إن المعنى المحوري للتركيب إذا أُحكم استخلاصه، فإنه يمكننا من إحكام تفسيرنا لمفردات التركيب في سياقاتها القرآنية، ويمكننا كذلك من تقويم التفسيرات المَرْويّة للفظ؛ لنختار منها ما نطمئن إلى صحته، ونستبعد ما يتجافى مع المعنى المحوري. وهذه جدوى بالغة القيمة؛ لأن كثيرًا من الألفاظ رُويت لها تفسيرات مختلفة، ولا يسعنا الاختيار العشوائي، وبخاصة إذا كان السياق يسمح بأكثر من تفسير. وهذا المعنى المحوري هو أهم مستويات التأصيل هنا.
ص 19
بعد الأمرين السابقين جئتُ بمعاني مفردات كل تركيب قرآني في سياقاتها -مع بيان وجه انضوائها تحت المعنى المحوري وانتمائها إليه- وهذا مستوى آخر من التأصيل. وقد التزمتُ في استقراء المفردات بالقدر الذي رجَحت أنه كافٍ -سواء كان السياق قرآنيًّا أو كان لغويًّا ليس من النص القرآني الكريم. وفي حالة السياق القرآني فإني أختار من المعاني التي تذكرها التفاسيرُ ما أعتقد أنه الأوْلَى أن يفسَّر به اللفظ القرآني في سياقه. وقد آتي بمعنًى لم تذكره التفاسير إذا اطمأننت إلى أنه الأدق أو الأوْلى بتفسير اللفظ الكريم. وقد حرصت على أن أعزو ما أخذته من التفاسير إليها، وكذلك ما كان من لسان العرب أو غيره من المعاجم، كما ميزتُ ما كان من كلامي أنا تحملًا للمسئولية. وأسأله تعالى مغفرةَ ما يمكن أن يكون فاتني من ذلك التمييز. ولم أترك من المفردات القرآنية إلا أسماء الأعلام الأعجمية، وربما بعض أحرف المعاني، وأسماءَ الإشارة والموصول والشرط.
ص 19-21
رابعًا: جئت ببيان العلاقة في المعنى بين تراكيب الفصل المعجمي الواحد. والفصل المعجمي يتمثل في التراكيب التي تبدأ بحرفين بعينيهما مرتَّبَيْن، سواء كانت تلك التراكيب ثلاثيةً أو رباعة. وقد ألحقنا بهذا الفصل ما توسَّطَ الحرفين فيه أو سبقهما أو تلاهما فيه حرفُ علة أو همزة، (مثلًا: بيان أن التراكيب: بدد، بدو، بيد، بدأ، أبد، بدر، بدع، بدل، بدن -وهي كلها من فصل (بدْ) - كلٌّ منها كلماته تعبر عن سورة من الفراغ والاتساع -وما إلى ذلك- بين الأشياء). ومعنى الفصل المعجمي هذا لفتَ إليه عدد من الأئمة في فصول جِدِّ محدودة، على ما سأفصّل في المبحث التالي. لكن دراستنا هذه كشفت اطِّراده، فكان من حق لغة القرآن ودارسيها، وحقِّ علماء اللغات أن نبرز هذه الخصيصة للغة العربية. وهذه الدراسة أحق بها؛ لأن هذه الخصيصة لا تثبت إلا بتطبيقٍ موسَّع كالذي نحن فيه، فالتقطناها حتى لا تضيع، وقد عزلنا سورة اطرادها في كل فصل في فقرة خاصة في آخره، لمن شاء أن يدرسها أو يغفلها.وتفصيل ذلك أنه تكشَّف لنا في أثناء الدراسة التي ذكرنا أمرها من (أولًا) إلى الآن: أن الحرفين الأول والثاني الصحيحين بترتيبهما من كل تركيب، وهما اللذان سميتهما الفصل المعجمي = يستصحبان المعنى الذي كانا يعبران عنه، وهما في صورة الثلاثي المضعَّف (فتّ) مثلًا، عندما يتصدران ثلاثيًّا منبسطًا، أو يشتركان في بناء ثلاثي منبسط تكوَّن منهما مع ثالثٍ غير ثاني المضعفين (فتح، فتر، فتش، فتق، فتك، فتل، فتن، فتو، فتى، فتأ) في هذا المثال، بل إن ذلك المعنى يظل معهما بصورةٍ ما، حتى لو سبقهما أو توسطهما حرفُ علة أو همزة، كما في (فوت) هنا، ولا يوجد تركيب (أفت ولا فأت) في هذا المثال.وأمرُ اطِّراد معنى الفصل المعجمي هذا له إيضاحات:الأول أنه من الطبيعي أن المعنى الذي كان الثلاثي المضعَّف يعبر عنه لا يوجد كاملًا في الثلاثي المنبسط الذي مثلنا له؛ لأن في الثلاثي المضعف حرفا مكررا هو الثاني والثالث، وهذا التكرار له قيمته في التعبير عن المعنى. في حين أن في الثلاثي المنبسط من التركيب المضعف حرفين فقط ("فت "مكون من ف+ ت+ ت، و "فتح "مكون ف+ ت+ ح). وبذا فإن المعنى الذي تعبر عنه (فت) يوجد ثلثاه فحسب في (فتح) وهكذا الأمر في (فتر) ... إلخ .. وهذا واضح وطبيعي؛ لأن لكل حرف في هذه اللغة قيمته. كما سأذكر قريبا هنا.
الإيضاح الثاني أن الحرف الثالث (الحاء في فتح مثلًا) له هو أيضًا معناه. وسيأتي الكلام عن معاني الحروف مفصَّلًا.الإيضاح الثالث أن معاني الأحرف التي يتكون منها التركيب تتفاعل معًا حسب معنى كلٍّ منها، وحسب موقعه في التركيب، أي كونه هو الحرف الأول أو الثاني أو الثالث. والمعنى الكامل لأي تركيب أو كلمة من تركيب هو حصيلة هذا التفاعل. ولا شك أن العرب كانوا يشعرون بالمعنى الجُملي الذي هو حصيلة هذا التفاعل عندما اختاروا كل لفظ من أحرف معينة، بترتيب معين، ليعبر عن معنًى بعينه: تسميةً لشيء مادي في البيئة، أو قوليةً صوتية لمعنى في نفوسهم. والفصل المعجمي هذا مستوى بالغ الأهمية من مستويات التأصيل للألفاظ والمعاني في هذا المعجم.
ص 19
جئت -في أول معالجة كل فصل معجمي- ببيان معنى كل من حروف الهجاء المشتركة في بناء ذلك الفصل وتراكيبه. (وسيأتي قريبا تفصيل ذلك). وهذا هو المستوى الأخير من التأصيل في هذا المعجم.
ص 23-24
إن تبيُّن صحة فكرتَيْ المعنى المحوري والفصل المعجمي وتحققهما باطراد في آلاف التراكيب ومئات الفصول المعجمية = لا يفسَّر إلا بوجود ارتباط علمي يقيني بين الألفاظ ومعانيها بصورة مجملة، ثم بين مكونات الألفاظ ومعانيها بصورة مفصَّلة. ومكونات الألفاظ هي الحروف الألفبائية. إن اطِّراد معنى التركيب ذي الأحرف المعينة بترتيب بعينه - في مفردات هذا التركيب يثبت ارتباطًا محدودًا بين أحرف هذا التركيب ومعناه [كلما وُجدت أحرف كذا بترتيب معين وُجد معنى كذا = كلما وُجد (أ) وجد (ب)]. ثم إن اطراد ذلك في آلاف التراكيب (حيث لا بد أن تستعمل كل أحرف الهجاء، وفي كل المواقع: صدرًا ووسطًا وآخِرًا ضرورةً، تفاديًا للتكرار) -مع اطِّراد تغير المعنى تبعا لتغير الحروف ولتغير مواقعها = كل ذلك يثبت أن لكل حرف ألفبائي معنى مستقلًّا، وبخاصة مع ثبوت التلازم بين جنس المعنى ووجود الحرف. واطرادُ سورة من معنى الحرف المعين، ومن معنى الفصل المعجمي في ثلاثياته، مع وجود مقابل الحرف الثالث، هو أيضًا يثبت أن لكل حرف ألفبائي معنى مستقلًّا
ص 24
ثم تبين إمكان ربط معنى الحرف بجرسه الصوتي، وخصائصه الصوتية المتمثلة في مخرجه، وكيفية خروجه بصفاته؛ فحاولت تحديد ذلك أخذا بالأصل، وهو التعبير لا العشوائية. وهذا التعبير هو ما يُسَمى المناسبة بين أصوات اللغة ومعانيها، وقد سبق إلى بيانه وإثباته الإمام ابن جني (١). هذا مع كون المعنى اللغوي للحرف ومناسبته صوتيا لمعناه متعدِّدَي الصور، في نطاق المعنى نفسه والمناسبة (٢). وذلك طبيعي، لاشتراك الحرف في تراكيب بالغة الكثرة، متنوعة المعاني. وقد حددنا لكل حرف معناه؛ تحقيقا وخروجا عن الهلامية.وبثبوت ذلك كله بما يشبه رَأْيَ العين، فإنه ما كان يسوغ لي ولا لغيري أن يغفل هذه الخصيصة للعربية، فتندفن وتغيب عن أهلها -في حين أنها حق العربية، وحق لأهلها، وهي من ذكرهم الذي امتن الله به إذ أنزل القرآن بالعربية {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤)} [الزخرف: ٤٤].