجر، قال يحيى بن يحيى:
أخبرنا، و قال الآخرون: حدّثنا، إسماعيل و هو ابن جعفر عن محمّد، و هو ابن أبي حرملة، عن كريب: أنّ أمّ الفضل، بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشّام. قال:
فقدمت الشّام، فقضيت حاجتها، و استهلّ علىّ رمضان، و أنا بالشّام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدمت المدينة في آخر الشّهر، فسألني عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما، ثمّ ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة.
فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، و رآه الناس، و صاموا و صام معاوية.
فقال: لكنّا رأيناه ليلة السّبت. فلا نزال نصوم حتّى نكمل ثلاثين أو نراه.
______________________________
(1) ص 440- ج 1 من الطبعة الاولى.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 62
فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية و صيامه؟
فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه (و آله) و سلّم.
و شكّ يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي- انتهى.
و أوردها العلّامة في التذكرة في جملة ما استدلّ به على ما ذهب إليه الشّيخ- قدّه- في المبسوط، من لزوم الاشتراك في البلدان.
و أوردها البيهقي أيضا في سننه. «1»
و هذا ظاهر بأنّ البلاد البعيدة حكمها غير حكم البلاد القريبة بالنّسبة إلى البلدة الّتي رئي فيها القمر و لكنّ البيهقي قال في آخر كلامه:
و يحتمل أن يكون ابن عبّاس أراد ما روى عنه في قصّة اخرى: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه (و آله) و سلّم أمدّه لرؤيته أو تكمل العدّة و لم يثبت عنده رؤيته ببلد آخر بشهادة رجلين، حتّى تكمل العدّة على رؤيته، لانفراد كريب بهذا الخبر، فلم يقبله- انتهى.
أقول: و هذا الاحتمال غير مقبول، كما صرّح به في الجوهر النقيّ المطبوع بذيل هذا الكتاب:
بأنّ قول ابن عبّاس: لا، حين قال له كريب: أو لا تكتفي برؤية معاوية، يبعّد هذا الاحتمال- انتهى.
فإذن هذه المسئلة، مبحوث عنها في لسان المتقدّمين، و وردت فيها هذه الرواية العاميّة بإسناد مختلفة، و إن لم تكن دليلا لنا، لعدم العلم باستناد المشهور إليها، لكن تدلّنا على وجود البحث حول هذه المسئلة في أوّل زمان الفقه، و هو زمان ابن عبّاس الّذي كان يأخذ علم الفقه و التّفسير، من مولانا علىّ بن أبي طالب أمير- المؤمنين، عليه صلوات اللّه و الملائكة المقرّبين.
و أمّا الاستدلال بإطلاق الأحاديث الواردة في ذلك، فالأوّل: قول الصّادق عليه السّلام في صحيح منصور بن حازم: فإن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه.
و الثاني: صحيح هشام بن الحكم عن أبى عبد الله عليه السّلام، أنّه قال فيمن صام تسعة و عشرين قال: إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر، أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته، قضى يوما.
______________________________
(1) ص 251 ج 4 من الطبعة الاولى.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 63
و الثالث: صحيحة أبي بصير عن أبى عبد الله عليه السّلام، أنّه سئل عن اليوم الّذي يقضى من شهر رمضان. فقال: لا تقضه، إلّا أن يثبت شاهدان عادلان من جميع أهل الصّلوة، متى كان رأس الشهر، و قال: لا تصم ذلك اليوم الّذي يقضى، إلّا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا، فصمه.
الرّابع: صحيحة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن هلال رمضان، يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان، فقال: و لا تصمه، إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر، أنّهم رأوه فاقضه.
الخامس: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام، عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان. فقال: لا تصم، إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر، فاقضه.
بيان ذلك: أنّ في جميع هذه الروايات، حكم بإطلاق وجوب القضاء، و الإطلاق دليل على العموم.
فتدلّ على وجوب القضاء لكلّ بلدة لم ير أهلها الهلال، إذا قامت البيّنة من أىّ بلدة رئي فيها الهلال، بلا فرق بين الآفاق القريبة و البعيدة.
و حيث لاقضاء إلّا لمن ترك الصّيام الواجب، فالصّيام واجب لأهل جميع البلاد، إذا رئي الهلال في بلدة واحدة من جميع العالم، فالرؤية الإجماليّة سبب لدخول الشّهر في جميع الشّهور لعدم الفصل بين شهر رمضان و غيره و الإطلاقات هي عمدة الأدلّة الّتي ذكروها في المقام.
و الحقّ أنّ هذه الإطلاقات، لا تقصر عن سائر الإطلاقات الواردة في أبواب الفقه، لو لا الانصراف و القرائن العقليّة و النقليّة، الموجبة لحصر المفهوم في بعض أفراد ما ينطبق عليه.
و هذه الموانع بأسرها موجودة في المقام.
أمّا القرينة العقليّة، فهي إنّا نعلم أنّ ساكني نصف قطر العالم، لا يرون الهلال، بعد خروجه عن تحت الشّعاع دائما.
فإذن تشريع الأحكام المترتّبة على الرؤية، ثمّ عدم تنجيزها بتّا، بعدم تحقّق الرؤية خارجا لغو، غير صادر من الحكيم.
لأنّ فائدة تشريع الحكم في مقام الجعل و الإنشاء، إمكان تنجّزها في الجملة، بالعلم و القدرة و سائر الشّرائط العامّة للتكليف.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 64
و إلّا فالحكم المجعول في عالم الإنشاء، غير القابل للتّنجيز، بعدم تحقّق ما يوجب تنجّزه دائما، عبث محض.
و أنت ترى أنّ أظهر مصاديق هذا الحكم العقليّ الّذي ذكرناه، هو الحكم بوجوب الصّيام أداء المترتّب على الرؤية، بالنّسبة إلى نصف العالم، مع عدم إمكان تحقّقها، بمجرّد تحقّقها في القطر الأخر.
فإن قلت: إنّ من شرائط الوجوب، تحقّق الرؤية، فحيث إنّ في هذا القطر لم تتحقّق، لم يتحقّق التكليف بالصّيام، فأيّ محذور فيه؟
قلت: أوّلا، إنّا نعلم علما يقينيّا أنّ القمر خرج عن تحت الشّعاع بالحساب في نقطة من نقاط العالم فرآه كثير من أهالي تلك النواحي و البلاد، و إن لم يصل الإخبار برؤيتهم إلى هذا القطر إلى الأبد، فالرؤية في الجملة قطعيّة، و العلم بها حاصل، و الإخبار بها ليس شرطا للموضوع.
فإذن يصير أهل هذا القطر مشمولا للحكم، لتحقّق الموضوع.
و محصّل الكلام، إن سلّم تحقّق الرؤية، فالحكم ثابت و غير معقول، و مع عدم معقوليّته حيث لا حكم و لا تشريع، فالقضاء غير معقول.
و ثانيا، حكم الشّارع بوجوب القضاء، يوجب تقلّب الحكم على المسلمين، لما ذكرنا من أنّ ساكني نصف القطر لا يرون الهلال دائما.
فلو حكّم الشارع على المسلمين في أقطار العالم، و جعل صومهم على الرؤية، و عند عدم الرؤية حكّم البيّنة بعد ستّة أشهر، أو تسعة أشهر أو سنة، على أنّ في البلدة الكذائيّة، في نقطة خاصّة من المغرب مثلا رئي الهلال، فلا بدّ و أن يقضوا صيامهم جميعا في نصف القطر، فهل هذا إلّا قلب الحكم لجميع الأمّة؟ فما معنى هذا التّشريع؟ فهلّا حكم الشارع لهم بتقديم صيام يوم قبل الشّهر، كي لا يقعوا في هذا المحذور؟
إنّ تشريع القضاء فيما لا يمكن الأداء للمكلّف، لعدم إمكان العلم بالتكليف، تشريعا عامّا للجميع، غير معقول و لكنّ هذا التّشريع بالنسبة إلى أفراد خاصّة، أوفى بعض الأحيان، لا مانع منه.
فتشريع قضاء الصّوم في البلاد المتقاربة للبلد المرئيّ فيه الهلال من هذا القبيل، و أمّا بالنّسبة إلى الجميع فغير صحيح.
و لذلك ترى أنّ الشارع جعل الثلاثين بدلا للرؤية في جميع الأزمنة و الأمكنة، و ذلك في روايات كثيرة، أوردها الحرّ في الوسائل، و النّوريّ في المستدرك، بأنّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 65
المدار في صيام شهر رمضان على تحقّق الرؤية أو إتمام ثلاثين يوما، كما في صحيحة إسحاق بن عمّار عن أبى عبد الله عليه السّلام، انّه قال: في كتاب علىّ عليه السلام: صم لرؤيته و أفطر لرؤيته، و إيّاك و الشّكّ و الظّن، فإن خفي عليكم، فأتمّوا الشّهر الأوّل ثلاثين.
و امّا القرينة النّقليّة، فهي الأخبار الواردة من الفريقين، لعلّها تبلغ حدّ التواتر، بإناطة الصّيام و الفطر بالرؤية.
و نحن التزمنا بحكومة الأخبار الواردة الدالّة على وجوب القضاء، على هذه الأخبار، بجعل سعة دائرة الرؤية بالنّسبة إلى الآفاق القريبة، و أمّا الآفاق البعيدة تكون على حالها، بلزوم تحقّق الرؤية فيها.
إن قلت: ما الفرق بين القريب و البعيد في ذلك، فظاهر الأخبار تحكيم البيّنة في القضاء مطلقا فلا فرق في الحكومة بين القريبة و البعيدة.
________________________________________
تهرانى، سيد محمد حسين حسينى، رسالة حول مسألة رؤية الهلال، در يك جلد، ه ق
رسالة حول مسألة رؤية الهلال؛ ص: 65
إن قلت: ما الفرق بين القريب و البعيد في ذلك، فظاهر الأخبار تحكيم البيّنة في القضاء مطلقا فلا فرق في الحكومة بين القريبة و البعيدة.
قلت: هذا مساوق لرفع اليد عن الروايات الدالّة على دخالة الرؤية بتّا، موجب لإهمالها و إبطالها.
و ذلك، لأنّا نعلم أنّ في آخر كلّ شهر قمرىّ، و هو الفصل بين الاحتراقين أو المقارنتين، أعنى 44 دقيقة و 12 ساعة 29 يوما، أنّ القمر خرج عن تحت الشعاع، و رئي في مكان ما، فلا بدّ و أن نلتزم بأحكام الصّيام و الفطر، فإذن سقطت الرّؤية رأسا، و بطلت هذه الرّوايات المتظافرة المتكاثرة الدّالة على دخالة الرّؤية، و صار الشّهر الهلاليّ المبدوّ بالرّؤية، الشّهر الحسابىّ المعلوم بالقواعد و الحساب و هو 44 دقيقة و 12 ساعة و 29 يوما.
و ابتدائه من خروج القمر عن تحت الشعاع.
و نحسب هذا المقدار، ثمّ هذا المقدار، و هلمّ جرا إلى آخر الدّهر، فنستريح من الاستهلال و الرؤية و الشّهادة و البينة و القضاء و غيرها جميعا.
مع أنّ القائد العظيم: نبيّنا الأعظم صلوات الله و سلامه عليه و آله، المتجلّى في قلبه أنوار الملكوت و المؤيّد بروح القدس، حسم مادّة النزاع، و حلّ هذا المشكل، و قلع أساس هذه التخيّلات الواهية إلى يوم القيمة، بقوله المعجز عند أهل التحقيق: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته. و شرط الرؤية في جميع الأمكنة.
و الظّاهر من كلامه صلّى الله عليه و آله و سلّم، جعل الرؤية على نحو
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 66
الموضوعيّة، لا الكاشفيّة الصرفة، و الطريقيّة المحضة.
فلا بدّ و أن نبني و نلتزم على الرؤية.
فإذن ربما يكون الشّهران أو أكثر على التّوالي، تسعة و عشرين، و ربما يكون الشهران أو أكثر كذلك ثلاثين، على حسب الرؤية.
فلو كانت الرؤية في ناحية ما كافية للحكم بدخول الشّهر في جميع النّواحي و الأصقاع، لم يبق مجال لقوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته، و لبطل الشهر التّسعة و العشرونىّ و الثّلاثونىّ الهلاليّ المبدوّ بالرّؤية، و صار الشّهر شهرا حسابيّا و هو 44 دقيقة و 12 ساعة و 29 يوما، أو شهرا وسطيّا.
كما عليه الملاحدة الإسماعيليّة، حيث جعلوا مدار الشّهر على هذا المقدار «1».
و لأجل عدم اختلال في عدد الشهور، و ضبط الحساب عند العامّة، جعلوا شهرا واحدا ثلاثين، ثمّ آخر تسعة و عشرين، ثمّ تسعة و عشرين، فهلمّ جرّا.
و لأجل دخالة المقادير الجزئيّة الخارجة عن هذه الضّابطة، جعلوا كبائس على النّهج الّذي عرفت في المقدّمات.
ثمّ وضعوا حديثا، نسبوه إلى إمامنا الصّادق عليه السّلام: رابع رجبكم غرّة الصّيام «2». و هذه الضّابطة لا تنطبق على الأشهر الهلاليّة دائما، بل تنطبق عليها تارة، و لا تنطبق اخرى و أمّا على الأشهر الحسابيّة، فصحيحة هي، و كلّ ما تريد أن تجعل لها نظيرا مثل قولك: رابع شعبانكم غرّة الشّوال، و رابع رمضانكم غرّة ذي القعدة، و قس على هذا.
و كذلك وضعوا حديثا، بأنّ يوم نحركم و يوم صومكم واحد.
و هذه القاعدة أيضا صحيحة على الأشهر الوسطيّة، دون الهلاليّة الرّؤيتيّة، فقد تنطبق عليها و قد لا تنطبق.
______________________________
(1) قد تقدّم الكلام على أنّ مدار الأزياج و مبناها على الوسطى لا غير ثم يستخرج منها بعد محاسبة التعديلات أهلّة الشهور و مقاديرها و هذا لا يختصّ بفرقة دون أخرى لكنّ الملاحدة اكتفوا بالشّهور الوسطية على هذا النهج ثمّ جعلوا المحرّم ثلاثين و الصفر تسع و عشرين و هكذا و صحّحوا باقي المقدار بجعل كبائس (منه عفى عنه).
(2) كما نسب نظما أو سجعا إليه صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال في الخطب سيد العرب: يوم صومكم رابع رجب. (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 67
لأنّا إذا حسبنا المحرّم ثلاثين، و الصّفر تسعة و عشرين، ثمّ الرّبيع الأوّل ثلاثين و الرّبيع الآخر تسعة و عشرين، و هكذا، يصير يوم أوّل رمضان الّذي هو أوّل يوم الصّيام، و يوم العاشر من ذي الحجّة الحرام، و هو يوم النّحر واحدا بحسب أيّام الأسبوع.
مثلا إذا كان الأوّل جمعة، يصير الثّاني جمعة، و إذا كان الأوّل سبتا، يصير الثّاني سبتا أيضا.
و بما ذكرنا لك يظهر أمور:
الأوّل، أنّ الرّؤية الّتي هي كاشفة عن وجود الهلال فوق الأفق، جعلت موضوعا لدخول الشّهر على وجه الموضوعيّة و الصّفتيّة.
الثاني، أنّ الرؤية جزء الموضوع لدخول الشّهر، و الجزء الآخر هو وجود الهلال الثّابت بنفس هذه الرّؤية، و إلّا لتحقّق الدّخول، و لو بعد إحراز الخلاف و تبيّن الخطاء، و هذا ممّا لا سبيل إليه.
الثالث، لا يمكن جعل الرّؤية كاشفة صرفة، و طريقا محضا إلى خروج القمر عن تحت الشّعاع، كما لا يمكن أن يكون طريقا محضا إلى كون الهلال فوق الأفق، لعدم مساعدة الأدلّة.
فلذلك لا يمكن نيابة العيون المسلّحة، و الآلات الرّصدية، و حساب المنجّمين الخبيرة بالزيجات المستخرجة، عن الرّؤية، و لا تكفى هذه للحكم بدخول الشّهر، و إن ثبت بها كون القمر خارجا عن تحت الشّعاع، أو موجودا فوق الأفق يقينا.
الرّابع، أنّ ما جعل بدلا للرؤية هو إتمام ثلاثين لا غير. فلذا لا يمكن الحكم بعدم دخول الشّهر، في ليلة الثّلاثين، برؤية الهلال يوم الثّامن و العشرين، أو الحكم بدخوله في ليلة الثّلاثين، برؤيته في اللّيلة القادمة، مرتفعا عن الأفق، بمقدار أزيد من غاية الارتفاع الممكن في اللّيلة الأولى من الشّهر، بجعل الرّصد و المحاسبة.
و غير هذه من الفروع المتصوّرة.
كلّ ذلك، لدخالة الرّؤية على وجه الموضوعيّة الظاهرة، من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته.
و من الرّوايات الواردة عن أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين.
هذا مع ما نرى من التزام الأصحاب و التّابعين و الأئمّة عليهم السّلام، بنفس الرؤية، بلا تعدّ عنها.
الخامس، الشّهر الشّرعيّ هو المبدوّ برؤية الهلال فوق الأفق المحلّىّ أو ما يقاربه،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 68
فلا يفيدنا الشّهر القمريّ الحسابىّ، و لا الشّهر القمريّ الوسطى، و لا الشّهر القمريّ الهلاليّ الفلكيّ.
أمّا الانصراف إلى الآفاق القريبة فممّا لا بدّ منه لا لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، كما شرط عدمه صاحب الكفاية قدّه- في باب الأخذ بالإطلاق، و جعله إحدى مقدّمات الحكمة، حتّى يقال: إنّ الإطلاقات شاملة للقدر المتيقّن في مقام التخاطب و غيرها، و نحن نأخذ بها في جميع فنون الفقه، مع أنّ في كلّ منها، قدرا متيقّنا بلا إشكال، و الّا يلزم فقه جديد.
و لا للإغراء بالجهل، و الإلقاء في الخطر و المفسدة، لو كان المراد الواقعيّ للمتكلّم خلاف ما يفيده من ظاهر كلامه من الإطلاق، بدون نصب قرينة على التّقييد، حتّى يقال:
إنّ هذا كلام خال عن السّداد، للقاعدة الدّارجة بين الموالي و العبيد في الأخذ بالإطلاق، بدون انتظار مدّة لمجيء القرينة على التّقييد.
و لا لأجل الشّكّ في سعة المفهوم و ضيقه، لغة أو عرفا، كما في لفظ الماء المشكوك صدقه على ماء الزّاج و الكبريت، مع أنّه من أظهر المفاهيم العرفيّة، كما صرّح به الشيخ الأنصاري قدّه- حتّى يقال: إنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.
بل لأجل صدق المطلق على صنفه الخاصّ بحسب الفهم العرفيّ، في ظرف خاصّ بالشّرائط المخصوصة و الكيفيّات و القرائن المحفوفة الّتي اختصّت بهذا المورد، و إن لم تكن في موارد أخر.
بيان ذلك: أنّ أسماء الأجناس موضوعة لنفس الطّبائع بنحو اللّابشرط المقسمي، المعبّر عنه في لسان المشهور بالطبيعة المهملة، فلا يتكفّل اللّفظ إلّا هذا المعنى.
فإن أراد المتكلّم نفس هذا المعنى فهو، و إن أراد الطّبيعة المطلقة أو المقيّدة، فلا بدّ و أن ينصب قرينة على مراده.
و الغالب أنّ قرينة التّقييد تكون بإيراد شيء في الكلام.
بخلاف قرينة الإطلاق، فإنّها تكون بالسّكوت، و عدم إيراد شيء في الكلام دالّ على خصوصيّة من خصوصيّاته.
فإذن لا بدّ و أن ننظر إلى جميع خصوصيّات المقامات، و حال المتكلّم الآمر، و حال المخاطب، و كيفيّة الحكم و الظروف الّتي القى فيها الحكم، و الظّروف الّتي قابلة لإتيان المأمور به فيها، و سائر القرائن المحفوفة، حتّى يتبيّن مقدار سعة دائرة دلالة هذا
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 69
السّكوت على ما ينطبق عليه المفهوم.
و هذا أمر عرفيّ وجدانيّ، يكون تحت إدراك الإنسان بما أنّه مدرك للحقائق العرفيّة وجدانا، بالذّوق الدّقيق، الّذي لا يمكن أن يعارضه أو يزاحمه أيّ شيء.
و يختلف بحسب المقامات و الأحوال، كالقرائن الدّالة على المجازات، لا يكاد ينحصر تحت عدّ، و لا ينضبط تحت ظابطة.
إذا عرفت هذا فنقول: بعد ملاحظة تسجيل أذهان المجتمع الإسلامي على لزوم الرؤية في دخول شهر رمضان، أو إتمام ثلاثين، تبعا لسنّة الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و البناء عليها بلا نكير بين الفريقين، و بعد ملاحظة تباعد البلاد، بعضها عن بعض زمانا، خصوصا في تلك الأزمنة، و عدم وصول الأخبار إلى الأقطار بتّا، أو وصولها بعد نصب و تعب و مضىّ زمان بعيد، إذا ألقى الإمام عليه السّلام: بأنّه إذا شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه، لا يفهم العرف إلّا البلد القريب، الّذي يمكن جعل الرؤية فيه رؤية في بلده بالحكومة، و توسيع دائرة الرؤية بالنّسبة إليه بمناط اتّحاد المكان من حيث وجود الهلال فوق الأفق، و أنّ المانع من الرؤية شيء عارضيّ، كما أنّه في البلدة الواحدة، إذا اتّسعت شرقا و غربا، تحقّق الرؤية في نقطة منها كاف للحكم بالرؤية في حقّ الجميع.
و ذلك لمناط وحدة المكان خارجا عند العرف.
فالإمام عليه السّلام يريد أن يوسّع دائرة اتّحاد المكان في الرؤية بنحو الحكومة و الاعتبار التّشريعيّ، و لا يريد نقض قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته.
و هذا الاعتبار بالنّسبة إلى البلاد القريبة الّتي يكون القمر فيها فوق الأفق، له مجال صحيح عند العرف و أمّا بالنّسبة إلى البلاد البعيدة الّتي لم يكن القمر فيها فوق الأفق، فهو بمنزلة هدم أساس الرؤية، و إنكارها من رأس، فلا يكاد يفهمه العرف.
مثلا إذا قال الطّبيب للمريض: اشرب دواء فلانيّا، و لا تجاوز عنه، فهل يمكن له أن يقول ثانيا اشرب أىّ دواء شئت، و خذ من الصّيدلىّ أيّة حبّة تريد؟ فلا يستحسنه الذّوق السّليم.
فإذن كلّما أجاز الطّبيب من دواء ظاهره الإطلاق، يحمله العرف على الأدوية
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 70
المتقاربة للدّواء المعيّن، مزاجا خاصيّة.
و كما إذا قال المولى لعبده: ائتني بماعون من ماء السّكّر، ثمّ قال له: لا بأس بأن تصبّ عليه شيئا من الماء القراح.
فيفهم العبد بالذّوق الوجداني أنّ ما يجوز له أن يصبّ عليه، هو شيء قليل ممّا صدق عليه الماء القراح لا كلّما يصدق عليه شيء من الماء القراح، و إن كان من الكثرة بمثابة لا يبقى معه مفهوم ماء السّكّر في الماعون.
و الإطلاقات الواردة في المقام من هذا القبيل، و توسعة دائرة الأمكنة الّتي يمكن أن يستفاد من الإطلاق، هي الأمكنة الّتي يقبل العرف بالحكومة التّشريعيّ صدق الرؤية فيها، و هي الآفاق القريبة المتّحدة مع بلد الرؤية في كون القمر فوق الأفق، و المانع من الرّؤية وجود جبل أو غيم أو ما شابههما، بعين ما يراه من اتّحاد البلدة الواحدة في نقاطها المختلفة، بتحقّق رؤية في نقطة منها، و وجود جبل أو غيم في سائر نقاطها.
و أمّا الآفاق البعيدة، فالحكومة فيها عند العرف بمنزلة إنكار أصل الرؤية و هدم أساسها.
فإذن لا يكاد يفهم العرف من ألفاظ مصر، و البلد و البيّنة، و جميع أهل الصّلوة، الواردة في الإطلاقات بلدة المدينة المنوّرة بالنّسبة إلى خراسان، أو حبشة بالنّسبة إلى سمرقند البعيدة إحديهما عن الأخرى بستّة أشهر، أو سنة زمانا.
و لا يمكن حمل قوله: قيام البيّنة على أهل مصر، قيام البيّنة من أهل مكّة على أهل بخارا، أو أهل إسبانيا على أهل نيسابور مثلا.
مع ما رأينا في عصرنا هذا، في أزمنة قريبة من الحال، أنّ أخبار مدينة قم في الصّيام و الفطر، لا تصل إلى مدينة طهران إلّا بعد يوم أو يومين، و كذلك أخبار بغداد و سامرّاء لا تصل إلى النّجف إلّا بعد يومين أو أيّام.
فكلامه عليه السّلام بالنّسبة إلى تلك الظّروف، مع ارتكاز أذهان المجتمع، من دخالة الرّؤية في دخول الشّهر، لا يشمل إلّا البلاد القريبة الّتي تصل الأخبار إليها، في أزمنة قريبة، بعناية وجود الهلال في آفاقهم، و أنّ جميع هذه النّواحي ناحية واحدة من هذه الجهة.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 71
فسعة دائرة نطاق الإطلاق لا يتجاوز عن هؤلاء. فهو عليه السّلام كان بصدد بيان الحكم لهؤلاء، و بمقدّمات الحكمة يستفاد الإطلاق لجميعهم، و هو المعبّر عنه بالانصراف في هذا المقام.
و العجب من صاحب المستند ره- في مقام دفع الانصراف، اعترف بندرة ثبوت الهلال لأحد البلدين المتباعدين، إذا انحصر الأمر في الثّبوت في الشّهر الواحد، و لكنّه أنكر النّدرة فيما تصل الأخبار بعد الشّهرين و أكثر.
و قال: ثبوت الرؤية بمصر في بغداد، أو ببغداد لطوس، أو للشّام في أصفهان، و نحو ذلك بعد شهرين و أكثر ليس بنادر، لتردّد القوافل العظيمة فيها كثيرا- انتهى.
و ذلك، لأنّ ورود القوافل الكثيرة بعد شهرين، لا ينافي النّدرة، لأنّ القوافل لا ترد إلى كلّ بلدة بلدة أوّلا.
و الأمر لا ينحصر في البلاد الّتي تصل الأخبار إليها بعد شهرين أو أكثر ثانيا، لأنّ الحكم باتّحاد الآفاق يوجب أن يكون جميع كرة الأرض في الحكم مساويا، فإذن ربما يبعد بلدة عن بلدة بأكثر من سنة زمانا و لا تصل الأخبار إليها بتّا، فكيف يمكن إنكار النّدرة؟
هذا مضافا إلى أنّ نفس النّدرة فقط ليست موجبة للانصراف، بل بضميمة سائر القرائن المذكورة الّتي لا يمكن إنكارها، و عمدتها ارتكاز أذهان النّاس بلزوم الرؤية، و عدم مساعدة تحكيم أدلّة القضاء لجميع البلاد، و القرائن العقليّة الّتي ذكرناها.
هذه جملة ما أردنا إيرادها في مقام المنع عن إمكان العمل بالإطلاقات.
و للمحقّق البصير، و النّاقد الخبير، غنى و كفاية.
و أمّا الاستشهاد بما روى في عدّة روايات، في كيفيّة صلاة عيدي الفطر و الأضحى، و ما يقال فيها من التّكبير، في قوله عليه السّلام في جملة تلك التكبيرات:
أسألك بحقّ هذا اليوم، الّذي جعلته للمسلمين عيدا، حيث إنّ الظّاهر، أنّ المشار إليه في قوله عليه السّلام، في هذا اليوم، هو يوم معيّن خاصّ، الّذي جعله الله تعالى عيدا للمسلمين، لا أنّه كلّ يوم ينطبق عليه أنّه يوم فطر أو أضحى، على اختلاف الأمصار في رؤية الهلال، باختلاف آفاقها، مضافا إلى أنّه تعالى جعل هذا اليوم عيدا للمسلمين كلّهم، لا لخصوص أهل بلد تقام فيه صلاة العيد،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 72
حتّى ينتج على ضوئهما، أنّ يوم العيد واحد لجميع أهل البقاع و الأمصار على اختلافهما في الآفاق و المطالع، فلا يجدي شيئا في المقام.
و ذلك، لما بيّنّا أنّ لكلّ بقعة بقعة خاصّة في العالم، ليلة مخصوصة و نهارا مخصوصا.
فكلّما يمكن أن يتصوّر في العالم، آفاق مختلفة، و بقاع متفاوتة، يمكن أن يتصوّر دوائر أنصاف نهر متفاوتة فيمكن تصوّر ليال كثيرة، و أيّام كثيرة بعدد تلك أنصاف النّهر.
و ذلك لأنّ اللّيل عبارة عن الظّلّ المخروطىّ، في الطّرف المقابل لطلوع الشّمس من الأرض، الحاصل من شعاع الشّمس على سطح الأرض.
و هذا المخروط متحرّك دائما، لا يقف في لحظة أبدا.
فاللّيل يتحرّك دائما في جميع الأرض، بحسب طول البلاد، و لكلّ بقعة منها ليل خاصّ، غير ما لبقعة أخرى من اللّيل.
و لا فرق فيما ذكرنا بين ما إذا فرضنا حركة الشّمس حول الأرض، كما في فرضيّة بطلميوس، و بين ما بيّن في محلّه اليوم من حركة الأرض حول نفسها، من دليل فاندول (فوكو) و لزوم الحركة الشّديدة بما يبلغ مليارد كيلو متر في الثّانية، لو كانت الأرض ثابتة، و الشّمس متحرّكة.
بخلاف ما لو كانت الأرض متحرّكة، فتلزم حركتها في كلّ ثانية خمسمائة متر. و هذه في النّقاط الاستوائيّة الّتي تكون السّرعة فيها أكثر.
و على كلا التّقديرين لا بدّ من الالتزام بهذا المخروط في الفضاء حول الأرض.
أمّا على الفرضيّة القديمة فظاهر بأنّ الشمس لمّا كانت غير ثابتة في لحظة، بل متحرّكة حول الأرض دائما، فبتبع هذه الحركة، يتحرّك الظّلّ المخروطىّ حول الأرض.
و أمّا على فرضيّة المتأخّرين، فلأنّ الأرض غير ثابتة في لحظة، بل متحرّكة دائما حول نفسها، و الظّلّ المخروطىّ ثابت، و الأرض تدور حول نفسها في هذا الظّل، فتختلف بسبب هذه الحركة البقاع الّتي صارت مواجهة لضوء الشّمس، المسمّاة بالبقاع النّهاريّة، فتتميّز عن البقاع الّتي صارت مواجهة لخلاف ضوء الشّمس، المسمّاة بالبقاع اللّيليّة.
فهذه البقاع تتبدّل دائما، ففي كلّ أن يكون لبقعة جديدة، ليل جديد و نهار جديد.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 73
و النّتيجة واحدة على كلا التّقديرين و كلتا الفرضيّتين بالنّسبة إلى حدوث الظّلّ المخروطىّ الموجد للّيل، فاللّيلة في طهران، غير اللّيلة الّتي فيما قبلها و ما بعدها من البلاد طولا، فإذن لا بدّ و إمّا أن نلتزم بأنّ ليلة العيد مثلا مجموع تلك الظلمة، في دور كامل أرضىّ، يبلغ أربع و عشرين ساعة، و لكلّ بقعة حدّ خاصّ و تعيّن مخصوص من تلك الظلمة، فليلة العيد في طهران، قدر خاصّ من جميع اللّيل الطّويل، و كذا نهار العيد المتعقّب باللّيل، قدر خاصّ من مجموع نهار العيد البالغ أيضا أربع و عشرين ساعة، و إمّا أن نلتزم بأنّ ليلة العيد ليست أمرا جزئيّا، و مصداقا خارجيّا مشخّصا، بل أمر كلّيّ ينطبق على مصاديق عديدة، و لكلّ بقعة، يوجد فرد من هذا الكلّيّ بمجرّد غروب الشّمس فيها، إلى أن تطلع، كما أنّ النّهار أمر كلّيّ، يوجد لكلّ بقعة فرد منها بمجرّد طلوع الشّمس فيها، إلى أن تغرب.
فإذن ليس العيد يوما خاصّا محدودا بين النّقطتين المشخّصتين، حتّى يمكن الاستشهاد بها في المقام، بل على ضوء هذا البيان، يوم طويل جزئيّ له تعيّنات كثيرة، أو يوم قصير كلّيّ له أفراد عديدة حسب تعداد النّواحي و الأصقاع في جميع أقطار الأرض.
فعلى هذا يكون المراد من قوله عليه السّلام: من هذا اليوم الّذي جعلته للمسلمين عيدا، هذا اليوم الطّويل الّذي لكلّ بلد سهم خاصّ منه، أو الكلّيّ الّذي لكلّ بلد فرد خاصّ منه.
فكيف يمكن أن يستشهد به لتشخّص اليوم في جميع العالم الملازم لاتّحاد جميع الآفاق في ذلك؟
و على هذا البيان تبيّن أيضا، أنّ الكريمة الواردة في ليلة القدر، و أنّها خير من ألف شهر و أنّ فيها يفرق كلّ أمر حكيم، و تكتب فيها البلايا و المنايا و الأرزاق أيضا كذلك.
فجميع الأيّام و اللّيالي في السّنة، كيوم عاشوراء، و عيد الأضحى، و النّصف من رجب، و شعبان و عيد الغدير: الثّامنة عشر من ذي الحجّة، و لياليها من هذا القبيل.
فإذا ثبت أنّ الأيّام و لياليها، جزئيّات طويلة الأمد، أو كلّيات منطبقة على مصاديقها الخاصّة، المعيّنة، و إقدار خاصّة في الكثير، كالصّاع من الصّبرة، فأيّ مانع
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 74
من الالتزام بها في كلّ ناحية بحسبها على ميزان رؤية الهلال؟ غاية الأمر يصير امتداد دائرة هذا اللّيل و النّهار أوسع، و أىّ ضير فيه؟
و ممّا ذكرنا ظهر أنّ ذهاب المشهور إلى الحكم بلزوم اشتراك البلدان في الآفاق في رؤية الهلال، ليس إلّا من جهة الموازين العلميّة، و الرّوايات الواردة في المقام الدّالّة بالحكومة على دخول الشّهر في كلّ بلدة بمجرّد رؤية الهلال في بلدة، الكاشفة عن وجود الهلال في جميع هذه البلاد.
و أنّ لمطالع القمر في الآفاق المختلفة دخلا في مسئلة الحكم بدخول الشّهر، بعين مدخليّة طلوع الشّمس، في مطالعها بما له من الأحكام.
فليس هذا مجرّد قياس هذه المسئلة بتلك، بل لأنّ لكلّ واحد منهما حكما مستقلا مشابها للآخر.
هذا آخر ما جرى على قلمي في هذا المقام، و ما كنت نويت في ابتداء البحث، أن أطيل الكلام على هذا النهج، و لكنّ في الأثناء قضى الله ما قضى على هذا الأسلوب البيع.
و كان تبديل فتياك في هذه المسئلة، هو الباعث لهذه الإطالة، حتّى يتّضح جوانب المسئلة، و يتبيّن المرام من جميع الجهات.
و ما أردت إلّا ابتغاء وجه الرّبّ الكريم.
فإن وقعت مورد القبول فهو، و إلّا فالرّجاء الواثق أن تتفضّل علىّ بالجواب، و لك مزيد الشّكر و الامتنان.
و غير خفيّ أنّ هذه و ما شابهها من الرّسائل الّتي كتبتها من العلوم الّتي دخلتها، قطرة من فيضان بحرك، و رشحة من سحاب علمك، و بضاعتك الّتي ردّت إليك، صدرت فوردت، منك و إليك.
و له الحمد في الاولى و الآخرة، و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ربّنا عليك توكّلنا، و إليك أنبنا، و إليك المصير، ربّنا لا تجعلنا فتنة للّذين كفروا، و اغفر لنا ربّنا إنّك أنت العزيز الحكيم.
ربّنا لا تجعل الدّنيا أكبر همّنا و لا مبلغ علمنا، لئلّا نقرأ في صحيفتنا يوم القيمة:
أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا و استمتعتم بها.
ربّنا أدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه محمّدا و آل محمّد، و أخرجنا من كلّ سوء أخرجت منه محمّدا و آل محمّد. صلواتك عليه و عليهم أجمعين.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 75
و في الختام نشكر مساعيكم الجميلة في إحياء التّراث الإسلاميّ و حمل أثقال الزّعامة للأمّة المحمّديّة جزاكم الله خير جزاء المحسنين.
فقمت مقاما حطّ قدرك دونه |
|
على قدم عن حظّها ما تخطّت |
و رمت مراما دونه كم تطاولت |
|
بأعناقها قوم إليه فجذّت |
أتيت بيوتا لم تنل من ظهورها |
|
و أبوابها عن قرع مثلك و سدّت |
نسأل اللّه تعالى، أن يديم أظلالكم السّامية و أن يجعل أيّامكم خيرا من الماضية و أن يوفّقكم و إيّانا لما يحبّ و يرضى. و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
ختمت هذه الرّسالة، بحمد الله و منّه، في السّاعة الخامسة من اللّيل، ليلة شهادة مولانا و إمامنا، محيي مذهب الإماميّة، حامل لواء الولاية المحمّديّة: جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام في سنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و تسعين، بعد الهجرة النّبويّة، على هاجرها سلام الله الملك العلّام. و أنا الراجي عفو ربّه: محمّد الحسين بن محمد الصّادق الحسينيّ الطّهرانيّ، ببلدة طهران.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 77
جواب العلّامة الخوئي عن الموسوعة الاولى
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 79
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه صورة ما تفضّل به سيّدنا العلّامة الخوئي مدّ ظلّه السّامي جوابا عن الرّسالة الّتي أرسلتها إلى حضرته دامت بركاته نقلته هيهنا ليكون تبصرة لي و تذكرة لغيري و له الحمد في الاولى و الآخرة و الصّلوة و السّلام على سيّدنا محمّد و آله الطّاهرين و إليك نصّ عبارته دام ظلّه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم: إنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السّموات و الأرض، صدق الله العلىّ العظيم.
بعد السّلام و التّحيّة، وصلتنا موسوعتك الرّائعة، النّاتجة عن قريحة نجلاء، و جهود ثمينة فشكرنا سعيك، و سبرناها عابرين على ما أبديت من النّقود على المختار، و ما أسديت للمشهور من وجوه و استظهار، فوجدنا أنّ المراد من قولنا كأنّه لم يتّضح ممّا حرّرنا في الرّسالة حتّى حمل على ما لا ينبغي، و كان التفصيل المبيد للرّيب يتطلّب فراغا واسعا من الوقت، لا تساعده واجباتنا المحيطة بنا الآن، فاخترنا و جيزا من الوصف لتوضيح ما اخترناه بما يسع المجال، أداء لما رغبتم إليه في خاتمة المقال، عسى أن يتّضح به المراد، و يندفع ما زعمت عليه من وجوه الإيراد.
فليعلم أنّ قولنا: بداية الشّهر ببداية الخروج عن المحاق، لم نقصد منه أنّ تلك اللّحظة مهما كانت فهي بداية حساب الأيّام، أو مدار نصّ الفروض و الأحكام، كي يرد عليه ما توهّم.
و إنّما أردنا بذلك دفع ما توهّم أنّ بدوّ الهلال كبزوغ الشّمس للنّهار، ظاهرة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 80
أفقيّة لسكّان الأرض، فيهلّ الهلال في أفق لأناس ليلة، ثمّ في آخر لآخرين ليلة أخرى، كما تشرق الشّمس في أفق ساعة لقوم، ثمّ لآخرين ساعة أخرى، و هكذا.
فدفعنا الوهم بأنّ بداية النّهار غير بداية الشّهر.
إذ الطّلوع ظاهرة افقيّة تحدث من حركة الأرض الوضعيّة، فتجدّد لها آفاق تجاه الشّمس، فيتعدّد لا محالة نهار لكلّ أفق، فلا يكون نهار قوم نهارا لمن لم يخرج بعد من ظلام اللّيل، و ليس هكذا الهلال.
فإنّه حادث سماويّ، يحدث من ابتعاد القمر عن تحت الشّعاع، عدّة درجات بالقياس إلى سكّان الأرض، يبدو لهم منه قوس الهلال.
حتّى و لو قدّر أن لم تكن الأرض بآفاقها، و كان النّاظرون في الفضاء كما هم على الأرض، يحجبهم كوكب عن الشّمس، فيبدو عليهم اللّيل، يرون الهلال.
و لذا ترى في واقعنا الّذي نعيش فيه، لو رئي الهلال في أفق من الأرض، كإسبانيا على ما مثّلت و لم ير في طهران، لا يصحّ أن يقال: صار القمر هلالا في اسبانيا، و لم يصر هلالا في طهران، حين يصحّ أن يقال: صار الوقت نهارا هنا، و لم يصر بعد نهارا هناك، و ذلك لارتباط النّهار بهما، و عدم ارتباط الهلال بأيّ منهما إلّا في الرؤية لا الهلاليّة.
فالقمر حينئذ هلال لإسبانيا و لطهران و لأيّ أفق خيّمت عليه ليلة الرؤية.
هذا ما أردنا من حديث بداية الخروج لبداية الشّهر.
أمّا بداية الحساب فلا بدّ أن تكون من أوّل اللّيل ليلة الرّؤية، مهما تحقّق الخروج، حتّى يعلم بوجوده في السّماء بالرّؤية الّتي هي الطّريق العامّ الوحيد في سهولة التناول لكلّ أحد.
و لا تكون غالبا إلّا في أوّل اللّيل، أو قريبا منه. فيتّخذونه بداية لأوقات شهورهم، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ فمواقيت النّاس من الشّهر تبدأ عندهم من أوّل ليل يرى فيه الهلال.
و الشّارع قرّرهم عليه في أحكامه أيضا، يشهد له قول الصّادق عليه السّلام في صحيح حمّاد: (إذا رأوا الهلال قبل الزّوال فهو للّيلة الماضية، و إذا رأوا بعد الزّوال فهو للّيلة المستقبلة و نحوه غيره) حيث أضاف الهلال إلى اللّيل، و إن اتّفقت الرّؤية
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 81
نادرة في اليوم.
فنحن أيضا لا نعدو عن ذلك، و لا نختلف مع المشهور أو معك فيه، و الوجه ما مرّ آنفا.
فسقط جملة من النّقود الّتي بيّنتها على توهّم الخلاف و جعلتها لازم المختار.
و أمّا النّقد بأن لو كان ملاك البداية ما ذكر فلا بدّ أن يعمّ جميع الآفاق، و لا يختصّ بالفوق من الأرض، و لا مزيّة توجب هذا الاختصاص على طول مقال لك في صحيفة 49 في ذلك، فيدفعه أنّ المزيّة ما قرّرنا من أخذ البداية من اللّيل ليل الرؤية.
و اللّيل الّذي رئي فيه إنّما هو الظّلّ الواحد للنّصف الجانبىّ المعاكس لواجهة الشّمس، كما أنت خبير به و هذا ليس لجميع الآفاق، بل للنّصف الفوق، و النّصف الآخر نهار في أوقاته غالبا، أعنى غير القطبيّة، و النّهار دائما تبع ليله السّابق في العدّ، فلا يكون بحساب هذا اللّيل، بل بحساب الشّهر الماضي، فإذا وصل الظّل إليه في دوره لتلك الآفاق عدّت فيها بالأوّليّة.
و إن شئت قلت: إنّ ليلة الرؤية ليلة واحدة بأربع و عشرين ساعة، يتبعها نهار واحد بأربع و عشرين ساعة، يعدّ ان أوّل الشّهر، ثمّ يتبعهما ليال و أيّام كذلك حتّى يتمّ ثلاثين أو تسعة و عشرين، فيكمل شهر واحد، و يتبعه شهور كذلك حتّى يتمّ اثنا عشر شهرا كما في كتاب اللّه تعالى و أمّا على المشهور الّذي أيّدته فكاد أن يتمّ أربعة و عشرين شهرا على أقلّ تقدير، و لا ينبّئك مثل خبير.
و أمّا ما سلكت من الطّريق إلى المشهور، موجّها به دعويهم من اعتبار الرّؤية في النّصوص جزءا للموضوع على نحو الصّفتيّة، حذو تعبيرك، تريد به اختصاص الموضوع بما يكون في أفق كلّ مكلّف لنفسه، حسب موضوعيّة رؤيته، غاية الأمر وسّع الموضوع بدليل كفاية رؤية بلد آخر إلى الآفاق القريبة بدعوى الحكومة، فمن جهة موضوعيّة الرؤية لا يتعدّى إلى الآفاق البعيدة و بذلك حاولت منع الإطلاق الّذي تمسّكنا به دليلا للمختار، بعد أن اعترفت بعدم قصور إطلاق المقام عن سائر الإطلاقات، فكلتا الدعويين بمعزل عن التّحقيق.
أمّا الأولى و هي جزئيّة الرّؤية للموضوع، يدفعها ظهور أخذها طريقا إلى ما هو تمام الموضوع أعنى دخول الشّهر، فإنّه الّذي يستفاد من الكتاب العزيز وجوب الصّوم به حيث قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ إلى قوله شَهْرُ رَمَضٰانَ، و كذلك من السّنّة.
و كان الأمر بالصّوم للرؤية لأجل لزوم إحرازه لخصوص شهر الصّيام، و عدم
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 82
الاكتفاء بالامتثال الظنّي أو الاحتمالى، كما يشهد للأوّل ذيل صحيحتي ابن مسلم و الخزّاز و موثّق ابن عمّار، و للثّاني رواية القاساني.
و يشهد لطريقيّة الرؤية أيضا أمور:
الأوّل اعتبار البيّنة مقامها، فلو كانت جزءا بنحو الصّفتيّة لما استقام قيام البيّنة مقامها.
الثاني عدّ الثلاثين إذا لم تتيسّر الرّؤية و البيّنة، حيث إنّه يوجب العلم بخروج السّابق و دخول اللّاحق.
الثالث وجوب قضاء صوم يوم الشّك الّذي أفطر لعدم طريق إلى ثبوته، فتبيّن بعد ذلك بالبيّنة أو بالرّؤية ليلة التاسع و العشرين من صومه وجود الشّهر في يوم إفطاره، ففات عنه الواجب الواقعي و هذا ثابت بالنص و الفتوى و لا خلاف فينا.
الرّابع إجزاء صومه إذا صامه بنيّة شعبان أو صوم آخر كان عليه، فتبيّن بعد أنّه من رمضان معلّلا في النّصوص بأنّه يوم وفّق له، و لا يخفى أنّ الإجزاء فرع ثبوت التّكليف.
و بالجملة لا مساغ لأصل الجزئيّة فضلا عن الصّفتيّة.
و إنّما أخذت طريقا لأنّها أتمّ و أسهل و أعمّ وصولا لكلّ أحد، إلى إحراز الهلال المولّد للشّهر الّذي هو تمام الموضوع.
نعم لا بدّ أن يكون وجود الهلال على نحو يمكن رؤيته بطريق عادىّ، فلا تكفي الرّؤية بالعين الحادّة جدّا أو بعين مسلّحة بالمكبّر أو العلم بوجوده بالمحاسبات الرّصديّة على دون تلك المرتبة، لاستفادة تلك الصّفة له من النّصوص المعتبرة النّاطقة بأن لو رآه واحد لرآه خمسون أو لرآه مأة أو لرآه ألف، تعبيرا عن حدّ ما ينبغي من صفة وجوده.
فهذا أيضا ممّا لا خلاف بيننا فيه، فإن كان المراد من الجزئيّة هذا التّقييد، فحرىّ بالتّأييد و لكنّه خلاف ظاهر المقال.
و عليه فيكفي لثبوت الموضوع رؤية ما إمّا من نفس المكلّف أو بالبيّنة و لو من بعيد.
و أمّا الدّعوى الثّانية، و هي دعوى انصراف الإطلاقات المدّعاة لنا، بتكلّف أنّ ارتكاز لزوم رؤية المكلّف المستفاد من قوله: صم للرؤية، توجب قصر اعتبار البيّنة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 83
الحاكية عن بلد آخر أو مصر ما في رؤيته بأفق قريب للأفق الّذي لم ير فيه، حيث اعتبرته بعناية الحكومة، فمفادها التّعبّد بثبوت الهلال فيه، و لكن لم ير لمانع كما يتّفق في الأفق الواحد أيضا أن يرى في موضع و لا يرى في موضع آخر منه، لمانع من جدار أو جبل إلى آخر ما أفدت، فيردّها:
أوّلا أنّ هذه عدول عن الموضوعيّة الى طريقيّة الرّؤية بدعوى حكومة البيّنة بوجود المرئيّ في الأفق أى أفق المكلّف و إن لم يره كما في النّظير.
و ثانيا أنّ الارتكاز الّذي استفيد من دليل لزوم الرّؤية إنّما هو على الطّريقيّة كما بيّنّا، و كونها موضوعا إنّما كان بدعوى منك فقط، فأخذها في المدّعى لإثبات الانصراف بها مصادرة بيّنة في منع أخبار البيّنة، فلا مناص عن القول بكفاية ثبوت الهلال في أفق ما الّذي هو ملاك وجود الشّهر و دخوله ببيّنة أىّ أفق كان حسب تلك الإطلاقات عند جماعة، بل المعترف بها عندك، لو لا الشبهة الّتي ذكرت.
امّا النّقد في استشهادنا الثالث بجمل الذّكر و الآية في معنى يوم العيد و ليلة القدر، بترديدك في مفهومهما بذاك التّفصيل و التّطويل، فلا بدّ ان يعدّ تغافلا منك، و إلّا فلا ريب في أنّ ليلة القدر الّتي يستفاد من الكتاب و السّنّة أنّ فيها تقدير حوادث السّنة، ليست إلّا ليلة واحدة شخصيّة، لا اللّيل الكلّيّ القابل للصّدق على الكثير و لا نفس جزئيّات ذاك الكثير حسب كلّ أفق و صقع، بل هي الواحدة المحدودة بتمام دور الأرض، بظلّها اللّيليّ كما قدّمنا، و كذا يوم العيد لجميع المسلمين المشار اليه بلفظ (هذا) المفيد للجزئيّة الشّخصيّة المضافة لجميع المسلمين، لا يلائم إلّا ذاك النّهار الواحد المحدود بتمام دوره النّهارىّ كما مرّ غير بعيد، فلا حاجة لأن نعيد، كما لا نطيل البحث عليك بمزيد، لأنّك بحمد الله تعالى في غنى عن لزوم التطويل، و نبدي إليك المعذرة بهذا القليل، و نرجو لك التّوفيق و السّداد، و نيل مناهج الأماني و الرّشاد.
فما ذكرنا في هذا الوجيز من بيان ملاك الشّهر، و من ملاك احتسابه، و شطرا من طرق السّلوك إلى المدّعى، يمكن أن يكون حاسما لجذور الخلاف.
إذ كان كثير من نقود الموسوعة لا أساس له و لا مساس بما اخترناه، و جملة منها لا تنافيه، و البقيّة كانت دعوى منك بلا دليل، أو الدّليل بإثبات خلافها كفيل.
و لو كان المجال واسعا لأشرنا إلى آحادها، و لكنّ الحال كما أسلفنا لك في صدر المقال و نرجو من ودّك الجميل الغالي أن لا تنسانا في غرر دعواتك العوالي، أطراف النّهار
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 84
و آناء اللّيالي، كما لا ننساك في غيابك و لقياك و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.
انتهى ما أفاده مدّ ظلّه.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 85
الموسوعة الثّانية حول رؤية الهلال
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 87
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه صورة ما كتبت إلى حضرة سيّدنا الأستاذ العلّامة الخوئي أدام الله أيّام إفاضاته جوابا عن جوابه، و دفاعا عن صحّة موسوعتنا المرسلة إلى جنابه نقلته ها هنا، ليكون مبصّرا و مذكّرا لإخواني المشتغلين، كي ينظروا فيه بعين الاعتبار حنيفين الى العدل و الإنصاف، حائدين عن الجور و الاعتساف و لله الحمد في كلّ حال
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 89
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين و صلّى الله على محمّد و آله الطّاهرين و لعنة الله على أعدائهم أجمعين السّلام عليك يا أمير المؤمنين أشهد أنّك الصّراط الواضح و النّجم اللائح و الإمام النّاصح و الزّناد القادح و رحمة الله و بركاته
الصّبر إلّا في فراقك يجمل |
|
و الصّعب إلّا عن ملالك يسهل |
إن ترم قلبي تصم نفسك إنّه |
|
لك موطن تأوي إليه و منزل |
و اللّه لا أسلوك حتّى أنطوي |
|
تحت التّراب و يحتوينى الجندل |
يا راكبا تهوى به شد نيّة |
|
حرف كما تهوى حصاة من عل |
هو جاء تقطع جوز تيّار الفلا |
|
حتّى تبوص على يديها الأرجل |
عج بالغريّ على ضريح حوله |
|
ناد لأملاك السّماء و مخفل؟ |
و قل السّلام عليك يا مولى الورى |
|
نصّابه نطق الكتاب المنزل |
و خلافة ما إن لها لو لم تكن |
|
منصوصة عن جيد مجدك معدل |
يا أيّها النّبأ العظيم فمهتد |
|
في حبّه و غواة قوم جهّل |
يا وارث التوراة و الإنجيل و |
|
القرآن و الحكم الّتي لا تعقل |
لولاك ما خلق الزّمان و لا دجى |
|
غبّ ابتلاج الفجر ليل أليل |
إن كان دين محمّد فيه الهدى |
|
حقّا فحبّك بابه و المدخل |
صلّى عليك الله من متسربل |
|
قمصا بهنّ سواك لا يتسر بل |
سلام على السّيّد المعظّم و السّند المفخّم، سيّد القوم الكرام و سند الطّائفة الفخام استاذنا المكرّم سيّد الفقهاء و المجتهدين الآية العظمى الحاج السّيّد أبو القاسم الخوئي أدام الله
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 90
أيّام بركاته بحقّ محمّد و آله.
أ وميض برق بالأبيرق لاحا |
|
أم في ربى نجد أرى مصباحا |
أم تلك ليلى العامريّة أسفرت |
|
ليلا فصيّرت المساء صباحا |
يا راكب الوجناء وقّيت الرّدى |
|
إن جبت حزنا أو طويت بطاحا |
و سلكت نعمان الأراك فعج إلى |
|
واد هناك عهدته فيّاحا |
و أقر السّلام اهيله عنّى و قل |
|
غادرته لجنا بكم ملتاحا |
يا ساكني نجد أما من رحمة |
|
لأسير إلف لا يريد سراحا |
هلّا بعثتم للمشوق تحيّة |
|
في طيّ صافية الرّياح رواحا |
يا أهل ودّى هل لراجى وصلكم |
|
طمع فينعم باله استر واحا |
سعيا لأيّام مضت مع جيرة |
|
كانت ليالينا بهم أفراحا |
حيث الحمى وطني و سكّان الغضا |
|
سكنى و وردي الماء فيه مباحا |
واها على ذاك الزّمان و طيبه |
|
أيّام كنت من اللّغوب مراحا |
قسما بمكّة و المقام و من أتى ال |
|
بيت الحرام ملبّيا سيّاحا |
ما رنّحت ريح الصّبا شيح الرّبى |
|
إلّا و أهدت منكم أرواحا |
و بعد التّحيّة و السّلام و الإخلاص و الإكرام بشّرت بمجيء كتابك الكريم، جوابا عن الرّسالة الّتي أرسلتها إليك حول مسئلة لزوم اشتراك البلدان في الآفاق في رؤية الهلال بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على دخول الشّهر.
و استقبلته من حين، و استلمته بهجا فرحا، و زاد لي فخرا و شرفا لمّا فضّلتنى بالجواب، اهتماما بالسّنّة الرّائجة بين الأعلام، لبقاء العلم و حفظه من الجمود و الرّكود و الاندراس فطالعته مرارا، و شكرت الله على هذه الموهبة العظيمة الّتي منحها استاذنا الأفخم، حيث وفّقه مع الهرم و كثرة المشاغل و الشّواغل، من الأسئلة و الاستفتاءات من كلّ صوب و توارد الهموم و الحوادث الواقعة من كلّ فجّ، للنّظر في هذه المجموعة، و إيراد بيان دفعا للنّقود المذكورة فيها على عدم لزوم الاتّحاد في الآفاق و كفاية رؤية ما و لو من بعيد في تحقّق
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 91
دخول الشّهر الجديد.
فجزاك الله تعالى عن العلم و أهله خير الجزاء، و أبقاك للعلم و أهله خير البقاء.
هذا و لكن لمّا كانت هذه الأجوبة غير ناهضة لدفع النّقود المذكورة بوجه من الوجوه، و لم يكن حالك بما يتراءى من ظاهر الأمر مساعدا و مجالك واسعا عند ما تشرّفت بلقائك للبحث مشافهة، و بما قيل من أنّ حياة العلم بنت البحث، صلّيت و استخرت الله تعالى، و استجزت من سماحتك أن أكتب جوابا عن كتابك المرسل عسى أن يقع مورد القبول.
و بتبديل فتياك في هذه المسئلة، يرتفع الخلاف، و تنتهي المعارك و الضّوضاء، و يستريح الناس من الشّبهة في أعمال الأيّام و اللّيالي من شهر رمضان القريب جدّا، و مناسك عيد الفطر القادم و الله يعلم و ضميرك يشهد بأنّه لم يكن الدّاعي إلى هذه الاطروحة إلّا الوصول إلى متن الواقع.
و إنّما التّوفيق بالله، منه المبدء و إليه المعاد.
فأقول مستعينا به: بسم الله الرّحمن الرّحيم، شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَ الْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
و قبل الخوض في البحث لا بدّ من تقديم مقدّمات ثلاثة:
الأولى: إذا واجه ناظر إلى الكرة المستضيء نصفها بإشراق مبدء مضيء،
يرى تمام النّصف المستضيء فيما إذا خرج شعاع نور عينه إلى مركز الدّائرة المستضيئة، و أمّا إذا لم يصل هذا الشّعاع إلى المركز، فلا يرى تمام النّصف، بل بحسب تفاوت اختلاف درجات مركز الدّائرة المستضيئة مع نقاط وصول شعاع نور عينه الممتدّ إلى الكرة، يتفاوت مقدار رؤية الكرة.
فقد يرى ثلثي النّصف المستضيء، و قد يرى نصفه، و قد يرى ثلثه و ربعه إلى أن يراه بشكل الهلال.
نصّ على ذلك علماء علم المناظر و المرايا من المتقدّمين و المتأخّرين.
و حاسبوا مقدار المرئيّ من النّصف المستضيء بحسب جميع تقادير زواياه
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 92
المفروضة من خروج شعاع عين الناظر، و أثبتوها في مسطوراتهم «1».
المقدّمة الثانية: القمر إذا خرج عن تحت الشّعاع لا يمكن رؤيته إلّا بعد غروب الشّمس،
نصّ على ذلك جميع علماء الفلك.
و ذلك، لأنّ الأشعّة القاهرة الشّمسيّة تمنعنا من الإبصار و الرّؤية.
فإذن كلّما رئي الهلال في يوم بعد المحاق فهو دليل على خروج القمر عن تحت
______________________________
(1) و من أحسن الكتب المطبوعة من المتقدّمين في علم المناظر، كتاب تنقيح المناظر لذوي الأبصار و البصائر، و هو مجلّدان ضخمان نقّحه كمال الدّين أبو الحسن الفارسي من كتاب ابن الهيثم و طبع في حيدرآباد سنة 1347 و 48 ه و هذا الكتاب من أصول علم المناظر و المرايا عند علماء الغرب، و قد استنتجوا منه كثيرا من أبحاثهم و بنوا عليه كثيرا من مخترعاتهم.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 93
الشّعاع في اللّيلة الغابرة، سواء كانت الرّؤية قبل الزّوال أو بعده.
المقدّمة الثالثة: إنّ الأرض تدور في الفضاء حول نفسها بحركتها الوضعيّة دورا كاملا في كلّ يوم و ليلة ما يقرب أربع و عشرين ساعة
. و بهذه الحركة يتحقّق اللّيل و النّهار، و تتعيّن مقاديرهما، و ينطبق ترسيم امتداد الزّمان على جميع النّقاط المفروضة من الأرض. و بهذا يتحقّق أوّلا تحقّق الزّوال و الطّلوع و الغروب في كلّ نقطة.
و ثانيا يكون الغروب في كلّ آن من الآنات في نقطة ما، و يكون الطّلوع في نقطة ما، و يكون الزّوال في نقطة ما.
و ذلك بسبب حركة الأرض تختفى الشّمس في كلّ آن تحت أفق من الآفاق.
ففي كلّ لحظة يكون الغروب في ناحية، و يكون بعد الغروب بدقيقة في الناحية الشّرقيّة المجاورة للأولى بفاصل دقيقة. و يكون بعد الغروب بدقيقتين في النّاحية الشرقيّة المجاورة للأولى بفاصل دقيقتين. و هكذا إلى ساعة بعد الغروب في النّاحية المجاورة بفاصل ساعة. و يكون وقت العشاء في كلّ آن في ناحية، و يكون وقت طلوع الفجر في ناحية، و هكذا وقت طلوع الشّمس و الزّوال و العصر.
فلا تمرّ لحظة من الأرض إلّا و يتحقّق فيها جميع السّاعات اللّيليّة و النّهاريّة بجميع ما فيها من الآنات و اللّحظات.
و بهذا التّرسيم الواقعي في كلّ آن في الآنات تتحقّق لطيفة، و هي تحقّق صلاة الفجر في كلّ آن في ناحية ما، و صلاة الظّهر في ناحية، و صلاة العصر في ناحية، و هكذا.
ففي كلّ آن تتحقّق الصّلوات الخمسة و رواتبها في الأرض، يصلّى سكّانها جميعا بالعموم الشّمولي في كلّ آن من الآنات جميع الصّلوات.
فلا يمرّ آن و لحظة من الأرض إلّا و تتحقّق الصّلوة أىّ صلاة في ناحية.
مثلا في آن وقت غروب طهران يصلّى ساكنوها صلاة المغرب. و في هذا الآن يصلّى من كان في البلاد الشّرقيّة من طهران على قدر ساعة و نصف ساعة صلاة العشاء.
و يصلّى من كان بعيدا عنه بفاصل عشر ساعات مثلا صلاة الصّبح.
فالأرض في جميع اللّحظات و الآنات مشغولة بجميع أنحاء صلوات ساكنيها و بجميع أنحاء أذكارهم و تسبيحاتهم اللّيليّة و النّهاريّة يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 94
و ثالثا بمجرّد خروج القمر عن تحت الشّعاع رئي في ناحية من النّواحي.
و ذلك، لأنّا ذكرنا أنّ في كلّ آن، يكون وقت الغروب في ناحية، فإذا خرج القمر عن تحت الشّعاج في أيّ آن من الآنات، يكون وقت غروب في ناحية، و يراه أهل هذه النّاحية.
فمار بما يقال مثلا: رئي الهلال بعد الخروج بثلاث ساعات، إنّما هو في ناحية يكون غروبها من النّاحية المحاذاة لخروج القمر بثلاث ساعات، لا أنّه لا بدّ و أن رئي بعد ثلاث ساعات في جميع النّقاط.
و رابعا لا يمكن تحقّق رؤية الهلال في ليلة واحدة لجميع بقاع الأرض.
و ذلك، لأنّ القمر إذا خرج عن تحت الشعاع رئي في الآفاق المشتركة، و هي الآفاق الّتي تشترك في رؤيته حين اشتهر فوق الأفق، و لم يغرب بعد.
و أمّا الآفاق البعيدة لا تكاد يرونه، لاختفائه بعد نصف ساعة تحت الأفق. بل يرونه في اللّيلة القادمة.
و لا يمكن أزيد من ليلتين، و ذلك لأنّ الأرض تتحرّك حول نفسها دورا كاملا في أربع و عشرين ساعة، فبخروج القمر عن تحت الشعاع يراه أهل الأرض جميعا في طول أربع و عشرين ساعة.
و هذا يطول في ليلتين لا أكثر.
فما ربما يقال من أنّه يمكن أن يكون أوّل الشّهر المتحقّق برؤية الهلال في جميع النّواحي في ليلة واحدة كلام خال عن السّداد.
كما أنّ ما قيل من تحقّق الشّهر بتحقّق ليلتين على أقل تقدير، لم يفهم له معنى محصّل.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 95
و بعد هذه المقدّمات نقول: إنّ إهلال الهلال كبزوغ الشّمس ظاهرة افقيّة لسكّان الأرض بلا فرق بينهما أصلا.
و ما أفدت من الفرق بينهما بأنّ بداية النّهار غير بداية الشّهر، إذ الطّلوع ظاهرة افقيّة يتجدّد للآفاق الواجهة للشّمس، بخلاف إهلال الهلال، فإنّه حادث سماويّ يحدث من ابتعاد القمر عن تحت الشّعاع، حتّى و لو قدّر أن لم تكن الأرض بآفاقها، و كان النّاظرون في الفضاء كما هم على الأرض يحجبهم كوكب عن الشّمس، فيبدو عليهم اللّيل، يرون الهلال، ثمّ ما أفدت من الفرق بين بداية الشّهر و بداية الحساب، بأنّ الأوّل يتحقّق بخروج القمر عن تحت الشّعاع و بأنّ الثّاني يتحقّق من أوّل ليلة الرؤية مهما تحقّق الخروج، يرد عليه، أوّلا أنّ ما أفدت من الاختلاف بين مبدء تحقّق الشّهر و بين مبدء الحساب، هو خلاف ظاهر تحرير الكلام في رسالة المنهج.
و سنبيّن أنّ النّقود الواردة في موسوعتنا كما أنّها واردة على نفس تحقّق الخروج، واردة على مبدء تحقّق الحساب، بلا فرق بينهما.
و ثانيا أنّ إهلال الهلال له معنى، و صيرورة القمر هلالا لها معنى آخر.
و ذلك لأنّ الإهلال بمعنى الظّهور و الاشتهار، فالقمر بمجرّد خروجه عن تحت الشعاع يصير هلالا بالنّسبة إلى الامتدادات الأرضيّة، و أمّا الإهلال فلا يكون إلّا بعد الرؤية، فيختلف بالنّسبة إلى بقاع الأرض، فيقال أهلّ الهلال لافق من الأرض كإسبانيا و لم يهلّ لافق آخر كطهران.
و ما ورد في الرّوايات ممّا هو دخيل في تحقّق الشّهر هو الإهلال، كما أنّ ما هو دخيل في تحقّقه حسب ما هو المتعارف بين الملل و الأقوام كذلك، لأنفس الخروج عن تحت الشّعاع، فأين هذا من ذاك.
و ثالثا: أنّ نفس تحقّق الهلال، بابتعاد القمر عن تحت الشّعاع عدّة درجات، إنّما هي بالنّسبة إلى خصوص الأرض و سكّانها و كلّ ما امتدّ من الأرض بخطّ مستقيم في الفضاء إلى نفس القمر.
و أمّا في سائر نقاط الفضاء بحيث يكون فيها ناظرون يحجبهم كوكب عن الشمس فليس كذلك، لأنّهم لا يرون القمر هلالا أبدا بل يرونه بشكل البدر أو ما هو قريب منه دائما و ذلك لأنّ الكرات الثّوابت و السّيارات كانت محلّها أقرب
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 96
إلى الشمس من القمر إليها، فيرون نصف الكرة القمريّة المستضيئة بنور الشّمس تحقيقا، و هو الشكل البدرىّ.
و على فرض كوكب متساوي البعد مع القمر بالنّسبة إلى الشّمس، يرون القمر عندئذ بشكل التّربيع لا الهلال.
فالترسيم الذّهنيّ من حدوث الهلال إنّما هو بالنّسبة إلى خصوص الأرض و ساكنيها و كلّ ناظر في الفضاء في امتداد الأرض إلى نفس القمر.
ففي هذا الامتداد إذا فرض كوكب تخيّلىّ، أو حاجب آخر كالسفينة الفضائيّة و القمر الصّناعيّ، يحجب النّاظر عن الشّمس، يرى القمر بشكل الهلال.
فالتصوير الذّهنيّ من الهلال إنّما هو في خصوص الامتداد الأرضىّ بالنّسبة إلى الأشعّة الصّادرة من عيون النّاظرين إلى الخارج من مركز الدّائرة المستضيئة من القمر الواجهة لضوء الشمس لا حادث سماويّ على كلّ تقدير.
و رابعا: أنّ التّفريق بين بداية الشّهر بخروج القمر عن تحت الشّعاع و بين بداية الحساب بالرّؤية أوّل اللّيل تحكّم واضح، لأنّا نرى في جميع المواقع و المواضع الاتّحاد بين مبدء التحقّق و مبدء الحساب كما هو الظّاهر المعمول به في الأحكام المترتّبة على موضوعاتها الشّرعيّة، و السّنّة الدّارجة بين الأقوام في مبادي قوانينهم و أحكامهم المترتّبة على موضوعاتها العرفيّة.
فبداية حساب الشّهور القمريّة الّتي لا بدّ و أن تكون من أوّل اللّيل ليلة الرؤية مهما تحقّق الخروج بالآيات و الرّوايات الّتي لا مناص إلّا عن الأخذ بها، دليل كاف شاف على تحقّق نفس الشّهور بالرؤية أيضا، قضيّة للاتّحاد.
فإذن الالتزام بتحقّق نفس الشّهر بالخروج عن تحت الشّعاع، مجرّد تصوير ذهنيّ، خال عن الدّليل، بعيد عن مساق الأحكام الواردة، غير مماسّ بها بأيّ وجه فرض.
و خامسا: ما الفائدة المتصوّرة المثمرة الدّخيلة في تأسيس الدّليل لدخول الشّهر بالخروج عن الشّعاع؟ و ما فائدة هذا التّفريق؟
لأنّ بداية حساب الأيّام و مدار نصّ الفروض و الأحكام، إنّما يترتّبان على نفس الرؤية، بتحقّق دخول اللّيل كما عليه المشهور و المسلّم عندك.
فتعيين تحقّق نفس الشّهر بالخروج عن الشّعاع و الإصرار بذلك، هل هو إلّا كضمّ الحجر في جنب الإنسان؟
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 97
و سادسا: فرض تغاير مبدء التحقّق و الحساب إنّما يصحّ فيما إذا كان مبدء الحساب متأخّرا دائما أو غالبا، و أمّا إذا كان مبدء الحساب متقدّما في كلّ حين و زمان فهو من أخيلة وهميّة لا واقعيّة خارجية.
و ما نحن فيه من هذا النّوع، لأنّا ذكرنا أنّه بمجرّد خروج القمر يرى في ناحية، فنصف الكرة الأرضيّة الشّرقيّة بالنّسبة إلى هذه النّاحية البعيد عنها من دقيقة إلى اثنتي عشرة ساعة يحسب من ليلة الشّهر القادم، مع أنّ الشّهر الواقعيّ لم يدخل بعد، لأنّ القمر لم يخرج في هذه المدّة عن تحت الشّعاع، بل يدخل بعد دقيقة إلى اثنتي عشرة ساعة.
و سابعا: كلّما خرج القمر عن تحت الشّعاع، رئي في ناحية ما لا محالة، و ذلك لما ذكرنا في المقدّمة الثالثة من أنّ الأرض بحركتها الوضعيّة تتجدّد لها آفاق، ففي كلّ آن تغرب الشّمس و تختفى تحت أفق من الآفاق.
ففي آن خروج القمر عن تحت الشعاع تختفى الشّمس تحت أفق، و يرى الهلال في هذا الأفق. فإذن لا نجد زمانا في آن من الآنات، يفترق زمان الخروج عن تحت الشّعاع من زمان الرّؤية، في مجموع الأرض في أفق ما، كما لا نجد في مجموعها مكانا لا يمكن فيها الرؤية بمجرّد الخروج.
فالتّفريق الزّمانيّ بين الخروج و الرؤية، و تصوير الفصل بينهما مجرّد توهّم باطل، كما أنّ تخيّل إمكان عدم وجود ناحية أرضيّة يمكن فيها الرّؤية بمجرّد الخروج كذلك.
فعلى هذا لا يجدى الفرار عن قبول النّقود الواردة في موسوعتنا على مذهبك، بالفرق بين المبدئين زمانا، مبدء تحقّق الشّهر و مبدء الحساب.
فجميع النّقود باقية بحالها، و قائمة على ساقها طابق النّعل بالنّعل و القذّة بالقذّة و النّقود إنّما وقعت موقعها إذا التزم بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق، و كفاية رؤية ما و لو من بعيد. مثلا إذا فرضنا خروج القمر عن تحت الشّعاع في أقصى البلاد الغربيّة كإسبانيا فيرى لا محالة في هذا البلد أوّل وقت خروجه و هو أوّل زمان مغيب الشّمس، المعبّر بأوّل اللّيل.
فإذن لا بدّ و أن يحسب جميع اللّيلة البالغة اثنتي عشرة ساعة أو أكثر، من إسبانيا إلى بكن و توكيو من أقصى البلاد الشرقيّة، من الشهر القادم من أوّل اللّيل، مع أنّه في أوّل اللّيل في بكن و توكيو لم يخرج القمر عن تحت الشّعاع، بل بقي إلى زمان خروجه اثنتا
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 98
عشرة ساعة، و يطوي القمر في المدار في هذه المدّة ستّ درجات.
فلا بدّ و أن يلتزم بأحكام الشّهر الجديد في نصف القطر المحيط، مع أنّه لم يدخل.
و أمّا النّقود الواردة في الرّسالة على فرض تعميم الحكم لجميع الآفاق، فوق الأرض و تحتها، إنّما هو على تقدير دخول الشّهر بمجرّد الخروج عن تحت الشّعاع، و لو لم يدخل اللّيل، كما هو ظاهر تحرير الكلام في المنهج.
و أمّا على فرض دخوله بعد الرّؤية في أوّل اللّيل، فيختلف حكم النّصف الفوقانيّ الواجه لضوء الشّمس و النّصف التّحتانيّ غير الواجه لضوئها، و يصير أوّل الشّهر في التّحتانيّ بدخول اللّيل المعقّب بالنّهار، و يصير حكماهما مختلفين.
و لكنّ النّقض باق على حاله، لاعترافك باختلاف حكم الرّؤية الدّخيلة في دخول الشّهر في النّصف الفوقاني، مع الالتزام بوحدة خروج القمر عن تحت الشّعاع بما أنّه حادثة سماويّة.
فإذن نقول: أىّ مانع من الالتزام باختلاف الحكم بدخول الشّهر في الآفاق غير المشتركة، باختلاف الرّؤية فيها؟
و الفرار عن هذا النّقض، بأنّ ليلة الرؤية ليلة واحدة بأربع و عشرين ساعة، يتبعها نهار واحد بأربع و عشرين ساعة، يعدّان أوّل الشّهر، فمجرّد تصوير ذهنيّ و ترسيم فكرىّ لجميع النّقاط الّتي واجهت الشّمس عند الغروب، و المارّة عنها في الدّورة الكاملة للحركة الأرضيّة، في مدّة أربع و عشرين ساعة.
و لكنّ هذه الظّلمة الممتدّة بهذا المقدار، إنّما هي زمان غشيان اللّيل لكلّ نقطة نقطة من نقاط العالم.
و هي غير ما هو المعروف باللّيل في العرف و اللّغة، و الموضوع في الأحكام المترتّبة عليه في الشّرع. لأنّ اللّيل عبارة عن مجموع الظّلمة في كلّ ناحية، يبدء بغروب الشّمس و ينتهى بطلوعها في هذه النّاحية.
و كذلك النّقاط الّتي تمرّ على جهة الشّمس عند طلوعها حتّى تتمّ في الدّورة الكاملة أربع و عشرين ساعة إنّما هي لكلّ نقطة نقطة، لكنّ هذا غير ما هو النّهار عند العرف و اللّغة الّذي هو عبارة عن قرص كامل نورانىّ لكلّ ناحية من النّواحي، يبدء بطلوع الشّمس و ينتهى بغروبها.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 99
فإذن لمّا لا نجد محيدا عن الالتزام باختلاف الحكم بدخول الشّهر في النّصف الفوقاني و النّصف التّحتاني و لا مناصا من أخذ اللّيل و النّهار بما هما متعارفان عند العرف و اللّغة، بهذه الموازاة نحكم باختلاف دخول الشّهر في الآفاق غير المشتركة حرفا بحرف.
هذا مضافا إلى أنّ بناء الحجّة على هذا المنهج، بجعل ليلة الرؤية أربع و عشرين ساعة، و بتتابع اللّيالي و الأيّام يتمّ ثلاثين أو تسعة و عشرين، فيكمل شهر واحد، و تتبعه شهور كذلك حتّى يتمّ اثنا عشر شهرا و بجعل بناء المشهور أربعة و عشرين شهرا على أقلّ تقدير، ينزّل الاستدلال عن درجة البرهان المؤلّفة مقدّماته من الأوّليّات و المشاهدات و الفطريّات و التجربيّات و المتواترات و الحدسيّات و يسقطه إلى حدّ الشّعر.
مع أنّا لم نفهم معنى محصّلا لقولك: على أقلّ تقدير.
فهل يمكن اختلاف الشّهر بأزيد من ليلتين حتّى يكون أقلّ تقديره يرسم لنا أربعة و عشرين شهرا؟ هذا كلّه جواب عمّا أوردته على نقودنا على دليلك الأوّل، و هو تحقّق الشّهر بنفس خروج القمر عن تحت الشّعاع.
و أمّا ما أفدت من تضعيف حكومة البيّنة على أخبار الرّؤية، على تقدير كون الرؤية جزئا للموضوع على وجه الصّفتيّة، بأنّ الرؤية كاشفة محضة، جعلها الشّارع طريقا إلى تحقّق الشهر لأتميّتها و أسهليّتها و أعميّتها، و ليس لها دخل في تحقّق الشّهر، و بذلك حاولت منع انصراف الإطلاقات الواردة بوجوب قضاء الصّوم إلى البلاد القريبة، بإسقاط مدخليّة الرّؤية، و ما ذكرت من أدلّة و شواهد على كاشفيّة الرؤية المحضة و طريقيّتها الصّرفة، فيرد عليه وجوه من الإيراد. توضيح ذلك:
أنّ المراد من الجزئيّة، مدخليّة الرّؤية في تحقّق الشّهر، المستفادة من النّصوص المعتبرة الكثيرة المستفيضة لعلّها تبلغ حدّ التواتر.
و تدلّنا على ذلك أمور:
الأوّل: ظهور الأخبار الواردة في ذلك، حيث إنّها أناطت الصّيام بشهر رمضان، لا غير، ثمّ إناطته برؤية هلاله، لا غير.
فعلى ضوء الشّكل الثّالث من القياس، ينتج أنّ شهر رمضان يتحقّق برؤية هلاله، و هكذا في سائر الشّهور.
الثاني: لو كان تحقّق الشّهر بنفس خروج القمر عن تحت الشّعاع، أو كونه فوق الأفق، بلا مدخليّة للرّؤية، لكانت الأحكام الواردة على دخول الشّهر
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 100
أيضا تابعة لخروجه عن تحت الشعاع أو كونه فوق الأفق، بلا مدخليّة للرؤية.
فكانت الرّؤية حينئذ دخيلا في تنجيز الحكم، لا في جعله و تحقّقه.
فإذن تكون الرّؤية كاشفة محضة و طريقا صرفا، لا بدّ و أن تخلفها سائر الطرق اليقينيّة و تقوم مقامها، مثل المحاسبات الرّصديّة القطعيّة و ما شابهها بلا إشكال.
و الالتزام بعدم مدخليّة الرّؤية، ثمّ الالتزام بعدم نهوض بعض الطّرق اليقينيّة، مثل بعض هذه المحاسبات الصّادرة من أصحاب الرأي، هو الالتزام بتحقّق المتناقضين كما لا يخفى.
لأنّ مفاد عدم دخالة الرّؤية في موضوع الحكم، هو تماميّة موضوعه في حاقّ الواقع مع قطع النّظر عن الرّؤية، فالحكم يكون فعليّا تامّا بلا ترقّب شيء آخر.
و تصير الرّؤية من شرائط تنجيزه و تعذيره، كسائر الطّرق الوجدانيّة و العقلائيّة بلا اختلاف بينهما. فلا بدّ و أن يلتزم بالحكم بدخول الشّهر إذا نصب الطّريق القطعيّ، من غير رؤية ما و لو في بعيد.
فعندئذ إمّا يلتزم بهذا و يحكم بدخول الشّهر بلا رؤية في جميع العالم أصلا، فواضح أنّ هذا مساوق لطرح الرّوايات المستفيضة و رفضها، لا يكاد يسلّمه من له أدنى ذوق فقهيّ فكيف يمكن الالتزام به مع إناطة الرّوايات بخصوص الرّؤية بلسان النّفي و الإثبات، مثل قول الصّادق عليه السّلام المرويّ في كلّ واحد في الكتب الأربعة، و في المقنعة للمفيد و الهداية للصّدوق: إنّه ليس على أهل القبلة إلّا الرّؤية، و ليس على المسلمين إلّا الرّؤية.
و ما رواه في التّهذيب عن الحسين بن سعيد عن القاسم عن أبان عن عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن هلال شهر رمضان، يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان، فقال: لا تصم إلّا أن تراه الحديث.
و بسند آخر في التّهذيب أيضا عن الحسين عن فضالة عن أبان عن إسحاق بن عمّار عنه عليه السّلام مثله.
و ما في التّهذيب بإسناده عن أبى علىّ بن راشد عن أبى الحسن العسكري عليه السّلام في حديث قال: لا تصم إلّا للرّؤية.
و ما في المقنعة بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا تصم إلّا للرّؤية أو يشهد شاهدا عدل.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 101
و إمّا لا يلتزم به، بل يحكم بأنّ الرؤية، و هي الكاشفة الخاصّة جعلت منجّزة لدخول الشّهر، و هذا عين التّهافت و التّناقض.
لأنّ معنى فعليّة الحكم هو تماميّته في عالم الجعل، بلا جهة انتظار و ترقّب أمر آخر، و حينئذ لا بدّ و أن يحكم بتنجّزه بمجرّد نصب أىّ طريق قطعيّ، لا خصوص رؤية ما و لو من بعيد.
فالالتزام بلزوم رؤية ما و لو من بعيد، لتنجّز الحكم، هو الالتزام بدخالة الرّؤية في موضوع الحكم على وجه الجزئيّة من حيث لا يشعر.
هذا مع أنّه ورد عنوان الرأي في الرّوايات عدلا للتّظنّى، كما في صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة في الكتب الأربعة و المرويّة أيضا في المقنعة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا و إذا رأيتم الهلال فأفطروا، و ليس بالرأي و لا بالتّظنّي و لكن بالرّؤية- الحديث.
و المراد بالرأي هو ما بنى عليه أصحاب الفلك و المنجّمون، و إن وصلت نتيجة حسابهم إلى درجة القطع و اليقين.
كما تنتشر في زماننا هذا في كلّ أربع سنين مجلّة للسّياحين الماشين في اللّيالي تحت ضوء القمر، بلسان الأجنبيّين.
و في هذه المجلّة عيّن وقت طلوع القمر و وقت غروبها لكلّ بلد بلد في العالم على حدّه في كلّ يوم من أيّام السّنين الأربعة في غاية الدّقّة و أقصى مراتب الاطمئنان.
و كانت دقّة المحاسبة الرّصديّة في هذه المجلّة على جزء واحد من عشرة آلاف جزء من الثّانية.
و بعد هذه الرّوايات المتكاثرة المتظافرة بإناطة الصّيام و سائر أحكام الشّهور برؤية الهلال لا غير هل يمكن لمفت أن يفتي لمقلّديه بجواز أخذ هذه المجلّة و العمل على طبقها في دخول الأشهر، و يرفض و يرفضون الرؤية باتّين؟ كلّا.
و ليس هذا إلّا من أجل أنّ الشارع نفى طريقيّة الرّأي على أىّ نحو كان و حصرها في خصوص الرّؤية و هذا عين معنى الجزئيّة.
الثالث: إنّ أصحابنا رضوان الله عليهم رفضوا الرّوايات الدّالة على أماريّة غيبوبة الهلال بعد الشّفق و تطوّقه و رؤية ظلّ الرأس فيه و خفائه من المشرق غدوة على دخول الشّهر في اللّيلة الماضية و حملوها على التقيّة، حيث إنّ العامّة جعلوها أمارات على دخوله.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 102
و ليس إلّا من استنباطهم بناء الشّريعة على طريقيّة خصوص الرّؤية، ليس غير، و إلّا فربما يكون بعض هذه الطّرق خصوصا إذا يحاسب بالرّصد و تعيّن مقدار زمان مكث القمر فوق الأفق دليلا قطعيّا لخروج القمر عن تحت الشعاع أو كونه فوق الأفق في اللّيلة الماضية.
و كذلك إنّا نعلم أنّ أقلّ درجة مكث القمر تحت الشعاع قبل المقارنة و بعدها أربع «1» و عشرون درجة و يطول زمان مكثه ثماني و أربعين ساعة، فلو رئي الهلال يوم الثّامن و العشرين، لكان الشهر ثلاثينيّا بلا ترديد.
مع أنّه لا يمكن الاعتماد بهذه الأمارة، و الحكم بعدم دخول الشّهر ليلة الثّلاثين، بل لا بدّ من الاستهلال و بعدم الرؤية يحكم بعدم دخول الشّهر القادم.
و أيضا إنّا نعلم دخوله ليلة الثلاثين، برؤية الهلال في اللّيلة القادمة، مرتفعا عن الأفق بمقدار أزيد من غاية الارتفاع الممكن في اللّيلة الاولى من الشّهر، بجعل الرّصد و تعيين درجة زاوية ارتفاع القمر عن الأفق.
و هذا دليل قطعيّ لوجود الهلال في اللّيلة الماضية.
و لكن لا يعبأ به، لعدم الرؤية.
و غير هذه من الفروع الّتي لا يمكن أن يفتي الفقيه بطبقها بدون تحقّق الرّؤية.
و هذا دليل على دخالة الرؤية في أصل الحكم، لا كونها منجّزة و واسطة في الإثبات.
و ممّا يشهد على ما ذكرنا، صحيحة حمّاد عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، على ما رواه في الكافي و الاستبصار: قال: إذا رأوا الهلال قبل الزّوال فهو للّيلة الماضية، و إذا رأوه بعد الزّوال فهو للّيلة المستقبلة.
و ذلك لما ذكرنا في المقدّمة، من استحالة رؤية الهلال بعد خروجه عن تحت الشّعاع قبل غروب الشّمس، فرؤية الهلال قبل الزّوال أو بعده دليل على خروجه في اللّيلة الماضية.
______________________________
(1) يجب ان يفرّق بين قسمي خروج القمر عن الشّعاع، أحدهما الأحكامىّ و الآخر الهلاليّ و ما حدّدنا في هذه الموسوعة و الّتي قبلها باثنتي عشرة درجة من المقارنة أو بأربع و عشرين درجة من أوّل دخوله في الشعاع إلى آخر خروجه عنه إنّما هو في الأحكامىّ و أمّا الهلاليّ فهو أقلّ من الأحكامىّ كثيرا (منه عفى عنه)
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 103
فلو كانت الرّؤية مجرّد طريق منجّز، لما يتفاوت الحال قبل الزّوال أو بعده.
لكن لمّا كان لها دخل لتحقّقه عند الشّارع، فكيفيّة دخالتها أيضا بيده، فله أن يجعلها قبل الزّوال دليلا على اللّيلة الماضية على الأصل، و بعد الزّوال على اللّيلة القادمة بالتعبّد.
إن قلت: إنّ الشّارع جعل الرّؤية كاشفة، لكونها أسهل و أتمّ و أعمّ، بخلاف سائر الطّرق اليقينيّة، حيث إنّها لمّا لم تكن بهذه المثابة، يمكن أن يقع فيها الخلاف و التّشاجر و التّخاصم فحينئذ لا بدّ لرفعها من الرّجوع إلى أهل الخبرة في هذا الفنّ، و لا يساعده منهاج الشريعة السّمحة السّهلة.
قلت: هذا صحيح و لكنّه عدول عن الكاشفيّة المحضة إلى الكاشفيّة الخاصّة الّتي هي تساوق معنى الجزئيّة.
و أمّا ما أفدت أدلّة و شواهد على طريقيّة الرّؤية إلى ما هو تمام الموضوع، و هو خروج القمر عن تحت الشعاع، فغير تامّ.
أمّا الآية و هي قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. شَهْرُ رَمَضٰانَ، لم أفهم موضع الاستشهاد بها.
لأنّ غاية ما يستفاد منها، أنّ الصيام واجب في شهر رمضان، و أمّا شهر رمضان ما هو؟ أ هو متحقّق بخروج القمر عن تحت الشّعاع، أو متحقّق برؤيته بعد الخروج، فلا.
فالاستدلال بها لإثبات طريقيّة الرؤية، مصادرة بيّنة.
مضافا إلى أنّ الشّهر في اللّغة، هو ما بين الهلالين المرئيّين المشتهرين، بما أنّهما مرئيّان فإذن الاستدلال بالآية لمكان ورود لفظ الشّهر فيها على خلاف المطلوب أدلّ.
ففي مصباح المنير: الشّهر، قيل معرّب و قيل عربيّ، مأخوذ من الشّهرة و هو الانتشار، و قيل: الشّهر الهلال، سمّى به لشهرته و وضوحه، ثمّ سمّيت الأيّام به، و جمعه شهور و أشهر. و في نهاية ابن الأثير: الشّهر الهلال، سمّى به لشهرته و ظهوره.
و في لسان العرب: و الشّهر القمر، سمّى به لشهرته و ظهوره، و قيل إذا ظهر و قارب الكمال إلى أن قال: و ذكر ابن سيدة: الشّهر العدد المعروف من الأيّام، سمّي بذلك، لأنّه يشهر بالقمر، و فيه علامة ابتدائه و انتهائه، و قال الزّجاج: سمّى الشّهر شهرا لشهرته، و بيانه، و قال أبو العباس: إنّما سمّى شهرا لشهرته، و ذلك أنّ الناس يشهرون دخوله و خروجه.
و في تاج العروس بعد ما نقل عن ابن الأثير ما نقلناه عنه، قال: و الشّهر
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 104
القمر، سمّى به لشهرته و ظهوره، أو هو إذا ظهر و وضح و قارب الكمال، و قال ابن سيدة: الشّهر العدد المعروف من الأيّام، سمّي بذلك لأنّه يشهر بالقمر و فيه علامة ابتدائه و انتهائه، و قال الزّجاج: سمّى الشّهر شهرا، لشهرته و بيانه، و قال أبو العباس:
إنّما سمّى الشهر شهرا لشهرته، و ذلك لأنّ النّاس يشهرون دخوله و خروجه (ج أشهر و شهور)، و قال اللّيث: الشّهر و الأشهر عدد و الشّهور جماعة، و قيل: سمّى شهرا باسم الهلال إذا أهلّ- إلى آخر ما ذكره.
و في مجمع البحرين: و الشّهر في الشّرع عبارة عمّا بين الهلالين، قال الشيخ أبو على: و إنّما سمّى شهرا لاشتهار الهلال- انتهى.
هذا، فالأولى أن يستدلّ بقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ لتحقّق الشّهر برؤية الهلال فوق الأفق و عدم كفاية خروجه عن تحت الشعاع لأنّ الهلال إنّما سمّى هلالا لارتفاع الأصوات برؤيته فالرؤية دخيلة في معنى الهلال، قال الشيخ الطّوسي في التهذيب ردّا على أصحاب العدد: و الّذي يدلّ على ذلك قول الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ و الحجّ، فبيّن الله تعالى أنّه جعل هذه الأهلّة معتبرة في تعرّف أوقات الحجّ و غيره ممّا يعتبر فيه الوقت و لو كان الأمر على ما ذهب إليه أصحاب العدد لما كانت الأهلّة مراعاة في تعرّف هذه الأوقات إذا كانوا يرجعون إلى العدد، دون غيره و هذا خلاف التّنزيل، و الهلال انّما سمّى هلالا لارتفاع الأصوات عند مشاهدتها بالذّكر لها و الإشارة إليها بالتكبير أيضا و التهليل عند رؤيتها، و منه قيل استهلّ الصّبيّ إذا ظهر صوته بالصّياح عند الولادة، و سمّى الشهر شهرا لاشتهاره بالهلال، فمن زعم أنّ العدد للأيّام و الحساب للشهور و السنين يغني في علامات الشهور عن الأهلّة أبطل معنى سمات الأهلة و الشّهور الموضوعة في لسان العرب على ما ذكرناه و يدلّ على ذلك أيضا ما هو معلوم كالاضطرار غير مشكوك فيه في شريعة الإسلام من فزع المسلمين في وقت النّبيّ صلّى الله عليه و آله و من بعده إلى هذا الزّمان في تعرّف الشهر إلى معاينة الهلال و رؤيته، و ما ثبت أيضا من سنّة النّبيّ صلّى الله عليه و آله.
انه كان يتولّى رؤية الهلال و يلتمس الهلال و يتصدّى لرؤيته و ما شرّعه من قبول الشهادة عليه و الحكم فيمن شهد بذلك في مصر من الأمصار، و من جاء بالخبر به عن خارج الأمصار و حكم المخبر به في صحّته و سلامة الجوّ من العوارض و خبر من شهد به مع
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 105
السواتر في بعض الأصقاع، فلو لا أنّ العمل على الأهلّة أصل في الدّين معلوم لكافّة المسلمين ما كانت الحال في ذلك على ما ذكرناه، و لكان اعتبار جميع ما ذكرناه عبثا لا فائدة فيه و هذا فاسد بلا خلاف، فأمّا الأخبار في ذلك فهي أكثر من أن تحصى، لكنّي أذكر منها قدر ما فيه كفاية إن شاء اللّه تعالى- انتهى. ثمّ ذكر الرّوايات الدّالة على لزوم الرؤية. و أنت بالتأمّل فيما أفاده- قدّه- تعرف مواضع منا الدّليل على لزوم الرؤية و عدم كفاية نفس الخروج عن تحت الشعاع فلو كانت الرؤية كاشفة صرفة و طريقا محضا لكان جميع ما أفاده لغوا عبثا و لكان الخروج بدون الرؤية موضوعا للحكم فقد عرفت أن الآية و السّنة تدلّان على لزوم الرؤية و هذا عين معنى الجزئيّة.
و أمّا السنّة، فهي بخلاف ما أفذت أدلّ، و ما ادّعيت من الأمر بالصّوم للرؤية، لأجل لزوم إحرازه لخصوص شهر الصّيام، دعوى منك، و عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الظّنّي أو الاحتمالى كما في صحيحتي ابن مسلم و الخزّاز و موثّق ابن عمّار و رواية القاسانيّ، صحيح و لكن لا تدلّ بأزيد من عدم جواز الاكتفاء بالظّنّ و الشّك، و لا تنفى موضوعيّة الرؤية، و لا تثبت طريقيّتها المحضة و كاشفيّتها الصّرفة.
و أمّا قولك باعتبار البيّنة مقام الرّؤية، فلو كانت جزءا بنحو الصّفتيّة لما استقام قيام البيّنة مقامها، فعجيب منك، لأنّ استحالة قيام البيّنة مقام القطع الموضوعي، بنحو الصّفتيّة، إنما هي فيما إذا كان قيامها مقامه بنفس أدلّة حجّيتها و اعتبارها، لا فيما إذا دلّ دليل خاصّ على القيام.
صرّح بذلك شيخنا الأنصاري- قدّس سرّه- و كلّ من تأخّر عنه حتّى في زماننا هذا من مشايخنا قدّس الله أسرارهم.
و هذا هو الّذي صرّحت به نفسك الشريفة في مجلس البحث، فكأنّي الآن أسمع كلامك، حيث أفدت بقولك: أنّ الأمارات بنفس دليل حجيتها تقوم مقام القطع الطريقي المحض، و هذا ممّا لا ريب فيه بل لا معنى لحجيّة الأمارات إلّا هذا.
كما لا ريب في عدم قيامها بدليل حجّيّتها مقام القطع الموضوعي على وجه الصّفتيّة.
و ليس هذا لأجل استحالة ذلك، لأنّ موضوعات الأحكام بيد الحاكم، فكما يمكن أن يرتّب الحكم على خصوص القطع، يمكن أن يرتّبه على الأعمّ منه و من موارد قيام الأمارة.
بل لأجل عدم نهوض أدلّة حجّيّتها بذلك، فإنّ أدلّتها ناظرة إلى إثبات الواقع و ترتيب آثار الواقع و ليست ناظرة إلى أنّه يترتّب على الأمارة ما يترتّب على القطع من حيث كونه صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع- انتهى الإفادة.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 106
و معلوم أنّ قيام الأمارات مقام الرؤية إنّما هو بأدلّة خاصّة واردة في مقامنا هذا.
مثل ما مضى آنفا و هو ما رواه المفيد- قدّه- في المقنعة عن ابن أبي نجران عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السّلام: قال: لا تصم إلّا للرّؤية أو يشهد شاهدا عدل.
و ما رواه الكليني بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السّلام: إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين.
و ما رواه أيضا بإسناده عن حمّاد عن أبي عبد الله عليه السّلام قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يجوز شهادة النّساء في الهلال، و لا يجوز إلّا شهادة رجلين عدلين.
و رواه في التهذيب مرسلا نحوه.
و ما رواه محمّد بن الحسن الطّوسي- قدّه- بإسناده عن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه بيّنة عدل من المسلمين- الرّواية.
و ما رواه أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام: إنّه سئل عن اليوم الّذي يقضى من شهر رمضان فقال: لا تقضه إلّا أن يثبت شاهدان عدلان من أهل الصّلوة متى كان رأس الشهر الحديث.
و ما رواه أيضا بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السّلام:
قال: صم لرؤية الهلال، و أفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه.
و غير ذلك من الرّوايات الكثيرة الدالّة على قيام البيّنة مقام الرؤية في خصوص المقام.
و معذلك كيف يمكن أن يتفوّه بعدم إمكان قيام الأمارات مقام الرؤية، حتّى إذا فرض أنّ الشّارع صرّح و نادى بأعلى صوته بمدخليّة الرؤية بما أنّها رؤية، لا بما أنّها كاشفة محضة.
و بذلك يظهر أنّ ما أفدت من تضعيف دعوانا انصراف الإطلاقات، من أنّ هذه عدول عن الموضوعيّة إلى طريقيّة الرؤية، بدعوى حكومة البيّنة بوجود المرئيّ في أفق المكلّف و إن لم يره، خال عن السّداد.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 107
كما أنّ بناء دعوى ارتكاز لزوم الرؤية المستفادة من دليل لزومها على الطريقيّة دون الصّفتيّة كذلك.
لأنّ هذه النّقود إنّما نهضت لكسر الدّعوى، إذا تمسّكنا بنفس أدلّة حجّيّة الأمارة و اعتبارها.
و أمّا مع الأدلّة الخاصّة في المقام، فلا ريب في قيام المدّعى على ساقه.
فإذن لا مناص من دعوى حكومة أخبار البيّنة إلى الآفاق القريبة، بتوسعة دائرة الرؤية الّتي هي عبارة عن الإبصار بالعيون المتّصلة، بالإبصار بالعيون المنفصلة، بالجعل التّشريعيّ دون البعيدة منها، للزوم رفض الرؤية، كما عرفت في الرّسالة.
و أمّا ما أفدت من عدّ الثّلاثين إذا لم تتيسّر الرؤية و البيّنة، حيث إنّه يوجب العلم بخروج السّابق و دخول اللّاحق.
ففيه ما مرّ من أنّ الثّلاثين يعدّ في الأخبار الكثيرة عدلا للرؤية، و لم يظهر في واحد منها أنّه يكون طريقا و كاشفا إلى دخول الشّهر الجديد.
و ما أفدت من وجوب قضاء يوم الشّكّ الّذي أفطر، لعدم طريق إلى ثبوته، فتبيّن بعد ذلك بالبيّنة أو بالرؤية، ليلة التّاسع و العشرين من صومه، وجود الشّهر في يوم إفطاره، ففات عنه الواجب الواقعي، فلا يدلّ على الطريقيّة المحضة للرؤية.
و ذلك، لأن الرؤية أو البيّنة ليلة التاسع و العشرين من صومه، كما أنّها كاشفة و طريقة إلى ثبوت الفطر، كذلك كاشفة و طريقة إلى ثبوت الهلال قبل مضىّ تسعة و عشرين يوما من رؤيته «1». لأنّ مفاد أدلّة حجّيّة الأمارة هو تتميم الكشف، و جعلها بمنزلة
______________________________
(1) لا يقال: كاشفيّة الرؤية الفعليّة أو البيّنة ليلة التاسع و العشرين عن ثبوت رمضان يوم الشّك انّما تتمّ بعد ضمّ مقدّمة خارجة و هي إثبات انّ الشهر لا يمكن ان يكون انقص من تسعة و عشرين يوما، و حيث كانت هذه الضميمة قضيّة خارجيّة علميّة لا يمكن الاستناد إليها بعد فرض لزوم الرؤية الفعليّة الخارجيّة لتحقّق الشهور الشرعيّة كما ستبيّن. لأنّه يقال: انّا لا نستند في إثبات هذه القضية الخارجية إلى مقدّمات علميّة نجوميّة فقط، بل نستند الى الروايات الواردة في المقام و هي كثيرة أوردها في الوسائل كتاب الصّيام، أبواب أحكام شهر رمضان باب 5 فمنها ما رواه عن الشيخ بإسناده عن محمد بن مسلم عن أحدهما يعني أبا جعفر و أبا عبد الله عليهما السلام قال شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان فإذا صمت تسعة و عشرين يوما ثم تغيّمت السّماء فأتمّ العدّة ثلاثين و منها ما رواه عنه بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: انّ الشهر هكذا و هكذا و هكذا يلصق كفّيه و يبسطهما ثمّ قال: هكذا و هكذا و هكذا ثمّ يقبض إصبعا واحدة في آخر بسطه بيديه و هي الإبهام فقلت: شهر رمضان تامّ أبدا أم شهر من الشهور؟
فقال: هو شهر من الشهور ثمّ قال: انّ عليّا عليه السلام صام عندكم تسعة و عشرين يوما فأتوه فقالوا:
يا أمير المؤمنين قد رأينا الهلال فقال: أفطروا.
و منها ما رواه عنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال صيام شهر رمضان بالرؤية و ليس بالظّن و قد يكون شهر رمضان تسعة و عشرين يوما و قد يكون ثلاثين و يصيبه ما يصيب الشهور من التّمام و النّقصان. و عنه عن عثمان بن عيسى عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. و منها ما رواه عنه بإسناده عن يونس بن يعقوب مثله الّا انّه قال: ثم قال لي: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الشهور شهر كذا و قال بأصابع يديه جميعا فبسط أصابعه كذا و كذا و كذا، و كذا و كذا و كذا فقبض الإبهام و ضمّها قال: و قال له غلام له و هو معتب: انّى قد رأيت الهلال قال فاذهب فأعلمهم.
و منها ما رواه عنه بإسناده عن أبى خالد الوسطى عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: انّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: و إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين يوما و صوموا الواحد و الثلاثين و قال بيده الواحد و اثنان و ثلاثة واحد و اثنان و ثلاثة و يزوي إبهامه ثم قال: ايّها الناس شهر كذا و شهر كذا. و منها ما رواه عنه بإسناده عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما أدرى ما صمت ثلاثين أو أكثر أو ما صمت تسعة و عشرين يوما انّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: شهر كذا و شهر كذا و شهر كذا يعقد بيده تسعة و عشرين يوما. و غيرها من الروايات الكثيرة فإذن كاشفيّة الرؤية الفعليّة أو البيّنة ليلة التاسع و العشرين عن خروج الشهر الماضي شرعا بعد هذه المقدّمة الشرعيّة ممّا لا خفاء فيها. (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 108
اليقين الواقعي فللرؤية أو البيّنة في هذا المقام كشفان: أحدهما دخول الفطر و الشهر الجديد، و الآخر خروج الصّيام و الشّهر الماضي المتحقّق مقداره بنفس هذه الرؤية أو البيّنة.
و أمّا ما أفدت من إجزاء صومه إذا صامه بنيّة شعبان أو صوم آخر كان عليه، فتبيّن بعد أنّه من رمضان، معلّلا في النّصوص بأنّه يوم وفّق له، مستدلّا بأنّ الأجزاء فرع ثبوت التكليف، ففيه ما لا يخفى.
لأنّ تبيّن أنّ ما صامه من رمضان، انّما هو بقيام البيّنة بعد ذلك على الرؤية ليلة الصّيام، أو بالرّؤية أو بالبيّنة عليها ليلة التّاسع و العشرين من صومه، و ما شابهها.
و معلوم أنّ التّكليف الواقعيّ المترتّب على شهر رمضان حينئذ ثبت بالرؤية أو البيّنة.
هذا مضافا إلى أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ صحّة صومه مبنىّ على التّساهل و الإرفاق.
مثل ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده عن سماعة: قال: قلت
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 109
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل صام يوما و لا يدرى أمن شهر رمضان هو أو من غيره، فجاء قوم فشهدوا أنّه كان من رمضان فقال بعض الناس عندنا: لا يعتدّ به. فقال:
بلى. فقلت: إنّهم قالوا: صمت و أنت لا تدري أمن شهر رمضان هذا أم من غيره.
فقال: بلى فاعتدّ به، إنّما هو شيء وفّقك الله له، إنّما يصام يوم الشّكّ من شعبان و لا يصومه من شهر رمضان، لأنّه قد نهى أن ينفرد الإنسان بالصّيام في يوم الشّكّ، و إنّما ينوي من اللّيلة أنّه يصوم من شعبان، فإن كان هو من شهر رمضان أجزأ عنه، بتفضّل الله، و بما قد وسّع على عباده، و لو لا ذلك لهلك النّاس.
و بالجملة لا مساغ للقول بالكاشفيّة المحضة للرؤية و أخذها طريقا صرفا إلى ثبوت الهلال، و واسطة في الإثبات.
و كونها أتمّ و أسهل و أعمّ لكلّ أحد، إنّما هو الدّاعي إلى جعلها موضوعا واحدا فاردا في عالم الجعل و الإنشاء و واسطة في الثّبوت، لا أنّها طريق إلى إحراز الهلال المولد للشّهر الّذي هو تمام الموضوع. هذا كلّه ما أردنا من حديث الجزئيّة.
و أمّا حديث الصفتيّة في رسالتنا، ليس المراد بالرؤية المقيّدة بها، هي الرؤية بما أنّها صفة و كيفيّة نفسانيّة كالحبّ و البغض و نحوهما.
بل المراد، أنّ الرؤية الّتي هي كاشفة إلى ثبوت الهلال في الأفق، جعلت دليلا عليه، بما أنّها رؤية و كاشفة خاصّة و طريقة مخصوصة، لا بما أنّها كاشفة صرفة غير ملحوظة فيها خصوصيّة الرؤية. لأنّه كما يمكن جعل القطع موضوعا لحكم على وجه الكاشفيّة المحضة، يمكن أن يجعل موضوعا على وجه الصفتيّة و الكاشفيّة الخاصّة، كما يمكن أن يجعل على وجه الصفتيّة بلا لحاظ جهة الكاشفيّة بل بما أنّه كيف نفسانيّ كسائر الصّفات، إمّا لإلغاء جهة كشفه، و إمّا لاعتبار خصوصيّة فيه من كونه من سبب خاصّ أو شخص كذلك أو غيرهما.
نصّ على ذلك المحقّق الخراساني- قدّه- في حاشيته على مبحث القطع لشيخنا الأنصاريّ قدّه.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 110
حيث إنّه قسّم القطع الموضوعي إلى ما هو تمام الموضوع، و إلى ما هو جزئه، و على التّقديرين إمّا يلاحظ بما أنّه كاشف صرف و طريق محض، و إمّا يلاحظ بما أنّه صفة خاصّة و طريقة مخصوصة و كشف خاصّ و ثالثة، بما انّه صفة للقاطع بإلغاء جهة كشفه أو بملاحظة اعتبار خصوصيّة فيه.
و معلوم أنّ الرؤية بما هي رؤية، و هي الطّريق العلميّ من جهة خصوص الإبصار، إذا جعلت طريقا إلى ثبوت الهلال، و كاشفة عن تحقّقه، لا يقوم مقامها سائر الطّرق العلميّة، إلّا بدليل خاصّ، و هذا معنى الصّفتيّة.
هذا كلّه، مضافا إلى ما ذكرنا في الرسالة: أنّ عدم إمكان الأخذ بالإطلاقات، هو القرائن العقليّة و النقليّة الموجودة في المقام، المانعة من الأخذ بها.
مضافا الى الانصراف، بدعوى حكومة أخبار البيّنة في المقام على الروايات الدالّة على لزوم الرؤية، في الآفاق القريبة دون البعيدة، و إن تنزّلنا إلى طريقيّتها فلا بدّ و أن تجعل طريقا إلى كون الهلال في الأفق لا محالة فإن أبيت عن دعوى الحكومة، فلا محيص عن التّخصيص، كما عبّر به العلّامة- قدّه- في التّذكرة، و إن أبيت عن أصل دعوى الانصراف، فلا محيد عن تسليم القرائن العقليّة و النقليّة المانعة عن الأخذ بها. هذا مع أنّ المقدّمات العلميّة في الموسوعة لا تبقى مجالا للأخذ بالإطلاقات حتّى إذا فرضت نصوصا فكيف بكونها ظواهر دانية.
تبصرة و تنبيه: ما أفدت من قولك بورود النّصوص المعتبرة النّاطقة بأن لو رآه واحد لرآه خمسون أو لرآه مأة أو لرآه ألف، لم نجد رواية بهذا المضمون.
بل لنا في هذا المعنى عبارتان، الاولى، ما رواه في التّهذيب بإسناده عن أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت له: كم يجزى في رؤية الهلال؟ فقال: إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتّظنّي، و ليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة، فيقول واحد قد رأيته و يقول الآخرون لم نره، إذا رآه واحد رآه مأة، و إذا رآه مأة رآه ألف، و لا يجزى في رؤية الهلال إذا لم تكن في السّماء علّة أقلّ من شهادة خمسين، و إذا كانت في السّماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان و يخرجان من مصر.
و الثّانية: ما في صحيحة ابن مسلم على ما رواه في الفقيه و الاستبصار، و ما في صحيحة الخزّاز على ما رواه في الكافي و التهذيب، عن أبي جعفر عليه السّلام،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 111
قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا، و إذا رأيتم الهلال فأفطروا، و ليس بالرّأي و لا بالتّظنّي، و ليس الرؤية أن يقوم عشرة نفر، فينظروا فيقول واحد هوذا، و ينظر تسعة و لا يرونه، و لكن إذا رآه واحد لرآه ألف.
و أمّا الاستشهاد الثالث بجمل الذكر و الآية في معنى يوم العيد و ليلة القدر و ما شابههما، فقد قلنا: إنّ المراد منها إمّا ليل طويل هو مجموع تلك الظّلمة في دور كامل أرضىّ يبلغ أربع و عشرين ساعة، و لكلّ بقعة حدّ خاصّ و تعيّن مخصوص منها، أو نهار طويل كذلك، و إمّا ليل قصير كلّيّ ينطبق على مصاديق عديدة، حسب الآفاق المختلفة أو نهار قصير كذلك فسماحتك اختارت الشقّ الأوّل من التّقسيم، حيث أفدت أنّها هي الواحدة المحدودة بتمام دور الأرض بظلّها الكلّي.
غاية الأمر أنّ المشار اليه بلفظ (هذا) عندك جميع الظّلمة أو النّور في الدّور الكامل الأرضى، و عندنا هو تعيّن مخصوص من تلك الظّلمة أو النّور في كلّ صقع بحسبه.
فالمشار إليه على كلا المذهبين هو الظّلمة أو النّور المشخّصة الخارجيّة.
لكن لمّا كان مجموع تلك الظلمة أو النور البالغ لأربع و عشرين ساعة في الدّور الكامل الأرضىّ، هو ترسيم فكرى و تصوير ذهنيّ فقط، لجميع النقاط المارّة عن محاذاة القمر عند غروب الشمس، أو جميع النقاط المارّة عن محاذاة الشمس عند طلوعها، من هذه الدّورة الكاملة، خارج عن محطّ الصّدق اللّغوي و العرفي من معنى اللّيل و النّهار، اخترنا أنّ المراد من المشار إليه هو البعد ما بين غروب الشّمس و طلوعها أو البعد ما بين طلوعها و غروبها من الدّورة.
فما ذهبنا إليه في مدلول لفظ (هذا) بهذا التعيّن و التّشخّص، هو المساعد للدّليل.
و أمّا الشّقّ الثّاني و هو جعل اللّيل كليّا منطبقا على أفراد عديدة، فلا ريب أنّ هذا الكلّيّ طبيعيّ خارجيّ، لا كليّ منطقىّ و لا عقليّ.
و بلفظ (هذا) يشار إلى هذه الطّبيعة المتّحدة مع مصاديقها خارجا.
و نظير هذا الاستعمال في محاوراتنا كلّ يوم يبلغ آلاف.
هذا آخر ما وفّقني الله تعالى لتحرير الجواب، دفاعا عن رسالتنا الّتي لو انتشرت في بلاد العامّة من المسلمين لاضطرّتهم إلى القبول، بالموازين العلميّة المدرجة فيها، الّتي لا مناص لأحد عن قبولها، و لهداهم إلى سبيل الحقّ، و هو أحقّ أن يتّبع.
و أمّا الباعث لي في النّهوض بتحرير الرّسالة، و هذا الجواب، مع كثرة ما ورد علىّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 112
من الموانع و الصّوارف تبديل نظرك الشريف و رأيك المنيف.
عسى أن يمدّك اللّه بتوفيقه، فتسود على أهل الفضل و اليقين، بالعبور عن هذه المرحلة الّتي لا يكاد يعبر عنها إلّا المخلصون، و المخلصون في خطر عظيم.
فإن قبلت هديّتى هذه، و هي هديّة نمليّة إلى ملك الفضل و النباهة، و سليمان العلم و الشّرف، فهو أجرى و مثوبتي، و ما عند الله خير و أبقى.
و إن أبيت، فلا أقلّ من الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة، و إرجاع الناس إلى الغير، كي يتخلّصوا من المحاذير المضلّة و الأهواء المردية و الفتن المهوية، و هذا دلالة ناصح مشفق.
جزاك الله عن العلم و الورع و أهلهما خير الجزاء، و أبقى حياتك السّامية للأمّة خير البقاء، و يرعاك في كلّ حال و لا ينساك في الاولى و الآخرة، و السّلام عليك و رحمة الله و بركاته.
و إن شئت أن تحيي سعيدا فمت به |
|
شهيدا و إلّا فالغرام له أهل |
و أحبّه قلبي و المحبّة شافعي |
|
لديكم، إذا شئتم بها اتّصل الحبل |
عسى عطفة منكم علىّ بنظرة |
|
فقد تعبت بيني و بينكم الرّسل |
و له الحمد في كلّ حال، و إليه المرجع و المآب.
ربّنا اجعلنا من الّذين قالوا: الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنٰا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنٰا دٰارَ الْمُقٰامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لٰا يَمَسُّنٰا فِيهٰا نَصَبٌ وَ لٰا يَمَسُّنٰا فِيهٰا لُغُوبٌ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لٰا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا في الدّنيا و الآخرة، فلا ننادى من بطنان العرش: ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الضّالّة بعد نبيّها! لا وفّقكم الله لأضحى و لا لفطر، و لا يجاب فينا دعوة الملك: لا وفّقكم الله لصوم و لا فطر.
اللّهمّ ما عرّفتنا من الحقّ فحمّلناه و ما قصرنا عنه فبلّغناه.
ختم هذا الجواب بحول الله و قوّته «و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم» في السّاعة الثّالثة من اللّيلة السّادسة و العشرين من شهر شعبان المعظّم، سنة ألف و ثلاثمائة
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 113
و سبع و تسعين بعد الهجرة، على هاجرها آلاف التّحيّة و السّلام.
و أنا الرّاجي عفو ربّه محمّد الحسين بن محمّد الصّادق الحسينيّ الطهرانيّ ببلدة طهران.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 115
جواب العلّامة الخوئي عن الموسوعة الثانية
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 117
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه صورة ما أجاد به سيّدنا الأستاذ العلّامة الخوئي أدام الله أيّام بركاته ثانيا، جوابا عن جوابنا الّذي أرسلنا إلى محضره، دفاعا عن الموسوعة المرسلة إلى جنابة في لزوم اشتراك النّواحي في الآفاق في رؤية الهلال، للحكم بدخول الشّهور القمريّة، و جوابا عمّا أجاب به أوّلا، نقلناه هيهنا بعين العبارة، لتسهيل المراجعة و المطابقة مع جوابنا الثّاني الماضي ذكره، و جوابنا الثالث الآتي نصّه، و قد أفاد مدّ ظلّه السّامي في الكتاب الّذي أرسله معه أنّ هذا الجواب قد صدر من بعض الأفاضل من العلماء بأمر منه أطال الله بقاه و ها إليك نصّ الجواب.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 118
بسم الله الرّحمن الرّحيم بعد السّلام عليكم و رحمة من الله و بركات، اطّلعنا على ما ذكرته في موسوعتك المتكفّلة لمسئلة الهلال، و كيفيّة ثبوته.
و هي تنمّ عن سعة اطّلاعك، و طول باعك فيما هو مرتبط بالموضوع، من البحوث العلميّة و القضايا الفلكيّة الّتي حاولت أن تخرج على ضوئها الأدلّة و الرّوايات الواردة في المسئلة من الناحية الشّرعيّة، فتستنتج منها ما هو بصالح القول باشتراط وحدة الآفاق في ثبوت الشّهور القمريّة.
و كأنّك افترضت أنّ هذا القول هو الأنسب من النّاحية الواقعيّة، لأنّه الأقرب إلى ذوق المتشرّعة من النّاس، بل ذوق العرف و العقلاء بشكل عامّ، و أنّ القول الآخر الّذي هو المختار قد استوجب مزيدا من الأوهام، و أوقع كثيرا من الاضطراب عند العوام، فكثر الشجار و القيل و القال حتّى مع أنّ واقع الحال بحسب تصوّراتنا على عكس ما تقول تماما.
فإنّ القول بوحدة مبدء حساب الشّهور و تاريخها فهو المتطابق مع المرتكزات العقلائيّة، و المناسب مع ذوق وحدة مبدء التّاريخ لجميع سكّان الأرض، و أنّ الاختلاف و التّقدم و التأخّر في حساب الأيّام أمر على خلاف طباعهم، كما لا تناسب وحدة شعائرهم المرتبطة بالأيّام و التّواريخ. و أيّا ما كان فلعلّه بالنّظر فيما نورده لك من النّقاط التّالية، يتّضح لديك المراد من قولنا المختار فتوى و مدركا، بنحو يندفع ما زعمت عليه من وجوه الإيراد و المؤاخذة، فنقول:
1- إنّ الظّاهر الأوّلىّ في كلّ عنوان يؤخذ في موضوع حكم شرعيّ و إن كان يقتضي اعتباره قيدا دخيلا في ذلك الحكم، إلّا أنّه في جملة من الآجال قد يكون هنالك
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 119
ارتكاز عرفيّ أو متشرّعي يمنع عن انعقاد هذا الظّهور، و يقتضي حمل العنوان في لسان الدّليل على الطّريقيّة و المعرّفيّة.
و من جملة موارد هذا الارتكاز بل من أوضح مصاديقه عرفا ما إذا ورد عنوان العلم أو الرّؤية أو التبيّن و نحو ذلك في موضوع حكم شرعيّ واقعيّ.
فإنّ ارتكازيّة كون هذه العناوين لدى الإنسان هي الطّريق في إثبات الواقع و كشفه، و لا يمكن من دونها الوصول إلى الواقع المطلوب، يوجب فهم العرف الملقى إليه الخطاب لهذه العناوين على أنّها مجرّد طرق في إثبات الواقع الّذي هو موضوع الحكم الشرعيّ من دون دخالتها بنفسها فيه.
و هذا الظّهور العامّ لعلّه من المسلّمات الفقهيّة الّتي لا تشكيك فيها.
و ما أكثر المسائل الّتي ورد في لسان أدلّتها عنوان العلم أو التبيّن و مع ذلك لم- يحتمل فقيه أن يكون ذلك دخيلا في الحكم الشرعيّ.
هذا على العموم، و في المقام بالخصوص يضاف إلى ذلك ما ورد في ذيل روايات الباب، من أنّ الصّوم بالرؤية لا بالتّظنّي و الرّأي و الاحتمال، ممّا يدلّ على أنّ المقصود من الرّؤية إحراز الواقع بها و لزوم التثبّت فيه.
و كذلك ما هو ثابت نصّا و فتوى من كفاية قيام البيّنة الّتي هي تبيّن الواقع- كما يشعر به لفظها- على ذلك، أو مضىّ ثلاثين يوما من شعبان و لو لم ير أحد الهلال.
و كذلك ما ثبت من لزوم قضاء يوم الشّكّ الّذي أفطر فيه، لعدم طريق له إلى ثبوت الهلال، فتبيّن بعد ذلك بالبيّنة أو الرؤية ليلة التّاسع و العشرين من صيامه وجود الشّهر يوم إفطاره.
فإنّ هذه الأحكام جميعا و إن أمكن تخريجها على أساس الحكومة و نحوها كما أفيد، إلّا أنّه لا إشكال في أنّه خلاف ظاهر الأدلّة، بمعنى أنّ العرف يستفيد من مجموعها أنّ الرّؤية مجرّد طريق لإثبات الشّهر و ليست مقوّمة له.
و الوجه في ذلك أنّ الحكومة و التّنزيل مؤنة زائدة لا بدّ في مقام استفادتها من دليل، أن يكون ذلك الدّليل واضح الظّهور في كونه بصدد التّنزيل و الحكومة.
و مجرّد معقوليّة الحكومة ثبوتا لا يشفع لاستفادتها إثباتا كما هو واضح.
أضف إلى ذلك: أنّ عنوان الشّهر الّذي أنيط به الحكم بوجوب الصّوم، أمر عرفيّ، و ليس من مستحدثات الشّارع، و من الواضح أنّ الشهر عند العرف أمر واقعي، و ليس
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 120
للرّؤية دخل فيه إلّا بنحو الطّريقيّة المحضة.
فلو أريد الدّوران مدار الرؤية، كان لا بدّ من الالتزام بأنّ الحكم الشّرعيّ بوجوب الصّوم قد أخذ في موضوعه ثبوت الشّهر و العلم به عن طريق الرّؤية مثلا.
و هذا بنفسه بعيد عن مساق أدلّة الصّوم الظّاهرة في ترتيب الصّوم على نفس الشّهر على حدّ سائر الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الأهلّة و الشّهور.
2- حمل الرّؤية على الطّريقيّة المحضة، لا يعنى أن يكون الميزان واقع خروج الهلال عن تحت الشّعاع أو المحاق كما أفيد، بل هناك مطلب ثالث عرفيّ و مطابق أيضا مع ما هو المستفاد من أدلّة الباب، و هو أن يكون الشّهر عبارة عن بلوغ الهلال في الأفق مرتبة يمكن للعين المجرّدة رؤيته.
و هذا غير أخذ الرّؤية أو العلم موضوعا، بل الرّؤية ليست إلّا طريقا إلى إحراز هذه المرتبة في تكوّن الهلال و ظهوره في الأفق.
و وجه عرفيّة هذا المطلب و مطابقته مع المرتكزات واضح، حيث قلنا إنّ الشّهر بحسب المرتكزات العرفيّة أمر واقعيّ على حدّ الأمور الواقعيّة الأخرى التكوينيّة، فلا- يناسب أن يكون للعلم و الجهل دخل فيه.
كما أنّ الخروج عن المحاق بحسب المقاييس الدّقيقة الّتي لا تثبت إلّا بالأجهزة و الآلات أيضا ليس ميزانا لدخول الشّهر عند العرف، لعدم ابتناء الأمور العرفيّة على المداقّة و الحسابات الرّياضيّة أو الفلكيّة.
فيتعيّن أن يكون الميزان عندهم ما ذكرناه من ظهور الهلال، و تكوّنه و بلوغه مرتبة قابلة للرّؤية بالعين المجرّدة.
و وجه مطابقة هذا المطلب مع الرّوايات أنّ عنوان الرّؤية الوارد فيها، و إن كان على نحو الطريقيّة المحضة، إلّا أنّ ذا الطّريق هو الهلال البالغ مرتبة قابلة للرّؤية بالعين المجرّدة، لا مجرّد الخروج عن المحاق و لو لم يكن قابلا للرّؤية، و الحمل على الطّريقيّة لا يقتضي أكثر من إلغاء موضوعيّة الرؤية، لا المرتبة المفروضة في المرئيّ كما هو واضح.
مضافا إلى أنّ هذا هو مقتضى حمل الدّليل على الميزان العرفيّ الارتكازيّ في كيفيّة تكوّن الشّهر الهلاليّ، و قد عرفت أنّه يقتضي ذلك أيضا.
ثمّ إنّكم إمّا تعتبرون الرّؤية الخارجيّة بالفعل، أو تكتفون بالرؤية التّقديريّة أيضا، بمعنى صدق القضيّة الشرطيّة القائلة: إنّه لو استهلّ النّاس و لم يكن حاجب كالغيم مثلا
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 121
لرئى الهلال؟ فإن التزم بالأوّل، لزم القول بعدم دخول الشّهر و لو علم بوجود الهلال في الأفق بنحو قابل للرّؤية و لكن قد حجبه غيم مكثف عن تحقّق الرّؤية خارجا.
كما لو علم بذلك نتيجة رصده في السّماء أو تشخيصه بالأجهزة الحديثة الّتي تخرق حجاب الغيم، أو افترضنا إخبار معصوم لنا بذلك.
و الالتزام بهذا بعيد جدّا، و من يخالف لا ينبغي أن يكون خلافه كبرويّا، بل في الصّغرى و المنع عن إمكان تحصيل العلم بوجوده كذلك في الأفق.
و إن التزم بكفاية الرؤية التّقديريّة، كان ذلك عبارة أخرى عن إلغاء دخالة الرؤية في تكوّن الشّهر و حملها على الطّريقيّة المحضة إلى بلوغ الهلال في نفسه مرتبة قابلة للرؤية في السّماء.
3- إنّ خروج الهلال عن المحاق أو تحت الشّعاع، لا يساوق العلم بإمكانيّة رؤيته في نقطة ما على سطح الأرض- و هي النّقطة الّتي تشرف فيها الشّمس على المغيب من مجموع الكرة الأرضيّة- لكي يمكن دعوى: أنّ جعل الرّؤية طريقا محضا يلزم منه أن يكون الشّهر الشرعيّ مساوقا مع الشّهر الفلكيّ دائما، و ذلك لاحتمال أن لا يكون الهلال الخارج عن تحت الشّعاع قابلا للرؤية في تلك النّقطة.
لا من جهة احتمال وجود أحد العوامل الطبيعيّة أو الفلكيّة أو الفيزيائيّة الّتي اعترفتم بإمكان منعها عن الرّؤية فحسب، بل و لاحتمال أن لا يكون الهلال بعد قد وصل في سيره حول الأرض إلى أفق تلك المنطقة الّتي تغرب فيها الشّمس، لكي يمكن أن يرى بمجرّد خروجه عن تحت الشّعاع.
فإنّ الخروج عن تحت الشّعاع وحده لا يحقّق إمكانيّة الرّؤية، بل لا بدّ من افتراض زوال أشعّة الشّمس عن منطقة الرّؤية أيضا.
و هذا لا يكون إلّا مع تطابق الأفقين و المغربين، لكي يتاح للنّظر رؤية الهلال بمجرّد خروجه عن الشعاع.
و هذا التّطابق لا دليل على أنّه يحصل بمجرّد خروج الهلال عن تحت الشّعاع، لأنّ الدّائرة الّتي ينعكس فيها القمر من سطح الكرة الأرضيّة أصغر من الدّائرة الّتي تنعكس فيها الشّمس منه، لكبر حجم الشّمس و صغر حجم القمر.
و قد عرفنا أنّ الكوكب الأكبر إذا كان منيرا يحتلّ مساحة أكبر في إشعاعه على الأرض من كوكب آخر أصغر حجما.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 122
فمن الطّبيعيّ أن يكون مغرب القمر قبل مغرب الشّمس في أوّل الأمر حين تقارن النّيّرين، ثمّ يبدء المغربان بالتّقارب، أى يبدء مغرب القمر بالاقتراب من مغرب الشّمس، نتيجة حركته إلى جهة المغرب حول الأرض، حتّى يصل الحال في دورانه و وصوله إلى النّاحية الأخرى المقابلة لجهة الشّمس من الأرض، أن يكون بداية غروب الشّمس هي بداية طلوع القمر، و بداية طلوع الشّمس هي بداية غروب القمر و هكذا.
هذا مضافا إلى عوامل أخرى ربما تفرض دخالتها في عدم تطابق دائرتى الانعكاس على سطح الأرض من النّيّرين، نتيجة ميلان أحدهما على الآخر في السّماء في نفسها، أو نتيجة ميلان الأرض في الفصول الأربعة.
فعلى كلّ حال مجرّد تحقّق المغرب في نقطة ما على سطح الأرض في كلّ آن حتّى آن خروج القمر عن تحت الشّعاع لا يلازم دخول الشّهر، لأنّه لا يلازم بلوغ القمر إلى تلك النقطة في الأفق، بحيث يكون قابلا للرّؤية، بل قد يكون لا يزال في الآفاق و الدّوائر الأرضيّة الّتي تقابل ضوء الشّمس و يكون الوقت فيها نهارا، فلا يكون قابلا للرّؤية.
4- إنّ الاشتراك في الآفاق، لانفهم له معنى محدّدا محصّلا.
و توضيح ذلك: أنّ رؤية الهلال كما قلنا تتحقّق نتيجة سير القمر إلى جهة المغرب من الأرض بنحو يخرج عن المحاق و يكون قابلا للرؤية في نقطة مغرب الشّمس في سطح الأرض.
فإذا لاحظنا تلك النّقطة من سطح الأرض، فتمام النّقاط الّتي تقع على جهة المغرب منها، و على خطّ عرض واحد، تكون مشتركة معها في الأفق، لأنّها جميعا حين يمرّ عليها نفس هذا الغروب يكون الشّهر داخلا بالنّسبة إليهم لرؤيتهم الهلال، و لكنّ النقاط الواقعة إلى جهة المشرق منها مهما تكون قريبة منها لا تكون مشتركة في الأفق معها، لعدم إمكان رؤية الهلال فيها عند مغربها بحسب الفرض.
و هكذا النقاط الّتي تقع إلى جهة الشّمال أو الجنوب منها، بنحو تخرج عن الدّائرة الّتي تنعكس على الأرض من القمر حين مغيب الشّمس عنها.
فهل يا ترى يلتزم باشتراك بلدين متباعدين جدّا في دخول الشّهر و عدم الاشتراك مع البلد المجاور القريب من أحدهما.
هذا بحسب المكان، و كذلك الأمر غير محدّد بحسب الزّمان، إذ ربما يكون خروج القمر عن تحت الشّعاع مصادفا في شهر لنقطة من سطح الأرض حين مغيب
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 123
الشّمس فيها بنحو يرى الهلال منها غير ما يصادفه في الشّهر الآخر، نتيجة اختلاف ميلان الأرض و حركتها المحقّقة للفصول، أو نتيجة اختلاف بروج القمر و ميلانه أو لغير ذلك من العوامل، فيلزم أن يكون بلدان بعينهما مشتركين في أفق واحد في شهر و غير مشتركين في شهر آخر.
و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به، لا عرفا و لا فقهيّا.
5- و أمّا المشكلة الّتي آثرتها بناء على المختار، من أنّ ذلك يؤدّى إلى لزوم افتراض ليلة أوّل الشّهر واحدة في تمام المنطقة الّتي تحلّ بها الظّلمة من الكرة الأرضيّة، فيؤدّي إلى أن يكون اللّيل في المنطقة الواقعة شرق منطقة رؤية الهلال منذ بدايته ليلة أوّل الشّهر مع أنّه في بدايتها- الّتي قد يكون قبلها باثنتي عشرة ساعة فما دون- يكون القمر لا يزال في المحاق فكيف يمكن أن يحسب من الشّهر القادم؟
فهذه المشكلة أوّلا لا تختصّ على القول بالرأي المختار، بل يمكن إيرادها على القول بلزوم الاشتراك في الآفاق أيضا.
و ذلك فيما إذا افترضنا أنّ خروج الهلال عن الشّعاع بنحو قابل للرّؤية بالعين المجرّدة قد صادف المغرب في نقطة من سطح الأرض مشتركة في الأفق مع نقطة اخرى واقعة على خطّ طول آخر يحلّ فيه غروب الشّمس من قبل، فإنّه مثل هذه الفرضيّة سوف يكون خروج الهلال عن تحت الشّعاع بالنّسبة إلى النّقطة الثّانية بعد المغرب فيها بزمان مع أنّه من بداية اللّيل يعتبر من الشّهر اللّاحق.
و ثانيا حلّها: أنّ رؤية الهلال في نقطة من الأرض عند غروب الشّمس فيها إنّما يوجب الحكم بأنّ النّهار القادم بعد ذلك اللّيل من الشّهر القادم بالنّسبة إلى تمام النّقاط من الكرة الأرضيّة الّتي تشترك مع منطقة رؤية الهلال في ذلك اللّيل، دون النّقاط الّتي لا تشترك معها في تلك اللّيلة و الرّوايات الخاصّة أيضا لا تدلّ على أكثر من هذا المقدار، حيث تأمر بقضاء النّهار القادم بعد ليل الرّؤية و لو في مصر آخر.
و واضح أنّ هذا لا يشمل ما إذا كانت رؤية الهلال في نقطة المغرب معاصرا مع النّهار عندنا فإنّه ليس نهار ما بعد تلك اللّيلة الّتي هي ليلة الرّؤية.
و هذا إن كان مطابقا مع المرتكزات العرفيّة، بأن فرض أنّ العرف أيضا يكتفى في دخول الشّهر الجديد أن يخرج الهلال عن تحت الشّعاع بنحو قابل للرّؤية في نقطة مشتركة معنا في اللّيل و لو كان المقدار الباقي منه عندنا أقلّ منه في تلك النّقطة، لأنّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 124
الميزان عنده وقوع النّهار الّذي يلي الرّؤية بعد خروج الهلال، سواء وقعت ليلته كاملة بعده أم لا، فقد تطابق المستفاد من الرّوايات مع المرتكزات، و إلّا فلا أقلّ من أن يكون الحكم الشرعيّ بالصّوم بمقتضى الرّوايات المذكورة منوطا بذلك.
و على كلّ حال لا إشكال في عدم وجود ارتكاز معاكس على الخلاف لكي يتجرّأ أن يرفع اليد به عن مقتضى ظهور أدلّة الباب المتمثّلة في الرّوايات الخاصّة الّتي استند إليها في اختيار القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق.
6- اتّضح من مجموع ما تقدّم أنّ ما هو نسبيّ و يختلف من منطقة إلى أخرى في مسئلة الهلال إنّما هو إمكانيّة الرّؤية، و نعني بها بلوغ الهلال مرتبة من الظّهور في نفسه، بحيث يكون قابلا للرؤية لو لا وجود سحاب و نحوه، و أمّا خروجه عن تحت الشّعاع فلا يختلف فيه نقطة عن اخرى فلو كان الحكم الشرعيّ منوطا بالأوّل، كان حكما نسبيّا لا محالة، مختلفا من بلد إلى آخر، و للزم اشتراك البلدان في أفق الرّؤية، لترتّب الحكم فيه.
و لو كان منوطا بالثاني، كان مطلقا غير نسبيّ، و لم يلزم الاشتراك في الآفاق.
و المستفاد من روايات حكم الصّوم الأوّليّة، و إن كان هو الأوّل، أعني إناطة الحكم بإمكانيّة الرّؤية، إلّا أنّ ما جاء في الرّوايات الخاصّة من كفاية حصول الرّؤية في مصر لتحقّق الشّهر في جميع الأمصار الّتي تشترك معذلك المصر في ليل الرّؤية دلّنا على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق. انتهى الجواب.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 125
الموسوعة الثّالثة حول رؤية الهلال
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 127
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و صلّى الله على محمّد و آله الطّاهرين و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
هذه صورة ما جرى على فكرى الفاتر و قلمي القاصر، جوابا ثالثا عن الجواب الثاني للعلّامة الأستاذ الخوئي، أنعم الله على المسلمين بطول بقائه، ذكرت فيها مواضع النّقد من جوابه، و أدرجت فيها ما هو المؤيّد للموسوعة من لزوم الاشتراك في الآفاق في رؤية الهلال، للحكم بدخول الشهور القمريّة، تذكرة للإخوان المشتغلين و تبصرة للأخلّاء المحصّلين و الحمد للّه ربّ العالمين حمدا أبديّا ما دامت السّموات و الأرضين.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 128
بسم الله الرّحمن الرّحيم و صلّى الله على محمّد و آله الطّاهرين و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
السّلام على ميزان الأعمال و مقلّب الأحوال و سيف ذي الجلال و ساقى السّلسبيل الزّلال أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.
أيّها الرّاكب المجدّ رويدا |
|
بقلوب تقلّبت من جواها |
إن ترائت أرض الغريّين فاخضع |
|
و اخلع النّعل دون وادي طواها |
و إذا شمت قبّة العالم الأعلى |
|
و أنوار ربّها تغشاها |
فتواضع فثمّ دارة قدس |
|
تتمنّى الأفلاك لثم ثراها |
قل له و الدّموع سفح عقيق |
|
و الحشا تصطلى بنار غضاها |
يا بن عمّ النّبيّ أنت يد الله |
|
الّتي عمّ كلّ شيء نداها |
أنت قرآنه القديم و أوصافك |
|
آياته الّتي أوحاها |
خصّك الله في مآثر شتّى |
|
هي مثل الأعداد لا تناهي |
أنت بعد النّبيّ خير البرايا |
|
و السّما خير ما بها قمراها |
لك نفس من معدن اللّطف صيغت |
|
جعل الله كلّ نفس فداها |
يا أبا النّيّرين أنت سماء |
|
قد محي كلّ ظلمة نيّراها |
لك ذات من الجلالة تحوى |
|
عرش علم عليه كان استواها |
فجعلت الرّشاد فوق الثّريا |
|
و مقام الضّلال تحت ثراها |
يا أخا المصطفى لدىّ ذنوب |
|
هي عين القذى و أنت جلاها |
سلام على السّيّد الأكرم و الحبر الأعظم، فخر العلماء الأعلام، سيّد الفقهاء
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 129
العظام، الآية الحجّة الحاج السّيّد أبى القاسم الخوئي، زاده الله علما و بركة و أدامه الله عمرا و بقاء و رحمة بحقّ محمّد و آله آمين.
يا أخلّاي هل يعود التّداني |
|
منكم بالحمى بعود رقادي |
ما أمرّ الفراق يا جيرة الحيّ |
|
و أحلى التّلاق بعد انفراد |
كيف يلتذّ بالحياة معنّى |
|
بين أحشائه كورى الزّناد |
عمره و اصطباره في انتقاص |
|
و جواه و وجده في ازدياد |
فغرامى القديم فيكم غرامى |
|
و ودادي كما عهدتم ودادي |
قد سكنتم من الفؤاد سويدا |
|
ه، و من مقلتي سواء السّواد |
يا سميرى روّح بمكّة روحي |
|
شاديا إن رغبت في إسعادى |
فذرأها سربى و طيبي ثراها |
|
و سبيل المسيل وردي و زادى |
كان فيها انسى و معراج قدسي |
|
و مقامي المقام و الفتح باد |
قسما بالحطيم و الرّكن و الأستار |
|
و المروتين مسعى العباد |
و ظلال الجناب و الحجر |
|
و الميزاب و المستجاب للقصّاد |
ما شممت البشام إلّا و أهدى |
|
لفؤادى، تحيّة من سعاد |
و بعد التّحيّة و الإكرام، و التّبجيل و الإعظام، و إهداء خلوصى و ودّى و دعائي آناء ليلى و أطراف نهاري، لدوام الصّحّة و العافية و طول العمر بالبركة و الرّحمة، و غاية شعفى حين ذكراك و شغفى إلى لقياك، قد افتخرت باستلام كتابك المبارك، الحاكي عن طلعتك المنيرة و سيما وجهك الميمون، و حبّك القديم و خلقك العظيم، فقلت في نفسي:
و بشيري لوجاء منك بعطف |
|
و وجودي في قبضتي قلت هاكا |
فقت أهل الكمال حسنا و حسنى |
|
فبهم فاقة إلى معناكا |
و كفاني عزّا بحبّك ذلّي |
|
و خضوعي و لست من أكفاكا |
فلثمته لما فيه من أطايب روائح الكرامة الفائحة من ضمير استاذنا المعظّم، أدام الله ظلاله السّامية.
و كانت معه رسالة صدرت من بعض الأفاضل من العلماء، حفظه الله، بأمر
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 130
السّيّد الأستاذ، جوابا عن بعض ما حرّرته ثانيا، حول مسئلة لزوم اشتراك الآفاق في رؤية الهلال، للحكم بدخول الشّهور القمريّة.
فطالعتها بأتم الدّقّة و أكملها، فلم أجد فيها ما يشفي العليل أو يروى الغليل، بعد اعترافه أوّلا بتماميّة بحوثنا العلميّة، حول المسئلة، من ناحية المسائل الفلكيّة فيما هو مرتبط بالمقام و اعترافه أخيرا من النّاحية الشّرعيّة أيضا، لما هو المستفاد من روايات الصّوم الأوّليّة لو لا ما توهّم من دلالة الرّوايات الخاصّة على كفاية حصول الرؤية في مصر.
هذا، فلمّا كان بعض ما أجاب به في هذه الرسالة غير مستند إلى المقدّمات البرهانيّة، و بعضه ناشئا من عدم التأمّل و الدّقّة فيما أوردناه في الموسوعة، فلم ينهض في كسر ما اختاره المشهور، أو في إقامة ما اخترتم بوجه من الوجوه، بل كلّما أوردناه قائم على ساقه، استجزت من جنابك أن أكتب جوابا عمّا أورده، فأقول بعد الصّلوة و الاستخارة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، و الصّلوة و السّلام على خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد و آله الأطيبين الأنجبين الغرّ الميامين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ «1». صدق الله العلىّ العظيم.
أفاد المجيب حفظه الله أوّلا: أنّ القول بوحدة مبدء حساب الشّهور و تاريخها هو المتطابق مع المرتكزات العقلائيّة، و المناسبة مع ذوق وحدة مبدء التّاريخ لجميع سكّان الأرض، و أنّ الاختلاف و التقدّم و التّأخّر في حساب الأيّام أمر على خلاف طباعهم، كما لا تناسبه وحدة شعائرهم المرتبطة بالأيّام و التّواريخ.
ثمّ أورد أمورا ستّة في دفع ما أوردناه من النّقود على القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق و بلزوم الطّريقيّة المحضة للرّؤية، المساوقة لرفضها بتّا.
و نحن نبحث أوّلا عن كيفيّة مبدء التّاريخ، ثمّ عن هذه الأمور السّتّة واحدا بعد واحد، طبقا لما أفاده.
أمّا القول بلزوم وحدة المبدء في حساب الشّهور المبتنية على رفض مدخليّة الاختلاف في الآفاق فقد تقدّم عليه في هذه النّكتة السّيّد أبو تراب الخونسارى- قدّس
______________________________
(1) سورة 2 البقرة آية 189
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 131
سرّه- في كتابه: سبيل الرّشاد في شرح كتاب الصّوم من نجاة العباد، حيث قال: و يؤيّده أنّ عدم اختلاف الشّهور في الأمصار، لكون المدار على ذلك، أنسب إلى الضّبط و عدم تشويش الحساب، و أوفق للحكمة جدّا، فيناسب أن يكون هو المعتبر عرفا و شرعا.
أقول: و هو المتبادر إلى بعض الأذهان، و المتسابق إلى الأفهام، حيث إنّه كلام لطيف على أساس حلاوة الذّوق و رقّة الإحساس، لكنّه خال عن السّداد.
و قبل الخوض في المطلب لا بدّ من تمهيد مقدّمتين:
الأولى: الأرض كرويّة،
و تدور حول نفسها دورا كاملا فيما يقرب من أربع و عشرين ساعة و يتحقّق بذلك نهار واحد و ليلة واحدة في النّواحي المعمورة.
جميع النّواحي الواجهة لضوء الشّمس المشتركة في الاستنارة تحسب نهارا واحدا، كما أنّ جميع النّواحي المعاكسة لضوئها المشتركة في الظّلمة الواقعة في الظّلّ المخروطى تحسب ليلة واحدة، و لمّا لم يكن لكرويّتها ميز و شاخص، يتميّز و يتشخّص به بعض الأصقاع عن بعض، في تعيين مشخّصات الأيّام و اللّيالي، و حدودها من تقويم الأسابيع و الشّهور و كرّ الأعوام و الدّهور، ما بقيت أرض مستنيرة و شمس منيرة.
مثلا إذا سمّينا الناحية الواجهة للشّمس من الكرة الأرضيّة يوم الجمعة، لم يتغيّر هذا اليوم إلى الأبد و لو تدور الأرض حول نفسها آلاف مرّة.
و ذلك لعدم تعيّن مبدء له بدئا و نهاية، و لا يمكن أن نتصوّر قبله و لا بعده من خميس و سبت فكيف بسائر أيّام الأسبوع، لعدم إمكان تصوّر القبليّة و البعديّة.
و بهذه الموازاة لا يمكن لنا تقدير أيّام الشهور، أىّ شهر كان، شمسيّا أو قمريّا، لعدم تمايز الأيّام بعضها عن بعض.
و هذه المشكلة إنّما حدثت بعد كشف قارّة إمريكا، و العلم بكرويّة الأرض، و بعد مسافرة السّيّاح المعروف: مازلان بسفائنه حول الأرض في مدّة ثلاث سنين، من إسبانيا إلى جهة المغرب حيث راكبي هذه السّفن كانوا يعدّون الأيّام بغاية الدّقّة، و بعد مضىّ هذه المدّة و الوصول إلى أوطانهم كانوا يعلمون أنّ اليوم يوم الثلاثاء، فلمّا سألوا أهلها اتّفقوا جميعا على أنّ اليوم يوم الأربعاء.
و لم يدروا أنّ هذا الاختلاف، و هو يوم واحد نشأ من خلاف جهة مسيرهم لمسير
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 132
الأرض، و هي من المغرب إلى المشرق.
فإنّهم كانوا يسيرون حول الأرض بحسب تعداد الأيّام، مدّة أزيد من مدّة غيرهم، و هي مدّة دوران الأرض حول نفسها دورا واحدا، البالغة أربع و عشرين ساعة.
فهذه المدّة بمثابة عدم تحويل الشّمس عنهم في طول مدّة اثنتي عشرة ساعة، فكأنّهم واجهون لضوء الشّمس يومين متواليين، لكنّهم كانوا يحسبونهما يوما واحدا.
و أمّا قبل كشف هذه القارّة فالعلماء كانوا بانين إمّا على عدم كرويّة الأرض و إمّا على انحصار المعمورة بنصفها الممتدّ من جزائر خالدات إلى أقصى بلاد الصّين و اليابان.
و على كلّ كان مبدء الأيّام عندهم عند بزوغ الشّمس في هذه البلاد، كما أنّ المنتهى غروبها في هذه الجزائر.
و لحلّ هذه العويصة عيّنوا مبدأ فرضيّا للتّاريخ، و اتّفق الأقوام و الملل كلّهم على هذا المبدء و هو خطّ مفروض مارّ على القطبين، على زاوية 180 درجة من خطّ نصف نهار كرنويج، بحيث هذا الخطّ و ذاك ينصفان كرة الأرض بنصفين متساويين، و جعلوا جميع النّواحي الواقعة في غرب هذا الخطّ يوم السّبت، و النّواحي الواقعة في شرقه يوم الجمعة، فابتداء يوم الجمعة في شرقه هو انتهاء يوم الجمعة في غربه.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 133
و إنّما عيّنوا موقع الخطّ المفروض في هذا الموضع لما أوّلا:
أنّ معظمه يمرّ من البحر المحيط: الأقيانوس الكبير، و لا يكون فيه سكّان يسكنون في بلد حتّى يختلف تاريخ أهله.
و حيثما يقطع هذا الخطّ من طرف الشّمال قطعة صغيرة من السّيبريا، أمالوه و جعلوه خارج هذه المنطقة بين السّيبريا من آسيا و آلاسكا من إمريكا، و عبّروه بما بين جزيرتين مسمّاتين بديومد بينهما قدر مسافة ثلاثة أميال.
إحديهما أكبر من الأخرى و واقعة في غرب الخطّ، و الأخرى أصغر من الاولى و واقعة في شرقه ففي جميع الأوقات تكون أيّام الأسابيع و الشّهور في ديومد الصّغرى قبل أيّام ديومد الكبرى.
فإذا فرضنا أنّ أحدا يوم الجمعة كان في ديومد الصّغرى الّتي هي في ناحية شرق الخطّ، و سافر في دقائق قليلة عن البحر نصف فرسخ و وصل إلى ديومد الكبرى الواقعة في غرب الخطّ، دخل في يوم السّبت، و هكذا العكس.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 134
و ثانيا أنّ هذا الخطّ على الطّرف المقابل من نصف نهار كرنويج و بينهما 180 درجة من كلّ واحد من الطّرفين.
و ذلك لأنّ محيط الدائرة الأرضيّة ينقسم على 360 درجة و هذا المقدار يمرّ عن مواجهة الشّمس في أربع و عشرين ساعة.
فالأرض تسير نحو المشرق في كلّ ساعة خمس عشرة درجة، 15: 24: 360 فإذا فرضنا أنّ السّاعة في كرنويج كانت على رأس الثانية عشرة من النّهار، و هي الظّهر التّقريبىّ، تكون السّاعة في النّواحي الشّرقيّة عنه على مسافة 15 درجة، ساعة بعد الظّهر، و هكذا إلى النّواحي البعيدة عنه على مسافة 180 درجة، اثنتي عشرة ساعة بعده، و هي المقارنة لنصف اللّيل.
و أيضا تكون السّاعة في النّواحي الغربيّة عنه على مسافة 15 درجة، ساعة قبل الظّهر، و هكذا إلى النّواحي البعيدة عنه على مسافة 180 درجة، اثنتي عشرة ساعة قبله، و هي المقارنة أيضا لنصف اللّيل.
فهذه النّاحية الّتي انطبقت على خطّ التاريخ المللى، بعيدة عن كرنويج على مقدار 180 درجة متقدّمة عنه زمانا من ناحية المشرق، و متأخّرة عنه زمانا من ناحية المغرب، كلّ باثنتي عشرة ساعة.
فمجموع تفاوت هذين المقدارين، و هو أربع و عشرون ساعة، يكون قدر يوم واحد و ليلة واحدة.
فيكون هذا الخطّ متقدّما عن نفسه من جهة، و متأخّرا عن نفسه من جهة أخرى، متقدّما من النّاحية الشّرقيّة، و متأخّرا من النّاحية الغربيّة، فهو المبدء للتّاريخ تكون الأيّام في شرقه و لو بمقدار يسير، متقدّمة على الأيّام في غربه كذلك.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 135
هذا كلّه من جهة أيّام الأسابيع، من الجمعة و السبت و غيرهما.
و تتبعها أيّام الشّهور من الواحد و الاثنين و غيرهما.
فإذا فرضنا أنّ الشّمس طلعت في يوم الثامن من أيلول على مشرق هذا الخطّ، علمنا بأنّها غربت يوم الثّامن من أيلول عن مغربه فابتداء الثامن في جهة المشرق يساوق انتهائه في جهة المغرب، ففي المشرق يكون الثامن و في المغرب يكون التّاسع.
و لا فرق فيما ذكرنا في الشّهور الشّمسيّة بين الرّوميّة و الفرسيّة و الرّوسيّة و الفرنسيّة و غيرها.
فإذا فرضنا أنّ في مشرق هذا الخطّ يكون يوم الأحد السّابع من خردادماه، يكون في مغربه يوم الاثنين الثّامن منه.
________________________________________
تهرانى، سيد محمد حسين حسينى، رسالة حول مسألة رؤية الهلال، در يك جلد، ه ق
رسالة حول مسألة رؤية الهلال؛ ص: 135
فكلّ أحد يسافر من المشرق إلى المغرب، مارّا عن هذا المبدء، لا بدّ و أن يقدّم
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 136
يوما من تاريخ تقويمه و كذا العكس، إذا سافر نحو المشرق لا بدّ و أن يؤخّر يوما واحدا من تقويمه.
المقدّمة الثانية: مبدء الشهور القمريّة إمّا يتحقّق بخروج الهلال عن تحت الشّعاع،
و ظهوره في الأفق على ما هو المشهور، فإذن يختلف المبدء في النّواحي الشّرقيّة عن محلّ الرّؤية، و النّواحي الغربيّة عنه، و يتأخّر بيوم واحد.
و إمّا يتحقّق بنفس الخروج فقط و إمكانيّة الرؤية في ناحية ما، على ما ذهبت إليه، فإذن يختلف المبدء في النّصف الفوقانيّ من الأرض الّذي يشترك في الظّلمة اللّيليّة مع نقطة الخروج، و النّصف التّحتانيّ منها الّذي كان واجها للشّمس، و كان نهار هناك.
فإذا دارت الأرض بحركتها الدّوريّة بقدر نصف الدائرة، البالغ اثنتي عشرة ساعة تقريبا، يواجه جميع النّقاط الواقعة في ذلك النّهار على مغرب الشّمس، و تدخل واحدة بعد أخرى في تلك الظّلمة و بذلك يبتدئ الشّهر بالنسبة إليها.
لكنّ هنا نكتة دقيقة، و هي أنّ القمر لا يخرج من الشّعاع في مبدء كلّ شهر في موضع خاصّ، محاذيا للأرض، حتّى تتّحد الآفاق، و تستقرّ في كلّ حين، بل بمقتضى سيره الخاصّ حول الأرض أوّلا، و بميله عن معدّل النّهار شمالا و جنوبا على مقدار خمس درجات ثانيا، و بسائر العوامل الّتي ذكرناها في الموسوعة الأولى ثالثا، يختلف مبدء طلوعه في أوّل كلّ شهر من الشهور.
إذا تمهّد هذا فنقول: إنّ اختلاف حساب الشهور أمر لازم لا مناص و لا مفرّ منه حتّى في الشهور الشّمسيّة بأنحاء سنواتها في نصف الكرة الأرضيّة.
فعلى أساس ما ذكرنا يختلف مبادئ الشهور الشّمسيّة في النّصف الشّرقيّ من قارّة آسيا، كالمعظم من أرض السّيبريا و الصّين و برمة و تايلند و اندونزى و ويتنام و سوماترا و برنئو و استراليا، بالنسبة إلى النّصف الغربيّ من قارّة إمريكا كأرض آلاسكا و المعظم الغربيّ من كانادا و الإيالات المتّحدة و مكزيك.
فعدد أيّام الأسابيع و الشهور في سكّان الأوّل، مؤخّر عن عدد أيّام الأسابيع و الشهور في سكّان الأخر بيوم واحد.
فاليوم السّابع من حزيران مثلا بالنّسبة إلى هؤلاء، بعينه اليوم الثّامن منه بالنّسبة إلى أولئك،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 137
و السّبت بالنّسبة إلى هؤلاء، هو يوم الجمعة بالنّسبة إلى أولئك، مع أنّهم مجتمعون تحت ضوء واحد شمسىّ في نهار واحد، أو تحت ظلّ واحد في ليلة واحدة.
و كذلك النّواحي الغربيّة من إمريكا الجنوبيّة كأرض ونزوئلا و كلمبيا و برو و شيلى و ارزانتين و المعظم من برزيل، تختلف مع النّواحي الشرقيّة من السّيبريا و زلاند و استراليا مع اتّحاد نهار سكانهم و اتّحاد ليلهم.
و أمّا في الشهور القمريّة، فلا نحتاج إلى تعيين خطّ فرضيّ مارّ على القطبين في تعيين مباديها و أيّامها، و إن كان الأمر أيضا كذلك بالنسبة إلى أعداد أسبوعها.
و ذلك لأنّ مبدء كلّ شهر له تعيّن واقعيّ خارجيّ، و هو خروج الهلال عن تحت الشّعاع و ظهوره في الأفق، أو نفس خروجه عنه فقط على اختلاف المسلكين.
فعلى كلا التّقديرين يختلف مبادئ الشهور بالنسبة إلى جميع النّواحي الأرضيّة بيوم واحد، و هذا أيضا لا مفرّ منه.
أمّا على مسلك الجمهور فابتداء الشّهر بالنّسبة إلى كلّ بلد إنّما هو بظهور الهلال في أفقه، فإذا خرج الهلال عن الشّعاع و صار قابلا للرّؤية بعد غروب الشّمس في ابتداء اللّيل، دخل الشّهر بالنسبة إليه.
و لكن لمّا تسير الأرض من المغرب إلى المشرق، يختفى الهلال بالنسبة إلى سكّان هذا البلد، و يطلع دائما على نحو الاستمرار حينا بعد حين، بالنّسبة إلى جميع الآفاق الغربيّة، حتّى تتمّ الدّورة الكاملة في أربع و عشرين ساعة، فيراه جميع أهل الآفاق في ابتداء ظلّ مخروطىّ مستمرّ في هذه المدّة المتميّز بعضها عن بعض بفصل نهاريّ، فتجزّي و تنقسم بليلتين.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 138
و أمّا على ما اخترت من كفاية الخروج عن الشّعاع و رؤية ما و لو من بعيد، فجميع القطر المظلم اللّيليّ المشترك مع نقطة أفق الرّؤية في ابتداء اللّيل يحسب من أوّل الشّهر.
فالمبدء لدخول الشّهر إنّما هو آخر القطر المقابل لافق الرّؤية، و هي النّاحية الّتي كاد أن ينقضي فيها اللّيل، و يطلع فيها الفجر، و كان دخول الشّهر بالنّسبة إليهم في حال يكون القمر في عين المحاق و يخرج عنه و عن الشّعاع بعد اثنتي عشرة ساعة أو أزيد.
أمّا القطر المستنير النّهارىّ المقابل للقطر المظلم، فابتداء الشهر بالنسبة إلى كلّ ناحية منه إنّما هو بسبب المواجهة للهلال حين دخوله في اللّيل عند غروب الشمس بالحركة الدّوريّة، و ذلك يطول اثنتي عشرة ساعة أيضا.
فمبدء الشهر في النواحي المختلفة الأرضيّة يطول أربع و عشرين ساعة، المنقسم بليلتين على حسب الآفاق الفوقانيّة و التحتانيّة.
و قد علم ممّا ذكرنا أنّ اختلاف مبدء الشّهور القمريّة كالشّمسيّة ممّا لا مجال لأحد إنكاره، و لا مناص إلّا من الالتزام به على أىّ مذهب سلك.
غاية الأمر أنّه على مذهب الجمهور يكون أوّل مبدء الشهر أوّل زمان رؤية القمر في الأفق، ثمّ بلد بلد من النّواحي الغربيّة واحدا بعد آخر، إلى أن تتّصل الدّورة إلى قرب المبدء الأوّل، و على ما ذهبت إليه يكون مبدء الشهر آخر القطر اللّيليّ المجاور للبلد الّذي طلع فيه الفجر، ثمّ ناحية
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 139
ناحية من جانب المغرب من هذه النّاحية حتّى تصل الدّورة إلى أقرب ناحية بالنّسبة إلى هذه النّاحية من القطر.
فلا فرق بين المذهبين من جهة الاختلاف في التّاريخ أبدا.
و مجرّد أسبقيّة دخول اللّيل في ناحية تكون مبدأ للشهر على ما اخترت، لا يوجب وحدة في التّاريخ، كما أنّ نفس جعل ابتداء الشهر بظهور الهلال في الأفق، لا توجب اختلافا فيه.
لكنّ النكتة الدقيقة الّتي ذكرناها آنفا، و هي طلوع الهلال في رأس كلّ شهر في مكان مغاير لما طلع سابقا تنبّهنا على سقوط عنوان الفوقانيّة و التّحتانيّة على ما ذهبت إليه، من مسلك عدم لزوم الاشتراك في الآفاق بالمرّة.
لأنّ الهلال في بدء خروجه عن الشّعاع لا يطلع دائما في النّواحي المعمورة من الصّين و الهند و إيران و العراق و الشّام و مصر و الممالك الاوربيّة و الإفريقيّة، حتّى يحكم بدخول الشّهر في كلّ ناحية غشيها ظلمة اللّيل الوحدانيّة، و هو جميع هذه النواحي، فيحكم باتّحاد مبدء الشّهر فيها.
و ليست بلدة طهران مركزا فوقانيّا للعالم حتّى يطلع الهلال في مشرقه أو مغربه إلى برتقال و اسبانيا من نهاية المعمورة الفوقانيّة، فيتّحد أفقه مع آفاق سائر البلاد، فيحكم بدخول الشهر في جميع النّقاط الفوقانيّة من الأرض في ليلة واحدة.
و هكذا ليس النّجف الأشرف بهذه المثابة.
بل الأرض كرويّة لا تتميّز أصقاعها بعضها عن بعض في الحركة الدّوريّة.
و ليس طلوع الهلال بأيدينا، فنخرجه عن الشّعاع في المعمورة الفوقانيّة دائما، كي نتمكّن من الحكم بدخول الشّهر في جميع النّواحي المحيطة بنا من كلّ صوب بلا اختلاف.
بل ربما يطلع في النّواحي الغربيّة من الإيالات المتّحدة، أو الأقيانوس الكبير، في موضع يكون بعده عن النّجف 180 درجة، أعنى بفاصل نصف القطر المحيط.
فإذن تطول الظّلمة الوحدانيّة اللّيليّة في موضع رؤية الهلال، في الأقيانوس الكبير إلى النّواحي الغربيّة من العراق حتّى النّجف، فيحكم بدخول الشّهر في النّجف و لا يحكم بدخوله في النّواحي الشرقيّة منه، كخانقين و البصرة.
فنرى أنّه على ما ذهبت إليه ربما يختلف بالحساب الدّقيق مبدء شهر كربلا و
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 140
النّجف الأشرف بليل واحد فكيف بسائر نواحي العراق و غيرها.
و أيضا على ما ذهبت اليه، لا بدّ للعلم بمبدء طلوع الهلال في كلّ شهر من محاسبة النّواحي الواقعة في نصف القطر المظلم، حتّى يحكم بدخول الشّهر فيها، و محاسبة النّواحي الواقعة بعد القطر المظلم فيحكم بعدم الدّخول.
و هذه محاسبات دقيقة على أساس الهندسة، يتكفّلها علم الفلك، خارج عن محطّ النظر الشّرعيّ، فلا يكاد يعبأ به الشّارع المبنيّة أحكامه على المساهلات.
بخلاف مذهب الجمهور، من ابتداء كلّ شهر في كلّ ناحية برؤية الهلال فوق أفقه.
و ممّا ذكرنا يعرف أنّ ما ذكر من أنّ الالتزام بكفاية خروج الهلال عن الشّعاع في مبدء الشّهور، موجب لوحدة حساب الشّهور و تاريخها، و مناسب لوحدة شعائرهم المرتبطة بالأيّام و التّواريخ،كلام على أساس الإحساس، خال عن التّحقيق، خارج عن منطق التعقّل الصّحيح، ساقط من أساسه في الاحتجاجات.
هذا ما أردنا بيانه في مسئلة اختلاف التّاريخ على كلّ مسلك.
و أمّا النّقاط السّتّة الّتي حاول فيها الجواب عمّا حرّرنا،
فلم يقع واحد من الأجوبة موقعه.
إمّا النّقطة الأولى، فنقول: كلّ عنوان أخذ في موضوع حكم شرعيّا كان أو غيره،
يقتضي اعتباره قيدا دخيلا في الحكم، يثبت الحكم بثبوته و ينتفي بانتفائه، إلّا فيما دلّت قرينة خاصّة على عدم مدخليّته فيه، كما أنّ السّنّة دلّت على عدم دخالة كون الرّبائب في حجور الرّجال في حرمة نكاحهنّ عليهم، مع ظهور الحرمة في بادى الأمر من قوله عزّ و جلّ وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1»، أو دلّت قرينة عامّة على عدم المدخليّة، ككثرة ورود القيد في لسان العرف العامّ، أو الخاصّ بلا مدخليّة له في الحكم، و كانت الكثرة إلى حدّ يصرف الموضوع المقيّد عن ظهور دخالة القيد فيه، فحينئذ يحمل الحكم على نفس الموضوع اللّابشرط عن وجود القيد و عدمه.
و هذا في جملة من الآجال الّتي أخذ في موضوع حكمها عنوان نفس العلم أو ما هو بمعناه في كونه كاشفا صرفا و طريقا محضا مسلّم.
______________________________
(1) سورة 4 النساء الآية 23.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 141
و الشاهد عليه في المحاورات العرفيّة كثير، و كذلك في المسائل الفقهيّة.
أمّا عنوان التبيّن ليس بهذه المثابة، فضلا عن الرؤية.
لأنّ التبيّن ليس مطلق الانكشاف، بل الانكشاف الخاصّ، و هو وضوح جميع نواحي المعلوم، و ارتفاع الغيم و الحجاب عن أطرافه، و انجلائه من كلّ جهة، و من كلّ ناحية، من المقدّمات و المقارنات و الغايات.
و كثيرا ما يكون التّثبّت في الموضوع و التّأنّي فيه دخيلا في الحكم، و لو مع حصول العلم قبلا، من المشاهدة و السّماع و غيرهما، ممّا يوجب الاطمئنان بدوا، و لكن بالتّروّي و التّثبّت و التّأنّي ربما يزول، كما في قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَتَبَيَّنُوا «1»، ففي المجمع: أي إذا سافرتم و ذهبتم للغز و فتبيّنوا، أى اطلبوا بيان الأمر و ثباته، و لا تعجلوا فيه.
و في قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «2»، و هيهنا بمعنى التّحقيق و التّثبّت و الفحص في الأطراف، حتّى ينجلي جميع جوانب الأمر بكمال الوضوح.
و لهذا فسّره في تاج العروس: بالتّثبّت في الأمر و التّأنّي فيه.
و السّرّ في ذلك أنّ الذّهاب للغزو و الدّفاع المستلزم للقتل و الجرح و ذهاب الأموال و الأسر أمر مهمّ في الغاية، لا يعتمد فيه على العلم الحاصل في بادى النّظر و الاطمئنان المستفاد من القرائن البدويّة بل لا بدّ من التّحقيق الكافي و الفحص الوافي، و هذا معنى التّبيّن الوارد في موضوع الدّليل.
و بهذا يعلم أنّ الاستناد بقول المنجّمين في تعيين طلوع الفجر، و البناء على أقوالهم في الصّلوة و الصّيام غير تامّ، لأنّ الله تبارك و تعالى جعل الغاية في الأكل و الشّرب في ليالي شهر رمضان، تبيّن النّهار و وضوحه قبالا للّيل، فقال كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «3» بحيث يتشخّص في امتداد الأفق مثل الخيط الأبيض من طلوع الصّباح، و يتميّز عن ظلمة اللّيل الممتدّة في السّماء إلى هذه النّاحية.
______________________________
(1) سورة 4 نساء الآية 94.
(2) سورة 49 الحجرات الآية 6.
(3) سورة 2 البقرة الآية 187.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 142
ففي الكافي روى الكلينيّ- قدّه- بإسناده عن الحلبيّ قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. فقال: بياض النّهار من سواد اللّيل- الحديث.
و رواه الشّيخ في التّهذيب بإسناده عن الكلينيّ.
و في الكافي أيضا عن أبى بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام فقلت: متى يحرم الطّعام و الشّراب على الصّائم، و تحلّ الصّلوة صلاة الفجر؟
فقال: إذا اعترض الفجر و كان كالقبطيّة «1» البيضاء، فثمّ يحرم الطّعام و تحلّ الصّلوة صلاة الفجر.
قلت: فلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشّمس؟ فقال: هيهات أين تذهب؟ تلك صلاة الصّبيان. و رواه الشّيخ في التّهذيب بإسناده عن الكلينيّ، و الصّدوق في من لا يحضره الفقيه عن عاصم بن حميد عن أبى بصير.
و روى الصّدوق أيضا أنّه سئل من الصّادق عليه السّلام عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فقال: بياض النّهار من سواد اللّيل، و قال في خبر آخر: و هو الفجر الّذي لا شكّ فيه.
و الحاصل أنّ ما جعله الشارع أجلا لصلاة الفجر و الصّيام هو تبيّن الفجر، بحيث كان من الوضوح بمثابة افتراش الأفق من ثياب بيض، لا يشكّ فيه أحد، و هذا التبيّن مع هذا العرض العريض متأخّر عمّا جعله الفلكيّون مبدأ للفجر بفاصل، و لا يمكن جعله طريقا و كاشفا عن أوّل زمان خروج الأفق عن الظّلّ المخروطىّ إلى فضاء أشعّة الشّمس، و هو بحساب علم الفلك يتحقّق في لحظة.
و هذا بخلاف زوال الشّمس عن خطّ نصف النّهار المارّ على رأس المصلّى، فإنّه يتحقّق في لحظة واحدة، و حيث جعل موضوعا لصلاة الظّهر في قوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ، «2» يمكن التعويل عليه إلى القول الفلكيّ مع الوثاقة.
و السّرّ في جميع ما ذكرناه من الشّواهد و الأمثلة، أنّ التّبيّن مأخوذ من البيان، و
______________________________
(1) في مرآت العقول نقل عن الصّحاح: أنّ القبط أهل مصر، و القبطيّة ثياب بيض رقاق من كتّان يتّخذ بمصر، و قد يضمّ لأنّهم يغيّرون في النسبة كما قالوا:، سهلي و دهري- انتهى.
(2) سورة 17 الإسراء الآية 78.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 143
هو بمعنى الوضوح و الانجلاء في الغاية، و فيه خصوصية زائدة عن معنى العلم، و بها يمكن أن يلحظ النظر.
ذكر ابن الأثير في النّهاية في معنى قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنّ من البيان لسحرا: البيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، و هو من الفهم و ذكاء القلب، و أصله الكشف و الظّهور، و قيل معناه: إنّ الرجل يكون عليه الحقّ، و هو أقوم بحجّته من خصمه، فيقلب الحقّ ببيانه إلى نفسه لأنّ معنى السّحر قلب الشّيء في عين الإنسان، و ليس بقلب الأعيان، ألا ترى أنّ البليغ يمدح إنسانا حتّى يصرف قلوب السّامعين إلى حبّه، ثمّ يذمّه حتّى يصرفها إلى بغضه- انتهى. و في مجمع البحرين: و في الحديث: إنّ الله نصر النّبيّين بالبيان، أى بالمعجزة، و بأن ألهمهم و أوحى إليهم بمقدّمات واضحة الدّلائل على المدّعى عند الخصم، مؤثّرة في قلبه.
و فيه أيضا: أنزل الله في القرآن تبيان كلّ شيء، أي كشفه و إيضاحه إلى أن قال: و تبيّن الشّيء لي، إذا ظهر عندي و زال خفاه عنّى- انتهى.
و كم من مورد وردت في القرآن الكريم من هذا الأصل اشتقاقات، مثل تبيّن و بيّن و بيّنة و بيّنات و مبيّنة و مبيّنات و مبين و بيان و تبيان و نظائرها، و في كلّ منها لوحظت خصوصيّة للإيضاح و كشف السّتر بنحو أتمّ و أكمل.
و محصّل الكلام أنّ التّبيّن ليس مرادفا للفظ العلم بوجه، و القرينة العامّة المدّعاة في استعمال لفظ العلم بعنوان الطريقيّة في موضوع الأحكام في الآجال غير موجودة فيه.
و أنكر من هذا ادّعاء وجود قرينة عامّة في استعمال لفظ الرّؤية بعنوان الكاشفيّة المحضة في موضوع الأحكام، و دعوى تحقّقها مردودة على مدّعيها.
لأنّ للرّؤية بمعنى الإبصار الحسّي خصوصيّة ليست في غيرها من طرق الانكشاف، فإذا وردت في موضوع دليل عرفيّ أو شرعيّ، ظاهره دخالة هذه الخصوصيّة في استجلاب الحكم، فلا بدّ من الأخذ بها و جعلها قيدا يدور الحكم معها وجودا و عدما، إلّا إذا دلّت قرينة خاصّة على عدم دخالتها فيه.
و لعلّ المدّعى نظر إلى القرائن الخاصّة في موارد شخصيّة، ثمّ توهّم منها كثرتها إلى حدّ يصرف الكلام عن ظهوره في التّقييد، أو نظر إلى الرّؤية الّتي هي من أفعال القلوب، و هي بمعنى العلم مثل ما ورد في حديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مع
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 144
سلمان الفارسيّ في أشراط الساعة، المرويّ عن تفسير القمّيّ، و نظائره «1»، فتوهّم أنّ الرّؤية الحسّيّة أيضا كذلك، و هذا توهّم باطل، و لكلّ منها حكم غير ما للآخر، هذا على العموم.
و أمّا في المقام يضاف إلى ذلك أوّلا كثرة الرّوايات الّتي دلّت على دخالة الرّؤية من الفريقين عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و كذلك تواتر الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام الصّريحة في دخالتها، فقد ذكر بعض الأعلام من المشايخ أنّها أكثر من أن تعدّ و تحصى، و قد فهموا منها مدخليّة الرّؤية بلا نكير، و هم من أهل اللّسان، العارفون بأساليب الكلام، و ذكر في بعضها دخالة الرّؤية و حصرها في ثبوت الهلال بلسان النّفي و الإثبات، مثل قوله عليه السّلام: لا تصم إلّا أن تراه، و قوله عليه السّلام: لا تصم إلّا للرّؤية، و أدلّ منهما قوله عليه السّلام: إنّه ليس على أهل القبلة إلّا الرّؤية و ليس على المسلمين إلّا الرّؤية.
فهب أيّها المجيب أنّ الشّارع يريد مدخليّة الرّؤية بنحو الموضوعيّة، لا الكاشفيّة المحضة، في مقام الثّبوت، فهل يتصوّر جملة بليغة، أو كلام بليغ، أبلغ من هذا الّذي أفاده، في مقام الكشف عمّا أراده، في مقام الإثبات، فقل لنا ساعدك الله: بأيّ كلام يفهمنا، و بأيّ عبارة ينبّهنا؟
و العجب كلّ العجب أنّه اعترف في آخر كلامه، بأنّ المستفاد من روايات الصّوم الأوّليّة، هو دخالة الرّؤية بمعنى إناطة الحكم بإمكانيّة الرّؤية. و مع هذا كان ينكر موضوعيّتها بادّعاء قرينة عامّة و قرائن خاصّة على الكاشفيّة. مع أنّ كلتا الدّعويين: دعوى وجود القرينة العامّة، و دعوى وجود قرائن خاصّة، معلولتان.
و ثانيا ما هو المشاهد في جميعها أنّهم عليهم السّلام سدّوا جميع الطّرق المتصوّرة لثبوت الهلال، مثل أماريّة غيبوبة الهلال بعد الشّفق، و تطوّقه، و رؤية ظلّ الرأس فيه، و خفائه من المشرق غدوة على دخول الشّهر في اللّيلة الماضية، مع أنّ في بعض منها خصوصا إذا أيّدت بالرّصد أماريّة على ثبوت الهلال.
لكن الأصحاب فقد رفضوها، و حملوها على التقيّة، حيث إنّ العامّة جعلوها أمارات عليه. و ليس هذا إلّا ممّا فهموه من بناء الشّريعة على انحصار أماريّة الرّؤية.
______________________________
(1) رواه العلّامة الطّباطبائي مدّ ظله السّامي في تفسير الميزان في المجلد الخامس في ص 432 إلى ص 435 في ضمن بحثه المختلط من القرآن و الحديث المبدوّ من ص 428.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 145
و ثالثا ما ورد في كثير من الرّوايات إنكار أصحاب الرّأي، و هم أصحاب العدد و الجداول، من الفلكيّين و المنجّمين، و الردّ الشّديد عليهم.
و ما ربما يمكن أن يقال إنّ الردّ عليهم إنّما هو لعدم وصول نتيجة محاسباتهم الرّصديّة إلى درجة اليقين مدفوع أوّلا:
بأنّ عنوان الرّأي ورد في بعض الرّوايات قسيما للتّظنّى، حيث قال عليه السّلام: و ليس بالرّأي و لا بالتّظنّي، و لكن بالرّؤية.
و ثانيا إنّ المحاسبات الرّصديّة المدوّنة في الزّيجات مفيدة للقطع لأصحاب الرّصد، لكونها قواعد مضبوطة على أساس علم الحساب، مبرهنة ببراهين هندسيّة، منتهية إلى الحسّ و الوجدان و يحصل القطع لغيرهم إذا عرفهم بالمهارة في فنونهم و الوثاقة في أنفسهم.
و ثالثا إنّ مفاد هذه الرّوايات إطلاق عدم جواز التّعويل على أقوالهم و لو مع اليقين الحاصل. إن قلت: لعلّهم عليهم السّلام إنّما سدّوا هذا الطّريق على الإطلاق، و حصروه في طريقيّه الرّؤية، لئلّا يقع الخلاف، و لا يشتبه الأمر.
قلت: نعم و لكن هذا عين الإقرار بانحصار طريقيّة الرّؤية المساوق للموضوعيّة.
ثمّ إنّ كثيرا من الأصحاب ادّعوا الإجماع على انحصار طريقيّة الرّؤية، و ادّعوا خلافه خلاف المذهب و قد نقلنا سابقا ما ذكره الشيخ رضوان الله عليه في التّهذيب، و الآن ننقل ما ذكره الشّيخ الأجلّ القاضي ابن البرّاج في كتابه: شرح جمل العلم و العمل «1»، لشيخه الأعظم: السّيّد المرتضى رضوان الله عليهما.
قال: اعلم أنّ رؤية الهلال هي المعتبر، و الّذي عليه يعتمد في الصّوم و الفطر و أوائل الشّهر و ذلك لم يخالف فيه أحد من المسلمين، إلّا قوم من أصحاب الحديث من جملة طائفتان (كذا «2») فإنّهم عوّلوا في ذلك على العدد «3» و شذّوا عن الإجماع
______________________________
(1) طبع هذا الكتاب في مطبعة جامعة مشهد (مشهد الرّضا عليه السلام) في سنة 1352 الهجريّة الشمسيّة و ما نقلناه عنه انّما هو من ص 167 إلى ص 170.
(2) يعنى أنّ لفظ «طائفتان» ورد في النّسخ مرفوعا.
(3) قال الشهيد الثاني في شرحه للّمعة: و العدد و هو عدّ شعبان ناقصا و رمضان تامّا ابدا و به فسّره في الدّروس و يطلق على عدّ خمسة من هلال الماضي و جعل الخامس أوّل الحاضر و على عدّ شهر تامّا و آخر ناقصا مطلقا و على عدّ تسعة و خمسين من هلال رجب و على عدّ كلّ شهر ثلاثين و الكلّ لا عبرة به نعم اعتبره بالمعنى الثاني جماعة منهم المصنّف في الدروس مع غمّة الشهور و كلّها مقيّدا بعدّ ستّة في الكبيسة و هو موافق للعادة و به روايات و لا بأس به، امّا لو غمّ شهر و شهران خاصّة فعدّهما ثلاثين أ قويّ و فيما زاد نظر من تعارض الأصل و الظاهر، و ظاهر الأصول ترجيح الأصل- انتهى (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 146
بهذا المذهب.
و خلافهم في هذا غير معتبر، لأنّ الإجماع سابق لهم، و جروا في فساد ما ذهبوا اليه و شذّوا به عن الإجماع مجرى الخوارج في خلافهم و شذوذهم عن الإجماع السّابق لما ذهبوا إليه في (عدم رجم الزّاني المحصن فإنّهم ذهبوا إلى ذلك بعد انعقاد الإجماع على) «1» رجمه «2».
(و كما لا يؤثّر خلافهم هذا في صحّة ما انعقد عليه الإجماع) «3» من رجم هذا الزّاني «4»، لحدوث هذا المذهب و سبق الإجماع له، فكذلك لا يؤثّر خلاف من ذلك إلى العدد فيما لم يعقد عليه الإجماع من صحّة العمل على رؤية الأهلّة، لحدوث مذهبهم هذا، و تقدّم الإجماع له.
فإن قيل: لم زعمتم أنّ مذهب أهل العدد حادث؟
قلنا: لا شبهة فيه، لأنّ القائلين بذلك ما ظهر خلافهم و عملهم به إلّا عند الجداول «5» المنسوب إلى عبد اللّه بن مسعود (و معاوية) «6»، و لا شكّ في حدوث ما هذا سبيله.
______________________________
(1) ما بين الهلالين هو المصحّح من نسخة العالم المحترم: واعظزاده.
(2) في نسخة العالم المحترم: واعظزاده و رد مكان رجمه رحمة.
(3) ما بين الهلالين هو المصحّح من نسخة مكتبة مجلس الشورى بطهران.
(4) ظاهرا.
(5) الجدول للقمر عند الفلكيّين حساب سيره في منازله الثمانية و العشرين و تعيين موضعه في أيّ وقت أريد، فعليه يكون مرادفا للزّيج، و فسره الشهيد الثاني عند قول الشهيد الأوّل في اللمعة: و لا عبرة بالجدول:
بأنّه حساب مخصوص مأخوذ من تسيير القمر و مرجعه الى عدّ شهر تامّا و شهر ناقصا في جميع السّنة مبتدئا بالتّام من المحرّم، لعدم ثبوته شرعا بل ثبوت ما ينافيه و مخالفته مع الشرع للحساب أيضا لاحتياج تقييده بغير السّنة الكبيسة، أمّا فيها فيكون ذو الحجّة تامّا- انتهى. أقول: و السّر في ذلك انّ الأزياج مبتنية على الشهور الوسطيّة لا الحقيقيّة ثمّ بضميمية محاسبة التعديلات تصير شهورا حقيقيّة فلكيّة، أما الشهور الشّرعيّة فالعبرة فيها بنفس الرؤية. هذا و لكنّي لم أجد لفظ الجداول في واحد من كتب اللغة و النّجم و لعلّه مصدر جعليّ على وزن الدّحراج من مادّة جعليّة هي جدول يجدول اى عيّن الجدول فعلى هذا يكون خارجا عن استعمال العرب (منه عفى عنه).
(6) في نسخة مكتبة مجلس الشورى بطهران.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 147
و أنّ العمل على ما ذكرناه لا يجرى العلم بتقدّمه على زمان من نسبت الجداول إليه، مجرى العلم بالعمل على رواية الأهلّة، و لا تقاربه، بل و لا يعلم ذلك أصلا على وجه و لا سبب.
فإن قيل: إذا كان العمل على الجدول حادثا، فما ينكر أن يكون الأمر من الرّسول صلّى الله عليه و آله و الإمام بعده في تعريف أوائل الشّهور و أواخرها، هو المعتبر في ذلك؟ و عليه العمل؟ قلنا لو كان ما ذكرته صحيحا لكان النّقل به واردا مورد الحجّة، و المعلوم خلاف ذلك.
ثمّ إنّ الأمّة بين القائلين، فقائل يذهب إلى أنّ المعتبر في معرفة الفطر و أوائل الشّهور بالأهلّة و قائل يذهب إلى أنّ المعتبر في ذلك بالعدد، و ليس فيهم من يقول إنّ المعتبر في ذلك بما ذكرته «1»، و لا يقول أحد عن الرّسول صلّى الله عليه و آله و لا عن أحد من الأئمّة عليهم السّلام، إنّه قال: أوّل الشّهر يوم كذا و الآخر يوم كذا، إلّا ما يذكر من الخبر المتضمّن لقوله عليه السّلام: يوم صومكم يوم نحركم «2». و هذا ممّا لا شبهة فيه أنّه لم يرد مورد الحجّة، و ذكر في هذا المذهب خلاف متقدّم على زمان الجدول و إذا كان كذلك وجب القضاء بفساد ما ذكرته.
و ممّا يدلّ أيضا على أنّ المعتبر في معرفة أوائل الشّهور و الصّوم و الفطر بالأهلّة، ما هو معلوم ضرورة في شرع الإسلام من فرق المسلمين إلى (أنّ) «3» رؤية الأهلّة في تعريف أوائل الشّهور من زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى زماننا هذا، و أنّه صلّى الله عليه و آله كان يتولّى رؤية الهلال بنفسه و ملتمسه «4» و يتصدّى لرؤيته و كذلك المسلمين، و خروجهم إلى المواضع المكشفة، و تأهّبهم كذلك من غير إنكار من أحد له و لا دفع.
و ما ثبت عنه صلّى الله عليه و آله ممّا شرّعه من قبول الشّهادة في الرّؤية، و الحكم
______________________________
(1) في نسخة واعظزاده و في نسخة المكتبة المركزيّة لجامعة طهران ورد مكان ذكرته (ذكر به) و المصحّح صحّحه قياسا.
(2) أقول: أورد في تفسير البرهان في ذيل آية يسئلونك عن الأهلّة نقلا عن السّيد ابن طاوس- ره- في الإقبال: أنّه قال: و من ذلك (اى من القواعد) ما سمعناه و لم نقف على إسناده عن أحدهم عليهم السلام: يوم صومكم يوم نحركم- انتهى.
(3) في نسخة المكتبة المركزية لجامعة طهران ورد لفظ (انّ).
(4) ظاهرا: يلتمسه.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 148
فيمن شهد بذلك في مصر «1» من الأمصار، و من يرد بالإخبار برؤيته عن خارج المصر و حكم المخبر به و الصحّة و سلامة الخبر ممّا تعرضه من العوارض، و خبر من شهد برؤيته مع التّواتر في بعض المواضع.
فلو لا أنّ المعتبر بالأهلّة، و أنّها أصل الدّين، معلوم لجميع المسلمين، لما كانت «2» الحال في ذلك على ما شرحناه، و لكان ذلك عبثا لو كان الاعتبار بالعدد، و حكاية «3» لما فائدة فيه، و المعلوم خلافه.
و يدلّ على ذلك قوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ «4»، فبيّن سبحانه الأهلّة هي المعتبر في المواقيت، و الدّلالة على أوائل الشّهور، و ذلك نصّ صريح فيما ذهبنا اليه.
ألا ترى أنّه لو علّق التّوقيت فيها، و لو كان الّذي نعرف به التّوقيت هو العدد، لعلّق التّوقيت و خصّه به، دون رؤية الأهلّة، لأنّ رؤية الأهلّة لا معتبر بها عند العدديّين في تعريف أوقات حجّ و لا غيره.
و الهلال إنّما سمّى بهذا الاسم، لرفع الأصوات عند مشاهدته بالتّكبير و التّهليل، و منه يقال: استهلّ الصّبيّ إذا أظهر صوته بالصّياح عند ولادته، و سمّى الشّهر لاشتهاره «5» بالهلال.
فإن قال: بأنّ عدد الأيّام و حساب الشّهور و السّنين هو المعتبر فيها، و أنّه يغني «6» عن الأهلّة، فقد أبطل سمات الأهلّة و الشّهور من الموضوعيّة في لسان العرب، و من ذهب إلى ذلك وجب ترك الالتفات إلى قوله.
و يدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنٰازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسٰابَ «7».
______________________________
(1) في نسخ واعظزاده و المجلس و مكتبة الجامعة ورد لفظ مصرى و الظاهر زيادة الياء.
(2) في نسخة المجلس: كا مكان كانت.
(3) في جميع النسخ مكاتبا و صحّحه المصحح حكاية.
(4) سورة 2 البقرة الآية 189.
(5) في نسخة الجامعة المركزية: الاستشهاد مكان لاشتهاره.
(6) في جميع النسخ (يعنى) بدل (يغني) و حيث لا معنى له صحّحه المصحّح.
(7) سورة 10 يونس الآية 5
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 149
(و هذا نصّ منه تعالى على معرفة السّنين و الحساب) «1» مرجوع فيها إلى القمر و زيادته و نقصانه، و أنّ العدد لا حظّ «2» له في ذلك.
و يدلّ أيضا على ذلك ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قوله: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوما.
فنصّ عليه السّلام أيضا صريحا غير محتمل بأنّ الرّؤية هي الأصل و العدد تابع لها، و أنّه غير معتبر إلّا بعد عدم الرّؤية، و لو كان المعتبر بالعدد لما علّق الصوم بنفس الرّؤية، و لعلّقه بالعدد، و كان يقول: صوموا بالعدد و أفطروا بالعدد، و الخبر يمنع ذلك بالأشبه.
فإن قيل: كيف تستدلّون بهذا الخبر و هو من الآحاد، و عندكم أنّ أخبار الآحاد لا يعوّل عليها في علم و لا عمل.
قلناه: إنّما نقول في خبر الواحد بما ذكرته إذا لم يقرن به قرينة و لا دلالة تدلّ على صحّته، و أمّا ما يقرن به قرينة و تدلّ على صحّته دلالة، فلا بدّ من القول بصحّة مضمونه، للقرينة به.
و هذا الخبر و إن كان من أخبار الآحاد، فقد عضدته قرينة، و هي تلقّى الأمّة له بالقبول، فصحّ الاستدلال به، و هذا ممّا لا يشتبه مثله على أهل العلم.
و اعلم أنّه قد ورد في صحّة الصّوم و الفطر على رؤية الهلال من الأخبار المتواترة ما يكثر ذكره و يطول إيراده و نحن نورد بعضا من ذلك ليقف عليه من أهّل نفسه بأنس الخبر، و يميل إليه أكثر من أنسه بطرف النّظر و ميله إليها. انتهى الموضع أردنا إيراده من كلامه- قدّه- ثمّ شرع في ذكر الرّوايات الدالّة على موضوعيّة الرؤية و بحث فيها بحثا تامّا و ذكر الرّوايات الدالّة على عدم جواز التّعويل على الجداول و سائر الطّرق و الأمارات.
و الحقّ أنّه رحمة الله عليه أوفى البحث في المقام بما لا مزيد عليه، و نحن نقلنا كلامه بطوله لما فيه من جهات التّنبيه و الفائدة ما لا يخفى على الخبير.
و ما يدلّ على انحصار دخالة الرّؤية رابعا:
______________________________
(1) ما بين الهلالين ليس في نسخة مكتبة المجلس.
(2) في جميع النسخ (لاحصاله) فصحّحه المصحّح.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 150
الرّوايات الّتي دلّت على أنّ الله تبارك و تعالى جعل الأهلّة مواقيت، في تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ، و هذه الرّوايات مستفيضة.
مثل ما رواه العيّاشي في تفسيره عن زياد بن المنذر، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علىّ عليهما السّلام، يقول: صم حين يصوم النّاس، و أفطر حين يفطر النّاس، فإنّ الله جعل الأهلّة مواقيت. و رواه أيضا الشّيخ في التّهذيب، و القاضي ابن البرّاج في كتابه: شرح جمل العلم و العمل.
و ما رواه المفيد في المقنعة عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الأهلّة، فقال: أهلّة الشّهور، فإذا رأيت الهلال فصم، و إذا رأيته فأفطر. «1»
فلو لا تكون الرؤية طريقا خاصّا إلى معرفة الشّهور، لما يكون وجه لجعلها مواقيت، إذ من السّهل اليسير رجوع الناس إلى ما ضبطوه في الجدول كما هو المتعارف اليوم في كثير من البلاد الّتي جعلوا مدار أوقاتهم على الشّهور الشّمسيّة، و استغنوا عن الأهلّة و مواقيتها.
قال الشيخ أبو على الفضل بن الحسن الطّبرسيّ في مجمع البيان عند تفسير قوله تعالى قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ: و فيه أوضح دلالة على أنّ الصّوم لا يثبت بالعدد، و أنّه يثبت بالهلال، لأنّه سبحانه نصّ على أنّ الأهلّة هي المعتبرة في المواقيت، و الدّلالة
______________________________
(1) و ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن الحلبي و المفيد في المقنعة عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انه سئل عن الأهلّة فقال: هي أهلّة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم و إذا رأيته فأفطر. و ما رواه الشيخ في التهذيب و الا استبصار بإسناده عن زيد الشّحام عن أبي عبد الله عليه السلام انّه سئل عن الأهلّة فقال هي أهلّة الشّهور فإذا رأيت الهلال فصم و إذا رأيته فأفطر- الحديث. و ما رواه الشيخ أيضا فيهما بسندين عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام انّه سئل عن الأهلّة فقال هي أهلّة الشهور فإذا رأيت فصم و إذا رأيته فأفطر- الحديث. و ما رواه الشيخ فيه أيضا بإسناده عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الأهلّة فقال: هي أهلّة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم و إذا رأيته فأفطر- الحديث. و ما رواه الشيخ فيه أيضا بإسناده عن عمر بن الرّبيع البصريّ قال: سئل الصادق عليه السلام عن الأهلّة فقال: هي أهلّة الشهور إذا رأيت الهلال فصم و إذا رأيته فأفطر- الحديث. و ما رواه الشيخ فيه أيضا بإسناده عن عبد الله بن على بن الحسين (الحسن- نسخ) عن أبيه عن جعفر بن محمّد عليهما السلام في قوله عزّ و جلّ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ. قال: لصومهم و فطرهم و حجهم
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 151
على الشّهور، فلو كانت الشّهور إنّما تعرف بطريق العدد، لخصّ التوقيت بالعدد دون رؤية الأهلّة، لأنّ عند أصحاب العدد لا عبرة برؤية الأهلّة في معرفة المواقيت. انتهى.
أقول: و نعم ما أفاد قدّس الله سرّه.
فنقول: حمل الرّؤية في الرّوايات على الطّريقيّة المحضة، يساوق إلغاء خصوصيّة الرّؤية، فيناقض الآية المباركة: قل هي مواقيت للناس و الحجّ.
لأنّ الله جعل الأهلّة مواقيت، و لا يكون الهلال ميقاتا إلّا إذا رئي، فالرّؤية دخيلة في كونها مواقيت فمن أنكر انحصار طريقيّتها، فقد أبطل ميقاتيتها.
فالآية أدلّ دليل على دخالة الرّؤية على مبادي الشّهور، كما أنّها أدلّ دليل على بطلان القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق، و كفاية رؤية ما و لو من بعيد، أو كفاية الرّؤية الإمكانيّة، فالله جعلها مواقيت للنّاس جميعا، لكلّ بلدة لكلّ جيل.
و لا معنى لجعل الهلال الخارج عن الشعاع، و القابل للرّؤية في إسبانيا ميقاتا لأهل بلخ و بخارا و لا الهلال الطالع للأعراب القاطنين في المراكش و اللّيبيا ميقاتا للتركمن و الأتراك القاطنين في الصّين.
فمن التزم بهذا فقد أبطل سمات الأهلّة، و أنكرها مواقيت، و من ادّعى عدم تنافيه مع الآية الكريمة، فهل يا ترى إلّا كونه لاعبا بالقرآن العظيم؟
و أمّا ما استدلّ لطريقيّتها المحضة من كفاية قيام البيّنة الّتي هي تبيّن الواقع- كما يشعر به لفظها- على ذلك، أو مضىّ ثلاثين يوما من شعبان و لو لم ير أحد الهلال، فيرد عليه:
أوّلا أنّ البيّنة، و إن كانت صفة مشبهة من بان يبين فيقال بيّن و بيّنة كسيّد و سيّدة من ساد يسود، و حيث إنّ موصوفها هي الحجّة، يقال: بيّنة بالتّاء، أى حجّة واضحة لا خفاء فيها، و بهذا المعنى تكون مرادفا للبرهان.
لكنّها حجّة واضحة بالنّسبة الى ما تعلّقت به، لا إلى شيء آخر، و هذا واضح.
فلا بدّ من أن يلاحظ متعلّقها في كلّ مورد فيحكم بثبوته في متن الواقع بالتعبّد، كما يحكم بالثبوت فيما إذا تعلّق به القطع الوجدانيّ.
و في المقام إذا فرض دلالة النّصوص و الفتاوى على كفاية البيّنة القائمة على دخول الشّهر، أو على خروج الهلال عن الشّعاع، أو على وجوده في الأفق، كان لما أفيد من دلالة البيّنة على طريقيّة المحضة للرّؤية وجه، لقيامها مقام الرّؤية، فكلّ واحد من
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 152
الرّؤية و الأمارة دليل على ثبوت الواقع حينئذ، لكنّه ليس كذلك، بل أطبق النصّ و الفتوى و ادّعى الإجماع على كفاية البيّنة القائمة على رؤية الهلال ليس غير. «1»
فحينئذ ليست الرّؤية و البيّنة متسابقان إلى إثبات الواقع، أحدهما وجدانا و الآخر تعبّدا.
بل الرّؤية الوجدانيّة تعلّقت بوجود الهلال، و البيّنة تعلّقت بالرّؤية، فتعلّقت بالمتعلّق بالكسر لا بالفتح.
و مفادها تنزيل الرّؤية التعبّديّة مقام الرؤية الوجدانيّة، و توسيع دائرة الرّؤية إلى الأعمّ منها؟ بتوسعة دائرة الرؤية الّتي هي عبارة عن الإبصار بالعيون المتّصلة، بالإبصار بالعيون المنفصلة بالجعل التشريعيّ.
و هذا معنى حكومة أخبار البيّنة على أخبار الرّؤية.
و هنا محلّ الدّقّة و النّظر، فإنّه من مزالّ الأقدام، حيث اشتبه الأمر على كثير من أهل العلم، فادّعوا طريقيّة الرّؤية المحضة، بادّعاء قيام الأمارات مقامها، و لم يتنبّهوا للاختلاف بين متعلّقيهما.
و ثانيا المستند في حجّيّة البيّنة في هلال شهر رمضان هو الرّوايات الخاصّة الواردة في المقام، الدالّة على قيام البيّنة مقام الرّؤية، و هي كثيرة، فإذن لا دلالة لها على الطّريقيّة المحضة و الكاشفيّة الصّرفة للرّؤية إذ جعل الرّؤية طريقا واحدا و كاشفا فاردا عن الهلال في مقام الثّبوت، و معذلك توسيع هذه الدّائرة بالرّؤية التعبّديّة الحاصلة بالبيّنة في مقام الإثبات بالنّصوص الخاصّة، ممّا لا مانع منه.
و قد دلّت الأخبار المستفيضة، بل المتواترة على طريقيّتها المنحصرة، و بعبارة أخرى على جزئيّتها للموضوع على نحو الكاشفيّة، و دلّت الرّوايات على كفاية الرّؤية التعبّديّة في مقام الإثبات.
نعم لو قامت البيّنة على غير الرّؤية، بل على دخول الشّهر المستند إلى التطوّق، أو الارتفاع، أو الجدول و الزيج، أو قول الرّصديّ و نحو ذلك، و استندنا على حجّيّتها بعمومات
______________________________
(1) و اعترف به الأستاذ نفسه مدّ ظلّه على ما في رسالة المنهاج ج 1 ص 280 حيث قال: و لا (اى و لا يثبت الهلال) بشهادة العدلين إذا لم يشهدا بالرؤية.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 153
أدلّة حجّيّة البيّنة في الموضوعات كرواية «1» مسعدة بن صدقة، و علقمة «2»، و غيرهما، و الإجماع المدّعى في المقام، كان لنا شاهدا على كاشفيّتها المحضة.
لكنّك عرفت أنّه لا مجال لحجّيّة مثل هذه البيّنة بعد إطباق الإجماع و النّصوص و الفتاوى على حجّيّة البيّنة القائمة على خصوص الرّؤية، ليس غير.
و أمّا الاستدلال بطريقيّتها المحضة من ثبوت لزوم القضاء يوم الشّكّ الّذي أفطر فيه، لعدم طريق له إلى ثبوت الهلال، فتبيّن بعد ذلك بالبيّنة أو الرّؤية ليلة التّاسع و العشرين من صومه وجود الشّهر يوم إفطاره فسيرد عليه ما أوردنا سابقا، من أنّ الرّؤية أو البيّنة ليلة التّاسع و العشرين كاشفة عن ثبوت الفطر أوّلا و عن ثبوت الهلال قبل مضىّ
______________________________
(1) و هي ما رواه في الوسائل في كتاب التّجارة في الباب الرّابع من أبواب ما يكتسب به عن الصّدوق و عن الشيخ بإسنادهما عن على بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك و قد اشتريته و هو سرقة و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة.
(2) و هي ما رواه في الوسائل في كتاب القضاء في الباب الواحد و الأربعين من أبواب الشّهادات عن كتاب عرض المجالس بإسناده عن علقمة قال قال الصادق عليه السلام و قد قلت له يا ابن رسول الله أخبرني عمّن تقبل شهادته و من لا تقبل فقال يا علقمة! كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته. قال: فقلت له: تقبل شهادة معترف بالذّنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة المعترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام لأنهم المعصومون دون سائر الخلق.
فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا و من اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله داخل في ولاية الشّيطان، و لقد حدثني أبى عن أبيه عن آبائه انّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنّة و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما و كان المغتاب في النّار خالدا فيها و بئس المصير.
قال علقمة: فقلت للصّادق عليه السلام: انّ الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور و قد ضاقت بذلك صدورنا فقال عليه السلام: إنّ رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط و كيف تسلمون ممّا لم يسلم منه أنبياء الله و رسله- الحديث.
و قد نقلنا هذا الحديث بطوله لما فيه من جهات الفائدة الصّادرة من معدن العلم و الحكمة، رزقنا الله التعلّم و التّفهّم.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 154
تسعة و عشرين يوما من رؤيته ثانيا.
لأنّ مبنى حجّيّة الأمارة ليس على التّنزيل، أو على جعل المؤدّى منزلة الواقع، بل على ما هو المحقّق في الأصول و بنى عليه مشايخنا المحقّقون، منهم أستاذنا العلّامة الخوئي أدام الله أيّام بركاته، من باب تتميم الكشف النّاقص تعبّدا، و جعلها بمثابة اليقين في عالم الاعتبار، فإذن نفس الرّؤية الوجدانيّة، أو الرّؤية التعبّديّة توجب لنا قضاء يوم الشّكّ، لمكان محرزيّتهما و كشفهما عن ثبوت الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان.
و ليس هذا مجرّد إمكان التّنزيل و الحكومة في مقام الثّبوت كما أفيد، بل الكافل لهذه الحكومة و التّنزيل في مقام الإثبات هو نفس أدلّة حجّيّة البيّنات.
و قد ثبت في الأصول أنّ الأمارات و الأصول التّنزيليّة، لها حكومة على العلم الّذي أخذ في الموضوع على وجه الطّريقيّة، بنفس أدلّة حجّيّتها.
و أمّا ما أفيد من أنّ عنوان الشّهر الّذي أنيط به الحكم بوجوب الصّوم أمر عرفيّ، و ليس من مستحدثات؟ الشّارع و الشّهر عند العرف أمر واقعيّ ليس للرّؤية دخل فيه إلّا بنحو الطّريقيّة المحضة.
فيرد عليه أنّ للشارع دخلا في الموضوعات العرفيّة الّتي يريد أن يرتّب عليها الأحكام، بإدخال بعض القيود في التّوسعة و التّضييق.
مثل عنوان السفر و الحضر، فتصير حينئذ موضوعات شرعيّة لما يترتّب عليها من الأحكام.
كما أنّ له نصب طريق خاصّ بالنسبة إلى موضوع واقعيّ خارجيّ، مثل الإقرار أربع شهادات أو شهادة أربعة شهود في إثبات الزّنا، و الإقرار أو البيّنة أو القسامة مع اللّوث، في إثبات القتل، و الحكم بمضيّ شهادة النّساء فيما يتعلّق بهنّ و في الوصايا و الأموال دون رؤية الهلال.
و الشّهر و إن كان موضوعا خارجيّا، و عنوانه المحمول عرفيّا، إلّا أنّ الشارع نصب طريقا خاصّا إلى إحرازه، و هو الرّؤية، و لا يرضى بإحرازه من غير هذا الطّريق.
فلهذه المناسبة صارت الرّؤية دخيلة في تحقّق الشّهر بما يرتّب عليه الشّارع من الأحكام، فتصير جزئا للموضوع على نحو الطّريقيّة الخاصّة المعبّر عنها بالموضوعيّة أو الصفتيّة.
فيصير الشّهر شهرا قمريّا هلاليّا شرعيّا، في قبال الشّهر القمريّ الحسابىّ،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 155
و الشّهر القمريّ الوسطى، و الشّهر القمريّ الهلاليّ الفلكيّ.
فما ترى في التقاويم المدوّنة، المستنتجة من الزيجات المستخرجة من الأرصاد، من تعيين الشّهور، و مباديها و خواتيمها إنّما هي الشّهور الهلاليّة النجوميّة، لا عبرة بها عند الشارع.
فالعبرة بتحقّق الرّؤية الخارجيّة الفعليّة، و بها يصير الشّهر هلاليّا شرعيّا، تدور عليه الأحكام.
و أمّا النقطة الثانية، فنقول: قد برهنا في الموسوعة الاولى على أنّ القمر في مبادي الشّهور بعد خروجه عن المقارنة،
و هي المحاق، لا بدّ و أن يسير في مداره إلى حدّ يصير قطره المنوّر الهلاليّ قابلا للرّؤية و هذه المدّة تسمّى تحت الشّعاع.
فإذا خرج عن هذا الحدّ يصير قابلا للرّؤية، لأنّ المانع منها ليس إلّا محق نوره تحت احتجابه عن الشّمس فبخروجه يرتفع المانع، فيراه كلّ أحد بعين مجرّدة عادية في أوّل مبدء اللّيل.
و مسيره هذا في المدار لا يقلّ من اثنتي عشرة درجة من المقارنة، يطول أربع و عشرين ساعة على أقلّ تقدير و هو نصف مجموع حالة المحاق و تحت الشعاع كلّا و هي أربع و عشرون درجة، البالغ زمان مكثه، ثماني و أربعين ساعة.
فمدّة زمان الخروج عن الشّعاع هي عين زمان سيره في المدار عن المقارنة و ما في حكمها في محق نوره.
و لا يحتاج بعد إلى سيره و بلوغه في الأفق مرتبة يمكن للعين المجرّدة رؤيته، و هذا واضح لمن له ادنى خبرة بعلم النّجوم.
فالقمر بمجرّد خروجه عن الشّعاع يكون قابلا للرّؤية في نقطة ما، و هي أقرب أفق من الآفاق الأرضيّة بالنسبة إليه في مغرب الشّمس، و قبله لا يكون قابلا لها و لو بالآلات و الأجهزة.
لأنّ الآلات لا تقدر على إراءة الهلال حال كونه تحت الشّعاع، بإراءة القطر المنوّر الدّقيق جدّا، و لا على إراءة الهلال الواقع تحت الأفق.
بل إنّما تقدر على رفع حجاب الغيم و الأغبرة الدّخانيّة و المائيّة و ما شابهها.
فالمحاسبات الفلكيّة لتعيين زمان رؤية القمر عند خروجه عن الشّعاع ليس إلّا لتعيين زمان ظهور الهلال، و تكوّنه و بلوغه مرتبة قابلة للرؤية للعين المجرّدة.
و قد تبيّن بما ذكرناه أنّ كلّ ما أفيد في هذه النقطة ممّا لا طائل تحته.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 156
هذا ثمّ إنّ ما أوردناه على طريقيّة المحضة لرؤية الهلال إنّما هو على طريقيّتها المحضة لهذه المرتبة، فقد برهنّا على أنّ ما هو المستفاد من الكتاب و السّنّة و الإجماع المدّعى، طريقيّتها المنحصرة للهلال البالغ لهذه المرتبة القابلة للرّؤية، و معنى طريقيّتها الانحصاريّة، دخالتها في ترتّب الأحكام الشّرعيّة بما هي رؤية و طريق خاصّ و كاشف مخصوص، و هذا عين معنى الموضوعيّة.
و لم نعطف محطّ الطّريقيّة إلى كون الهلال في مرتبة غير قابلة للرّؤية، كحال خروجه عن الشّعاع على ما توهّم، و محطّ الموضوعيّة إلى كونه في مرتبة قابلة لها، حتّى يختلف مورداهما كما أفيد.
بل محطّها على كلا المسلكين واحد، إنّا برهنا على كون الهلال طريقا انحصاريّا لدخول الشّهر إذا رئي في الأفق، و الأستاذ ذهب إلى كونه طريقا محضا إلى خروجه عن تحت الشعاع.
ثمّ إنّ ما هو دخيل في الشّهور، الرّؤية الفعليّة، و هي الظّاهرة من النّصوص و الفتاوى و الإجماع المدّعى، و هي محطّ النّظر و الآراء، و المعتمد عليها عند الأصحاب الإماميّة رضوان الله عليهم، و صريح الشّيخ و الفاضلين و الجمهور. و امّا الرّؤية التّقديريّة فهي بمنزلة العدم.
فإذن نلتزم بعدم دخول الشّهر و لو علم بوجود الهلال فوق الأفق بالتطوّق و الارتفاع و رؤية ظلّ الرأس و ما شابهها و لو فيما يوجب العلم، و كذا بالقول الرّصديّ، و بالأجهزة الحديثة إذا خرقت حجاب الغيم، و بقول معصوم مفيد لليقين.
لأنّ المعصوم لا يخبرنا بدخول الشّهر مع فرض كونه مترتّبا على الرّؤية و لمّا تتحقّق و لم يتمّ الموضوع، بل يخبرنا بوجود الهلال فقطّ بلا رؤية على الفرض.
فهو أيضا لا يرتّب على نفسه الأحكام المترتّبة على دخول الشّهر من الصّيام و نحوه، مع علمه بوجود الهلال و إخباره لنا به، فكيف بصيامنا و نحوه، و لا بعد في هذا.
و من خالفكم إنّما يخالف في كبرى المسئلة، و أمّا الصّغرى فكثيرا ما يحصل العلم بوجود الهلال مع المحاسبات الدّقيقة الرياضيّة الهندسيّة، المساوقة للبداهة و الوجدان، خصوصا في هذه الآونة الّتي انتهت دقّة المحاسبات الرّصديّة إلى الواحد من عشرة آلاف جزء من الثانية 10000/ 1
تنبيه و تبصرة:
أنّ محطّ خلافنا الأصلي مع الأستاذ مدّ ظلّه السامي إنّما هو في
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 157
لزوم الاشتراك في الآفاق في رؤية الهلال الرّاجع إلى لزوم كون الهلال فوق الأفق في كلّ ناحية و ما حواها، و عدم اللزوم الرّاجع إلى كفاية خروجه عن تحت الشعاع.
و في كلّ واحد من المسلكين يمكن أن يتصوّر ثبوتا دخالة الرّؤية على وجه الطّريقيّة، أو على وجه الموضوعيّة كما يمكن أن يذهب إثباتا، كلّ واحد من الطّرفين على دخالتها على وجه الطّريقيّة، أو على وجه الموضوعيّة فلا يلازم القول بلزوم الاشتراك مع القول بالموضوعيّة، كما لا يلازم القول بعدم اللزوم مع القول بالطّريقيّة.
لكن لمّا انجرّ البحث إلى كيفيّة دخالة الرّؤية إثباتا، أردنا في طيّ هذه المباحث أن نستدلّ على طريقيّتها الانحصاريّة المعبّر عنها بالموضوعيّة، تتميما للبحث.
و أمّا النقطة الثالثة فنقول: إنّ للقمر بعد دخوله في الشّعاع إلى أن يخرج منه إلى أن يصير قابلا للرّؤية في ناحية معيّنة ثلاث حالات.
الحالة الأولى، حال المقارنة مع الشّمس،
تنطبق الدّائرة الظّاهرة منه على الدّائرة المستضيئة من شعاع الشّمس، فلا يرى، لأنّ نصفه الّذي يسامت الأرض مظلم، و هذه الحالة تسمّى بالمحاق.
الحالة الثانية، حالة كونه تحت الشّعاع،
فهي فيما إذا خرج عن المقارنة، و حينئذ لا بدّ و أن يرى على شكل هلال ضعيف، كالخيط الدّقيق في غاية الدقّة، لكن أبصارنا لا تقدر على رؤيته و هو على هذه الدقّة و الضّعف، إلى أن يسير في المدار، و يبعد عن الشّمس، حتّى يكبر هذا الخيط بابتعاده عنها، و يصير القطر المنوّر له قابلا للرّؤية بشكل الهلال، و هذه الحالة تسمّى تحت الشّعاع.
الحالة الثالثة، حالة خروجه عن الشّعاع،
فإذن إمّا أن يقارن و هو في هذه الحالة غروب الشمس بالنّسبة إلى هذه النّاحية، فيرى لا محالة بشكل الهلال، و لا يحتاج بعد إلى سيره في المدار، أو سير الأرض نحو المشرق حتّى يصل إلى أفق تلك المنطقة حين غروب الشّمس.
لأنّا فرضنا تقارن خروجه عن الشّعاع مع غروب الشّمس بالنّسبة إليها، و ليس معنى خروجه عن الشّعاع إلّا صيرورته قابلا للرّؤية.
و إمّا أن لا يقارن، بل خرج عن الشّعاع و لمّا تغرب الشّمس عن هذه النّاحية، فالرّؤية حينئذ غير ممكنة لأنّ الأشعّة القاهرة الشّمسيّة تمنعنا عن الرّؤية.
فلا بدّ و أن تسير الأرض نحو المشرق إلى حد تغيب الشّمس تحت الأفق، فتطابق المغربان و الافقان مغرب القمر و مغرب الشّمس، و دائرة انعكاس نور القمر على سطح
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 158
الأرض، و دائرة انعكاس شعاع الشّمس عليه، بمعنى غروب الشّمس قبل غروب القمر حتّى تكون دائرة انعكاس نور القمر على الأرض خارجا عن دائرة انعكاس شعاع الشّمس عليها.
ففي هذه الحالة حيثما يكون الرائي في داخل دائرة انعكاس نور القمر و خارجا عن دائرة انعكاس شعاع الشّمس يرى الهلال بالسّهولة.
إذا علم هذا فنقول: قد ذكرنا سابقا أنّ الأرض كرويّة، لا يتميّز بعض أصقاعها عن بعض، و هي معذلك تدور حول نفسها مرّة واحدة في أربع و عشرين ساعة.
فلا تمرّ لحظة من الأرض إلّا و ناحية منها تكون مقارنة لغروب الشّمس في ناحية، برّ أو بحر، سهل أو جبل، بمعنى اختفائها تحت أفق هذه النّاحية، بخروج دائرة انعكاس ضوئها عنها، فإذا خرج القمر عن الشّعاع في أيّ لحظة فرض، فلا بدّ و أن يكون زمان ذلك الخروج مقارنا مع غروب الشّمس في ناحية ما، فتنطبق دائرة نوره المنعكس على الأرض على هذه النّاحية لا محالة، فيصير قابلا للرّؤية بلا إشكال.
ثمّ نقول: لمّا كان الخروج عن الشّعاع معيّنا في العلوم الفلكيّة في كلّ شهر في غاية الدّقّة، و هذا الخروج يكون مقارنا مع غروب الشّمس في ناحية ما بالضّرورة، فإذن يصير الهلال قابلا للرّؤية في ناحية ما بعد نفس خروجه عن الشّعاع بلا ريب.
فإذا جعلنا الرّؤية طريقا محضا، و كاشفة صرفة يلزم أن يكون الشّهر الشرعيّ مساوقا مع الشهر الفلكيّ دائما فإذن تسقط الشهور المبدوّة بالرّؤية، و يصير الميزان الشّهور الفلكيّة المبنيّة على الجدول أو الحساب أو العدد، و قد ذكرنا أنّه مخالف لإجماع المذهب، و مخالف لصريح النّصوص المتواترة و الفتاوى بلا شبهة و إشكال.
و هذا محلّ إمعان النّظر و الدّقّة، فإنّ بحثنا هذا في غاية الدّقّة.
لكن المورد لم يتأمّل مغزى ما أردناه، فأشكل بأنّ نقطة الخروج عن الشّعاع لا يلازم إمكانيّة الرّؤية و لا يلازم بلوغ القمر إلى تلك النّقطة، بحيث يكون قابلا للرّؤية، بل يمكن أن يكون الوقت فيه نهارا فلا يزال القمر في الآفاق و الدّوائر الأرضيّة الّتي تقابل ضوء الشّمس حتّى تغرب، و لم يعرف بأنّا لم نعيّن ناحية الرّؤية نقطة خاصّة حتّى يرد علينا ما ورد، بإمكان كونها نهارا، و لا يرى القمر فيها إلّا إذا تطابق الافقان و المغربان.
بل ذكرنا ناحية ما، أي ناحية غير مشخّصة، فالأرض بحركتها الدّوريّة في كلّ لحظة تقارن غروب الشّمس في ناحية غير مشخّصة من أيّ النّواحي.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 159
فإذا خرج القمر عن الشّعاع في أيّ لحظة فرضت، يقارن هذه النّاحية بالضّرورة الكونيّة.
فنفس الخروج عن الشّعاع وحدة تحقّق إمكانيّة الرّؤية، و لا معنى لترقّب زوال أشعّة الشّمس عن المنطقة الّتي غربت عنها الشّمس.
و أمّا النّقطة الرّابعة، و هي عدم محدوديّة الآفاق المشتركة موضوعا،
لا زمانا و لا مكانا.
فنقول: أوّلا إنّ مجرّد عدم محدوديّتها، و اختلافها في الخارج في الشّهور المختلفة، لا يوجب رفع اليد عن الحكم الثابت بالأدلّة، فهل يا ترى يمكن أن يلتزم فقيه برفض الحكم و إبطاله بتّا فيما إذا كان موضوعه غير مشخّص و لا محدّد عنده، و يلتزم بعموميّة الحكم لموضوع كلّيّ يندرج تحته جميع جزئيّاته: هذا الموضوع غير المحدّد و غيره؟ فإذا دلّ الدّليل على موضوعيّة الرّؤية لدخول الشّهور القمريّة، ثمّ دلّ الدّليل على لزوم القضاء في مصر لم تتحقّق فيه الرّؤية، لا يكون لنا مناص إلّا الالتزام باتّحاد الآفاق المشتركة في الرّؤية بالحكومة الشّرعيّة، و الحكم بسعة دائرة الرّؤية بالنّسبة إليها تعبّدا، بعين ما نحكم بسعة دائرة الرّؤية في بلدة واحدة حقيقة، إذا رئي الهلال في ناحية منها و لم ير في أخرى.
و هذا أحسن تقريب بأحسن بيان أوردناه في المقام على كيفيّة الحكومة و توسيع دائرة الرّؤية، بحيث لم يرفض اليد عن الرّوايات الناصّة في دخالة الرّؤية، و لم يلزم التخصيص فيها كما التزم به العلّامة في التّذكرة.
و ذلك لأنّا لو خلّينا و أنفسنا مع خصوص ما دلّ على لزوم الرّؤية في الشّهور، لحكمنا بلزومها في كلّ بلدة بلدة، و لو خلّينا و أنفسنا مع خصوص ما دلّ على لزوم القضاء فيما لم تتحقّق الرّؤية، و لم تكن في البين الأدلّة الناصّة على لزوم الرّؤية، لذهبنا إلى الشّهور الفلكيّة، و حكمنا بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق بلا تأمّل. فالجمع بين هاتين الطّائفتين من الرّوايات لا يجعل لنا مخرجا و لا مفرّا إلّا الالتزام بما يترتّب على أحكام الرّؤية في كلّ ناحية يكون الهلال موجودا في أفقه، و كان المانع من الرّؤية وجود جبل أو سحاب أو غيم و نحو ذلك، و ترتّب الآثار الشرعيّة من الصّيام و نحوه على تلك الآفاق، و عدم الالتزام به فيما إذا كان الهلال لا يكون موجودا في أفقه حين دخول اللّيل في تلك النّاحية بغيبوبة الشّمس تحت افقها.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 160
و بعبارة اخرى إنّ ما هو لازم في الحكم بدخول الشّهر هو الرّؤية الفعليّة إجمالا، و الرؤية الإمكانيّة تفصيلا لكلّ مكان.
فمن مطاوي هذا البحث تولّد عنوان الاشتراك في الآفاق، و عنوان عدم الاشتراك تولّدا طبيعيّا.
و ثانيا، قد بحثنا بما لا مزيد عليه، في الموسوعة الاولى، من آخر صفحة 43، إلى آخر صفحة 45 في كيفيّة تعيين الضّابطة الكلّيّة.
فبرهنا على أنّ الآفاق المشتركة عبارة عن جميع البلاد الغربيّة، القريبة العرض بالنّسبة إلى مطلع القمر و جميع البلاد الشّرقيّة الّتي كانت مشتركة في إمكان الرّؤية مع بلد الرّؤية، و لو بلحظة، الواقعة في الطّول الجغرافيائى بمسافة اثنين و ثلاثين دقيقة زمانا، و هي البالغة بأزيد من مأة و ستّين فرسخا. «1»
و ثالثا، إنّ رؤية الهلال في الآفاق المتّحدة ليست موضوعا واحدا لتكليف شخصيّ، حتّى اختلافها في الشهور زمانا و مكانا، يوجب الإبهام و الإجمال في التّكليف.
و ذلك، لأنّ التكاليف العامّة ينقسم على كلّ واحد من آحاد المكلّفين على حسب القضيّة الحقيقيّة و معلوم أن لا إبهام و لا إجمال في تكليف كلّ فرد بالنّسبة إلى نفسه، لأنّ الهلال إذا كان مشاهدا في أفقه، أو علم بمشاهدته في أفق قريب، يرى نفسه مكلّفا، و إلّا فاستصحاب عدم الرّؤية أو استصحاب عدم دخول الشّهر الجديد أو بقاء الشّهر الماضي، لا يبقى مجالا للشّكّ في التكليف الحادث.
______________________________
(1) لأنّ محيط كرة الأرض يساوي أربعين ألف كيلو متر، و إذا انقسم المحيط إلى ثلاثمائة و ستّين درجة يكون طول قوس الدّرجة الواحدة منها أزيد من مأة و إحدى عشرة كيلو مترا، 111/ 111 360:؟ 40000 ثمّ إنّا نعلم بأنّ الأرض تدور حول نفسها مرّة واحدة في أربع و عشرين ساعة ففي ساعة تدور على مقدار خمس و عشرة درجة 15 24:؟ 360، فكلّ درجة منها تطوى بأربع دقائق 4 15:؟ 60، فمسافة اثنين و ثلاثين دقيقة زمانا يكون طول قوس ثمان درجات من الأرض 8 4:؟ 32، و يساوى طول هذا القوس من الأرض أزيد من ثمانمأة و ثماني و ثمانين كيلو مترا، الحاصل من ضرب المثال في مأة و إحدى عشرة كيلو متر 88/ 888 8 111/ 111، ثمّ إنّا نعلم أنّ مسافة الفرسخ تبلغ خمس كيلو مترات و نصف كيلو متر، فهذه المسافة تزيد على مأة و ستّين فرسخا 6/ 161 5/ 5:؟ 888/ 888 هذا و لكنّا ذكرنا سابقا أنّ هذا المقدار يفيد على بناء كفاية الهلال فوق الأفق، لأعلى الرّؤية الفعليّة.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 161
تنبيه، ما أفاد حفظه الله في هذه النّقطة من أنّ رؤية الهلال كما قلنا تتحقّق نتيجة سير القمر إلى جهة المغرب من الأرض وهم، لأنّ جهة حركة القمر حول الأرض من المغرب إلى المشرق دائما، كما أنّ جهة حركة الأرض حول الشّمس كذلك، و قد بيّنّاه في صفحة 18 من الموسوعة الاولى.
امّا النّقطة الخامسة، فقد ذكرنا في الموسوعة الثانية
بأنّ القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق يستلزم افتراض ليلة أوّل الشّهر واحدة في جميع النّواحي الّتي تحلّ بها الظّلمة من الكرة الأرضيّة فيؤدّي إلى أن يكون اللّيل في النّاحية الواقعة شرق منطقة رؤية الهلال منذ بدايته ليلة أوّل الشّهر، مع أنّه في بدايتها الّتي قد يكون قبلها باثنتي عشرة ساعة فما دون، يكون القمر لا يزال تحت الشّعاع، فلا بدّ و أن يحسب من الشّهر القادم، مع أنّ القمر حينئذ في المحاق.
فعبّر المجيب- حفظه الله- بأنّ هذه مشكلة اثرتها على المختار، مع أنّ جميع ما أوردناه على هذا المذهب مشاكل ثمّ أجاب نقضا و حلّا.
أمّا نقضا بما إذا افترضنا خروج الهلال عن الشّعاع بنحو قابل للرّؤية بالعين المجرّدة مصادفا للمغرب في نقطة على سطح الأرض مشتركة في الأفق مع نقطة أخرى في شرق هذه النّقطة تغرب فيها الشّمس من قبل.
فإنّه في مثل هذه القضيّة يتحقّق خروج الهلال عن تحت الشّعاع بالنّسبة إلى النّقطة الثانية بعد المغرب بزمان مع أنّه من ابتداء اللّيل يحسب من الشهر القادم.
و امّا حلّا بأنّ رؤية الهلال عند غروب الشّمس في ناحية توجب لنا الحكم بأنّ النهار القادم بعد ذلك اللّيل من الشّهر القادم في جميع النّواحي الّتي تشترك مع منطقة الرؤية في ذلك اللّيل، لا النقاط الّتي لا تشترك معها في تلك اللّيلة، بل يكون فيها نهارا، لأنّه لا يصدق على ذلك النّهار أنّه نهار ما بعد تلك اللّيلة الّتي هي ليلة الرؤية.
و الرّوايات الخاصّة الآمرة بقضاء صيام النّهار و لو في مصر آخر، لا تدلّ على أزيد من ذلك، لأنّها تدلّ على قضاء نهار القادم بعد ليلة الرؤية.
و لا يخفى ما في كلا الجوابين من الخبط الواضح.
أمّا في النّقض، فلأنّ الهلال في كلتا النّقطتين المشتركتين قابل للرّؤية، لأنّه لا معنى لاشتراك الآفاق إلّا كونها متّحدة في قابليّة الرّؤية.
فمن المستحيل افتراض رؤية الهلال في نقطة من سطح الأرض عند غروب
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 162
الشمس مشتركة في الأفق مع نقطة أخرى على طول آخر في مشرق هذه النّقطة قد غربت الشّمس فيها من قبل، حين كون القمر تحت الشّعاع. فرؤية الهلال في نقطة عند غروب الشّمس، و عدم رؤيته في النّقطة الشّرقيّة المشتركة معها في الأفق حين تغرب الشمس فيها من قبل، دليل على وجود مانع خارجيّ من السّحب أو الغيوم أو الجبال في الناحية الشرقيّة من الرّؤية، بعد إمكانيّة الرّؤية على الفرض من اتّحاد افقيهما.
فالرّؤية في النّقطة الغربيّة تكشف عن دخول الشّهر في النّقطة الشّرقيّة من قبل، بها حلّ الشّهر بعد تماميّة موضوعه، و هو إمكانيّة الرّؤية بعد الخروج عن تحت الشّعاع و الرّؤية الفعليّة في الأفق المتّحد، و لا كلام لنا فيه.
و أمّا في الحلّ فلأنّه ليس محطّ البحث في النّواحي الّتي يكون فيها نهار عند غشيان اللّيل نصف الكرة الأرضيّة الّتي تشترك نواحيها مع نقطة الرّؤية في الظّلمة، لأنّه من المعلوم أنّ نهار تلك النواحي تابع لليلها المتقدّم عليه.
و إنّما البحث في جميع هذه النّاحية المظلمة الّتي تشترك مع ناحية الرّؤية في لحظة واحدة، إلى اثنتي عشرة ساعة، و ربما تكون أزيد، و في النّواحي المعمورة البعيدة عن الاستواء ربما يبلغ اللّيل عشرين ساعة.
فقد أوردنا بأنّ قضيّة عدم لزوم الاشتراك في الآفاق يوجب الحكم بدخول الشّهر القادم في جميع هذه النّواحي، مع أنّ القمر بعد في المحاق.
و هذا من بداهة البطلان بمكان ينبغي أن يحسب من الأساطير الوهميّة، اصخوكة للشابّ و الهرم.
و ذلك لأنّ الشّهر القمريّ المبدوّ برؤية الهلال عند جميع أهل الإسلام، بل جميع أهل الأديان بل الملل و الأقوام، يصير حاله في التنزّل إلى حدّ لا يقف بالرّؤية الفعليّة و لو في نقطة ما من بعيد، و لا يقف على إمكانيّة الرّؤية أيضا بخروجه عن تحت الشّعاع، بل تنزّل إلى حدّ السقوط في درك البوار يزعم أنّه موجود في عالم الفعليّة، مع أنّ موجده و هو ظهور الهلال بعد باق في نطفة الاستعداد، محبوس في رحم المحاق، مظلم محجوب تحت ظلمات ثلاث: ظلمة المحاق، و ظلمة تحت الشّعاع، بل تنزّل إلى حدّ السقوط في درك البوار يزعم أنّه موجود في عالم الفعليّة، مع أنّ موجده و هو ظهور الهلال بعد باق في نطفة الاستعداد، محبوس في رحم المحاق مظلم محجوب تحت ظلمات ثلاث: ظلمة المحاق، و ظلمة تحت الشّعاع، و ظلمة الخفاء في الآفاق، فهل هذا إلّا من أخيلة وهميّة؟
فأين كنت يا للقرآن العظيم؟ إذا ناديت بصوتك المعجز الدّائم الباقي العامّ
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 163
لكلّ فرد في العالم يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ.
فهل يكون القمر في المحاق، و لمّا تسمّى هلالا، ميقاتا للنّاس، مبدأ لعباداتهم و معاملاتهم و حجّهم تاريخهم؟ و تاريخهم؟ و هل يدرك العالم و العاميّ، الحضريّ و البدويّ، هذا المبدء الوهميّ، و يجعل مبدأ لتاريخه؟ و هل يكون هذا معنى الشّريعة السّمحة السّهلة، يباهي بها أهل الإسلام كافّة المذاهب و المكاتب في العالم؟
ألا و إنّ نتائج قلّة التأمّل، و المبادرة إلى رأي لا يستقيم على أصول متينة، ممّا يضيق عن الإحاطة بها نطاق البيان.
ثمّ إنّ المجيب- حفظه الله- نهض على كسر وصولة هذه المشكلة، بالاستناد إلى المرتكزات العرفيّة، مردّدا بأنّ العرف إن اكتفى في دخول الشّهر الجديد بخروج الهلال عن تحت الشّعاع بنحو قابل للرّؤية في نقطة مشتركة معنا في اللّيل، و لو كان المقدار الباقي منه عندنا أقلّ منه في تلك النّقطة فقد تطابق المستفاد من الرّوايات مع المرتكزات، و إلّا فلا أقلّ من أن يكون الحكم الشرعيّ بوجوب الصّيام بمقتضى الرّوايات المذكورة منوطا بذلك.
لأنّه لا إشكال في عدم وجود ارتكاز معاكس على الخلاف، كي يتجرّأ به أن يرفع اليد عن مقتضى ظهور أدلّة الباب، المتمثّلة في الرّوايات الخاصّة الّتي استند إليها في اختيار القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق.
و لا يخفى ما فيه من اتّهام العرف بوجود هذا الارتكاز أو عدم وجود الارتكاز المعاكس.
لأنّ العرف لا يقبل أبدا اشتراك نقطة بعيدة عن نقطة الرّؤية باثنتي عشرة أو عشرين ساعة مثلا في دخول الشّهر الجديد.
و لا يلتزم بتّا بأحكام الشّهر القادم من أوّل اللّيل المنوط بخروج القمر عن تحت الشّعاع، مع أنّه بعد في المحاق، و من ادّعى فقد كابر و العرب بالباب.
و أنت يا أيّها المجيب! سل نفسك بما أنّها من العرف، لا بما أنّها متّهمة في حدسها، هل تقبل و أنت في النّجف الأشرف، بعد تصرّم اللّيل، و قبل الفجر بدقيقة، جاء الخبر في نقطة بعيدة زمانا باثنتي عشرة ساعة و مكانا بفاصل نصف القطر المحيط، من وسط الأقيانوس الكبير، بأنّ القمر خرج عن الشعاع و رئي في هذه اللّحظة في هذا المكان، و هل تبنى على أنّ اللّيلة المتصرّمة من أوّلها إلى آخرها مع كون القمر في المحاق من الشّهر
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 164
القادم؟
و أعجب منه إذا جاء الخبر في أوّل غروب الشّمس، و القمر بعد في المحاق بأنّه يخرج عنه بعد اثنتي عشرة ساعة، في وسط البحر المحيط، و يرى عندئذ، فهل تبنى من هذه اللّحظة على أحكام الشّهر القادم؟
ثمّ الأعجب أنّه إذا لم يجيء خبر، لكنّك تعلم بالمحاسبة الرّصديّة، أو الرّجوع إلى قول الرّصديّ الثّقة المدوّن في الزّيجات، خروجه عنه كذلك، فهل تبنى على كون هذه اللّيلة ليلة أوّل الشّهر القادم، مع افتراض ما هو المسلّم عندك من دخالة خروج القمر عن الشّعاع في تحقّق موضوع الشهر عرفا، في جميع هذه التّقادير؟
و المحصّل أنّ وجود الارتكاز المعاكس، على الخلاف عرفا، خصوصا مع ملاحظة تسجيل أذهان المسلمين جميعا على لزوم الرّؤية في دخول الشّهر، تبعا لسنّة النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم، خاصّة في تلك الأزمنة الّتي تباعد البلاد بعضها عن بعض زمانا، و عدم وصول الأخبار إلى الأقطار بتّا، لا يبقى مجالا لانعقاد ظهور للمطلقات الّتي استند إليها في اختيار القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق، في الإطلاق.
فانصرافها بهذه القرينة الارتكازيّة العرفيّة و المتشرّعيّة، إلى البلاد القريبة المتّحدة في الآفاق هو المتعيّن.
و أمّا النّقطة السّادسة فقد اعترف بأنّ المستفاد من روايات الصّوم الأوّليّة،
هو نسبيّة رؤية الهلال، و اختلافها بالنّسبة إلى مناطق مختلفة، و الظّاهر منها إناطة الحكم بإمكانيّة الرّؤية في كلّ منطقة، إلّا أنّ ما جاء في الرّوايات الخاصّة من كفاية حصول الرّؤية في مصر، لتحقّق الشّهر في الجميع، دلّ على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق.
و فيه أنّه بعد كثرة الشّواهد و القرائن الصارفة الّتي كاد أن تجعل هذه الرّوايات الخاصّة ناصّة في اختصاصها بالآفاق القريبة، بمثابة انجلاء الشّمس في رابعة النّهار، لا يبقى مجال للأخذ بالإطلاق.
فالمحكّم هو الأخذ بمفاد أدلّة الصّوم و نحوه من الأحكام المترتّبة على الشّهور، الدالّة على اختصاصها بمنطقة الرّؤية ليس غير.
و حمل ما دلّ على كفاية الرّؤية في مصر على الأمصار المتقاربة، بمناط إمكانيّة الرّؤية في آفاقها ببلوغ الهلال فيها مرتبة من الظّهور في نفسه، بحيث يكون قابلا للرّؤية،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 165
لو لا وجود سحاب و نحوه، على أساس الارتكاز العرفيّ، و تسجيل لزوم الرّؤية في المجتمع الإسلاميّ من تعليم نبيّهم الخاتم صلّى الله عليه و آله و سلّم: صوموا لرؤيته، و أفطروا لرؤيته.
فعلى هذا الارتكاز و التّسجيل لا يفهم العرف أبدا من قوله عليه السّلام: فإن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه، إلّا البلد القريب الّذي يمكن جعل الرّؤية فيه رؤية في بلده، بالحكومة و توسيع دائرة الرّؤية بالنسبة إليه، بمناط اتّحاد المكان من حيث وجود الهلال في الأفق، و المانع شيء عارضيّ، كالسّحاب و الجبال و نحوهما.
كما أنّه في بلد واحد متّسع، إذا تحقّقت الرّؤية في نقطة منه، فهي كافية للحكم بها في جميع نواحيه لمناط وحدة المكان عرفا.
فالإمام عليه السّلام، كان يريد أن يوسّع دائرة اتّحاد المكان في الرّؤية بالحكومة التّشريعيّ، و يبيّن بأنّ المناط وجود الهلال في الآفاق، و إمكانيّة الرّؤية في البلاد المتقاربة، بعد الرّؤية الفعليّة في الجملة، و لا يريد أن ينقض قول المشرّع الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته.
فلا يكاد يفهم العرف من إطلاق لفظ البلد و مصر و البيّنة و جميع أهل الصّلوة، إطلاقه بالنسبة إلى جميع أصقاع العالم، و بالنسبة إلى جميع المسلمين القاطنين في الربع المسكون، إلى أقصى البلاد المعمورة «1».
ينبغي التّنبيه على أمور.
الأوّل: قد عرف بما ذكرناه في مطاوي هذه الموسوعات،
أنّ المتكفّل لإثبات لزوم الاشتراك في البلدان في رؤية الهلال، كلّ واحدة من الأدلّة العلميّة، و الأدلّة الشّرعيّة، بحذاء نفسها، لا ربط لإحداهما بالأخرى كلّ الارتباط.
و لذا ذهب المشهور إلى هذا المرام على أساس الأدلّة الشّرعيّة، و لم نجد في
______________________________
(1) و ممّا ينبّهك و يسدّدك و يؤيّدك على هذا المرام الّذي بيّنّاه أنّه لم ير من النّبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و من الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين في طوال القرون الثلاثة الأمر بقضاء صوم أهل بلدانهم من مكّة و المدينة و الكوفة و بغداد و سرّ من رآه و طوس مع إمكان دعوى العلم الإجمالي برؤية الهلال في بلاد المغرب قبل رؤية أهل بلدهم بليلة واحدة في طول هذه المدة أزيد من ألف مرة، وصل إليهم الخبر بعد زمان أم لم يصل و ذلك لانّ العلم الإجمالي منجز للتكليف، فعلى عهدة كلّ أحد في مدّة عمره قضاء أيّام من الصيام حسب علمه إجمالا برؤية من تقدّمه من بلاد المغرب، و حيث لم يكن في الرّوايات و التّواريخ و السير عين و لا أثر من الأمر بقضاء الصّيام بالعلم الإجمالي علمنا عدم وجود تكليف برؤية من تقدّمهم بالرؤية (منه عفى عنه).
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 166
كلامهم أن يعتمدوا في ذلك على ما بيّن في العلوم الفلكيّة و الهندسيّة، و ما شابههما من العلوم الطبيعيّة و الرّياضيّة، إلّا قليلا.
و أمّا نحن فقد باحثنا في المقام على أساس كلّ واحدة من العلوم الطبيعيّة و الشّرعيّة مستقلّا.
فما أفاد المجيب- حفظه الله- من أنّ بحوثنا من الأدلّة و الرّوايات من النّاحية الشّرعيّة، وقعت على ضوء بحوثنا العلميّة فيما هو مرتبط بالموضوع من القضايا الفلكيّة، غير تامّ.
ثمّ إنّ الظّاهر منه تماميّة بحوثنا العلميّة فيما هو مرتبط بالمقام، و الاعتراف بها جملة، بخلاف الأدلّة الشّرعيّة، فلم يعترف بها كلّ الاعتراف.
و فيه ما لا يخفى، لأنّه كيف يمكن أن يخالف الدّليل الشّرعيّ ما هو مسلّم من العلوم العقليّة أو الطبيعيّة المنتهية إلى الأوّليّات و المسلّمات و الوجدانيّات و غيرها، ممّا يكون مأخذا للبرهان؟ و كيف يمكن التعبّد بما هو غير صحيح عند العقل أو الوجدان؟ مع أنّ التّشريع منطبق على التكوين، و حاشا لمذهب الإسلام، مع ارتفاع بنيانه، أن تكون قاعدة من قواعده، على خلاف العقل الصّريح، أو مخالفا لواقعيّة خارجيّة، أو يكون أسّ من أسسه مبنيّا على التّخيّل و التّوهّم، خلاف المنطق الصّحيح واقعا على شفا جرف هار، مع ندائه الصّريح بالقول الفصل الّذي ليس بالهزل:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ. «1»
التنبيه الثاني، إنّ ما أوردناه في الموسوعة الأولى، ثمّ في هاتين الموسوعتين، ليس حماية لمذهب المشهور صرفا.
و ليس على مبنى الخوف من استيجاب مزيد من الأوهام، و اضطراب العوام، و كثرة الشّجار و القيل و القال كما أفيد، لأنّه لا يعبأ بهذه التّمويهات. قُلِ اللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. «2»
و ليس على أساس الخطابة و النّصح المجرّد، للجهات الخارجيّة، لملاحظة
______________________________
(1) سورة 30 الرّوم الآية 30.
(2) سورة 6 الانعام الآية 91.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 167
الظّروف و الملابسات و المقامات و المقتضيات. قُلْ إِنَّ هُدَى اللّٰهِ هُوَ الْهُدىٰ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جٰاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَكَ مِنَ اللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لٰا نَصِيرٍ «1» و لا على تحميل رأى و مؤاخذة على ما لا ينبغي. الَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ «2»، إِنَّ الَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلّٰا كِبْرٌ مٰا هُمْ بِبٰالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «3» بل لما رأينا أنّ فتوى عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، خلاف للموازين العلميّة و للجهات الشّرعيّة، و ما أفيد من ابتناء الشّهور القمريّة على مجرّد نفس خروج القمر عن تحت الشعاع، بما أنّه حادثة سماويّة غير مرتبط ببقاع الأرض، غير تامّ.
و ما أفيد من دلالة المطلقات، مجروح بجهات من الإيراد من القرائن العقليّة و النّقليّة على الخلاف و بداهة الانصراف.
و نسبة هذه الفتوى إلى العلّامة في المنتهى، و الشّهيد في الدّروس، غير صحيحة.
و التزام صاحب الحدائق بها مبنىّ على تسطيح الأرض، و صاحب الجواهر على تسطيحها أو على صغر الرّبع المسكون إلى سعة السّماء و نحو ذلك، ممّا هو باطل بالضّرورة.
و ما في كلام النّراقي و المحدّث الكاشانيّ و السّيّد الحكيم، من جهات الإشكال.
و نسبة فتوى المشهور إلى قياسهم رؤية القمر الخارج عن الشّعاع، بطلوع الشّمس و غروبها و مالها من المشارق و المغارب، باطلة.
و ليس كلّ من كانت فتواه مطابقة لفتوى الشّيخ قدّس الله نفسه من المقلّدة.
فلم نتمكّن إذن على الاختلاف الشّديد، الموجب لترك الجماعات، و سقوط الأبهة و العظمة و بروز النّفاق في عيد الفطر، على مبنى فتوى غير صحيحة.
فأتعبنا أنفسنا مع كثرة الشّواغل و المشاغل الّتي تحيط بنا من كلّ صوب، بتحرير
______________________________
(1) سورة 2 البقرة الآية 120.
(2) سورة 4 الغافر الآية 35.
(3) سورة 4 الغافر الآية 56.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 168
رسالة استدلاليّة إلى فقيه نبيه، له حقّ علينا في الدّراسة و التّعليم.
كي يرفع الله بها الخلاف، و يقع الحجر على أساسه الأصليّ، و تعود السّنن.
و الحمد لله عادت في عيد الفطر الماضي على موضعها، و لم يوجد خلاف في جميع قطر الشّيعة.
التنبيه الثالث إنّ مصادر الخلاف بين أصحابنا الأصوليّين و إخواننا الأخباريّين،
و إن كانت كثيرة، و مواقع الرّد و الإيراد بينهم، و الطّعن و الدّق دائمة على ما هو المشهود من كتبهم المدوّنة، إلّا أنّ محطّ جميع موارد اختلافاتهم، مورد واحد، و يرجع كلّ من منازعاتهم إلى محلّ فأرد و هو أنّ الأخباريّين يأخذون ظواهر الأخبار الواردة عن أئمّتنا المعصومين عليهم السلام، بلا تحقيق كاف في إسناده غالبا، و لا فحص تامّ عن القرائن العقليّة و النّقليّة، الموجبة لصرف ظواهرها إلى المحطّ الأصليّ المشهود في مدلولهما.
و أمّا الأصوليّون فهم أدقّ نظرا بمواقع القرائن المتّصلة و المنفصلة، المقاليّة، و المقاميّة، و لا يأخذون خبرا إلّا بعد الفحص التامّ عن سنده، و لا ظهور رواية إلّا بعد ملاحظة جميع الجوانب الّتي يحتمل وجود ما يصرف الظهور إلى غيره.
فما أفيد في المقام من الإصرار على أخذ ظهور الإطلاقات الواردة في قضاء الصّيام، ثمّ الإصرار على إسقاط ظهور الرّوايات الواردة في دخالة الرّؤية عن الموضوعيّة إلى الطّريقيّة المحضة، ممّا يجعل الباحث على القطبين المختلفين، من الإفراط في الأوّل و التفريط في الثّاني.
التنبيه الرّابع قد روى الشّيخ الطّوسي بإسناده في التّهذيب عن أبي أسامة زيد الشّحام أو غيره،
و روى الصّدوق بإسناده في من لا يحضره الفقيه و في المجالس عن زيد الشّحام قال: صعدت مرّة جبل أبى قبيس و النّاس يصلّون المغرب، فرأيت الشّمس لم تغب، إنّما توارت خلف الجبل عن النّاس، فلقيت أبا عبد الله عليه السّلام فأخبرته بذلك. فقال لي: و لم فعلت ذلك؟ بئس ما صنعت؟، إنّما تصلّيها إذا لم ترها خلف جبل، غابت أو غارت، ما لم يتجلّلها سحاب أو ظلمة تظلّها، و إنّما عليك مشرقك و مغربك، و ليس على الناس أن يبحثوا.
و أورده في الوسائل في كتاب المواقيت من الصّلوة، و أشار إليه في باب ثبوت رؤية الهلال بالشّياع و بالرّؤية في بلد آخر قريب في كتاب الصّوم.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 169
و هذه الرّواية و إن وردت في باب المواقيت من الصّلوة، إلّا أنّه يمكن أن يستفاد من قوله عليه السّلام: و إنّما عليك مشرقك و مغربك، تنقيح مناط كلّيّ في باب الصّيام و غيره، بلزوم الرّؤية في كلّ بلد لدخول الشّهور القمريّة، و لا أقلّ من التأييد، حيث إنّه (ع) بعد توبيخه عن بحثه عن الشّمس خلف الجبل حصر وظيفته بالأخذ بما هو المشرق و المغرب عنده بلا تجاوز عنه، كأنّه قال أيضا: و إنّما عليك رؤيتك، كما ورد نظير هذا التعبير في روايات باب الرؤية خصوصا مع ما هو المشهود من ابتناء أحكام الإسلام، على الموضوعات السّهل التّناول. «1»
و لذا لم يجعل مدار شهوره على السّنة الشّمسيّة المبنيّة على الحساب، بلا استمساك بالرّؤية الخارجيّة يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. «2»
فموضوعيّة الرّؤية لكلّ أفق، توجب سهولة تناول الشّهور لترتّب الأحكام، في
______________________________
(1) و لنعم ما أفاد العالم الفاضل الفلكيّ آية الله الشيخ أبو الحسن الشعراني- رحمه الله- في حاشيته على الوافي ج 2 كتاب الصّوم ص 22 ردّا على ما ذهب اليه الفيض القاساني من عدم الفرق بين البلاد القريبة و البعيدة في لزوم القضاء إذا غمّ هلال رمضان في تسع و عشرين من شعبان إذا شهد أهل بلد آخر برؤيته بقوله رحمه الله: العادة قاضية بأنّ الشهادة من أهل بلد قريب كمكّة بالنّسبة إلى أهل المدينة و الكوفة إلى بغداد و ذلك لأنّ المسافرة من البلاد البعيدة كبلخ و مرو و بخارا إلى الكوفة و المدينة كانت تطول شهورا بعد أن مضى شهر رمضان و انصرف الأذهان و توجّه الهمم من الصّوم إلى أمور أخر و لا يسأل أحد أحدا عن الهلال و ربما ينسون أوّل الشهر أنّه أىّ يوم كان و الهلال كنصف النهار و نصف الليل و الطّلوع و الغروب يختلف باختلاف البلدان فيجب ان يختلف الرّؤية أيضا فيحسب الأربعاء في الصّين مثلا آخر شعبان و في طنجة أوّل رمضان لأن الغروب في الصّين قبل الغروب في طنجة بعشر ساعات و يمكن ان لا يكون الهلال ظاهرا في ساعة و يظهر بعد عشر ساعات و كما انّ المتبادر من الغروب و الزوال في كلّ بلد الغروب و الزوال في ذلك البلد فكذلك صم للرّؤية و أفطر للرّؤية اى لرؤية ذلك البلد ا لا ترى انّ قوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، ليس معناه انّ.
المكّي يجب عليه إقامة الصّلوة إذا دلكت الشمس في الصّين أو في المغرب بل إذا دلكت في مكّة فلذلك صم للرّؤية و أفطر للرؤية، فالصّينى لم ير الهلال و لا يجب عليه الصّوم و الطنجى رآه فوجب و ليس الغروبان في ساعة واحدة بل كانا ليوم مسمّى باسم واحد و أوّل ليلة الأربعاء في طنجة انّما تكون بعد مضىّ عشر ساعات من ليلة الأربعاء في الصّين أ لا ترى انّك تفطر في بلدك لأن الشمس غربت عنك و في هذا الوقت بعينه لا يجوز الإفطار لأهل الكوفة لأنّ الشمس لم تغب عنهم بعد انتهى ما أفاده رحمه الله. (منه عفى عنه)
(2) سورة البقرة الآية 185.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 170
حقّ كلّ حاضر و مسافر في البرّ و البحر، أو قاطن على قلّة جبل أو أكمة أو بطن واد، أو مسافر مع خدمه و حشمه و خيمة طوال السّنة، في الأماكن المعمورة المتناسبة، كالايلات.
و أمّا البناء على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، يوجب مزيد غموض و إشكال و تحيّر في الناس، و يضطرّهم إلى الرّجوع إلى أقوال الرّصديّين، بلزوم أخذ مستخرجاتهم في التّقاويم و غيرها، أو البناء في غالب شهورهم على الشّكّ و استصحاب عدم الهلال.
كما أنّ بناء المواقيت في الصّلوات إنّما هو على موضوعات سهل التّناول كالزّوال و الغروب و العصر المعلوم بظلّ الشاخص و العشاء المعلوم بذهاب الحمرة المغربيّة و تبيّن الفجر الصادق.
و هذه المواقيت معلومة لكلّ أحد حضريّ و بدويّ، برّيّ و بحريّ عالم بالعلوم الرّياضيّة و جاهل بها فلو كانت مواقيت الصلوات منوطة بالسّاعات المستخرجة من التّقاويم، لما تمكّن من تناولها الجميع، و انحصرت في بعض الطّوائف من النّاس، أو وقع النّاس في العسر العظيم و الحرج الشديد.
كلّ ذلك في الصّلوة و الصّوم و الحجّ و ما شابهها، ممّا لا تساعده الشريعة السّمحة الغرّاء. وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، «1» وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ. «2»
التنبيه الخامس، أنّ كتاب سبيل الرّشاد في شرح كتاب نجاة العباد للسّيّد أبى تراب الخونسارى- قدّه- لم يكن بأيدينا حين تأليف الموسوعة الاولى،
كي نطالعه و نلاحظ مواقع الاستدلال فيه على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق.
و قد وهبنا الله تعالى في هذه الآونة، و بعد ما طالعناه وجدنا أنّ من جملة ما استدلّ به على مرامه صحيحة محمّد بن عيسى المرويّة في التّهذيب بإسناده عنه قال: كتب إليه أبو عمرو: أخبرني يا مولاي أنّه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان و لا نراه، و نرى السّماء ليست فيه علّة، و يفطر الناس و نفطر معهم، و يقول قوم من الحسّاب قبلنا أنّه يرى في تلك اللّيلة بعينها بمصر و إفريقيّة و الأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب، حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم
______________________________
(1) سورة 22 الحجّ الآية 78.
(2) سورة 21 الأنبياء الآية 107.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 171
خلاف صومنا و فطرهم خلاف فطرنا؟
فوقّع عليه السلام: لا تصومنّ بالشّك، أفطر لرؤيته و صم لرؤيته.
و رواه في الوسائل في باب أنّه لا عبرة بإخبار المنجّمين، و أهل الحساب.
طريق الاستدلال: أنّ النّهى عن الصّوم لأجل كونه شاكّا من قولهم كالصّريح في أنّه لو كان قاطعا برؤية أهل تلك البلاد، لكان له حكمهم، و الحال أنّها من البلاد البعيدة بالنّسبة إلى بلاد الرّاوي كما لا يخفى.
بل و ظاهر السؤال أنّ في استخراج أهل الحساب أيضا إنّما كان يمكن الرّؤية في تلك البلاد خاصّة، دون بلد الرّاوي كما لا يخفى.
و احتمال أن يكون المراد أنّ الرّؤية في تلك البلاد موجبة للشّكّ في إمكان الرّؤية في بلدك، فلا تصم لأجل ذلك، فيدلّ على أنّ العبرة ببلد المكلّف خاصّة، كما ترى خلاف الظّاهر جدّا و لو بالنّظر إلى أنّه لو كان المراد ذلك لقال: صم بالرؤية في بلدك صريحا، و لم يأمر بالصّوم بالرّؤية بقول مطلق الّذي هو في مقابل العمل بقول أهل الحساب و نحوه من الأمور الظنّيّة، كما أشرنا إليه مرارا، و إلى أنّ من البعيد فرض الشّكّ في إمكان الرّؤية في بلد الرّاوي، بعد فرض عدم رؤية جميع النّاس طرّا، مع عدم العلّة في السّماء، و كونه في استخراج أهل الحساب غير ممكن الرّؤية.
فليس إلّا الشّكّ في الرّؤية في تلك البلاد، لقول أهل الحساب بإمكان الرّؤية فيها- انتهى.
أقول: فقه الحديث يدلّنا على أنّ السائل لم يرد سؤال تكليفه بالصّيام عن الإمام عليه السلام، و لم يشكل عليه شهر رمضان بالنسبة إلى بلده حيث صرّح في سؤاله بأنّه لم- ير الهلال و لم يره الناس و ليست في السّماء علة، و الظّاهر منه أيضا أنّ في استخراج أهل الحساب كانت الرّؤية ممتنعة في بلده حيث علّق إمكان الرّؤية على قولهم بتلك البلاد النّائية خاصّة.
بل كان بانيا على عدم دخول شهر رمضان في بلده، على ما هو المرتكز في ذهنه و أذهان الناس، من لزوم الرّؤية فيه بخصوصه.
و على هذا الأساس بنى على الإفطار قطعا كإفطار النّاس.
و لم يظهر من سؤاله هذا أدنى توهّم شكّ و شبهة بالنّسبة إلى إفطاره و إفطارهم.
و إنّما سأل عن أمر آخر، و هو جواز اختلاف الآفاق في الرّؤية و عدمه، و أنّه هل تجوز الرّؤية في بلد، فيترتّب عليها أحكام الصّيام، و عدم الرّؤية في آخر، فلا يترتّب عليها
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 172
أحكامه، أم لا؟ بعد مفروغيّة ترتّب الصّيام في كلّ بلد على الرّؤية في ذلك البلد.
فلذا صرّح بأنّ قوما من الحسّاب ذهبوا إلى رؤيته في تلك اللّيلة بعينها في تلك الآفاق البعيدة فهل يجوز ما قاله الحسّاب حتّى تختلف الآفاق و يختلف الفرض على أهل الأمصار، ببيان ما هو مرتكز في ذهنه من ترتّب الصّيام على الرّؤية ليس غير، معبّرا عنه بأنّه هل يمكن بأن يكون صومهم خلاف صومنا، و فطرهم خلاف فطرنا؟
فتبيّن أنّه لم يكن بصدد تكليف نفسه في بلده أبدا، بل كان متيقّنا على أنّه لم- يؤمر بالصّيام لمكان عدم الرّؤية عنده.
بل كان بصدد أن يعرف تكليف القاطنين في تلك البلاد، بأنّهم هل يمكن أن يصوموا المكان الرّؤية الحاكية عنها طائفة الحسّاب، و يفطروا لمكان الرّؤية في بلادهم أيضا باختلاف آفاقهم مع أفقه، أم لا يجوز ما قاله الحسّاب، فيكون جميع الآفاق متّحدة في إمكان الرّؤية و عدمه؟
و إذا لم يجز ما قاله الحسّاب، فلمكان استهلاله في آفاقه و عدم الإهلال مع فقدان علّة في السّماء علم عدم وجوده في تلك الآفاق أيضا، فعلم بطلان قول الحسّاب.
و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله في أوّل سؤاله: بأنّه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، لم يكن المراد تردّدا و إشكالا في وظيفته من الصّيام قطعا.
بل المراد تحقّق الإشكال من حيث إمكان دخول شهر رمضان في ناحية كإفريقيّة و الأندلس، و عدم دخوله في ناحية أخرى كبلدة، و عدم إمكانه.
و يظهر أيضا أنّ ما وقّع عليه السّلام بقوله: لا تصومنّ بالشّكّ أفطر لرؤيته و صم لرؤيته، لم يكن بيان تكليفه في بلده و هو في هذه الحالة من اليقين على عدم دخول الشّهر.
بل كان بصدد بيان قاعدة كلّيّة لجميع الأفراد في كلّ مكان، في قالب الخطاب الشّخصيّ، بأنّ المدار على الرّؤية الفعليّة، و لا عبرة بقول المنجّمين الموجب للشّكّ.
فكلّ أحد في أيّ بلدة من البلاد، إذا تحقّقت الرّؤية يصوم، و إلّا فلا يصوم، نظير الخطابات القرآنيّة فيما يكون المخاطب فيها خصوص النّبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و المراد بيان تكليف قاطبة المكلّفين.
فعلم ممّا ذكرنا أنّ هذه الرّواية من حيث دلالتها على مفروغيّة الرّؤية الفعليّة في كلّ ناحية في ذهن السائل و عدم ردعه عليه السلام أوّلا،
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 173
ثمّ سؤال إمكان تحقّق الاختلاف في الآفاق حتّى يكون تكليف كلّ ناحية على مدار الرّؤية فيها بخصوصها و عدم ردعه عليه السّلام كذلك ثانيا، ثمّ بيان القاعدة الكلّيّة بأنّ المدار على الرّؤية الفعليّة، لا على الشّكّ ثالثا، لا بدّ و أن تحسب من الرّوايات الدّالّة على لزوم الاشتراك في الآفاق، لا من الأدلّة الدّالّة على عدم اللزوم كما ذهب إليه السّيّد قدّس سرّه.
التنبيه السادس: ذهب هذا السيّد- قدّه- على أنّ ممّا يدلّ على عدم لزوم الاشتراك في الآفاق في رؤية الهلال ورود النّصوص المتواترة
و الإجماع بل الضّرورة أيضا على أنّ شهر رمضان إمّا ثلاثون يوما و إمّا تسعة و عشرون.
و ذلك لأنّه على مقالة المشهور من لزوم الاشتراك في الآفاق يلزم أن يكون شهر رمضان أحد و ثلاثين يوما أو ثمانية و عشرين، في حقّ من رأى هلال شهر رمضان في بلده ثمّ سافر إلى بلد آخر يخالفه في الحكم حيث إنّه بانتقاله إليه يتبدّل حكمه لا محالة.
و فيه ما لا يخفى، لأنّ مدار الثلاثين أو تسعة و عشرين إنّما هو في حقّ القاطنين في كلّ بلدة، و المسافرين إلى بلاد متقاربة تتّحد فيها الآفاق، بعين ما بيّنّا مورد الانصراف في مطلقات القضاء بالآفاق القريبة المتّحدة بإمكانيّة الرّؤية، لا في حقّ من سافر نادرا من قطر إلى قطر.
كما أنّ مطلقات آيات المواقيت في الصّلوة و أخبارها منصرفة إلى المكلّفين السّاكنين في النّواحي المعمورة المعتدلة من الأرض، لافى حقّ من خرج عن المعمورة، و لم تكن فيها مواقيت، من زوال و غروب و فجر و نحوها و هذا واضح.
التنبيه السّابع: روى الكلينيّ في الكافي و الشّيخ في التّهذيب «1» و الصّدوق في من لا يحضره الفقيه و الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة القدر،
كلّ واحد منهم بإسنادهم عن علىّ بن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك اللّيلة الّتي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال:
في ليلة إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين. قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال:
ما أيسر ليلتين فيما تطلب. قال: قلت: فربما رأينا الهلال عندنا، و جاء من يخبرنا
______________________________
(1) في كتاب الصلاة في باب فضل شهر رمضان و الصلاة فيه زيادة على النوافل المذكورة في سائر الشهور.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 174
بخلاف ذلك من أرض أخرى؟
فقال: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها. «1» و أورده في الوسائل في كتاب الصّيام باب 32 تعين ليلة القدر و أنها في كل سنة و تأكد استحباب الغسل فيها و إحيائها بالعبادة.
ربما توهّم من هذا الحديث عدم لزوم الاشتراك في الآفاق، حيث إنّ قوله عليه السلام: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها، يدلّ على لزوم الأخذ بالهلال المرئيّ في الأفق الّذي جاء منه الخبر، قبل رؤيته في أفق السائل.
و فيه لو كان كذلك لتعيّن اللّيلة الّتي يرجى فيها أيضا في ليلتين، لكنّهما على حساب الرّؤية في الأفق الّذي جاء منه الخبر، لا أربع ليال.
فمراده عليه السلام بالأخذ بأربع ليال ليس إلّا من باب الأخذ بالحائطة، بأنّه إن كانت اللّيلة الّتي رئي فيها الهلال، هي أوّل الشّهر بالنّسبة إلى أفقه، فاللّيلتين المذكورتين ظرف للمطلوب، لكون ليلة القدر في إحديهما لا محالة، و إن كانت ليلة أوّل الشّهر هي اللّيلة الّتي رئي فيها القمر من قبل المخبر، و خفي الهلال عندئذ في أفق السّائل، لغيم أو سحاب و نحوهما، فاللّازم احياء ليلتين أخريين أيضا قبل هاتين اللّيلتين، رجاء لدرك ليلة القدر في إحديهما.
بل هذه الرّواية للقول بلزوم الاشتراك في الآفاق أدلّ.
لأنّه لو لم يلزم الاشتراك فيها لتعيّن أن يجيب عليه السّلام بإحياء ليلتين أخريين فقط على حساب الرّؤية في أفق المخبر بالخبر، لاختلاف أفقه مع أفق السّائل، فيلزم الأخذ برؤية الهلال فيه، بناء على عدم لزوم الاشتراك، فعدم التّعيين دليل على لزوم
______________________________
(1) تتمّة الحديث: قلت: جعلت فداك ليلة ثلاث و عشرين ليلة الجهني؟ فقال: إنّ ذلك ليقال. قال جعلت فداك إنّ سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ. فقال لي: يا با محمّد وفد الحاج يكتب في ليلة القدر و المنايا و البلايا و الأرزاق و ما يكون إلى مثلها في قابل فاطلبها في ليلة إحدى و عشرين و ثلث و صلّ في كلّ واحدة منها مأة ركعة و أحيهما إن استطعت إلى النّور و اغتسل فيهما قال: قلت و ان لم أقدر على ذلك و أنا قائم؟ قال فصلّ و أنت جالس قلت فإن لم أستطع قال فعلى فراشك قلت فإن لم أستطع قال: لا عليك أن تكتحل أوّل اللّيل بشيء من النّوم و إنّ أبواب السّماء تفتح في رمضان و تصفد الشّياطين و تقبل أعمال المؤمنين، نعم الشّهر رمضان كان يسمّى على عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المرزوق.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 175
الاشتراك، بالقياس الاستثنائي هذا آخر ما وفّقت بتحريره في هذه الموسوعة بتوفيق من الله تعالى.
و هي موسوعة ثالثة حرّرتها حول مسئلة لزوم الاشتراك في الآفاق في رؤية الهلال في دخول الشّهور القمريّة.
و راعيت فيها جوانب الجواب، و سدّ ثغور ما توهّم أن يدخل فيها من كلّ باب.
و لله الحمد و له المنّة علىّ، على أن أخرجها طريّة نقيّة صافية قابلة لأن أرسلها إلى السيّد الأيّد الفقيه النّبيه: استاذنا المعظّم، عليه من التّحيات أزكاها و من الدّعوات أنماها.
أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي |
|
خضوعي لديكم في الهوى و تذلّلى |
و أشتاق للمعنى الّذي أنتم به |
|
و لو لا كم ما شاقني ذكر منزلي |
و نلت مرادي فوق ما كنت راجيا |
|
فوا شعفا لو تمّ هذا و دام لي |
عسى أن يقع مورد القبول، و تبيّن له المقبول، فهو غاية المسؤل، و نهاية المأمول، فالله تبارك و تعالى دعا أرباب العقول بقوله عزّ من قائل فَبَشِّرْ عِبٰادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدٰاهُمُ اللّٰهُ وَ أُولٰئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبٰابِ. «1»
و في الختام ندعو لك بدوام الصّحّة و التّوفيق، و التّأييد و التّسديد، و فيضان الرّحمة الرّاحمة من نفسك الواسعة، على الأمّة المرحومة، الفرقة النّاجية.
و أن يتفضّل علينا بقبول أعمالنا، و أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، و يمنّ علينا بالعفو و المغفرة في سيّئاتنا، بجوده و كرمه و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو نفتتن عن دينك، أو تتابع بنا أهوائنا دون الهدي الّذي جاء من عندك.
اللّهمّ أمتعنا بأبصارنا و أسماعنا و قواتنا ما أحييتنا، و اجعله الوارث منّا، و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدّنيا أكبر همّنا و لا مبلغ علمنا.
و أعنّا على ذلك بفتح منك، تعجّله، و بضرّ تكشفه، و نصر تعزّه، و سلطان حقّ تظهره، و رحمة منك تجلّلناها و عافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
______________________________
(1) سورة 39 زمر آية 17- 18.
رسالة حول مسألة رؤية الهلال، ص: 176
ختمت هذه الموسوعة بتوفيق من الله و تأييده و بحوله و قوّته في السّاعة الرّابعة بعد الظّهر، من اليوم السّادس و العشرين من شهر ربيع المولود، مولد سيّدنا الأعظم و نبيّنا الأكرم، الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل، محمّد بن عبد الله، عليه و على أولاده الطّاهرين صلوات الله و صلوات ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين و عباده الصّالحين إلى يوم الدّين، سنة ألف و ثلاثمائة و ثمان و تسعين بعد الهجرة المحمّديّة على هاجرها آلاف التّحية و الإكرام من الملك العلّام، و أنا الرّاجي عفو ربّه محمّد الحسين بن محمّد الصّادق الحسينيّ الطّهرانيّ ببلدة طهران.
________________________________________
تهرانى، سيد محمد حسين حسينى، رسالة حول مسألة رؤية الهلال، در يك جلد، ه ق