بسم الله الرحمن الرحیم

فهرست علوم
علوم الادب--صرف و نحو و معانی وبیان و بدیع و تجوید و عروض و
علم المعانی
تفاوت استعاره و اعتبار



الحقیقة و المجاز

عبدالقاهر جرجانی

دلائل الاعجاز، ج ١، ص ۵۵
«رأيت أسدا»، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة، حتى جعلتها كالشي‌ء الذي يجب له الثّبوت و الحصول، و كالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. و ذلك أنه إذا كان أسدا، فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة، و كالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها. و إذا صرّحت بالتشبيه فقلت: «رأيت رجلا كالأسد»، و كنت قد أثبتها إثبات الشي‌ء يترجّح بين أن يكون و بين أن لا يكون، و لم يكن من حديث الوجوب في شي‌ء.

 

 

دلائل الاعجاز، چ 1، ص  291-293
و من أبين ما يدلّ على قلة نظرهم، أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه «الفصاحة»، أن «الاستعارة» عنوان ما يجعل به «اللفظ» فصيحا، و أن «المجاز» جملته، و «الإيجاز» من معظم ما يوجب للّفظ الفصاحة. و أنت تراهم يذكرون ذلك و يعتمدونه، ثم يذهب عنهم أن إيجابهم «الفصاحة» للفظ بهذه المعاني، اعتراف بصحّة ما نحن ندعوهم إلى القول به، من أنّه يكون فصيحا لمعناه.
أما «الاستعارة»، فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه، من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى «اللفظ»، و اللّفظ تبع، من حيث أنا لا نقول: «رأيت أسدا»، و نحن نعني رجلا، إلّا على أنّا ندّعي أنّا رأينا أسدا بالحقيقة، من حيث نجعله لا يتميّز عن الأسد في بأسه و بطشه و جرأة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا «الاستعارة» وصفا للّفظ من حيث هو لفظ، مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، كنت نقلت اسم «الأسد» إلى «الرجل»، أو جعلته هكذا غفلا ساذجا في معنى شجاع. أ فترى أن لفظ «الأسد» لما نقل عن السبع إلى «الرجل» المشبه به، أحدث هذا النقل في أجراس حروفه و مذاقتها وصفا صار بذلك الوصف فصيحا؟
ثم إن من «الاستعارة» قبيلا لا يصحّ أن يكون المستعار فيه «اللفظ» البتّة،
و لا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى. و ذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد: [من الكامل‌]
و غداة ريح قد كشفت و قرّة،
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها
ذاك أنه ليس هاهنا شي‌ء يزعم أنّ شبهه باليد، حتى يكون لفظ «اليد» مستعارا له، و كذلك ليس فيه شي‌ء يتوهّم أن يكون قد شبّهه بالزمام، و إنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، بالإنسان يكون زمام البعير في يده، فهو يصرّفه على إرادته، و لما أراد ذلك جعل للشّمال يدا، و على الغداة زماما.
و قد شرحت هذا قبل شرحا شافيا.
و ليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف «الفصاحة» للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. و المحاسن التي تظهر به، و الصّور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق و أعجب. و إن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره، فانظر إلى قوله: [من الرجز] سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى‌ و ذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ، و لا أراد ذلك في «الأكواس»، و لكن لما كان يقال: «سكر الكرى»، و «سكر النوم»، استعار للكرى «الأكواس»، كما استعار الآخر «الكاس» في قوله: [من البسيط] و قد سقى القوم كأس النّعسة السّهر ثمّ إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل، جعل الليل ساقيا، و لما جعله ساقيا جعل له كفّا، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ.
و من اللّطيف النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات، و هي للحكم بن قنبر: [من الطويل‌]
و لو لا اعتصامي بالمنى كلّما بدا
لي اليأس منها، لم يقم بالهوى صبري‌
و لو لا انتظاري كلّ يوم جدى غد،
لراح بنعشي الدّافنون إلى قبري‌
و قد رابني و هن المنى و انقباضها
و بسط جديد اليأس كفّيه في صدري‌
ليس المعنى على أنه استعار لفظ «الكفين» لشي‌ء، و لك على أنّه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، و تمكّن في صدره. لو ما أراد ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل بفضل القدرة على الشي‌ء. و بأنّه ممكّن منه، و أن يفعل فيه كلّ ما يريد، كقولهم: «قد بسط يديه في المال ينفقه و يصنع فيه ما يشاء»، و «قد بسط العمل يده في الناحية و في ظلم الناس»، فليس لك إلّا أن تقول: إنه لما أراد ذلك، جعل لليأس «كفّين»، و استعارهما له، فأمّا أن توقع الاستعارة فيه على «اللفظ»، فما لا تخفى استحالته على عاقل.
و القول في «المجاز» هو القول في «الاستعارة»، لأنه ليس هو بشي‌ء غيرها، و إنما الفرق أنّ «المجاز» أعمّ، من حيث أن كلّ استعارة مجاز، و ليس كلّ مجاز استعارة

 

 

************

سکاکی

مفتاح العلوم، تا ص 480

في الاستعارة هي: أن تذكر أحد طرفي التشبيه و تريد به الطرف الآخر، مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به، دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به، كما تقول:''في الحمام أسد‘‘و أنت تريد به الشجاع، مدّعيا أنه من جنس الأسود، فتثبت للشجاع ما يخص المشبه به، و هم اسم جنسه، مع سد طريق التشبيه بإفراده في الذكر، أو كما تقول:''إذا المنية أنشبت أظفارها‘‘  ، و أنت تريد بالمنية: السبع، بادعاء السبعية لها، و إنكار أن تكون شيئا غير سبع، فتثبت لها ما يخص المشبه به، و هو:الأظفار. و سمي هذا النوع من المجاز استعارة، لمكان التناسب بينه و بين معنى الاستعارة.
و ذلك أنا متى ادعينا في المشبه كونه داخلا في حقيقة المشبه به، فردا من أفرادها، برز فيما صادف من جانب المشبه به، سواء كان اسم جنسه و حقيقته، أو لازما من لوازمها، في معرض نفس المشبه به، نظرا إلى ظاهر الحال من الدعوى، فالشجاع، حال دعوى كونه فردا من أفراد حقيقة الأسد، يكتسي اسم الأسد اكتساء الهيكل المخصوص إياه، نظرا إلى الدعوى، و المنية، حال دعوى كونها داخلة في حقيقة السبع، إذا أثبت لها مخلب أو ناب، ظهرت مع ذلك ظهور نفس السبع معه في أنه كذلك ينبغي، و كذلك الصورة المتوهمة على شكل المخلب أو الناب، مع المنية المدعى أنها سبع، تبرز في [تسميتها]  باسم المخلب بروز الصورة المتحققة المسماة باسم المخلب من غير فرق، نظرا إلى الدعوى...
و أما عد هذا النوع لغويّا، فعلى أحد القولين، و هو المنصور، كما ستقف عليه، و كان شيخنا الحاتمي، تغمده اللّه برضوانه، أحد ناصريه، فإن لهم فيه قولين:
أحدهما: أنه لغوي، نظرا إلى استعمال الأسد في غير ما هو له عند التحقيق، فإنا، و إن ادعينا للشجاع الأسدية، فلا نتجاوز حديث الشجاعة حتى ندعي للرجل صورة الأسد، و هيئته و عبالة  عنقه، و مخالبه و أنيابه، و ما له من سائر ذلك من الصفات البادية لحواس الأبصار. و لئن كانت الشجاعة من أخص أوصاف الأسد و أمكنها، لكن اللغة لم تضع الاسم لها وحدها، بل لها في مثل تلك الجثة، و تلك الصورة و الهيئة، و هاتيك الأنياب و المخالب، إلى غير ذلك من الصور الخاصة في جوارحه، جمع.
و لو كانت وضعته لتلك الشجاعة التي تعرفها لكان صفة لا اسما، و لكان استعماله، فيمن كان على غاية قوة البطش و نهاية جراءة المقدم، من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه، و لما ضرب بعرق في الاستعارة إذ ذاك البتة، و لانقلب المطلوب بنصب القرائن، و هو منع الكلمة عن حملها على ما هي موضوعة له، إلى إيجاب حملها على ما هي موضوعة له.
و ثانيهما: أنه ليس بلغويّ‌ بل عقليّ‌ نظرا إلى الدعوى، فإن كونه لغويّا يستدعي كون الكلمة مستعملة في غير ما هي موضوعة له، و يمتنع مع ادعاء الأسدية للرجل، و أنه داخل في جنس الأسود، فرد من أفراد حقيقة الأسد، و كذا مع ادعاء كون الصبيح الكامل الصباحة أنه شمس، و أنه قمر و ليس البتة شيئا غيرهما أن يكون إطلاق اسم الأسد على ذلك، عن اعتراف بأنه رجل، أو إطلاق اسم الشمس أو القمر على هذا عن اعتراف بأنه آدمي، لقدح ذلك في الدعوى. و قل لي: مع الاعتراف بأنه آدمي، غير شمس و غير قمر في الحقيقة، أن يكون موضع تعجب،
قوله :
قامت تظلّلني من الشمس...     نـفـس أعـزّ عليّ‌ من نفسي
قـامت تظللني، و من عجب...     شمس تظللني من الشمس
أو موضع نهي عن التعجب، قوله :
لا تعجبوا من بلى غلالته...     قد زرّ أزراره على القمر
و قوله :
ترى الثياب من الكتّان يلمحها...     نـور مـن الـبـدر أحـيـانـا فيبليها
فـكيف تنكر أن تبلى معاجرها...     و البدر في كل وقت طالع فيها؟
و مع الإصرار على دعوى أنه أسد، و أنه شمس، و أنه قمر، يمتنع أن يقال: لما تستعمل الكلمة فيما هي موضوعة له، و مدار ترديد الإمام عبد القاهر، قدس اللّه روحه، لهذا النوع بين اللغوي تارة، و بين العقلي أخرى على هذين الوجهين، جزاه اللّه أفضل الجزاء، فهو الذي لا يزال ينور القلوب في مستودعات لطائف نظره، لا يألو تعليما، و إرشادا، لكنك إذا وقفت على وجه التوفيق بين إصرار المستعير على ادعائه الأسدية للرجل، و بين نصبه في ضمن الكلام قرينة دالة على أنه ليس الهيكل المخصوص، مصدقة عنده، كشف لك الغطاء.
اعلم أن وجه التوفيق هو أن تبنى دعوى الأسدية للرجل على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل: متعارف، و هو الذي له غاية جرأة المقدم، و نهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة؛ و غير متعارف: و هو الذي له تلك الجراءة و تلك القوة، لا مع تلك الصورة، بل مع صورة أخرى، على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء، في عد نفسه و جماعته من جنس الجن، و عد جماله من جنس الطير، حين قال:

نحن قوم [ملجن]  في زي ناس...     فوق طير لها شخوص الجمال
مستشهدا لدعواك هاتيك بالمحيلات العرفية، و التأويلات المناسبة، من نحو حكمهم إذا رأوا أسدا هرب عن ذئب''أنه ليس بأسد‘‘، و إذا رأوا إنسانا لا يقاومه أحد''أنه ليس بإنسان‘‘، و إنما هو أسد، أو هو أسد في صورة إنسان، و أن تخصص تصديق القرينة بنفيها المتعارف الذي يسبق إلى الفهم، ليتعين ما أنت تستعمل الأسد فيه، و من البناء على هذا التنويع قوله :
تحيّة بينهم ضرب وجيع
و قولهم:''عتابك السيف‘‘و قوله عز و علا: يَوْمَ‌ لا يَنْفَعُ‌ مالٌ‌ وَ لا بَنُونَ‌ إِلاّ مَنْ‌ أَتَى اللّهَ‌ بِقَلْبٍ‌ سَلِيمٍ‌ . على ما ستسمع هذه الآية في فصل المستثنى منه، إن شاء اللّه، و منه قوله :
و بلدة ليس بها أنيس...     إلاّ اليعافير و إلاّ العيس
و الاستعارة، لبناء الدعوى فيها على التأويل، تفارق الدعوى الباطلة، فإن صاحبها يتبرأ عن التأويل، و تفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إجراء الكلام على ظاهره، فإن الكذاب لا ينصب دليلا على خلاف زعمه، و أنى ينصب و هو لترويج ما يقول راكب كل صعب و ذلول

 

 

تفتازانی 

مختصر المعاني (تفتازاني) ؛ ص223
(و قيل انها) اى الاستعارة (مجاز عقلى بمعنى ان التصرف فى امر عقلى لا لغوى لانها لما لم تطلق على المشبه الا بعد ادعاء دخوله) اى دخول المشبه (فى جنس المشبه به) بان جعل الرجل الشجاع فردا من افراد الاسد (كان استعمالها) اى الاستعارة فى المشبه استعمالا (فيما وضعت له) و انما قلنا انها لم تطلق على المشبه الا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به لانها لو لم تكن كذلك لما كانت استعارة لان مجرد نقل الاسم لو كانت استعارة لكانت الاعلام المنقولة استعارة و لما كانت الاستعارة ابلغ من الحقيقة اذ لا مبالغة فى اطلاق الاسم المجرد عاريا من معناه.
و لما صح ان يقال لمن قال رأيت اسدا و اراد به زيدا انه جعله اسدا كما لا يقال لمن سمى ولده اسدا انه جعله اسدا اذ لا يقال جعله اميرا الا و قد اثبت فيه صفة الامارة و اذا كان نقل اسم المشبه به الى المشبه تبعا لنقل معناه اليه بمعنى انه اثبت له معنى الاسد الحقيقى ادعاء ثم اطلق عليه اسم الاسد كان الاسد مستعملا فيما وضع له فلا يكون مجازا لغويا بل عقليا بمعنى ان العقل جعل الرجل الشجاع من جنس الاسد و جعل ما ليس فى الواقع واقعا مجاز عقلى.
(و لهذا) اى و لان اطلاق اسم المشبه به على المشبه انما يكون بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به (صح التعجب فى قوله قامت تظللنى) اى توقع الظلّ على.
(من الشمس نفس اعزّ على من نفسى، قامت تظللنى و من عجب، شمس) اى غلام كالشمس فى الحسن و البهاء (تظللنى من الشمس) فلو لا انه ادعى لذلك الغلام معنى الشمس الحقيقى و جعله شمسا على الحقيقة لما كان لهذا التعجب معنى اذ لا تعجب فى ان يظلل انسان حسن الوجه انسانا آخر (و النهى عنه) اى و لهذا صح النهى عن التعجب فى قوله (لا تعجبوا من بلى غلالته) هى شعار يلبس تحت الثوب و تحت الدرع ايضا.

 

مختصر المعاني (تفتازاني)، ص: 224
(قد زرّ ازراره على القمر) تقول زررت القميص عليه ازرّه اذا شددت ازراره عليه فلو لا انه جعله قمرا حقيقيا لما كان للنهى عن التعجب معنى لان الكتان انما يسرع اليه البلى بسبب ملابسة القمر الحقيقى لا بملابسة انسان كالقمر فى الحسن لا يقال القمر فى البيت ليس باستعارة لان المشبه مذكور و هو الضمير فى غلالته و ازراره لانا نقول لا نسلم ان الذكر على هذا الوجه ينافى الاستعارة المذكورة كما فى قولنا سيف زيد فى يد اسد فان تعريف الاستعارة صادق على ذلك (ورد) هذا الدليل (بان الادعاء) اى ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به (لا يقتضى كونها) اى الاستعارة (مستعملة فيما وضعت له) للعلم الضرورى بان اسدا فى قولنا رأيت اسدا يرمى مستعمل فى الرجل الشجاع و الموضوع له هو السبع المخصوص.
و تحقيق ذلك ان ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به مبنى على انه جعل افراد الاسد بطريق التاويل قسمين: احدهما المتعارف و هو الذى له غاية الجرأة و نهاية القوة فى مثل تلك الجثة المخصوصة و الثانى غير المتعارف و هو الذى له تلك الجرأة لكن لا فى تلك الجثة المخصوصة.
و الهيكل المخصوص و لفظ الاسد انما هو موضوع للمتعارف فاستعماله فى غير المتعارف استعمال فى غير ما وضع له و القرينة مانعة عن ارادة المعنى المتعارف ليتعين المعنى الغير المتعارف.
و بهذا يندفع ما يقال ان الاصرار على دعوى الاسديّة لرجل الشجاع ينافى نصب القرينة المانعة عن ارادة السبع المخصوص.

 

كتاب المطول و بهامشه حاشية السيد ميرشريف ؛ ص360
(و دليل انها) اى الاستعارة (مجاز لغوى كونها موضوعة للمشبه به لا للمشبه و لا لاعم منهما) اختلفوا فى ان الاستعارة مجاز لغوى ام عقلى فذهب الجمهور الى انه مجاز لغوى بمعنى انها لفظ استعمل فى غير ما وضع له لعلاقة المشابهة و الدليل على ذلك ان الاستعارة
كتاب المطول و بهامشه حاشية السيد ميرشريف، ص: 361
كأسد مثلا فى قولك رأيت اسدا يرمى موضوعة للمشبه به اعنى السبع المخصوص لا للمشبه اعنى الرجل الشجاع و لا لامر اعم من المشبه به و المشبه كالشجاع مثلا ليكون اطلاقه على كل منهما حقيقة كاطلاق الحيوان عليهما و هذا معلوم قطعا بالنقل عن ائمة اللغة فحينئذ يكون استعماله فى المشبه استعمالا فى غير ما وضع له مع قرينة مانعة عن ارادة الموضوع له اعنى المشبه به فيكون مجازا لغويا و هذا الكلام صريح فى انه اذا اطلق لفظ العام على الخاص لا باعتبار خصوصه بل باعتبار عمومه فهو ليس من المجاز فى شى‏ء كما اذا رأيت زيدا فقلت رأيت انسانا او رأيت رجلا فلفظ انسان او رجل لم يستعمل الا فيما وضع له لكنه قد وقع فى الخارج على زيد و كذا اذا قال قائل اكرمت زيدا و اطعمته و كسوته فقلت نعم ما فعلت لم يكن لفظ فعلت مجازا و كذا فى قولنا الانسان حيوان ناطق فليتأمل فان هذا بحث يشتبه على كثير من المحصلين حتى يتوهمون انه مجاز باعتبار ذكر العام و ارادة الخاص و يعترضون ايضا بانه لا دلالة للعام على الخاص بوجه من الوجوه و منشأه عدم التفرقة بين ما يقصد باللفظ من الاطلاق و الاستعمال و بين ما يقع عليه باعتبار الخارج و قد سبق فى بحث التعريف باللام اشارة الى تحقيقه (و قيل) انها (مجاز عقلى بمعنى ان التصرف فى امر عقلى لا لغوى لانها لما لم تطلق على المشبه الا بعد ادعاء دخوله) اى دخول المشبه (فى جنس المشبه به) بان جعل الرجل الشجاع فردا من افراد الاسد (كان) جواب لما (استعمالها) اى استعمال الاستعارة فى المشبه كاستعمال الاسد فى الرجل الشجاع مثلا استعمال (فيما وضعت له) و انما قلنا انها لم تطلق على المشبه الا بعد الادعاء المذكور لانها لو لم يكن كذلك لما كانت استعارة لان مجرد نقل الاسم لو كان استعارة لكان الاعلام المنقولة كيزيد و يشكر استعارة و لما كان الاستعارة ابلغ من الحقيقة اذ لا مبالغة فى اطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه و لما صح ان يقال لمن قال رأيت اسدا و اراد زيدا انه جعله اسدا كما لا يقال لمن سمى ولده اسدا انه جعله اسدا لان جعل اذا كان متعديا الى مفعولين كان بمعنى صير و يفيد اثبات صفة لشى‏ء حتى لا تقول جعلته اميرا الا اذا اثبت له صفة الامارة و اذا كان نقل اسم المشبه به الى المشبه تبعا لنقل معناه اليه بمعنى انه اثبت له معنى الاسد الحقيقى ادعاء ثم اطلق عليه اسم الاسد كان الاسد مستعملا فيما وضع له فلا يكون مجازا لغويا بل عقليا بمعنى ان العقل تصرف فيه و جعل الرجل الشجاع من جنس الاسد و جعل ما ليس فى الواقع واقعا مجاز عقلى (و لهذا) اى و لان اطلاق اسم المشبه به على المشبه‏
كتاب المطول و بهامشه حاشية السيد ميرشريف،
انما يكون بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به (صح التعجب فى قوله) اى قول ابى الفضل بن العميد فى غلام قام على رأسه يظلله‏
(قامت تظللنى) اى توقع الظل على (من الشمس‏        نفس اعز على من نفسى‏
        و يروى فاقول يا عجبا و من عجب‏
(شمس*) اى انسان كالشمس فى الحسن و البهاء (تظللنى من الشمس) فلو لا انه ادعى له معنى الشمس الحقيقى و جعله شمسا على الحقيقة لما كان لهذا التعجب معنى اذ لا تعجب فى ان يظلل انسان حسن الوجه انسانا آخر (و النهى عنه) اى و لهذا صح النهى عن التعجب (فى قوله‏
لا تعجبوا من بلى غلالته)
و هى شعار يلبس تحت الثوب و تحت الدرع ايضا
(قد زر ازراره على القمر)
تقول زررت القميص عليه ازره اذا شددت ازراره عليه فلو لا انه جعله قمرا حقيقيا لما كان للنهى عن التعجب معنى لان الكتان انما يسرع اليه البلى بسبب ملابسة القمر الحقيقى لا بسبب ملابسة انسان كالقمر فى الحسن (و رد بان الادعاء) اى رد هذا الدليل بان ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به (لا يقتضى كونها) اى كون الاستعارة (مستعملة فيما وضعت له) للعلم الضرورى بانها مستعملة فى الرجل الشجاع مثلا و الموضوع له هو السبع المخصوص و تحقيق ذلك ان دخوله فى جنس المشبه به مبنى على انه جعل افراد الاسد بطريق التأويل على قسمين احدهما المتعارف و هو الذى له غاية الجرءة و نهاية القوة فى مثل تلك الجنة و هاتيك الصورة و الهيئة و تلك الانياب و المخالب الى غير ذلك و الثانى غير المتعارف و هو الذى له تلك الجرءة و تلك القوة لكن لا فى تلك الجثة و الهيكل المخصوص و لفظ الاسد انما هو موضوع للمتعارف فاستعماله فى غير المتعارف استعمال فى غير ما وضع له و القرينة مانعة عن ارادة المعنى المتعارف ليتعين المعنى الغير المتعارف و بهذا يندفع ما يقال ان الاصرار على دعوى الاسدية للرجل الشجاع ينافى نصب القرينة المانعة عن ارادة السبع المخصوص (و اما التعجب و النهى عنه) فى البيتين المذكورين و غيرهما (فللبناء على تناسى التشبيه قضاء لحق المبالغة) و دلالة على ان المشبه بحيث لا يتميز عن المشبه به اصلا حتى ان كل ما يترتب على المشبه به من التعجب و النهى عنه يترتب على المشبه ايضا

 




********

شیخ محمد رضا اصفهانی

 (القول في مباحث الحقيقة و المجاز)
لا يخفى أن من أهم ما يترتب على ما حققناه في مسألتي الوضع و الاستعمال معرفة حقيقة الذي يسمى بالمجاز، و لنقدم قبل بيانه خلاصة ما وصل إلينا من كلام محققي علماء الأصول و البيان، و نقول:
قالوا: إن اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة، و إن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة فهو مجاز، و إلا فهو غلط.
و المحققون من علماء البيان زادوا قسما آخر، و هو الكناية، و عرفوها بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته، فأخرجوها عن حد الحقيقة بكونها مستعملة في غير ما وضع له، و عن المجاز لاعتبارهم فيه القرينة المعاندة، و جعلها بعضهم من أقسام الحقيقة.
ثم اختلفوا في وضع المجازات على أقوال، فالجمهور- كما في الفصول- «على أنها موضوعة بالوضع التأويلي التعييني النوعي، و أن صحته متوقفة على نقل النوع، و خالف في ذلك شرذمة، فاعتبروا نقل الآحاد، و يلزمهم أن تكون المجازات التي أحدثها فصحاء المتأخرين و غيرهم غلطا، و هو غلط».
 «و ربما فصل بعض الأفاضل بين الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف و صيغ الأمر و النهي و بين غيرها، فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني» «1» انتهى.
و ربما يقال بأنه لا يحتاج المجاز إلى وضع آخر، بل هو موضوع بنفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي، فإذا وضع له اللفظ فقد وضع لجميع ما يناسبه، و توجد
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 24.


                        وقاية الأذهان، ص: 102
فيه العلاقة معه، فهو يشبه لوازم الماهيات التي لا تحتاج إلى جعل، بل لا يعقل جعلها، و إنما تجعل بجعل ملزوماتها.
و قد يقال بأن المجازات لم تنلها يد الوضع لا أصالة و لا تبعا، بل جواز إطلاق اللفظ على ما يناسبه طبعي، و هذا نظير ما عن بعضهم في مسألة استعمال اللفظ في نفسه.
و يظهر هذا الوجه من الفصول، مع زيادة قوله: «إنه مبني على المسامحة و التأويل في الوضع الأصلي» «1» و ستعرف البحث في معنى التأويل الواقع في كلامه، و في كلام المشهور.
و لبعض «2» المؤسسين في كتابه المسمى ب «تشريح الأصول» كلام مسهب في هذا المقام، و لا يخلو بظاهره عن اضطراب و تهافت.
و حاصل ما كان يذكره في مجلس الدرس: أنه رجوع عن عموم التعهد بالوضع الأول في استعمال خاص، و أنه لا فرق بين النقل و المجاز إلا أن الأول عدول كلي عن الوضع الأول، و الثاني في خصوص استعمال خاص لا في سائر الاستعمالات.
و منه يعلم أن وضع المجازات شخصي يقع بوقوع المجاز، و بيانه إنما هو بقرينة واحدة جامعة للمعاندية و المعينية، أو بقرينتين: إحداهما معاندة للحقيقة، و الأخرى معينة لإحدى المجازات.
و أثر التكلف ظاهر على هذه الوجوه، بل كثير منها مما يقطع بفساده، فلو حلف الإنسان بغموس «3» الإيمان على أن واضع اللغة لم يكن يعرف هذه العلائق حتى يضع لكل نوع منها وضعا جديدا لم يحنث، و لم تلزمه الكفارة، بل و لو حلف‏
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 25.
 (2) هو الشيخ على النهاوندي مؤسس أساس التعهد في الوضع. (مجد الدين).
 (3) هي اليمين الكاذبة الفاجرة. لسان العرب 6: 157 (غمس).
                       

وقاية الأذهان، ص: 103
على أنه لم يصدر منه وضع آخر لكان كذلك.
و ما ذهب إليه صاحب التشريح فيبعده، بل يشهد بفساده القطع بأن استعمال المجاز ليس بتعهد خاص شخصي، بل هو أمر مرتكز في ذهن السامع قبل سماعه هذا اللفظ، قد استعمله آباؤه من قبل كذلك.
و أمتن هذه الطرق ما تقدم عن صاحب الفصول، و لكن يتجه عليه أن دلالة الألفاظ ليست بذاتية، بل هي جعلية، و ليس الجعل إلا الوضع، فكيف يعقل أن تدل على معنى بدونه، و القرينة من شأنها نفي المعنى الموضوع له لا إثبات الوضع لغيره إلا أن يبتنى قوله: «مبني على المسامحة و التأويل» على المسامحة و التأويل، و يرجع إلى ما سنبينه لك إن شاء الله.
و لصعوبة إثبات الوضع للمجازات التزم جماعة بأن دلالتها ليست وضعية، فوقعوا في تكلفات هي أشد و أبين فسادا مما وقع فيها إخوانهم من قبل، كما لا يخفى على من راجع هداية- الجد- العلامة، و غيره من الكتب المبسوطة.
و لمعرفة حقيقة الحال في المجاز مسلك آخر- يطابقه الوجدان، و يعضده البرهان، و لا يعرض على ذهن مستقيم إلا قبله، و لا على طبع سقيم إلا رفضه «1»- و هو أن تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصلية، و مستعملها لم يحدث معنى جديدا، و لم يرجع عن تعهده الأول، بل أراد بها معانيها الأولية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع و الاستعمال أصلا.
بيانه: أن الطبع السليم يشهد بأن القائل: «إني قاتلت اليوم أسدا هصورا» «2» و «قابلت أمس قمرا منيرا» و هو لم يقاتل إلا رجلا شجاعا مشيحا، و لم‏
__________________________________________________
 (1) الرفض: الطرح. (مجد الدين).
 (2) أسد هصور: الأسد الشديد الذي يفترس و يكسر. الصحاح 2: 855، لسان العرب 5: 265 (هصر).
                       

وقاية الأذهان، ص: 104
يقابل إلا وجها صبيحا لا يريد إلا إلقاء المعنى الأصلي الموضوع له على السامع، و إفهامه إياه و إن لم يكن مطابقا للواقع، و لم يكن ذلك منه على سبيل الجد.
و قد عرفت سابقا أنه لا معنى للاستعمال إلا ما أريد إفهامه للسامع و إلقاؤه عليه، سواء كان صدقا أو كذبا، جدا أو هزلا، بأي داع سنح و غرض اتفق.
و لو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجب عن محبوبته إذا ظللته عن الشمس [1]، أو زارته آخر الشهر [2]، و لا لليأس من رجوع محبوبه [3]، و لا لتكذيب الناس إذا رجع [4]، و لا للمفاخرة مع قمر السماء بأن قمره معدل بلا تعديل، و أنه لا ممثل له و لا مثيل [5]، و لا للتعجب عن عدم ذهاب الدجى مع طلوع‏
__________________________________________________
 [1]
         قامت تظللني و من عجب             شمس تظللني من الشمس‏


أولها:
         قامت تظللني من الشمس             نفس أعز علي من نفسي‏


 (مجد الدين)
 [2]
         زارتك في ليل سرار و من             أبصر بدرا آخر الشهر


 [3]
         يؤيسني من لقائك قولهم             بأنه لا رجوع للقمر


 «1»

 [4]
         رجعت فأحييت الغري و أهله             و كذبت قول الناس لا يرجع البدر


 «2» إن الخمسة المتحيرة من السيارات السبعة لها رجوع إقامة و استقامة، و القمر لا رجوع له و لا إقامة، فقال: إن رجوع بدري دليل على كذب أهل الهيئة حيث قالوا: لا رجوع للقمر. (مجد الدين).
 [5]
         قل للسماء دعي الفخار فإن ذا             قمري بغير ممثل و مثيل‏
             قمر السماء معدل بثلاثة             و معدل قمري بلا تعديل‏


إن أهل الهيئة و الفلك احتاجوا في ضبط حركة القمر إلى ثلاثة تعديلات، و أثبتوا له أفلاكا كالحامل و الجوزهر «3»، فقال طاب ثراه: إن قمري خير من قمر السماء، لأنه معدل من غير احتياج إلى تعديلات ثلاثة و لا أفلاك متعددة. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) من أبيات صفي الدين الحلي. انظر ديوانه: 455.
 (2) للمصنف طاب ثراه. (مجد الدين) و راجع ديوانه: 86.
 (3) الحامل و الجوزهر من مصطلحات أهل الهيئة. انظر: مفاتيح العلوم: 220، و كشاف اصطلاحات الفنون 1: 356 و 407.
                       

وقاية الأذهان، ص: 105
الشمس على رمح [1]، إلى غير ذلك مما لو عددناه لأفضى بنا إلى الإسهاب، و الخروج عن موضوع الكتاب.
و لهذا إذا سمي الشجاع أسدا سمي صوته زئيرا، و ولده شبلا، و محله خيسا، أو الجميلة ظبية سمي صوتها بغاما، و ولدها خشفا، و دارها كناسا، بل لو خالف هذا النظام فقال:
 «رأيت أسدا يتبعه طفله» أو «ظبية تحمل طفلها» لكان أدون في الفصاحة بمراتب من قوله: «رأيت أسدا يتبعه شبله» أو «ظبية تحمل خشفها» بل ربما عد من مستبرد التعبير، و سمج الكلام إلا أن تجبره جهات أخرى، و لا وجه لجميع ذلك إلا أن المقصود منها المعاني الأصلية، و هذا ظاهر لدى الخبير بحقائق فن البيان و صناعة البديع، و كتابنا هذا موضوع في فن أصول الفقه لا في فنون البلاغة كي يتسع لنا المجال في سرد الشواهد و الأمثال، و لكني لم أملك عنان القلم و ما عليه جناح حتى أثبت قول ابن معتوق في محبوبته و قد روعها الصباح:
         و تنهدت جزعا فأثر كفها             في صدرها فنظرت ما لم انظر
             أقلام ياقوت كتبن بعنبر             بصحيفة البلور خمسة أسطر

نشدتك و الإنصاف إلا نظرت إلى قوله: و نظرت ما لم انظر، و تأملت في‏
__________________________________________________
 [1] لقائل:
         بدا وجهه من فوق أسمر قده             و قد لاح من ليل الذوائب في جنح‏
             فقلت عجيبا كيف لم يذهب الدجى             و قد طلعت شمس النهار على رمح‏


                        وقاية الأذهان، ص: 106
السبب الذي أوجب له العجب فهل ضرب المرأة الجميلة المختضبة صدرها ضربا يسود موضع الضرب منه، و هو أمر مبذول لعله أو غيره نظر إلى أمثاله كثيرة، أو هو حقيقة كتابة أقلام الياقوت خمسة أسطر بالعنبر على البلور، و أين موضع هذه البلاغة التي تأخذ بمجامع القلب، و هذه الملاحة التي تسحر اللب، فهل هو في مجرد وضع الأقلام موضع الأصابع، و لفظي العنبر و البلور موضعي السواد و بياض الصدر، أم في وضع معاني هذه الألفاظ في موضع معاني تلك؟
ثم إذا قرع سمعك قول الوأواء [1] الدمشقي في محبوبته لما جرت دموعها على خديها، و عضت أناملها حذر الفراق:
         فاستمطرت لؤلؤا من نرجس و سقت             وردا و عضت على العناب بالبرد

أي صورة تصورها هذه الألفاظ في مرآة ذهنك فتسكرك بلا راح، و تطربك بلا سماع، هل إمطار اللؤلؤ من النرجس، و سقي الورد، و عض العناب بالبرد، أم تلك الحالة المحزنة المشجية، أعني امرأة تبكي، و تعض أناملها؟
فإن كان الثاني و كان هذا حكم إنصافك، فقد أخطأت أنا و لم يحسن الوأواء، و إن كان الأول فقد أحسن نظما و أحسنت فهما، و أنت- أعزك الله- إذا أعطيت التأمل حقه فيما نبهناك عليه في هذا المثال، و جعلته أنموذجا لنظائره من صنوف الاستعمال علمت علما لا يشوبه شك، و لا يحوم حول حماه ريب، أن المجاز ليس وضع اللفظ محل اللفظ، بل هو وضع المعنى محل المعنى، و هذا هو الذي يورثه الملاحة، و يوجب لها المبالغة و إخوانها من نكات الصناعة، و إلا فالألفاظ متكافئة غالبا، و لفظ الخد ليس بغريب و لا بثقيل على اللسان و هو
__________________________________________________
 [1] الوأواء، بفتح الأول، و سكون الثاني، و فتح الثالث، و سكون الرابع، شاعر معروف من أهل دمشق. (مجد الدين).
                       

وقاية الأذهان، ص: 107
بمعناه أحق، و دلالته عليه أوضح، فلأمر ما عدل عنه إلى الورد؟ تأمل فيما قلناه، تجده واضحا إن شاء الله.
 (فصل)
و ليت شعري ما ذا يقول القائل بأن اللفظ مستعمل في غير معناه في مثل قوله: هو ملك بل ملك، و فلان شجاع بل أسد؟ و كيف يمكن أن يكون المراد من الملك- بالفتح- و الأسد، الملك- بالكسر- و الشجاع؟ و قد ذكرهما أولا و أضرب عنهما، و ما ذا يقول في الاستعمالات التي يصرح فيها بنفي المعنى الحقيقي، كقوله تعالى: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم «1» على أظهر الوجهين فيه، و كقولك: ليس هذا بوجه بل هو بدر، و ليس هذه كف بل هي بحر؟ و ما ذا يقول في مثل قولهم: يا أخا البدر، و يا أخت الشمس و نحوهما؟ كقوله:
         حكيت أخاك البدر عند تمامه             سنا و سناء مذ تشابهتما سنا

 [1] مما لا يمكن فيه تفسير شي‏ء من المضاف و لا المضاف إليه بغير معناه إلا بتكلف يمجه السمع، و ينبو عنه الطبع [2].
و في مثل قوله- من الوافر-:
         و في ديباجتيه فتيت مسك             يقال له بزعم الناس حال‏

و في مثل قوله- من البسيط-:
         يا من يريني المنايا و اسمها نظر             من السيوف المواضي و اسمها مقل‏

__________________________________________________
 [1] أي: أربعة عشر [على حساب الجمل‏] وجه المشابهة:
فلك أربع عشرة سنة، و للقمر أربع عشرة ليلة. (مجد الدين).
 [2] أي: يأباه السمع و لا يقبله الطبع. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) يوسف: 31.
                       

وقاية الأذهان، ص: 108
إلى غير ذلك من الموارد التي تنيف على الألوف بل على آلافها مما إذا أطاعهم التكلف في واحد منها عصاهم في عشرة، و إذا فتح لهم باب التأويل في عشرة أرتج عليهم الباب في الف، و قد سبقت أمثلة لذلك، منها:
         تبدت و مرآة السماء صقيلة             فأثر فيها وجهها صورة البدر

و إذا كان الشاعر يصح له إنكار البدر، و دعوى أن البازغ في السماء هو صورة محبوبته، فما ذا يمنعه من دعوى أن ذلك البدر هي بعينها، فينفي التعجب إذا زارته ليلا قائلا: و لا عجب فالبدر بالليل يطلع، و يتعجب إذا رأته نهارا قائلا:
و من عجب أن يطلع البدر نهارا.
فكأن القوم قصرت أنظارهم على مثل: أسد يرمي. و نحوه، و غفلوا عن هذه الأمثلة و أمثالها [1].
 (فصل)
و لعلك تقول: إن المجاز- على ما ذكرت- كذب، و تغفل من الفرق بين الإرادة الجدية و الاستعمالية.
و بيانه: أن الكذب الذي هو قبيح عقلا، و محظور شرعا هو الذي يكون الغرض منه إلقاء السامع في خلاف الواقع، و إغراءه بالجهل، و تصديقه بمعنى اللفظ، و تكون إرادته الجدية الواقعية مطابقة لإرادته الاستعمالية.
و أما في المجاز فليس الغرض من إلقاء المعنى إلى السامع إلا مجرد تصوره له من غير أن يريد تصديقه و اعتقاده به، و لهذا يأتي بالقرينة التي سموها ب
__________________________________________________
 [1] لهذا البحث تتمة يلاحظ الملحق بالرسالة. (منه طاب ثراه).
و الظاهر أنها سقطت من الملحق فلم نعثر عليه.
                       

وقاية الأذهان، ص: 109
 (المعاندة) لزعمهم أنها تعاند الحقيقة، و في الحقيقة هي تعاند الإرادة الجدية، فهو يأتي بها، لأنه لا غرض له إلا بنفس الاستعمال و تصوره لمعناه، و يتعمد الكاذب تركها لأنه يريد تصديق المخاطب به لغرض له هناك وراء تصور السامع و صرف الاستعمال، فالمجاز إلى الكذب ما هو و ليس به، و ليس هذا ببدع في المجاز و لا بأمر تختص به، بل سبيله سبيل أشباهه من نكات الصناعة و تفننات البلغاء كالمراجعة [1] فكم تقول: قال لي الدهر كذا، فقلت له كيت و كيت، و لم يجز بينكما حديث قط.
و كالتجريد فإنك تجرد من نفسك شخصا تخاطبه و يخاطبك، و تنقل المفاوضة بينكما و لا واقع لها أصلا، و إنما يتضح الحال بالإكثار من الشاهد و المثال، و به تخرج عن موضوع الكتاب، و لا يسعه المجال، و يغنيك عنه تتبع ما للبلغاء من المنظوم و المنثور.
قال أحد شعراء اليتيمة:
         أ رأيت ما قد قال لي بدر الدجى             لما رأى طرفي يطيل هجودا
             حتام ترمقني بطرف ساهر             أقصر فلست حبيبك المفقودا

 «1» متى وقع هذا الخطاب، و بأي لغة كان الجواب، فهل تسمح نفسك أن تسمي هذا القائل كاذبا و الكاذب ممقوت، و قد أحسن هذا و أجاد، أو تعتقد صدقه فتكون بمراحل عما أراد؟
و بالجملة، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد
__________________________________________________
 [1] و كقول الشاعر:
         و قلت لبدر التم تعرف ذا الفتى             فقال نعم هذا أخي و شقيقي‏


 (مجد الدين)
__________________________________________________
 (1) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي، راجع يتيمة الدهر 4: 308.
                       

وقاية الأذهان، ص: 110
حاول صعبا، بل رام ممتنعا، فحال المجاز حال غيره من مذاهب البلغاء، و يشبه من هذه الجهة ما يتكلم به على سبيل المزاح و المجون «1»، و لهذا قال الفقهاء:
إن المبالغة ليست بكذب كغيرها من هزل الكلام و مجونه.
 (فصل)
و مما ذكرنا في المجاز يتضح الحال في الكناية، و يستغنى به عن تلك التكلفات و التطويلات المملة المذكورة في كتب الأصول و البيان، و أن الحال فيها كالحال في المجاز بعينه، و الألفاظ فيها مستعملة في معانيها الحقيقة بالإرادة الاستعمالية، و الغرض الذي يعبر عنه بالإرادة الجدية هو الملزوم.
و من الغريب ما ذكروه في الفرق بينها و بين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه و عدمها فيها مع أن الحال فيهما واحد، لأن السامع إن كان عالما بالغرض الأصلي، و عدم مطابقته مع الاستعمال فهو يستغني عن القرينة فيهما معا، و إلا فهي لازمة في الكناية لزومها في المجاز بعينه، فمن قال: «زيد طويل النجاد» [1] كناية، و كان السامع بليدا يزعم أنه يريد الإخبار عن طول النجاد «2» فلا بد أن ينصب له قرينة تدله على أن المراد طول قامته، و أنه لم يشتمل سيفا طول عمره، و لم يصاحب عاتقه نجاد قط.
و من هذا يظهر خطأ من جعل الكناية قسيما للحقيقة و المجاز، و ثلثهما بها،
__________________________________________________
 [1] من ألفاظ المدح عند العرب، قولهم: فلان طويل النجاد، أو كثير الرماد، كناية عن طول القامة، و كثرة الضيافة. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) مجن مجونا فهو ماجن: من لا يبالي قولا و لا فعلا. القاموس المحيط 4: 270، مجمع البحرين 6: 314 (مجن).
 (2) نجاد: حمائل السيف. القاموس المحيط 1: 340، الصحاح 2: 543 (نجد).
                        وقاية الأذهان، ص: 111
و قال في تعريفها: إنها استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادته منها «1».
 (فصل)
و هذا الذي قررناه في المجاز غير الذي ذهب إليه السكاكي في الاستعارة من الحقيقة الادعائية لأن ما ذكرناه يعم مطلق المجاز مرسلا كان أم استعارة، و السكاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة، و لم يظهر لي إلى الآن وجه للفرق يدعو مثل هذا الأستاذ إلى التفصيل، فقولك في مريض- يئس من برئه الأطباء، و انقطع من شفائه الرجاء-: هذا ميت، كقولك ذلك فيمن لا يرجى نفعه و لا يخشى ضره، و قولك في متاع نفيس ينفق في السوق: هذا ذهب، كقولك ذلك فيما يشبه الذهب بعينه.
و ببالي أن بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز، و إنما خص الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه و أهمها، فليراجعه من شاء.
و من البعيد من مثله أن يفرق بينهما من غير فارق أصلا، إذ الادعاء الذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز، و أي فرق في إمكان ادعاء فرد آخر للميت و الذهب- في المثالين المتقدمين- إذا كان بعلاقة الأول، أو بعلاقة التشبيه.
و عمدة الفرق بين المقالتين هي أن السكاكي يبني مذهبه على أن التصرف في أمر عقلي، و أن المستعير يدعي أن للمشبه به فردا آخر و هو المستعار له، و يجعل مقالته غرضا لسهام الانتقاد و الاعتراض عليه، بأن اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادعائي فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي، و ما ذكرناه لا يبنى‏
__________________________________________________
 (1) انظر الفصول الغروية: 28.
                       

وقاية الأذهان، ص: 112
على الادعاء بهذا المعنى أصلا، و لهذا تأتي الاستعارة في غير الكليات كالأعلام الشخصية، فنقول- في ولد زيد إذا كان يشبهه-: هذا زيد، و في الجواد: هذا حاتم، مريدا به الطائي المعروف، من غير تخصيص له بما فيه نوع وصفية كالمثال الثاني، و لا حاجة إلى ما تكلفه التفتازاني بقوله: «إن المستعير يتأول في وضع اللفظ، و يجعل حاتم كأنه موضوع للجواد، و بهذا التأويل يتناول الرجل المعروف من قبيلة طي و الفرد الغير المتعارف و هو الرجل الجواد» «1».
و حسبك شاهدا على فساد هذا التكلف، و على صحة ما قلناه وجدانك عند الاستعمال، فإنك تريد به مبالغة أن هذا الجواد هو ذاك الطائي بعينه.
رجع إلى انتقاد مذهب السكاكي.
و كيف يكون المراد من الاستعارة ادعاء فرد آخر من جنس المشبه به!؟
و كثيرا ما ترى في مليح الكلام ترتيب آثار الفرد المتعارف عليها، كقول من بات محبوبه عنده، و زعم أن الليل فقد بدره، و بات ينشده:
أما دري الليل أن البدر في عضدي ................ ......
و أمثال هذا الاستعمال شائع جدا كما تقول في موت عالم: كيف لا تظلم الدنيا و قد فقدت الشمس أو انخسف البدر، و نحو ذلك.
و من الغريب أنه هدم مبناه، و التزم بالمجاز اللفظي في نحو «و إذا المنية أنشبت أظفارها» «2» و غيره مما يسميه البيانيون الاستعارة بالكناية، و من حقها- على أصولهم- أن تسمى التشبيه بالكناية لأن شرط الاستعارة عندهم أن يطوي ذكر المشبه بالكلية، و هنا عكس الأمر فحذف المشبه به و اكتفي عن أداة التشبيه‏
__________________________________________________
 (1) شرح التفتازاني على التلخيص (المطول): 363، (و المختصر): 2: 74، و حكاه في الفصول الغروية: 26.
 (2) حكاه في الفصول الغروية: 27.
                       

وقاية الأذهان، ص: 113
بلازم التشبيه، و مع ذلك فللسكاكي الفضل و لا نبخسه حقه و لا ننكر سبقه، فله حسن الاختراع، و لنا حسن الاتباع.
و لعمري أن علماء البيان لم ينصفوا السكاكي في هذا المقام حيث أنكروا عليه هذا الادعاء، ثم جعلوه محورا يدور عليه معظم أحكامهم في بحث الاستعارة، فمنعوها في الأعلام معللين ذلك بأنها تقتضي إدخال المشبه في جنس المشبه به، و لا يمكن ذلك في العلم لمنافاته الجنسية.
و ربما قالوا بمقالته بعينها مع تغيير اللفظ كقولهم: إن الاستعارة يفارق الكذب بأنها مبنية على التأويل بدعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، و لا معنى لهذا التأويل إلا أن يؤول إلى ذلك.
و ربما صرحوا به بلفظه كقولهم: و الشرط في حسن الاستعارة أن لا يشم رائحة التشبيه لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع الماهر، و لا تنس قولهم: إن الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه، و تأمل في معنى التناسي أولا، ثم في السبب الداعي إليه، إلا أن يقال: إن المحققين منهم لم ينكروا الادعاء الذي يدعيه، و إنما أنكروا عليه خروجه بذلك عن المجازية.
 (فصل) و لا نكترث بأن تسمي ما ذكرناه إنكارا للمجاز أصلا، و لا نتحاشى عنه بعد ما ذهب إليه الأسفرائيني من المتقدمين و إمام العربية غير مدافع عنه و لا مختلف فيه أعني الشيخ أبا علي الفارسي [1]، و لكن ينبغي أن تعلم أنه كما يصح‏
__________________________________________________
 [1] هو الفاضل الأقدم، و الإمام الأعظم حسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان المكنى ب (أبي علي) المشتهر بهذه الكنية: الفارسي، النحوي الشيعي المشهور، المتولد سنة 288، المتوفى سنة 377، و كان عمره 89 سنة. (مجد الدين).
                       

وقاية الأذهان، ص: 114
على مذهبنا ذلك يصح معه أيضا قول تلميذه ابن جني، و هو أن أكثر لغة العرب مجازات، و أنه لا اختلاف بين هذين الإمامين، و لا تناقض بين القولين، و لا أظنك تحتاج إلى مزيد بيان إن كنت أتقنت ما أسلفنا فهما و أحطت به علما.
بل يحق لك العجب من قوم تعجبوا من الأسفرائيني، و حاولوا تأويل كلامه بما لا يرضى به كما في إشارات الأصول «1»، و من ابن الدهان حيث قال بعد ما نقل عن أبي علي هذا القول، ما حاصله: «إن العجب كل العجب من هذا الإمام كيف أذهب بهاء لغة العرب و رونقها لأنهما قائمان بالمجاز، و شتان بين قوله و قول تلميذه ابن جني» انتهى.
و كان الأجدر به أن يتعجب من نفسه حيث ترك تعاطي صنعة أبيه، و كانت هي اللائقة به، و تكلف العلم و رأس ماله هذا الفهم، و كيف يرضى المنصف بأن يكون ابن من يبيع الدهن اهتدى إلى الواضح البديهي، و هو أن العرب تدعو الخد بالورد و تعبر بالغصن عن القد، و خفي ذلك على مثل هذا الأستاذ!؟
و لقد وقعت فيما وقع فيه الشيخ أبو علي، و ذلك أني لما ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة (1316) لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم و مجالس البحث فتلقته الأذهان بالحكم بالفساد، و تناولته الألسن بالاستبعاد.
و عهدي بصاحبي الصفي و صديقي الوفي وحيد عصره في دقة الفهم و استقامة السليقة و حسن الطريقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني «2»- رحم الله شبابه، و أجزل ثوابه- سمع بعض الكلام علي فأدركته شفقة الأخوة، و أخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد هزيع «3» من الليل و كنت‏
__________________________________________________
 (1) إشارات الأصول ج 1 ورقة 9- 10.
 (2) أي: الكلبايكاني، انظر الذريعة- للعلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني- 16: 234- 922.
 (3) معنى هزيع من الليل أي: طائفة، و هو نحو من ثلثه أو ربعه. الصحاح 3: 1306 (هزع).
                       

وقاية الأذهان، ص: 115
على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب و هو واقف بعد على الباب، و قال: «ما هذا الذي ينقل عنك و يعزى إليك؟» فقلت: «نعم و قد أصبت الواقع و صدق الناقل» فقال: «إذا قلت في شجاع إنه أسد فهل له ذنب؟» فقلت له مداعبا: «تقوله في مقام المدح و لا خير في أسد أبتر» ثم صعد إلي، و بعد ما أسمعني أمض «1» الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام، فقبله طبعه السليم و ذهنه المستقيم، فقال: «هذا حق لا معدل عنه و لا شك فيه» ثم كتب في ذلك رسالة سماها (فصل القضاء في الانتصار للرضا) و من ذلك اشتهر القول به، و قبلته الأذهان الصافية، و رفضته الأفهام السقيمة.
         و من يك ذا فم مر مريض             يجد مر به العذب الزلالا

 «2» و أنت إذا تصفحت كتب المحققين كالفصول و هداية المسترشدين وجدت هذا المعنى مرتكزا في أذهانهم، و لكن تقريره بواضح البيان و إثباته بقائم الحجة و البرهان كان مدخرا لنا في حقيبة «3» الزمان.
 (فصل) و كأني بك و قد زعمت أني قد أطنبت فمللت، و لم تدر أني قد سهلت لك الوعر «4»، و أوضحت لك الطريق، و أرحتك عن تلك التطويلات المملة التي ذكروها في تعداد العلائق المجوزة لاستعمال المجاز، و ما تجده في المفصلات من علائمها و علائم الحقيقة، و عن الدور و الجواب عنه بالإجمال و التفصيل، و عن البحث في موارد كل من قاعدتي أصالة الحقيقة، و أن الاستعمال أعم من الحقيقة
__________________________________________________
 (1) المض: الحرقة. لسان العرب 7: 233.
 (2) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي. (ديوان المتنبي 3: 228) و فيه: الماء، بدل العذب.
 (3) بالفارسية: خورجين. (مجد الدين).
 (4) الوعر: ضد السهل. القاموس المحيط 2: 154 (وعر).
                       

وقاية الأذهان، ص: 116
و المجاز إلى غير ذلك من المباحث الكثيرة المبتنية على ثبوت المجاز بالمعنى المعروف.
و أما علائق المجاز فإنما يهم أمرها من يزعم أنه استعمال في غير ما وضعه الواضع، فيطلب مواضع الرخصة، أو يلتمس عذرا عن مخالفته، و مندوحة عن الاحتياج إلى وضعه.
و بما عرفناك ظهر أنه استعمال فيما وضعه الواضع، و مطابق للغرض الداعي إلى الوضع، و لا يحتاج فيه إلا إلى نكتة محسنة للاستعمال، و بدونها لا يكون غلطا بل قبيحا إذا لم يكن عن جهل أو خطأ، و النكات المحسنة لا حصر لها، و الموارد تختلف اختلافا شديدا، هذه علاقة التشبيه و هي من أشهرها و أحسنها، ترى الاستعارة بها حسنة في مورد خشنة في آخر، يقبلها الطبع تارة، و ينبو عنها أخرى، و ربما لا تكون علاقة أصلا أو كانت و لم تكن كافية، فبالاستعمال و التكرار تقوى العلاقة و يزاح الاستهجان، حتى أن عمي العلامة- أعلى الله مقامه- عد من العلائق علاقة الاستعمال، و قال: «لم أقف على من تنبه له» «1» فراجع كلامه إن شئت، تجده قد أحسن فيه ما شاء.
و كثيرا ما كنت أقول لإخواني الأدباء من أهل العراق: إن أقل ما يجب على من اخترع استعارة هذين الحيوانين القبيحين- أعني العقرب و الحية- للأصداغ و الشعور ألف سوط، و لكنهما الآن كأنهما من الأصول الموضوعة في الصناعة و من أحسن التشبيه، و ربما لم تكن بين المعنيين علاقة أصلا، فيحسن الاستعمال وقوع لفظ آخر قبله أو بعده كما في علاقة المشاكلة، و قد يعبر عنها بعلاقة المجاورة، و هذه العلاقة مما أعيا علماء البيان و الأصول أمرها، و أكثروا من الكلام عليها.
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 25.
                       

وقاية الأذهان، ص: 117
و لا يخفى على الخبير بأن مجرد المجاورة لا يحسن الاستعمال، بل لا بد من انضمام خصوصيات إليها، و شرحها لا يناسب المقام، و ربما يحسنه مجرد الاشتراك اللفظي كما في قوله- و قد أخذته حمى النوبة-: «و هل يبقى الأمير بغير نوبة» و النوبة بمعناها الآخر هي الطبول التي تضرب للأمراء في أوقات معينة من الليل و النهار، و هذا قسم من نكات البديع، بديع في بابه، فائق على أترابه، و هو من النكات العشر التي استخرجتها و سميتها: (المغالطة اللفظية) و المتأخرون من علماء البديع ذكروا جملة من أمثلتها في صناعة التورية و هي بمعزل عنها، و لها شواهد مليحة، و لا يناسب المقام ذكرها، و لكن لا أملك عنان القلم عن رسم قول القائل [1]- في بحر المجتث-:
         يا بدر أهلك جاروا             و علموك التجري‏
             و حرموا لك وصلي             و حللوا لك هجري‏
             فليفعلوا ما يشاءوا             فإنهم أهل بدر

و قد أحسن ما شاء و أجاد في الصنعة، ألا تراه استعار البدر لمحبوبه أولا، و جعل أهله أهل بدر، ثم بالمغالطة اللفظية نزل عليهم المنقول من قوله صلى الله عليه و آله: (يا أهل بدر افعلوا ما شئتم فقد غفر لكم) «1».
و ربما يحسن الاستعمال بغير هذه و تلك، ألا ترى أنه لو أراد أحد أن يقول‏
__________________________________________________
 [1] و نظيره قول سلطان المحققين خواجه نصير الملة و الدين:
         ما للقياس الذي ما زال مشتهرا             للمنطقيين في الشرطي تنديد
             أما رأوا وجه من أهوى و طرته             فالشمس طالعة و الليل موجود


فانظر أيها الأديب كيف اعترض على المنطقيين لقولهم: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، إذ لو كان المراد بالشمس الوجه، و بالليل الطرة فهل يكون ذلك اعتراضا عليهم كيف و هم لم يقصدوا في قولهم إلا الشمس الواقعية و النهار كذلك. (ابن المصنف مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) صحيح مسلم 4: 1941- 2494، كنز العمال 14: 69- 37957 و 37958 باختلاف يسير.
                       

وقاية الأذهان، ص: 118
شربت الماء فقال: شربت السماء، صح لك من باب التهكم و المزاح و التعريض و نحوها أن تقول مثل قوله، مع أنه لا مناسبة بين الماء و السماء أصلا، و لم يحسنه إلا عدم إحسان الذي قاله قبلك.
و فذلكة المقام: أن العلائق ليست بأمور قابلة للحصر، بل هي تختلف باختلاف المقامات و الخصوصيات، بل باختلاف اللغات و العادات اختلافا بينا، فمن حاول عدها فقد كلف نفسه شططا.
و بهذا يتفاخر الفصحاء، و تعرف منازل الشعراء، و منه تظهر قوة جنان الشاعر، و طول باعه، و قدرته على الصنعة، فاستعارة الغيث للسيف لا يقدم عليه إلا مثل المتنبي حيث يقول:
         و أترك الغيث في غمدي و أنتجع [1]


و أما علائم الحقيقة و المجاز، و أصالة الحقيقة فلا شك أن المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهن السامع إذا كان عارفا بالوضع ملتفتا إليه، و لا طريق إلى معرفة الوضع إلا بتنصيص الواضع أو أتباعه، أو معرفة ذلك من تتبع موارد الاستعمال.
ثم إن الأصل مطابقة الإرادة الجدية للاستعمالية لأن الألفاظ إنما وضعت لبيان المقاصد العقلائية الواقعية بلفظ مطابق لمعناه و إنما يعدل عنها لدواع أخر لا يصار إليها إلا بقرينة معاندة معها لأن في عدم نصبها إخلالا بالغرض من الوضع فلا بد لمن لم تكن له إرادة جدية كالمازح و الهازل، أو كانت و لم تكن مطابقة للاستعمال كالمكني أو المستعير و المبالغ من نصب القرينة، و إلا كان ناقضا لغرضه.
اللهم إلا أن يكون غرضه تغرير السامع و إفهامه خلاف الواقع أعني الكذب فمع القطع بعدم الاعتماد على القرينة يقطع بالمراد الواقعي، و مع الشك يبنى على عدمها كما في نظائرها.
__________________________________________________
 [1] صدر البيت هكذا:
         أ أطرح المجد عن كتفي و أطلبه             .......... .......


ديوان المتنبي بشرح العكبري 2: 222.
                       

وقاية الأذهان، ص: 119
و ستعلم في محله- إن شاء الله- أن أصل العدم من الأصول الفطرية المعتمدة عليها عند العقلاء في أمثال هذا المورد، و هذا هو الوجه في أصالة الحقيقة، و قد أغرب بعض أساتيذنا، فجعل الوجه فيه الوجوب التعبدي من المولى في بيان طويل لا يناسب المقام نقله.
و إن كان لا بد من تصور المجاز بالمعنى المشهور، و تكلف الوضع له فأحسن القول فيه أن يقال: إن اللفظ متى حصلت له خصوصية مع معنى من المعاني بواسطة الوضع، فلازم ذلك حصولها لما يشابهه بل لمطلق ما يناسبه على ما هو المطرد في سائر الخصوصيات الحاصلة بين الأشياء، فالدار إذا صارت لزيد و حصلت علاقة الملكية بينها و بينه فلا بد من حصول مرتبة منها بين أولاد زيد و إخوته- مثلا- معها، و على هذا فاللفظ الموضوع لمعنى لا بد لوجود مرتبة من الوضع لما يناسبه، و إذا منعت القرينة عن إرادة المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ تعين إرادة أقرب ما يناسبه.
اللهم هذا هو التكلف الذي يثقل على السمع، و ينبو عنه الطبع، و على علاته فهو خير من أكثر ما ذهب إليه، و اعتمد الأفاضل عليه، و يمكنك أن تجعله شرحا لمقال القائل بأن جواز المجاز بالطبع.
 (المجاز المركب)
و كما أثبتوا المجاز في المفرد أثبتوه في المركب أيضا، و حده- على ما في الفصول- «استعمال المركب أو المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، و إن كانت العلاقة مشابهة سميت استعارة تمثيلية كقولهم للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلا و تؤخر أخرى، فيصح فيه أن يلاحظ ما يلزم من تقدم رجل و تأخر أخرى عادة من التردد، و عدم ثبات الرأي، فتطلق عليه الألفاظ الموضوعة بإزاء ملزومه بعلاقة اللزوم فيكون مجازا مركبا، و أن يشبه حال إقبال المخاطب المتردد على الأمر تارة و إدباره أخرى بحالة من يتردد في سلوك طريق فيقدم رجلا
                       

وقاية الأذهان، ص: 120
و يؤخر أخرى بجامع التردد و عدم الثبات، و التداني إلى المقصود تارة و التباعد عنه أخرى فيكون استعارة تمثيلية» «1».
أقول: فعلى ما ذكره- طاب ثراه- لا يختص المجاز المركب بخصوص ما كانت العلاقة فيه المشابهة، بل يكون الحال فيه كما كان في المفرد، فكما أن المجاز في المفرد مقسوم إلى ما كانت العلاقة فيه المشابهة، فيسمى استعارة، و إلى ما كانت غيرها فيسمى مجازا مرسلا، فكذلك المجاز المركب إن كانت العلاقة مشابهة سميت استعارة تمثيلية أو التمثيل مطلقا، و إلا كانت مجازا مركبا كما اصطلح عليه، و هذا أحسن من تخصيص صاحب التلخيص المجاز المركب بخصوص الأول «2».
عاد كلامه.
قال: «ثم إنهم بنوا أمر المجاز المركب على ثبوت الوضع للمركبات، فالتزموا القول بأن المركبات موضوعة بإزاء المعاني المركبة، كما أن المفردات موضوعة بإزاء المعاني المفردة، و خالف في ذلك العضدي، فأنكر المجاز المركب رأسا و خصه بالمفرد محتجا عليه بأن المركبات لا وضع لها فلا يتطرق التجوز إليها، إذ التجوز من توابع الوضع».
 «و الحق ما ذهب إليه الأكثرون من ثبوت المجاز في المركب، لكنه عندي لا يبتنى على أن يكون للمركب وضع مغاير لوضع مفرداته كما زعموه، بل يكفي فيه مجرد وضع مفرداته لمعانيها الأفرادية، فإن كل مفرد من المفردات إذا دل على معناه الأفرادي بالوضع فقد دل المركب منها على المركب منه بالوضع، إذ المراد بالمعنى المركب هو نفس مداليل المفردات المشتملة على النسبة، كما أن المراد باللفظ المركب هو نفس الألفاظ المفردة المشتملة على النسبة اللفظية، و كما يجوز
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 27.
 (2) تلخيص المفتاح المطبوع مع شرح المختصر 2: 95.
                       

وقاية الأذهان، ص: 121
بقاعدة الوضع أو الطبع أن يستعمل اللفظ المفرد في غير معناه الأصلي إذا كان بينه و بين معناه الأصلي علاقة كذلك يجوز بالقاعدة المذكورة أن يستعمل اللفظ المركب في غير معناه الأصلي إذا كان بينهما علاقة، و إن لم يكن بين المفردات علاقة فالمركب المستعمل في غير معناه الأصلي مجاز بالنسبة إلى وضع مفرداته».
 «فظهر أنه يكفي في مجازية المركب استعماله في غير ما وضع له مفرداته، كما أنه يكفي في كونه حقيقة فيه استعمال مفرداته فيما وضعت بإزائه».
 «و أما ما التزموا به من أن المركبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبية بوضع مغاير لوضع مفرداتها، ففساده ظاهر إذ بعد وضع المفردات أعني الطرفين و النسبة لا حاجة إلى وضع المركب، لحصول المقصود بدونه، فإن وضع الطرفين لطرفي الحكم و النسبة اللفظية للنسبة الذهنية من حيث قصد مطابقتها للواقع و كشفها عنه كاف في إفادة ما هو المقصود قطعا، فلا يبقى هناك حاجة تمس إلى وضع المركب».
 «و أيضا لو كان المركب من الطرفين و الإسناد موضوعا بإزاء المركب من مداليلها لدل كل جملة خبرية بحسب وضعها على الإخبار بوقوع مدلولها مرتين تارة تفصيلا كما ذكرناه، و أخرى إجمالا لما ذكروه، و على قياسها الجمل الإنشائية و غيرها، و هذا مما لا يلتزم به ذو مسكة».
 «نعم لو قيل بأن الهيئة التركيبية أو ما يقوم مقامها موضوعة لمجرد النسبة و الربط و المجموع المركب موضوع لإفادة مطابقتها للواقع لم يلزم منه المحذوران لكنه مع فساده في نفسه بشهادة الوجدان على خلافه، و مخالفته لظاهر كلماتهم بل صريحها، غير مجد في المقام إذ لم يقصدوا بالتجوز في المركب التجوز في مثل هذا المعنى» «1».
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 27- 28.
                       

وقاية الأذهان، ص: 122
أقول: ما ذكره- طاب ثراه- من فساد القول بثبوت القول بثبوت الوضع للمركبات حق لا شك فيه، و إن أمكن القول بالوضع لها فإنما هو في المعاني التي تستفاد من الكلام و لا تقوم مفرداته بالدلالة عليها، كالحصر المستفاد من تقديم الضمير على الفعل في قوله تعالى: إياك نعبد «1» و نحو ذلك مما تكفل علم المعاني بيانه، و ذلك بمعزل عما يرومه القائل بثبوت المجاز المركب.
نعم ما وضعت المفردات إلا لأن يتركب منها الكلام، و تفيد فائدة تامة في ضمنه، كما أن حروف الهجاء ما عينت إلا لأن تتركب منها الكلمات، و لكن أين يقع هذا مما يرومه هذا القائل من إثبات الوضع للمركبات وضعا مستقلا مباينا لوضع مفرداته بحيث تكون نسبة الكلمات إلى المركب كنسبة حروف الهجاء إليها.
و ما ذكره من توجيه هذا القول في قوله: «نعم، لو قيل ....» إلى آخره، فيرده- زيادة على ما قرره في تضعيفه- أن الألفاظ لم توضع إلا لبيان ما يريد المتكلم إفهامه المخاطب حقا كان أم باطلا، صدقا كان أم كذبا، و ليس في وسعها بيان مطابقة الواقع، و إنما ذلك وظيفة أمور اخر خارجة عنها من العلم بتحرز المتكلم عن الكذب و عدم اتهامه بالخطإ فيما يخبر عنه، و قد سبق بيان ذلك مفصلا في بحث الاستعمال.
و أما ما ذكره قبل ذلك لتصوير المجاز في المركب فغامض جدا، بل لا أعرف لظاهره وجها أصلا، إذ ليس المركب إلا مجموع تلك المفردات بعينها، و لا وجود له وجودا مستقلا عنها كما اعترف به في قوله: «فإن كل مفرد من المفردات ...» إلى آخره، فإذا انتفى الوضع انتفى الاستعمال لأنه فرع الوضع، و ليس وراء المفردات شي‏ء آخر حتى يستعمل في معنى آخر، فإذا قلت: زيد قائم- مثلا- فكل من المسند و المسند إليه يدل بحكم الوضع على معناه و يدل النسبة اللفظية
__________________________________________________
 (1) الفاتحة: 5.
                       

وقاية الأذهان، ص: 123
على اتصاف زيد بالقيام، و ليس هناك شي‏ء آخر كي يدل على معنى آخر و يستعمل فيه.
و عليه فقس المثال الذي ذكره، و سائر أمثلة الباب، كقولهم: يد تجرح و يد تأسو «1».
و من المحال أن تدل هاتان الجملتان على غير ما تدل عليه مفرداتها.
و أعجب من ذلك قوله- بعد عدة سطور-: «بل التحقيق أن مفردات المجاز المركب غير مستعملة في شي‏ء من معانيها الحقيقة و لا المجازية، و إنما المستعمل هو المجموع» «2».
و لازم ذلك- فيما أرى- أن تلغو الجملة رأسا، و لا يكون لها معنى أصلا، لأن المعنى فرع الاستعمال، و الاستعمال فرع الوضع- كما عرفت- و المفردات التي لها وضع لا استعمال لها، و المستعمل أعني المركب لا وضع له، فالمستعمل غير موضوع، و الموضوع غير مستعمل.
و لو سلم ما تقدم من قوله: «إنه يكفي في وضع المركب وضع مفرداته» فلا يكفي في إفادة المعنى مع عدم استعمال مفرداته كما يظهر بالتأمل.
و قال- طاب ثراه- في بحث الكناية: «إنه ليس شي‏ء من مفرداته مستعملا حينئذ، و إنما لوحظ معانيها و استعمل المجموع» «3».
و ظاهر أن مجرد اللحاظ لا يكفي في إفادة المعنى ما لم يقصد به إفهام المخاطب، و مع هذا القصد يتحقق الاستعمال.
و بالجملة لا بد- إذن- من الالتزام باستعمالها إما في معانيها الحقيقة كما
__________________________________________________
 (1) آسى الجرح: داواه. (منه).
 (2) الفصول الغروية: 28.
 (3) الفصول الغروية: 28.
                       

وقاية الأذهان، ص: 124
نقله عن التفتازاني «1»، أو في معانيها المجازية كما نقله عن بعض الناس «2».
هذا، على أنه لا معنى للاستعمال إلا إرادة الإفهام كما بيناه سابقا، و من الواضح أن المتكلم بالمثالين المتقدمين يريد إفهام مخاطبه معنى التقدم و التأخر للرجلين، و اختلاف فعل اليدين.
و بالجملة فمرامه- طاب ثراه- في هذا المقام ملتبس علي جدا، و ليس مثلي من يسرع في الاعتراض على مثله، و قد نقلت كلامه بنصه طمعا في أن يظهر للناظر الفطن في هذا الكتاب ما خفي علي من الصواب.
و أنت- رعاك الله- إذا راعيت الأصلين السابقين، و سرت على منهاجهما الواضح، رفعت لك أعلام الحقيقة، و ظهر لك أن الحال في مركب المجاز كالحال في مفرده، و أن ألفاظه مستعملة و لم تستعمل إلا فيما وضعت له، و أن المتكلم به لا يريد بالإرادة الاستعمالية إلا إفهام المخاطب تلك المعاني الأصلية التي وضعت لها الألفاظ.
و أما إفهامه التردد في المثال الأول فهو الغرض الداعي إلى الاستعمال و إلى إفهامه هذه الجملة لا أنه المستعمل فيه، و البعد بين الغرض الداعي إلى التكلم و بين معنى الكلام بعد شاسع و شوط بطين «3»، فمن وعدك بجبة إذا دخل الشتاء، و بممطرة إذا مطرت السماء تقول له: جاء الشتاء و جادت السماء، و ليس معنى هذين الإخبارين إنشاء: أعطني جبة و ممطرة، بل تخبره بهما ليتذكر الوعد فينجزهما لك.
و إذا تأملت المحاورات العرفية ظهر لك أن الكثير منها- إن لم تكن الأكثر- من هذا النمط، بل ربما ترتبت الأغراض، و تسلسلت الدواعي، و تكثرت‏
__________________________________________________
 (1) الفصول الغروية: 28.
 (2) الفصول الغروية: 28.
 (3) البطين بمعنى: البعيد. (منه). و انظر لسان العرب 13: 57.
                       

وقاية الأذهان، ص: 125
الوسائط بين ما يتكلم به و بين الغرض الأصلي من التكلم.
و بهذا يظهر لك مواقع النظر في كلام الجد الأعظم- قدس سره- حيث قال في أثناء كلام له، و هذا لفظه:
 «هذا إذا كان المقصود إسناد تلك المحمولات إلى موضوعاتها على سبيل الحقيقة، و أما إذا لم يكن إسنادها إلى موضوعاتها مقصودا في ذلك المقام، بل كان المقصود بيان ما يلزم ذلك من التخضع و نحوه كقولك: أنا عبدك و أنا مملوكك. فلا ريب إذن في الخروج عن مقتضى الوضع إذ ليس المقصود في المقام بيان ما تعطيه [من‏] «1» معاني المفردات بحسب أوضاعها، فحينئذ يمكن التزام التجوز في المفردات كأن يراد بعبدك أو مملوكك لازمه، أو في المركب بأن يراد من الحكم بثبوت النسبة المذكورة لازمها، و على كل حال فالتجوز حاصل هناك» «2» انتهى.
و قد عرفت الفرق بين المقصود من التكلم، و بين المقصود من الكلام، و بين الاستعمال و بين الداعي إليه، و التخضع هو الداعي إلى أن يقول لمن يريد الخضوع له: أنا عبدك، لا أنه معنى للكلام، و يقوله هذا كما يقوله المملوك واقعا من غير فرق من جهة الاستعمال أصلا.
و مثله الجمل التي تستعمل في مقام التخويف و التهديد و المدح و الدعاء و غير ذلك مما لا يدع وضوح الأمر فيها سبيلا إلى تعداد الأمثلة لها.
و من هذا القبيل الجمل الخبرية التي تورد في مقام الطلب فهي مستعملة في معانيها، لكن لا بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد كما بينه الأستاذ في الكفاية «3» و أحسن ما شاء، بل و كذلك جميع الجمل الخبرية التي لا يراد منها
__________________________________________________
 (1) الزيادة من المصدر.
 (2) هداية المسترشدين: 35.
 (3) كفاية الأصول: 70- 71.
                       

وقاية الأذهان، ص: 126
الإخبار، لا كما زعمه التفتازاني في شرح التلخيص «1»، و حروف الاستفهام الواردة لغير طلب الفهم كالتقرير و التوبيخ و الإنكار، و ليس كما زعمه صاحب مغني اللبيب [1].
فقال: «قد تخرج الهمزة من معناه الحقيقي فترد لثمانية أوجه» «2».
و من المضحك عده الاستبطاء منها، و تمثيله له بقوله تعالى: أ لم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله «3» «4» إذ من الواضح أن ليس معنى الهمزة وحدها، بل هو معنى حرف الاستفهام الوارد على حرف الجحد، الداخل على فعل يدل بمادته على القرب.
فإذا كان جميع ذلك معنى الهمزة فما ذا حبسه عن الجري على ذلك إلى آخر الآية، و يجعل معنى الهمزة استبطاء خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى؟
و بالجملة جميع ذلك و أشباهه الكثيرة قد نشأ عن الخلط بين الداعي إلى الاستعمال و بين نفس الاستعمال.
__________________________________________________
 [1] هو الأستاذ جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام المصري الأنصاري الحنبلي النحوي المشتهر ب (ابن هشام) صاحب كتاب مغني اللبيب المتداول بين أهل العلم في هذا الزمان المشتمل على ثمانية أبواب، و لقد قال في وصف هذا الكتاب أحد الشعراء قصيدة بليغة لا مجال لنا في ذكرها بتمامها منها هذا [البيت‏]:
         و ما هي إلا جنة قد تزخرفت             أ لم تنظر الأبواب منها ثمانية


ولد في ذي القعدة سنة (708) و توفي في ذي القعدة سنة (761) فكان عمره ثلاث و خمسين سنة.
 (مجد الدين)
__________________________________________________
 (1) انظر المطول: 43.
 (2) مغني اللبيب 1: 24.
 (3) الحديد: 16.
 (4) مغني اللبيب 1: 27.
                       

وقاية الأذهان، ص: 127
         و إذا كان في الأنابيب حيف             وقع الطيش في صدور الصعاد

 «1»
 (المجاز في الإسناد)
و يسمى مجازا عقليا، و مجازا حكميا [1]، و مجازا في الإثبات. و قالوا في حده:
إنه إسناد الفعل أو ما هو بمعناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول، و جعلوا منه قولهم: فتح الأمير البلد، و هزم «2» الجند، و ضربه التأديب، و سرتني رؤيتك، و كذا قول الموحد: شفى الطبيب المريض، و أنبت الربيع البقل، لأن شفاء المريض و إنبات البقل من فعل الله تعالى، فيقوله الموحد بتأول، بخلاف الجاهل لأنه يعتقد ظاهر النسبة فلا تأول فيه، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تجدها في كتب علماء البلاغة و الأصول.
و قد بالغوا في أمر هذا المجاز، و حكموا بأنه كثير في القرآن الكريم، و عدوا منه قوله تعالى: و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا «3» و قوله تعالى: يوما يجعل الولدان شيبا «4» و أخرجت الأرض أثقالها «5» يذبح أبناءهم «6» قالوا: لأن زيادة الإيمان و جعل الولدان شيبا، و إخراج أثقال الأرض من فعل‏
__________________________________________________
 [1] بضم الأول و سكون الثاني و كسر الثالث و تشديد الرابع، منسوبة إلى الحكم أي مجازا في الحكم. و قيل:
بكسر الحاء منسوبة إلى الحكمة. أما بفتح الأول و الثاني و كسر الثالث و تشديد الرابع منسوبة إلى الحكيم فلا مناسبة لها في هذا المقام إلا ببعض التأويلات التي لا يقبلها إلا ذوو الأسقام.
 (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي، انظر ديوانه ج 2 ص 34 و فيه: خلف، بدل حيف.
 (2) بصيغة المعلوم، أي: هزم الأمير الجند.
 (3) الأنفال: 2.
 (4) المزمل: 17.
 (5) الزلزلة: 2.
 (6) القصص: 4.
                       

وقاية الأذهان، ص: 128
الله تعالى، و قد نسبت إلى الآيات و الزمان و الأرض، و ذبح الأبناء من فعل جيش فرعون و قد نسب إليه «1».
أقول: ليس في جميع هذه الأمثلة و أمثالها إسناد إلى غير ما هو له حتى يلزم هذا المجاز، بل الإسناد فيها إلى ما هو له حقيقة، و لكن الاختلاف في جهات الإسناد و أقسامه، و لكل انتساب إلى الفعل حقيقة و لكن بجهة تخالف جهة الآخر، فإذا أساء الأدب رجل بحضرة الملك، فأمر الشرطي بقتله فضرب رقبته بالسيف، فلهذا القتل استناد إلى كل من الملك و الشرطي و السيف و سوء الأدب، فيصح أن يقال: قتله الملك، و قتله الشرطي، و قتله السيف، و قتله سوء أدبه، و كل جهة من هذه الجهات نسبة حقيقية، و ليست إحدى تلك الجهات أحق من غيرها بالحقيقة، فتخصيص إحداها بها حيف في الحكم، و ترجيح بلا مرجح، بل قد يسند الفعل إلى الله تعالى، لأنه يقع بعلمه و إرادته و قضائه و مشيئته.
و كذا الحال في قول القائل: أنبت الله البقل، أو أنبت الربيع البقل، فكل من نسبتي الإنبات نسبة حقيقية من غير فرق بين صدوره من المؤمن أو المعطل، و إنما الفرق خطأ المعطل في تعطيله الجهة الإلهية، و زعمه أن نسبة الخلق و الإيجاد إلى الربيع.
و كما تصح النسبة الحقيقية إلى الربيع كذلك تصح نسبة الإنبات إلى الماء و التراب و الزارع و الآمر به، و لقد خالطت هذا لخبط نزغات أشعرية، و مزج لقواعد العربية بدقائق مسائل كلامية.
فقالوا في مثل قول القائل: سرتني رؤيتك، إن المعنى سرني الله عند رؤيتك، و في قول الشاعر:
         يزيدك وجهه حسنا             إذا ما زدته نظرا

__________________________________________________
 (1) أي إلى فرعون.
                       

وقاية الأذهان، ص: 129
إن المعنى يزيدك الله حسنا في وجهه لما أودعه فيه من دقائق الحسن و الجمال، و قالوا بمثل ذلك في الآيات السابقة لزعمهم أن زيادة الإيمان، و جعل الولدان شيبا، و إخراج أثقال الأرض من فعل الله سبحانه، و قد نسبت إلى الآيات و الزمان و الأرض، و حكموا في قولهم: أنبت الربيع البقل. بالتفصيل بين أن يكون القائل مؤمنا أو معطلا- كما سبق- و توقفوا في قول الشاعر:
         أشاب الصغير و أفنى الكبير             كر الغداة و مر العشي‏

حتى يعلم معتقد القائل، فهو مجاز عقلي إن علم أو ظن أن قائله لم يعتقد ظاهره، و ما دعاهم إلى هذه التكلفات إلا زعمهم أن نسبة التأثير في الوجود إلى غيره تعالى ينافي التوحيد، و لو بني على هذا الاعتقاد و على منافاته للقواعد اللفظية، لم تبق نسبة حقيقية بين موضوع و محمول قط إلا ما شذ.
و لكن عهدي بأهل التحقيق منهم و هم يفرقون بين الخالق للفعل و بين من نسب الفعل إليه.
و إذا اعترض عليهم خصمهم بأن لازم معتقدكم صحة اشتقاق اسم الفاعل من الزنا و السرقة لله- تعالى الله عن ذلك- أجابوا بأن الفاعل العبد و هو- سبحانه- خالق لفعل العبد، فهلا جروا على هذه السنة و قالوا: إن الله تعالى خالق زيادة الحسن، و تركوا نسبتها إلى الوجه على حالها، و لم يخلقوا بهذا الاختلاق ديباجة حسنة، إذ نسبة زيادة الحسن إلى الوجه هي الوجه في زيادة حسن البيت، و ما هذا التأويل البارد سوى معول يهدم به بنيان حسنه و أساس رونقه، و هب تأتي لهم هذا التكلف في قوله: أشاب الصغير (البيت) و القول بأن المراد أشاب الله هذا، و أفنى ذاك، فما ذا يكون قولهم في مثل «فلان خانه الدهر» و «غدر به الزمان» و «ظلمته الأيام» فهل يحكم بالغلط في هذه الاستعمالات أديب أو يتجاسر على أن يفوه بتلك المقالة من له من الدين أقل نصيب؟.
و قد أنكر السكاكي هذا النوع من المجاز، و جعله من قبيل الاستعارة
                       

وقاية الأذهان، ص: 130
بالكناية على مذهبه و لكن وقع فيما هو أدهى و أمر، فإنه قال- على ما في التلخيص و شرحه-: إن المراد بالربيع الفاعل الحقيقي للإنبات يعني القادر المختار بقرينة نسبة الإنبات إليه «1»، و رده في التلخيص [1] [2] بوجوه:
منها: أن لازم ذلك أن يتوقف نحو أنبت الربيع البقل على السمع لأن أسماء الله تعالى توقيفية، مع أن هذا الاستعمال صحيح شائع، ورد في الشرع أم لا «2».
و لقد أكثر العلماء من الرد على هذا القول و الاعتراض عليه، و من الانتقاد و الانتصار له، و التعرض لذلك خروج عن موضوع الرسالة بأكثر مما يسمح به الاستطراد.
و يكفي- فيما أرى- ردا عليه ان إطلاق الربيع في مثل المقام على ذلك المقام الرفيع سمج قبيح، لا يقبله الذوق الصحيح بأي وجه كان، مجازا كان أم حقيقة، كناية أم استعارة من غير فرق بين أن تكون أسماؤه تعالى توقيفية أم قياسية.
__________________________________________________
 [1] و هو ملخص القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي. (مجد الدين).
 [2] و هذا الكتاب للإمام العلامة أبي المعالي قاضي القضاة محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد العجلي جلال الدين القزويني الشافعي المشتهر بالخطيب الدمشقي.
هذا، و ذلك الكتاب مشهور بين الأنام، و معتبر عند الأعلام، و شرحه المولى الإمام مسعود بن عمر ابن عبد الله التفتازاني الشافعي الخراساني المعروف ب (العلامة التفتازاني)- المتولد سنة (712) و قيل:
سنة (722) المتوفى سنة 792- بشرحين معروفين المشتهر أحدهما ب (المطول) و ثانيهما ب (المختصر).
هذا، و ولد الخطيب سنة (666) و توفي سنة (739) فكان عمره ثلاث و سبعين سنة.
 (مجد الدين)
__________________________________________________
 (1) تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني: 59.
 (2) تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني: 60.
                       

وقاية الأذهان، ص: 131
و كما يقال: أنبت الربيع البقل، يقال: صوحه «1» الخريف، و أذاب الصيف الثلج، فهل يخصص السكاكي مقالته بالمثال من غير مخصص، أم يجري طلق العنان في المثالين و فيما لا تحصى من أمثالهما، و لا يبالي بما يصيبه من أهل الأدب و الآداب؟.
و العجب من العلامة صاحب الفصول حيث وقع في مثل ما وقع فيه السكاكي، فقال و هذا لفظه: «اعلم أن في مثل قولهم: أنبت الربيع البقل وجوها:
أحدها: أن ينزل الربيع منزلة الفاعل، و يدل عليه بإثبات بعض لوازمه من إسناد الإنبات إليه فيكون الربيع حينئذ استعارة بالكناية فيكون الإنبات أو إسناده إليه استعارة تخييلية، و لا تجوز حينئذ فيه، أما في طرفي الإسناد فظاهر، و أما في الإسناد فلأن المراد منه معناه الحقيقي على ما مر، و لا يلزم الكذب لابتنائه على التأويل في أحد طرفيه، بخلاف الكذب فإنه لا يبتنى على التأويل.
الثاني: أن يكون إسناد الإنبات إليه مبنيا على دعوى كونه فاعلا له نظرا إلى كونه سببا إعداديا له، فحينئذ يكون المجاز عقليا حيث أعطي ما ليس بفاعل حكم الفاعل و أثره، و أقيم مقامه.
و الفرق بين هذا الوجه و الوجه المتقدم أنه لا تأويل هنا في نفس الربيع بخلاف الوجه السابق.
الثالث: أن ينزل تسببه الإعدادي منزلة التسبب الفاعلي فيعبر عنه باللفظ الدال عليه، و حينئذ يكون الإسناد مجازا لغويا لأنه غير موضوع في مثل أنبت، للتعلق بالسبب الإعدادي، بل الفاعلي- ثم قال-: هكذا ينبغي تحقيق المقام» «2».
__________________________________________________
 (1) تصوح البقل إذا يبس. الصحاح 1: 384، القاموس المحيط 1: 235 (صوح).
 (2) الفصول الغروية: 29.
                        وقاية الأذهان، ص: 132
و أقول [1] و الأجدر بأن يكون تحقيقا للمقام أن يقال- و هو فذلكة جميع ما تقدم-: إن جهات النسبة مختلفة، و لكل فعل عدة منها، و الهيئة الدالة على النسبة لم توضع لواحدة معينة منها، بل هي موضوعة للجميع على سبيل الاشتراك المعنوي، و تعيين تلك الجهة موكولة إلى مناسبة الحكم و الموضوع، أو سائر القرائن الخارجية، فربما اتضح وجه النسبة كقولك: خلقه الله، و ربما خفي الوجه كقولك: قتله الملك، فإنه يصح السؤال هل قتله بأمره، أو باشر قتله بيده؟
فإذا أمر الطيب المريض بشرب الدواء فشربه و أبل «1» من الداء يصح أن ينسب الشفاء إلى الله تعالى، و إلى الطبيب، و إلى الدواء، فيقال: شفاه الله، و شفاه الطبيب، و شفاه الدواء، و الكل نسبة حقيقية على اختلاف جهاتها.
و يؤيد ما نقول ترتب الأثر شرعا و عرفا على كل من السبب و المباشر.
و من هذا الباب ما يذكره الفقهاء في أبواب الضمان و القصاص و غيرهما من تقديم الأقوى من السبب و المباشر تارة، أو تضمينهما معا تارة أخرى، و لو لا أن النسبة حقيقية لما كان وجه لترتيب الأثر على غير المباشر إذ النسبة المجازية لا يترتب عليها أثر قطعا، فتأمل.
فعلى ما حققناه نسبة الإثبات إلى الربيع حقيقة بلا احتياج إلى هذه الوجوه التي فيها مواقع للنظر لا تخفى على أهله.
__________________________________________________
 [1] لا يقال: إن ملاحظة جميع كلامه في هذا المقام يعطي أنه لا فرق بين المباشرة و غيرها من الأسباب، و سيأتي في أواخر مسألة اعتبار المباشرة ما يخالفه.
لأنا نقول: إن كلامه هنا لا يعطي إلا عدم الفرق بين المباشرة و غيرها في أن كلا منهما نسبة حقيقية، و ما في أواخر مسألة اعتبار المباشرة غير مناف لهذا.
على أن ما في أواخر المسألة المذكورة حكم صورة الشك، فلا اختلاف بين الكلامين، فتأمل (مجد الدين)
__________________________________________________
 (1) البل بالكسر: الشفاء. الصحاح 4: 1639، القاموس المحيط 3: 337 (بلل).
                       

وقاية الأذهان، ص: 133
نعم قد يجري في الإسناد نظير ما يجري في المفرد و المركب من المخالفة بين الإرادة الجدية و الاستعمالية، و الاختلاف بين الداعي إلى التكلم و إلى المقصود من الكلام، كقولك لبخيل خامل متهكما به: أنت الذي أطعمت الوفد و بلغت ذروة المجد.
و بما قررناه في المجازين السابقين تظهر لك الحقيقة، و قد أدينا الواجب من البيان فلا يلزمنا الإعادة.
هذا، و قد يعد من قبيل هذا المجاز مثل قوله تعالى: في عيشة راضية* «1» و قولهم: نهاره صائم، و ليله قائم و شعر شاعر و ظل ظليل، و غير ذلك، و لكن ليس جميع ذلك- فيما أرى- من باب واحد، بل لكل وجه، بل وجوه في قواعد العربية، و مخارج في فنون البلاغة، و بيانها يفضي إلى الإطالة، و الإطالة مظنة الملالة.
 (مجاز الحذف)
عدوا منه قوله تعالى: و جاء ربك «2» و سئل القرية «3» و قالوا: إن التقدير: جاء أمر ربك، و سئل أهل القرية، و ربما يعدان من باب المجاز في الإسناد.
أقول: لا ينكر أمر الحذف كأخويه: الإضمار و التقدير، و كثرته في اللغة، و لكن عمدة البلاغة الموجودة في الآيتين الكريمتين قائمة بإبقائهما على ظاهرهما من نسبة المجي‏ء و السؤال بالإرادة الاستعمالية إلى الله تعالى، و إلى القرية، إذ
__________________________________________________
 (1) الحاقة: 21.
 (2) الفجر: 22.
 (3) يوسف: 82.
                       

وقاية الأذهان، ص: 134
الذي يحكم الشرع و العقل بامتناعه هو نسبة المجي‏ء إليه سبحانه بالإرادة الجدية لا الاستعمالية، و لهذا لو ذكر هذا المحذوف و قيل: جاء أمر ربك، فقد من الكلام جانب من حسنه، و لم يناسب عطف الملك «1» عليه.
و الظاهر أن أكثر الألفاظ التي ورد في الشرع إطلاقها عليه تعالى مما لا يليق بمقدس ذاته من هذا القبيل، و ما وقعت المجسمة و المشبهة فيما وقعوا فيه، إلا لجهلهم بالفرق بين الإرادتين.
و كذلك سؤال القرية فإن سؤال الجماد محال واقعا لا استعمالا، و لا زالت العرب تخاطب الربوع «2» و الديار، و تكثر من سؤال الأطلال «3» و الآثار و هي قفر ليس فيها ديار، و القرآن الكريم نزل على محاورات العرب، فإذا كان هذا دأبهم في موارد لا يمكن فيها تقدير الإرادة الجدية و السؤال الحقيقي، فكيف في هذه الآية و ما يجري مجراها، و القرية مأهولة عامرة! نعم في مثل جرى النهر و الميزاب يحتمل كل من الحذف و الاستعمال على هذا النمط، و الثاني هو الأولى، و أما احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من النهر و الميزاب الماء بعلاقة الحال و المحل فقبيح لا يقبله الذوق الصحيح.
هذا، و الوجه في عد هذا الباب من أقسام المجاز لا يخلو عن خفاء، إذ ليس فيه استعمال في غير ما وضع له لأن المفروض في قوله تعالى: و سئل القرية «4» أن المفردات مستعملة في معانيها، و إلا كان المجاز في المفرد، و كذلك المركب- على القول بالوضع له- و إلا كان المجاز فيه، و هكذا النسبة و إلا كان المجاز فيها، فإذن لا فرق بينه و بين سائر الكلام إلا حذف بعض ألفاظ الجملة،
__________________________________________________
 (1) إشارة إلى قوله تعالى: و الملك صفا صفا الفجر: 22.
 (2) الربوع جمع الربع: الدار بعينها حيث كانت. الصحاح 3: 1211 (ربع).
 (3) أطلال جمع طلل: ما شخص من آثار الدار. الصحاح 5: 1752 (طلل).
 (4) يوسف: 82.
                       

وقاية الأذهان، ص: 135
ذلك الأمر الشائع في موارد لا تحصى كثرة، فمجاز الحذف لا يجري على الاصطلاح في المجاز، بحيث يعد قسيما للأقسام المتقدمة، إلا أن يكون مجازا في لفظ المجاز.

 

 

 

 

******************

امام خمینی

الأمر الخامس‏
عرف المجاز غير واحد من الأدباء بأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة معتبرة و قرينة معاندة و شذ عنهم السكاكي في قسم واحد من اقسامه، و هو الاستعارة و رأى ان ذلك حقيقة لغوية و ان التصرف انما هو في امر عقلي و هو جعل ما ليس بفرد فردا- و استدل عليه بأنه لولاه لما صح التعجب في قوله:
 «
         قامت تظللني و من عجب             شمس تظللني من الشمس‏

» و لما كان للنهي عن التعجب موردا في قول الشاعر:
         لا تعجبوا من بلى غلالته             قد زر أزراره على القمر

و ما ربما يقال في رده، من ان التعجب و النهي عنه مبنيان على نسيان التشبيه قضاء لحق المبالغة، مردود بأنه لو لا الادعاء لما كان لنسيان التشبيه معنى، و لا يقضى حق المبالغة بل الادعاء هو الذي يصحح نسيانه و يؤدي به الغرض من المبالغة.
فهذا القول يشترك مع قول المشهور في كون الاستعمال في غير الموضوع له، لوضوح ان استعمال اللفظ في المصداق الحقيقي للموضوع له بخصوصه مجاز فكيف بالفرد الادعائي فما ذهب إليه من ان الادعاء المزبور يجعله حقيقة لغوية غير تام- و يرد عليه مضافا إلى ما ذكر، انه و ان كان اقرب من قول المشهور إلى الذوق السليم، إلا انه لا يتم في الاعلام الشخصية مثل «حاتم» و «مارد» الا بتأويل بارد.
ثم انك قد عرفت ان استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة اللابشرط المعراة عن كل قيد في مصاديقها الواقعية مجاز فضلا عما جعل مصداقا بالادعاء و لا ينتقض هذا بمثل زيد إنسان إذ المحمول مستعمل في الماهية المطلقة لا في الفرد الخاص و الهيئة الحملية تفيد الاتحاد و الهوهوية.
 (ثم) انى أرى خلاف الإنصاف ان ارتضى رأيا في هذا المقام غير ما وقفت على تحقيقه من العلامة أبي المجد الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قدس الله سره) في وقايته و استفدت
                       

تهذيب الأصول، ج‏1، ص: 31
منه شفاها.
و ملخص ما أفاده ان اللفظ في عامة المجازات استعارة كانت أو مجازا مرسلا، مفردا كانت أو مركبا، كناية كانت أو غيرها، لم يستعمل الا فيما وضع له- غاية الأمر ما هو المراد استعمالا غير ما هو مراد جدا، و ان شئت قلت انه لتطبيق ما هو الموضوع له على غيره اما بادعاء كونه مصداقا له كما في الكليات أو كونه عينه كما في الاعلام- و الفرق بين المذهبين مضافا إلى ما عرفت من ان المستعمل فيه بالإرادة الاستعمالية، هو نفس الموضوع له على رأي شيخنا (قده) و ان كان الجد على خلافه، دون ما ذهب إليه السكاكي فان المتعلق للإرادة عنده استعمالية كانت أو جدية شي‏ء واحد، ان الادعاء على المذهب الأخير وقع قبل الإطلاق ثم أطلق اللفظ على المصداق الادعائي، و لكن على ما رآه شيخنا وقع بعد استعمال اللفظ حين تطبيق الطبيعة الموضوع لها على المصداق.
و بالجملة ان حقيقة المجاز ليست إلا تبادل المعاني و التلاعب بها لا باستعارة الألفاظ و تبادلها و انما حسن المجازات من جهة توسعة المفاهيم إلى ما لا يسعه وضع ألفاظها و لا يشمله نفس تلك المفاهيم ابتداء و لكن بعد ادعاء كون هذا منه تشمله حكما، مثلا:
في قوله تعالى «ان هذا إلا ملك كريم» ليس حسن المجاز المستعمل فيه من جهة إعارة لفظ الملك خلوا عن معناه لوجود يوسف و جعلهما متحدين في الاسم، بل لأن الملك استعمل في الماهية المعهودة من الروحانيين و أطلق اللفظ عليها و استعمل فيها و ادعى انطباقها على المصداق الادعائي- و قس عليه قولنا: رأيت أسدا و حاتما، فان لفظي الحاتم و الأسد استعملا في معناهما و لكن ادعى ان زيدا هو الحاتم أو الأسد.
ثم لا يخفى عليك ان ما اختاره (قدس سره) لا ينحصر بالاستعارة بل المجاز المرسل و هو ما تكون العلاقة فيه غير التشبيه من ساير العلاقات، أيضا من هذا الباب، أعني ان اللفظ فيه أيضا لم يستعمل إلا فيما وضع له و جعل طريقا إلى الجد بدعوى من الدعاوي- فإطلاق العين على الربيئة ليس إلا بادعاء كونه عينا باصرة بتمام وجوده لكمال مراقبته و إعمال ما هو أثر خاص لها لا بعلاقة الجزئية و الكلية، و قس عليه إطلاق الميت على المشرف للموت بدعوى كونه ميتا و إطلاق القرية على أهلها بتخيل انها قابلة للسؤال، أو ان القضية بمثابة من الشهرة حتى يجيب عنها القرية و العير كما في قول الفرزدق: «هذا الذي‏
                       

تهذيب الأصول، ج‏1، ص: 32
تعرف البطحاء وطأته، القصيدة».
و جعل هذا و أشباهه من المجاز بالحذف يوجب انحطاطه من ذروة البلاغة إلى حضيض الابتدال- و تجد تحقيق الحال في المجاز المركب مما ذكرنا أيضا، فانك إذا قلت للمتردد «أراك تقدم رجلا و تؤخر أخرى» و علمت ان مفرداتها لم تستعمل الا في معانيها الحقيقية و انه ليس للمركب وضع على حدة، ليكون اجزائه بمنزلة حروف الهجاء في المفردات ليستعمل في معنى لم يوضع له، تعرف انك لم تتفوه بهذا الكلام الا بعد ادعاء ذوقك ان هذا الرجل المتردد المتحير شخص متمثل كذلك و ان حاله و امره يتجلى في هذا المثل كأنه هو. هذه قضاء الوجدان و شهادة الذوق السليم بل ما ذكرنا في المركبات من أقوى الشواهد على المدعى، و به يحفظ لطائف الكلام و جمال الأقوال في الخطب و الإشعار و بذلك يستغنى عن كثير من المباحث الطفيف الفائدة مثل ان المجاز هل يحتاج إلى الرخصة من الواضع أولا و (ان وضع العلائق شخصي أو نوعي)، لما قد عرفت من ان الاستعمال في جميع المجازات ليس إلا في الموضوع له، و ان كان صحة الادعاء و حسن وقوعه امرا مربوطا بالذوق السليم.

 

                        جواهر الأصول، ج‏1، ص: 173

ذكر و تنقيح‏
اشتهر عن العلامة السكاكي: أنه قال في غير الاستعارة بمقالة المشهور: من أنه عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
و أما في الاستعارة فقال: إنها مجاز عقلي؛ بمعنى أن التصرف في أمر عقلي لا لغوي.
و بالجملة: يرى أن الاستعارة حقيقة لغوية، و أن التصرف إنما هو في أمر عقلي، و هو جعل ما ليس بفرد فردا؛ لأنه لا معنى لإطلاق المشبه به على المشبه، إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، و هو بعد جعل الرجل الشجاع- مثلا- فردا من الأسد، فاستعمال المشبه به في المشبه استعمال للفظ فيما وضع له، فالاستعارة حقيقة لغوية عنده «1»
. و استدل: بأنه لو لا ذلك لما صح التعجب في قول العميد:
         قامت تظللني و من عجب             شمس تظللني من الشمس‏

بداهة أنه لو لا ادعاء معنى الشمس في المرأة المنظورة، و جعلها شمسا حقيقة، لما
__________________________________________________
 (1)- مفتاح العلوم: 156- 158.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 174
كان وجه لتعجبه؛ إذ لا تعجب في أن تظلل المرأة الحسناء من الشمس.
و كذا لما صح النهي عن التعجب في قول أبي الحسن بن طباطبا:
         لا تعجبوا من بلى غلالته «1»             قد زر أزراره «2» على القمر

لأنه لو لا أنه جعل مورد نظره قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى؛ لأن الكتان إنما يسرع إليه البلى بسبب ملابسة القمر الحقيقي، لا بملابسة إنسان كالقمر في الحسن و الوجاهة «3»
. أضف إلى ذلك- انتصارا لمقالته- قوله تعالى في قصة يوسف على نبينا و آله و عليه السلام: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» «4»، فإنه إنما يحسن و يكون بليغا لو نفى البشرية عنه حقيقة، و إثبات كونه ملكا، لا أنه مثل الملك.
و ما ربما يقال في رد مقال السكاكي: من أن التعجب و النهي في البيتين- مثلا- مبنيان على تناسي التشبيه- أي إظهار نسيان التشبيه- قضاء لحق المبالغة و دلالة على أن المشبه بحيث لا يتميز عن المشبه به أصلا؛ حتى أن كل ما يترتب على المشبه به- من التعجب أو النهي عنه- يترتب على المشبه أيضا «5»
. مدفوع: بأن نسيان التشبيه إنما هو لأجل الادعاء، و هو الذي قضى حق المبالغة، و إلا فلو لا الادعاء لما كان لنسيان التشبيه معنى، و لا يقتضي حق المبالغة.
و لا يخفى أن هذا الذي ذكرناه هو المعروف من السكاكي في الاستعارة،
__________________________________________________
 (1)- قلت: «البلى» بكسر الباء مقصورا من بلى الثوب يبلى إذا فسد، و الغلالة ككفاية: ثوب رقيق يلبس تحت الثياب.
 (2)- قلت: زر بالزاء المعجمة و تشديد الراء المهملة ماض من الزر، و هو بالكسر ما يوضع في القميص لشده، و يقال له بالفارسية «تكمه»، و جمعه أزرار. المقرر
 (3)- انظر مفتاح العلوم: 157، و شروح التلخيص 4: 63- 64.
 (4)- يوسف: 31.
 (5)- المطول: 290 سطر 8.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 175
لا ما نسبه المحقق العراقي قدس سره «1» إليه، فإن ما أسنده إليه هو مقالة شيخنا العلامة الشيخ محمد رضا الأصفهاني قدس سره في «الوقاية» «2» الذي يطابق التحقيق، و هو ما ذهبنا إليه، كما سيتضح لك قريبا، فارتقب.
و بالجملة: ما ذهب إليه السكاكي أقرب من غيره إلى الذوق السليم، إلا أنه مع ذلك فيه إشكالات و تناقض نشير إليها:
الأول: أن هذا القول يشترك مع قول المشهور «3» في كون الاستعمال في غير الموضوع له؛ لأن استعمال اللفظ في المصداق الحقيقي للموضوع له بخصوصه مجاز، فكيف بالفرد الادعائي؟! فيكون استعمال اللفظ فيما يكون فردا ادعائيا له مجازا لغويا، كما عليه المشهور، فما ذهب إليه: من أن الادعاء المزبور يجعله حقيقة لغوية، غير وجيه.
و بعبارة أوضح: استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة في مصاديقها الواقعية مجاز، فما ظنك في المصاديق الادعائية، فالادعاء لا يخرج الكلام عن المجاز اللغوي، و لا يخفى أنه في مثل «زيد إنسان» لم يستعمل الإنسان إلا في نفس الطبيعة، و غاية ما يقتضيه الحمل هو اتحادهما خارجا، لا استعمال الطبيعة في الفرد، فتدبر.
و ثانيا: أن ما ذكره السكاكي إنما يجري في الطبائع الكلية، و أما في الأعلام الشخصية- كما إذا أردت تشبيه زيد بحاتم في السخاوة- فلا سبيل إلى الادعاء و اعتبار ما ليس بفرد فردا، كما كان له سبيل في الطبائع الكلية إلا بتأويل بارد، فهل يقول في ذلك بالمجاز المرسل أو شي‏ء آخر؟!
__________________________________________________
 (1)- بدائع الأفكار 1: 87.
 (2)- تقدم تخريجه.
 (3)- المطول: 278 سطر 21، مبادئ الوصول إلى علم الاصول: 77، قوانين الاصول 1: 13 سطر 5، الفصول الغروية: 14 سطر 12.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 176
و الأولى تبديل ما ذكره و إصلاحه بما نقوله؛ حتى لا يتوجه عليه ما يتوجه على مقال المشهور، و حاصله:
أن اللفظ في مطلق المجاز- مرسلا كان، أو استعارة، أو مجازا في الحذف، مفردا كان أو مركبا- استعمل في معناه الحقيقي الموضوع له، فاستعمل لفظ «الأسد» في قولنا:
 «زيد أسد»- مثلا- في الحيوان المفترس حقيقة من دون ادعاء، و الادعاء إنما هو بعد الاستعمال فيما وضع له؛ في تطبيق المعنى الموضوع له على هذا الفرد؛ إما بادعاء كونه مصداقا له، كما في الطبائع الكلية، أو كونه عينه، كما في الأعلام الشخصية.
و عليه فالفرق بين ما ذهب إليه السكاكي و ما هو المختار: هو أن الادعاء على مذهبه وقع قبل الإطلاق، فأطلق اللفظ على المصداق الادعائي، بخلاف ما هو المختار، فإنه بعد الاستعمال؛ و حين إجراء الطبيعة- الموضوع لها اللفظ- على المصداق الادعائي في مثل «زيد أسد»، و في مثل «زيد حاتم»، اريد بحاتم الشخص المعروف، و ادعي أن زيدا هو هو، فالادعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى.
و من الواضح: أن حسن الكلام و بلاغته في باب المجازات، إنما هو بتبادل المعاني و التلاعب بها؛ و وضع معنى مكان معنى، لا بتلاعب الألفاظ و تبادلها؛ لأن الألفاظ غالبا متكافئة في إفادة معانيها. فقوله تعالى: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» «1» استعمل «الملك» في معناه المعهود، و إنما حمله على يوسف- على نبينا و آله و عليه السلام- بادعاء كونه من مصاديقه.
و إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تتفطن إلى توجه إشكال آخر على مقال السكاكي:
و هو أنه لا وجه لتخصيص ما ذكره بالاستعارة، بل هو جار في المجاز المرسل أيضا؛ و ذلك لأنه في جميع المجازات لا بد و أن يكون فيها ادعاء، و لادعائه مصحح، و إلا
__________________________________________________
 (1)- يوسف: 31.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 177
لما كان لكلامه حسن و بلاغة.
مثلا: في إطلاق «العين» على الربيئة استعملت لفظة «العين» فيما وضع له، و لكن حيث إن شأن الربيئة المراقبة و النظارة التامة فكأن تمام وجوده عين، فيدعي أنه مصداق لها، فلم يكن إطلاقها عليها بمجرد علاقة الجزئية و الكلية.
و كذا في إطلاق الميت على المريض الذي يئس من حياته، و أشرف على الموت، ليس إلا بادعاء كونه ميتا، و مصحح الادعاء إشرافه على الموت، و انقطاع أسباب الصحة عنه، و لذا لا يطلق على المريض الذي لم يكن بتلك المثابة؛ لعدم المصحح للادعاء.
و لذا لا يجوزون استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، إلا فيما يصح فيه ادعاء أنه الكل، و ذلك في خصوص الأجزاء الرئيسية «1»
. و هكذا الكلام في سائر أنواع المجازات، فتراهم يصرحون بوجود العلاقة المعتبرة في استعمال اللفظ في غير ما وضع له «2»، و معنى اعتبارها هو صحة الادعاء، و مع صحة الادعاء يصح الإطلاق، و إلا يكون غلطا.
و بالجملة: باب المجاز مطلقا- أي سائر أنواع المجازات؛ من غير اختصاص بباب الاستعارة- باب التلاعب بالمعاني؛ و تبادل معنى مكان معنى، و هذا هو الذي يورث الكلام ملاحة، و يصيره بليغا و فصيحا، لا وضع لفظ مكان لفظ آخر؛ لأن الألفاظ- كما أشرنا- متكافئة غالبا في إفادة معانيها.
و الظاهر أن اللطافة و الملاحة التي تكمن في قوله: «و سئل القرية» «3»، و هي ادعاء أن القضية بمرتبة من الوضوح يعرفها كل موجود، حتى القرية التي من‏
__________________________________________________
 (1)- مفتاح العلوم: 155 سطر 20، المطول: 285، شروح التلخيص 4: 35.
 (2)- مفتاح العلوم: 155 سطر 13، المطول: 282 سطر 24، شروح التلخيص 4: 25.
 (3)- يوسف: 82.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 178
الجمادات، فكيف ينكرها العاقل الذي له شعور و إدراك، لا تراها و لا تجدها إذا قيل:
 «و اسأل أهل القرية».
و كذا ترى: اللطافة و البلاغة في قول الفرزدق- شاعر أهل البيت عليهم السلام- في مدح الإمام السجاد عليه السلام:
         هذا الذي تعرف البطحاء وطأته             و البيت يعرفه و الحل و الحرم «1»

إلى آخر الأبيات؛ حيث يريد إثبات أنه عليه السلام بمرتبة من الشهرة و المعروفية؛ بحيث تعرفه أرض بطحاء و بيت الله الحرام و الحل و الحرم، و هذا ما لا تراه إذا قيل: هذا الذي يعرفه أهل البطحاء و أهل البيت و أهل الحل و أهل الحرم.
و كذا في الاستعمالات التي يصرح فيها بنفي معنى و إثبات معنى آخر، كقوله تعالى: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» «2»، و كقوله: «ليس هذا بوجه، بل هو بدر» ... إلى غير ذلك من العبائر، و ما ذكرناه هو جمل يسيرة من كلماتهم، و عليك بالتتبع التام في حكم البلغاء و الفصحاء و عباراتهم، فإن كان لك ذوق سليم تصدق ما ذكرنا أحسن تصديق، و قد اقتبسنا ما ذكرناه من شيخنا العلامة أبي المجد الأصفهاني قدس سره صاحب «وقاية الأذهان» «3»، و قد أتى قدس سره في هذا الميدان بما لا مزيد عليه، و أتى بأمر بكر، و صدقه كل من عكف على كلامه أو على مقالته؛ بشرط أن يكون له ذوق و طبع سليم و ذهن مستقيم، و قد قال قدس سره:
 «إني لما ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة- كانوا يقرءون علي كتاب «الفصول» في النجف الأشرف سنة 1316- لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم و مجالس البحث، فتلقته الأذهان بالحكم بالفساد، و تناولته الألسن بالاستبعاد،
__________________________________________________
 (1)- رجال الكشي 1: 343، المناقب 4: 169، شرح شواهد المغني للسيوطي 1: 14.
 (2)- يوسف: 31.
 (3)- وقاية الأذهان: 103- 108.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 179
و عهدي بصاحبي الصفي و صديقي الوفي وحيد عصره في دقة الفهم و استقامة السليقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني- رحم الله شبابه و أجزل ثوابه- سمع بعض الكلام علي، فأدركته شفقة الاخوة، و أخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد هزيع من الليل، و كنت على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب، و هو بعد واقف على الباب، و قال: ما هذا الذي ينقل عنك، و يعزى إليك؟!
فقلت: نعم، و قد أصبت الواقع، و صدق القائل.
فقال: إذا قلت: في شجاع أنه أسد، فهل له ذنب؟!
فقلت له مداعبا: تقوله في مقام المدح، و لا خير في أسد أبتر.
ثم صعد إلي، و بعد ما أسمعني أمض الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام، فقبله طبعه السليم و ذهنه المستقيم، فقال: هذا حق لا معدل عنه، و لا شك فيه، ثم كتب في ذلك رسالة سماها: «فصل القضاء في الانتصار للرضا»، و من ذلك اشتهر القول به، و قبلته الأذهان الصافية، و رفضته الأفهام السقيمة» «1». انتهى.
هذا حال المجازات المفردة.
و كذا الحال في المجازات المركبة، بل لعل الأمر فيها أوضح، و ذلك كقولك للمتردد المتحير في أمر: «أراك تقدم رجلا و تؤخر اخرى»، فإنه لم تستعمل ألفاظه المفردة إلا في معانيها الحقيقية، لكن ادعي أن المتحير شخص متمثل كذلك، و لم يكن للمجموع المركب وضع على حدة؛ بحيث تكون أجزاؤه بمنزلة حروف الهجاء في المفردات؛ لتستعمل في معنى لم يوضع له، فليس للهيئة العارضة للمركب معنى غير ما يكون لمفرداته.
فإذا مفردات تلك الجملة و هيئتها استعملت فيما وضع له.
__________________________________________________
 (1)- نفس المصدر: 114- 115.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 180
نعم: قولك ذلك إنما هو بعد ادعائك: أن هذا الرجل المتحير المتردد في أمره، كأنه يقدم إحدى رجليه و يؤخر اخرى، و متمثل كذلك، و أن حاله و أمره يتجلى في هذا المثال كأنه هو.
فتحصل مما ذكرنا: أنه في جميع الاستعمالات التي يرونها استعمالات مجازية- سواء كانت في المفردات بأقسامها، أو في المركبات بأنواعها- استعملت الألفاظ فيما وضعت له، و التصرف و الادعاء إنما هو في تطبيق المعاني الموضوع لها على غيرها، و لم تستعمل الألفاظ في غير ما وضعت له.
و بعد ما عرفت ما ذكرنا، و تفحصت و تدبرت في لطافة محاورات الخطباء و الادباء و الشعراء، تذعن بما ذكرنا إن كان لك ذوق سليم و وجدان صحيح، و ترى أنه لا مخلص إلا بهذا القول و لا مفر عنه، فلك أن تتفطن مما ذكرنا إلى سقوط بعض المباحث الدارجة بين الادباء، و المندرجة في كتب القوم: من أن المجاز هل يحتاج إلى رخصة الواضع أم لا «1»؟ و البحث في أن العلاقة المجوزة هل هي نوعية أو صنفية أو شخصية «2» و عدد أنواع العلائق «3» ... إلى غير ذلك.
و السر في ذلك: هو أنه استعمل اللفظ في جميع المجازات فيما وضع له، نعم- كما أشرنا- لا بد من صحة الادعاء و حسنه، و هما مرتبطان بحسن السليقة و الذوق السليم.
ثم إنه غير خفي على المتدرب أنه على كلا المبنيين- المبنى المشهور و المبنى المختار- في المجاز لا بد من الادعاء، و إلا لا يكون الاستعمال مجازيا، بل إما غلط، أو لغرض آخر، مثل استعمال اللفظ في اللفظ، كما سنذكره قريبا، فإنه لم يستعمل اللفظ فيه‏
__________________________________________________
 (1)- شروح التلخيص 4: 22 سطر 25، الفصول الغروية: 25 سطر 33.
 (2)- المطول: 282، قوانين الاصول: 64 سطر 3.
 (3)- شروح التلخيص 4: 42- 43، الفصول الغروية: 24 سطر 17.
                       

جواهر الأصول، ج‏1، ص: 181
فيما وضع له، و هو ظاهر، و لم يكن في مقام الادعاء و التنزيل؛ حتى يكون مجازا على كلا المبنيين، فاستعمال اللفظ في اللفظ لم يكن استعمالا حقيقيا و لا مجازيا، بل شيئا آخر، كما سيظهر لك قريبا.
و بالجملة: لا بد في الاستعمالات المجازية من الادعاء، و إلا يكون الاستعمال غلطا أو لغرض آخر، و لذا ترى ذلك في كلمات الخطباء و البلغاء و الشعراء، و في كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام، عند كونهم في مقام إنشاء الخطب و إلقاء الكلمات البليغة و الاستعارات، و أما إذا كانوا في مقام بيان الأحكام و وظائف العباد، فهم كسائر الناس، لا يعتنون بالمجازات و الكنايات و الاستعارات، بل يلقون صراح المطالب و مخها إلى الناس، فتدبر.







فایل قبلی که این فایل در ارتباط با آن توسط حسن خ ایجاد شده است