بسم الله الرحمن الرحیم

قاعدة الاحکام تدور مدار الاسماء

فهرست فقه
قياس در شرع
قیاس و تنقیح مناط




فرائد الأصول ؛ ج‏3 ؛ ص299
كما أنّ العلماء أيضا لم يفرّقوا في الاستحالة بين النجس و المتنجّس، كما لا يخفى على المتتبّع‏ ، بل جعل بعضهم‏ الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة ، حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ‏ .
و ممّا ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة - تبعا للفاضل الهندي قدّس سرّه‏ -: من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم‏ حتّى يطهر بالاستحالة، بل لأنّه جسم لاقى نجسا، و هذا المعنى لم يزل‏ .

[مراتب التغيّر و الأحكام مختلفة:]
فالتحقيق: أنّ مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة، بل الأحكام أيضا مختلفة، ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب، و في بعض آخر لا يحكمون بذلك و يثبتون الحكم بالاستصحاب، و في ثالث لا يجرون الاستصحاب أيضا، من غير فرق- في حكم النجاسة- بين النجس و المتنجّس.
فمن الأوّل: ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّيّة أو الطهارة أو النجاسة، فإنّ الظاهر جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر و الزبيب، فكأنّهم يفهمون من الرطب و العنب الأعمّ ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين؛ و لهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر. و الظاهر أنّهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام المذكورة إلى الاستصحاب.
و من الثاني: إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول و بالعكس، و كذا صيرورة الخمر خلّا، و صيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت، إلّا أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق، إمّا للنصّ، كما في الخمر المستحيل خلّا ، و إمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل إليه، فإنّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال إليه إذا كان بولا لمأكول‏ ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب، بل هو من الدليل، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير مأكول.
و من الثالث: استحالة العذرة أو الدّهن المتنجّس دخانا، و المنيّ حيوانا. و لو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل.

[معنى قولهم: «الأحكام تدور مدار الأسماء»:]
و ممّا ذكرنا يظهر أنّ معنى قولهم «الأحكام تدور مدار الأسماء»، أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها و عدمها، فإذا قال الشارع: العنب حلال، فإن ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم، دار الحكم مداره، فينتفي عند صيرورته زبيبا، أمّا إذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّيّ الموجود في العنب المشترك بينه و بين الزبيب، أو بينهما و بين العصير، دار الحكم مداره أيضا.
نعم، يبقى دعوى: أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان، و تقوّم الحكم به، المستلزم لانتفائه بانتفائه.
لكنّك عرفت: أنّ العناوين مختلفة، و الأحكام أيضا مختلفة ، و قد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم، و اختيار الفاضلين له‏ .
و دعوى: احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجيّة، و إلّا فظاهر اللفظ كون القضيّة ما دام الوصف العنوانيّ، لا تضرّنا فيما نحن بصدده؛ لأنّ المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع و عدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة، و لا على ما يقتضيه الدليل اللفظيّ إذا كان العرف بالنسبة إلى القضيّة الخاصّة على خلافه.
و حينئذ، فيستقيم أن يراد من قولهم: «إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء» أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعيّة ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل، فيراد من هذه القضيّة تأسيس أصل، قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره، فافهم.













العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 177‌
العنوان السادس في تبعية الأحكام للأسماء و الأشارة إلى المراد من (بقاء الموضوع) في الاستصحاب‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 178‌
عنوان 6 من الضوابط اللازمة المراعاة في أبواب الفقه: أن الأحكام تتبع الأسماء. و ذكر الفقهاء في المطهرات: أن الاستحالة من المطهرات. و ذكر الأصوليون: أن الاستصحاب يشترط فيه بقاء الموضوع. و قد اختلط هذه المباحث على طائفة من المتأخرين، و نحن و إن لم نكن في صدد ذلك، لكن نذكر كلمات مختصرة هنا مقدمة على ما نريده من الإشارة إليه من الضوابط. فنقول: معنى قولنا: (إن الأحكام تابعة للأسماء) أن الأدلة الدالة على بيان الأحكام لما كانت لفظية أو آئلة إلى اللفظ لا محالة فلا بد من التعبير عن موضوع ذلك الحكم بلفظ من الألفاظ، فإذا عبر عن ذلك بلفظ: فتارة: نعلم أن لخصوص هذا اللفظ مدخلية «1» في هذا الحكم، لا بمعنى أن غيره لا يثبت فيه هذا الحكم، بل أن هذا الشي‌ء متى ما تغير اسمه المخصوص «2» لم يثبت فيه هذا الحكم.
و تارة: نعلم أن هذا الاسم لا خصوصية له في أصل الحكم، و إنما الحكم لأمر‌
______________________________
(1) في «ن، ف»: خصوصيّة هذا اللفظ له مدخليّة.
(2) العبارة في «ن، ف»: بل هذا الشي‌ء متى ما تغبّر اسم هذا.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 179‌
كلي و هذا فرد من أفراده، عبر به: إما لأنه موضع الحاجة، أو لأنه غالب الأفراد، أو لمعلومية بيان حكم غيره، أو نحو ذلك. و تارة: نشك في مدخلية الخصوصية و عدمها. و لنوضح ذلك كله في مثال حتى يتضح الأمر، مثلا: إذا قال الشارع: (البول نجس و الكلب نجس) علمنا أن هذه النجاسة لهذا الاسم، فلو أزيل عن هذين الجسمين هذان الاسمان ككون البول ماء بالاستهلاك أو كون الكلب ملحا أو ترابا فلا نجاسة في ذلك. و أما في قوله: (الناصبي نجس و اليهودي نجس و النصراني نجس و المجوسي «1» نجس) علمنا من خارج أن الكافر نجس و هذه كلها من أفراده، فلا مدخلية لخصوص اليهودية في ذلك. فلو انقلب اليهودي نصرانيا أو صار كافرا آخر لا اسم له في عناوين الأخبار لقلنا بأنه أيضا نجس. و كذا لو قال: (إن الثوب إذا لاقى نجسا أو القطن إذا لاقاه أو الطين إذا لاقاه كان نجسا) علمنا أن هذه الأسماء لا مدخل لها في ذلك، و إنما الميزان: كونه جسما لاقى نجاسة، و إن ورد في الروايات بأسام خاصة على حسب الحاجات. و في قول الشارع: (الماء إذا كان كرا لا ينجس بالملاقاة) نشك في أنه إذا انجمد «2» فصار ثلجا هل هو كذلك أم لا؟ من جهة أنا لا ندري أن الحكم للفظ (الماء) أو لهذا العين الخاص كيف كان، و كذا في عصير العنب و عصير الزبيب و نحو ذلك. فنقول: ما علمنا فيه عنوان الحكم من خارج عاما أو خاصا فهو المتبع، إذ يصير حينئذ الاسم المعلق عليه الحكم ذلك الذي فهمناه و إن عبر في غير مقام بأخص منه و بزوال ذلك الاسم يزول الحكم المتعلق به من جهة هذا الاسم و إن لحق من جهة أخرى، فإن الخمر المنقلب خلا يطهر من هذه الحيثية و إن لحقه‌
______________________________
(1) في «ن، ف»: المجوس.
(2) في «ن»: تجمّد.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 180‌
نجاسة مع «1» ملاقاة نجس و نحوه. و ما شككنا فيه فاللازم اتباع ذلك الاسم الذي عبر به في دليل الحكم. و على الأقسام الثلاثة فالحكم صار تابعا للاسم، لا أسامي الموجودات و الأعيان الخارجة مطلقا، بل الاسم الذي علمنا من خارج أو تعبدا من ظاهر اللفظ أنه موضوع الحكم. إذا عرفت هذا فاعلم: أن ما صرنا إليه من طهارة النجاسات و المتنجسات أيضا بإحالة النار رمادا أو دخانا ليس لقاعدة «2» تبعية الحكم للاسم و إن جاء في بعض أفرادها، و لا لعدم حجية الاستصحاب مع زوال الاسم مطلقا حتى يرجع إلى قاعدة الطهارة و إن كان متجها في بعض الفروض، بل إنما هو لأدلة تعبدية قامت على مطهرية النار، فراجع ما حققناه في مطهرات (الحياض المترعة) شرحنا على المختصر النافع حتى تقف على تنقيح المقام بمالا مزيد عليه، و هو الظاهر أيضا من أصحابنا. و لهذا تسرى بعضهم إلى الفحم و الخزف و الآجر و الجص و نحو ذلك، بل تسرى الشيخ رحمه الله إلى خبز العجين النجس «3». و هذا كله مما دل على مطهرية النار، و لا ربط له بمسألة الاسم و الاستصحاب و الاستحالة. نعم، مطهرية الاستحالة مأخوذة من هذه القاعدة، و مدارها على تغير الاسم الذي هو عنوان الحكم، سواء علم من قرائن خارجية أو أخذ تعبدا من النص. و قد ورد رواية في الخمر أيضا «4» مشيرا إلى هذه القاعدة، و منبها على العبرة بالخروج‌
______________________________
(1) في «م»: تظهر من هذه الحيثيّة و إن لحقها نجاسة من.
(2) في «ن، ف»: بقاعدة.
(3) قال الشيخ في النهاية في باب المياه: «فان استعمل شي‌ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به و يخبز لم يكن به بأس بأكل ذلك الخبز، لأنّ النار قد طهّرته» لكنّه في باب الأطعمة أفتى بعدم جواز أكل ذلك الخبز، انظر النهاية: 8، 590.
(4) الوسائل 17: 297، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 5.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 181‌
عن اسم الخمر. و تخيل جماعة ترتب فروع مطهرية النار على الخروج عن الاسم أوقعهم في اضطراب، و لم يتمكنوا من التخلص. و الحق معهم، فإنه كيف يصير النجس أو المتنجس رمادا فيطهر؟ مع أنه في الثاني موضوع الحكم (الجسم الملاقي للنجاسة) و الرماد جسم كذلك. و إن أريد من ذلك زوال اسم الخشب فما بال الخبز و الخزف و نحو ذلك؟ و إن أريد انسلاخ الحقيقة فالضابط فيه أي شي‌ء؟ فإن أريد الآثار و الصفات فلم لا يطهر اللبن بصيرورته جبنا و نحو ذلك، و العصير المتنجس بصيرورته دبسا؟ و الحل: أن مسألة النار للدليل. نعم، باب الاستحالة على هذه القاعدة، و ميزانه انقلاب الاسم الذي هو العنوان في الحكم، و هذا شي‌ء لا يتخلف في مورد حتى يحتاج إلى تعب في ضبطه. و أما الاستصحاب: فنزاع من صرح بعدم العبرة بالاسم فيه تمسكا بأن القطن النجس إذا صار غزلا أو ثوبا أو غير ذلك أو صار العجين خبزا أو الحنطة دقيقا فلا ريب في جريان الاستصحاب، لعموم المقتضي و عدم المانع، و من صرح باعتبار الاسم فيه، و لذا لا يستصحب «1» نجاسة الكلب بعد الملحية و العذرة بعد الترابية كالفاضل المعاصر المحقق المدقق الملا أحمد النراقي في عوائده «2» لفظي «3»، إذ الظاهر من كلام «4» من لم يعتبر الاسم يريد به الأسماء الخاصة التي لا يدور الحكم مدارها كما نبه عليه ما ذكره من الأمثلة و من اعتبر الاسم يريد عنوان الحكم المعلوم من تتبع الأدلة، و لا ينبغي أن يكون مثل ذلك مطرحا بين الفضلاء، إذ بقاء الموضوع في الاستصحاب شرط قطعا‌
______________________________
(1) كذا في «م» و في سائر النسخ: لا تستصحب.
(2) عوائد الأيّام: 207.
(3) هذا خبر لقوله: فنزاع.
(4) من كلام: لم يرد في «ف».



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 182‌
و ليس المراد بالموضوع إلا ما هو عنوان الحكم الذي ذكرناه في كون الأحكام تابعة للاسم، فليس الاسم شرطا في الاستصحاب بالمعنى الذي ليس بشرط في قاعدة لحوق الحكم، و شرط فيه بالمعنى الذي يشترط فيه، فيكون اشتراط بقاء الموضوع فرعا من فروع كون الحكم تابعا للاسم بالمعنى الذي ذكر. و المراد بموضوع الاستصحاب أيضا ذلك الاسم، و العبارة الجامعة للاسم و الموضوع ما نقول في أبواب الفقه: (إن الأحكام تتبع عناوينها) و إن شئت توضيح هذا المدعى فارجع إلى باب النكاح و الرضاع، و مستثنيات العلامة عن قاعدة الرضاع «1» و ما ذكره في حلها من تأخر عنه، فتدبر و تبصر. و حيث انجر بنا الكلام إلى باب الألفاظ، فنذكر بعون الله هنا قواعد كلية مشتركة في أبواب الفقه «2» يعم نفعها لأهل هذا الفن و طالبيه. فنقول: الموضوع الذي تعلق به الحكم من الشارع ابتداء أو بواسطة أخذ المكلفين له عنوانا في معاملاتهم، إما أن يكون مشتركا مع غيره في شرط أو جزء، أو لا. و على التقديرين: قد يكون هذا محدودا من أصل الشرع مضبوطا، و قد يكون غير محدود. و على الثاني: قد يكون ما ينبغي أن يرجع إليه في فهمه من العرف و العادة أو اللغويين غير مختلف في ذلك، و قد يكون فيه اختلافا،
فيحتاج هنا إلى تحرير أربع ضوابط.
الضابطة الأولى: إذا كان الموضوع الذي تعلق به الحكم في الشريعة تكليفيا أو وضعيا مشتركا بينه و بين موضوع آخر مغاير له في الحكم‌
، سواء كان هذا الموضوع من الأفعال الصادرة عن المكلفين أو من الأعيان الخارجية، أو ما هو بمنزلة الأعيان‌
______________________________
(1) استثنى العلّامة قدّس سرّه من ضابط «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» أربع صور، راجع التذكرة 2: 614.
(2) في «ف»: بين أبواب الفقه.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 183‌
و بعبارة اخرى: الموضوع الخارجي فهنا يتخيل صور عديدة: أحدها: أن يكون لهذا المشترك ظاهر ينصرف إطلاقه و خلوه عما يغيره إليه، و هو أحد الفردين. و ثانيها: أن لا يكون له لنفسه ظاهر كذلك، بل يحتاج تعيينه إلى معين من خارج. و الأول أيضا قسمان: أحدهما: أن يكون ذلك الظاهر قابلا للانصراف بمجرد النية و القصد، بحيث إن أهل العرف مع اطلاعهم على هذا القصد يقولون: إنه كذا، و يطلقون عليه عنوان ما خالف ظاهره حقيقة. و ثانيهما: أن يكون انصرافه بضميمة شي‌ء خارجي يلحقه بالقسم الأخر و إن لم يكن هناك قصد و نية. و هذا أيضا قسمان: أحدهما: أن يكون المعين الخارجي بحيث لا تعارضه النية، بمعنى أنه لو كان قصد خلافه أيضا لم يؤثر، بل يصرفه ذلك المميز إلى ما يقتضيه. و ثانيهما: أن يكون المعين لا يعارض النية، بمعنى: أنهما لو تعارضا يتبع الصدق العرفي النية دون المميز الخارجي. و الذي لا ظاهر له أيضا أقسام. أحدها: أن يكتفي بتعينه بالنية، و ليس هنا مميز آخر. و ثانيها: أن له مميز آخر و لا تنفع فيه النية بدونه. و ثالثها: أن يمكن تميزه بالنية و بالمعين الخارجي أيضا أيا ما كان. و رابعها: أن لا يتميز إلا باجتماعهما معا، و بدونه مجمل. و الثالث أقسام: أحدها: أنه إذا تعارض القصد مع المميز الخارجي غلب النية.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 184‌
و ثانيها: أنه مع التعارض يغلب المميز الخارجي. و ثالثها: أنهما يتكافئان و يبقى الفعل بعد ذلك مشتركا. فهذه أصول الأقسام المتصورة في المقام. و الذي ينبغي أولا ذكر جملة من الموارد حتى يتنبه بذكرها إلى «1» تطبيق الصور و الأحكام الاتية: منها: الأعمال المأمور بها من وضوء أو غسل أو تيمم أو تطهير أو نزح بئر أو صلاة أو حج أو شي‌ء من أفعالهما، أو جهاد أو عقد أو إيقاع أو حد أو تعزير و الحاصل: جملة الأعمال الصادرة من المكلف الذي تعلق به الحكم التكليفي أو الوضعي فإنها غالبا مشتركة بين المأمور به و غيره، إما بنوعه أو بوصفه أو بكمه أو بكيفه، فالذي يريد أن تترتب عليه الآثار من ثواب أو أمر دنيوي فلا بد حينئذ من إتيان السبب المجعول بحيث يصدق عليه ذلك الخطاب الجاعل للحكم. و بعبارة اخرى: يندرج تحت العنوان المأخوذ في الشرع، و يجي‌ء في ذلك الأقسام المذكورة، فعليك بالتأمل في تطبيقها حسب ما وافقها من الموارد. و منها: مثلا كتابة القرآن، و اسم الله و الأنبياء و نحو ذلك الذي يحرم على الجنب و المحدث مسه، فإن في الكتابة مثلا أشياء مشتركة بين القرآن و غيره، فلا بد في تعلق الحكم به من مميز. و منها: سور العزائم التي يحرم قراءتها على الجنب و الحائض، فإن كلماتها مشتركة بينها و بين غيرها. و منها: البسملة التي هي آية مثلا من سورة، فهي مشتركة، فإذا وجبت سورة في الصلاة فهل يجب تعيين البسملة أم لا؟ ثم إنه يتعين بأي شي‌ء؟ و منها: أواني الفضة و الذهب يحرم عملها و استعمالها، فإن من يعمل شيئا من ذلك له أن يغيره فيجعله كرة أو قنديلا و نحو ذلك، و هل يكون تعينه بإتمامه‌
______________________________
(1) كذا في النسخ، و الصواب: على.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 185‌
و مميزاته، أو بالقصد، أو بهما على ما فصل؟ و منها: آلات اللهو و القمار و هياكل العبادة التي يجب كسرها و إتلافها، و يحرم عملها و اقتناؤها و استعمالها و بيعها و نحو ذلك، و الكلام فيه كأواني الذهب. و منها: الصور المجسمة التي يحرم عملها، و يجب إتلافها على وجه غير بعيد، فإنها أيضا في أول أمرها مشتركة يجي‌ء فيها الكلام السابق. و منها: التزين بالحناء و الخاتم في الإحرام، فإنه في ذاته مشترك بين الزينة و السنة. و منها: التكبير و التلبية القابلة لكونهما للإحرام و عدمه، و كان هذا داخلا في عموم ما ذكرناه أولا، لكن ذكرناهما بالخصوص لتعلق بعض المباحث بهما. و مثله التسليم المخرج للصلاة. و منها: الوطن الذي تعلق به الأحكام الشرعية في السفر و الاستطاعة و نحو ذلك. و منها: سفر المعصية و الطاعة المنوط بهما الترخص و عدمه، و كذا الحرمة و عدمها. و منها: كلب الماشية و الزرع و الصيد الذي تعلق «1» به الأحكام الممتازة عن سائر الكلاب في المعاوضة و الاقتناء و التربية. و منها: الإعانة على الإثم و الظلم. و منها: تعظيم شعائر الله أو الإهانة، فإن الأفعال مع شدة اشتراكها يشكل تميز هذه الموضوعات. و منها: التدليس المحرم في المعاملات و الأنكحة و غيرها. و منها: الالتقاط و الأحياء و الحيازة القابلة للتملك و عدمه، و كذا الاصطياد. و قس على ذلك نظائرها الواردة في أبواب الفقه من كل فعل أو عين و «2» نحوه‌
______________________________
(1) في «ن»: يتعلّق.
(2) في «ن»: أو نحوه.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 186‌
قابل للاحتمالين المختلفي الحكم. فنقول: إذا «1» كان لذلك الفعل أو العين ظاهر ينصرف إليه إطلاقه بحيث لا يصرفه عنه صارف أصلا و رأسا كإحراق جسد امرء مسلم، أو إلقاء النجاسات على الضرائح و المساجد المعدود عرفا من الإهانة، و الكتابة في ديوان الظالمين و الرأي لهم في أمورهم بحيث يعد عرفا معينا على ظلم فلا كلام في تعلق الحكم، و هذه المرتبة في الحقيقة خارجة عن المشتركات و إن كان الفعل أو العين في ذاته مشتركا قابلا لغيره أيضا. و قس على ذلك كل مرتبة من المشتركات السابقة لو وصلت إلى هذه المرتبة و إن كان له ظاهر في نفسه. لكن لو كان صارف يصرفه من خارج أو من نية فذلك أيضا يتعلق به الحكم بمقتضى ظاهره، و لا يحتاج إلى مشخص، بل يحتاج إلى عدم وجود مغير. و على هذا يتفرع الإتيان بكل مأمور به عند صدور الخطاب به و إن لم ينو به شي‌ء خاص، و كذلك أجزاء كل عبادة و شرائطها من صلاة و حج و وضوء و غسل و تيمم و اعتكاف و صيام رمضان، فإن كل جزء من أجزاء هذه العبادات و إن كان قابلا لأمور كثيرة و لكن النية الإجمالية المتعلقة بالمجموع المركب في أول الأمر توجب ظهور كل جزء و شرط في محله في كونه من هذه العبادة «2» و إن لم ينو الجزء، فلا يحتاج في الركوع و في الطواف و نحو ذلك و حركات السعي و غيره نية خصوص الانحناءات و الحركات. و بهذا يتفرع بطلان العبادات بزيادة الأركان و إن لم ينو مثلا كونه ركوعا، لأن هذه الهيئة في الصلاة ظاهرة في الركوع. و مثل ذلك في وجود الظاهر كون العادة للرجل قراءة سورة التوحيد، فإن إطلاق البسملة ينصرف إليه، و كذا كون الرجل كاتبا للقرآن في عادته، فكل حرف‌
______________________________
(1) في مصحّحة «ن»: إن كان.
(2) في «م»: العبادات.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 187‌
كتب في الورق المعد له و إن ذهل عن القصد فهو قرآن، و كذا المعتاد لعلم آلة اللهو و القمار و عمل الصور المجسمة و هياكل العبادة، أو للسفر على قتل أو نهب للمسلمين، أو للكسب بحيازة أو اصطياد أو أحياء، أو المعتاد على تكبيرة واحدة في صلاته، فإن العادة تصير الشي‌ء المشترك مما له ظاهر و هو ما وافق العادة، و لا يحتاج بعد ذلك إلى انضمام مميز خارجي محقق للاسم أو نية، فإن بمجرد الشروع و لو عاريا عن القصد يصدق الاسم و يلحق أحكامه.
و مثل ذلك الاستيجار على عمل أو نذر ذلك، و أمثال ذلك مما يكون موجبا للانصراف. و نحو ذلك مسح شي‌ء من شعائر العبادة كالتربة الحسينية أو الضريح أو جدار المسجد أو نظائر ذلك مثلا بذكره، أو جعل شي‌ء من ذلك في مقعده، فإنه ظاهر في الإهانة إلا أن يصرفه صارف. و كذلك عمل شي‌ء من الآلات المحرمة بحيث يصدق عليها أسماؤها لو خلي و طبعه، فإنه ظاهر في ذلك محرم، إلا أن يعارضه شي‌ء آخر. و لو عارض هذا الظاهر الحاصل من نية إجمالية أو عادة أو عقد أو صدق صورة عرفية كما فصلناه نية مغيرة لذلك فهو المتبع، كمن قصد في صلاته الانحناء لقتل حية أو عقرب، أو قصد المعتاد للعمل خلاف عادته من أول الأمر في جميع الأمثلة المذكورة، أو نوى فيما يصدق بظاهره الاسم شيئا آخر، كقصد الشفاء من التربة و مسح الضريح بذلك أو قصد تسوية تلك الإله شيئا آخر و إن كان في أثناء العمل يكون كذلك، فإن عمل القنديل يتركب من عمل آنيتين، و كذلك الكرة و قس عليه سائر الآلات فلو كان قصد العامل مخالفا لذلك فلا بأس. و كذا الوارد في بلد آخر لو قصد به الاستيطان على الدوام، إذ العرف بعد الاطلاع على قصده لا يسمونه بذلك الاسم حقيقة، لا أن العرف يسمونه بذلك و مع‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 188‌
ذلك فلا بأس به، لأنا قدمنا في القسم الأول أن ما يعد إهانة عرفا مطلقا مثلا حرام، و لا ينفع فيه تغيير القصد اتباعا لمدلول الدليل و عنوان الحكم. و كذا لو حصل مميز قهري يوجب الخروج عن هذا الظاهر، كمن اشتغل بما يكون صورته جزء عبادة، لكنه غيره بإلحاق شي‌ء آخر به. و كذا لو أتبع البسملة بسورة أخرى، فإن لحوق السورة يجعل البسملة من نفسها صدقا عرفيا، و لا يحتاج إلى أن ينوي البسملة من سورة القدر، و نحو ذلك وصل المشترك من القرآن بما يختص به، فإن المجموع المركب يعود قرآنا يلحقه أحكامه. و وصل الآلات المحرمة بما يخرجها عن اسمها، و كذا تخريب شي‌ء من المساجد أو المشاهد إذا اقترن بأمارات التعمير و إن لم ينو به شي‌ء من ذلك، و البقاء في بلد آخر بحيث صدق الاستيطان و لو عاريا عن النية، أو الحق بالكلب ماشية و نحوها، أو تصرف في المحيي و المحاز تصرفا ظاهرا في الملك، فإن ذلك كله كاف «1» في لحوق الأحكام. و لو تعارض النية و المميز الخارجي كمن نوى البسملة لسورة و قرأ غيرها، أو قصد عدم الاستيطان لكن طالت المدة، أو قصد تسوية شي‌ء من الآلات المحرمة فاتصل بما أخرجه عن الاسم، أو قصد غيرها فصار بعد تمامه يطلق عليه الاسم، أو نوى عدم الملك و تصرف ما يدل على التملك، أو قصد بأفعاله رفع الظلم لكن وقع ما يوجب إعانة على الظلم و نحو ذلك، أو نوى في المشترك عدم القرآنية فكملها بما يوجب صدق القرآن فالذي يقتضيه النظر: أن في الأعيان الخارجية كالآلات و الكلاب، و نحوها «2» كالكتابة و القراءة بالنسبة إلى الأحكام الوضعية أو التكليفية المتعلقة بها يغلب جانب المميز الخارجي، و في نفس الأفعال يغلب النية، فتدبر.
______________________________
(1) في «ن، ف»: كافية.
(2) في «ن، ف»: و نحوهما.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 189‌
و أما ما لا ظاهر له بذاته، أو بسبب شي‌ء مما مر كما هو الغالب في الأفعال المشتركة فلا ريب في اعتبار النية في ذلك إذا لم يكن له مميز خارجي، إذ لا يتحقق الموضوع إلا بذلك. و كثير من الأمثلة التي ذكرناها و أغلب أبواب الأحكام التكليفية يدور مدار هذا، إذ الغالب عدم وجود مميز خارجي للأفعال، فتدبر. و إن كان له مميز خارجي أيضا، كتصرف المحيي كيفية تدل على تملكه كأحداث بناء و نحوه مما يعلم من ملاحظة ما ذكرته في ما له ظاهر إذ الظاهر الذي فرضناه إنما هو لأمور عارضية من عادة و نحوها، و إلا فما ذكر في هذه الموارد كلها داخلة فيما لا ظاهر له فالظاهر كفاية المميز أيضا في لحوق الأحكام الشرعية، و لا حاجة في ذلك إلى النية لصدق الاسم الموجب للحكم تكليفيا أو وضعيا. و الكلام في صورة اجتماعهما متطابقين واضح لوجود المعين ظاهرا و باطنا. و أما مع التعارض فيظهر حكمه مما مر، فتبصر و تدبر في الموارد حتى يتضح لك حقيقة الأمر.
الضابطة الثانية: الذي ورد له تحديد في الشرع فهو أقسام:
منها: ما حدد بالزمان، كيوم التراوح، و الرضاع، و مسافة القصر، و سن البلوغ، و سن اليأس، و أقل الحيض و أكثره، و أقل الطهر، و أكثر النفاس، و ثلاثة أيام لمشتبه الموت، و عشرة الإقامة، و ثلاثين التردد، و حول الزكاة، و ثلاثة الرباط أو أربعينه، و استبراء الأمة خمسة و أربعون يوما، و ثلاثة خيار الحيوان و التصرية و مهلة الشفيع و خيار التأخير، و سنة العنين و تعريف اللقطة، و أقل الحمل، و أوقات العدة، و مدة تربص الإيلاء، و أحوال الدية، و نحو ذلك الآجال التي تجعل للديون أو للسلم أو لخيار الشرط، أو غير ذلك من الآجال التي تصدر بجعل المكلفين برخصة الشارع لهم في ذلك.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 190‌
و منها: ما حدد بالوزن، كالكر بالأرطال، و صاع الغسل، و مد الوضوء، و الدينار في كفارة وطي الحائض، و دراهم الكافور، و مد الصدقات في مواضع، و نصاب النقدين و الغلات، و صاع الفطرة و بعض كفارات الحج، و بعض خصال الدية كالدرهم و الدينار «1». و منها: ما حدد بالمساحة، كالكر، و بعد البالوعة بالأذرع، و مساحة أعضاء الوضوء و التيمم، و أوقات الصلاة و النوافل بالمثل و المثلين و الأقدام، و بعد الرجل و المرأة بعشرة أذرع في الصلاة، و مسافة القصر، و مسافة حضور مكة و الخروج عنها بالنسبة إلى الحج، و تباعد رامي الجمرة، و فراسخ التلقي، و حدود الحريم. و منها: ما حدد بالعدد، كدلاء البئر، و نصب الشاة و الإبل و البقر، و بعض الكفارات، و بعض خصال الدية كالإبل و الحلة، و أعداد الرضعة، و أعداد الطواف و السعي، و غير ذلك. و تارة يكون بغير ذلك من التحديد بالهيئة و نحوه، كتحديد الركوع ببلوغ أطراف الأصابع إلى الركبة، و نظائره.
و هنا مباحث:
الأول: أن السر في هذه التحديدات‌
كما قررناه في مقامات خاصة في شرحنا على النافع المسمى ب (الحياض المترعة) ليس لخصوصية في هذه المقادير بأنفسها غالبا، بمعنى: أن الكر مثلا عنوان لكثرة الماء و قوته في عدم الانفعال، و السنة في التعريف من جهة شدة الاهتمام بالوصول إلى المالك، و في العنين من جهة احتمال القدرة على الجماع في أحد الفصول، و المسافة في القصر لحصول المشقة، و الحريم في العامر لأجل عدم الضرر بصاحبه، و نظير ذلك يجي‌ء في أغلب هذه التحديدات.
______________________________
(1) في «ن، ف»: كالدراهم و الدنانير.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 191‌
و ليس غرضنا من هذا الكلام: أن التحديد غير تعبدي بل المدار على حصول العلة، بل المقصود: أن المصالح الواقعية على ما يفهم من تتبع الموارد ليست مقصورة على الحد الخاص، بل شي‌ء «1» يمكن حصولها بالأقل و بالأكثر، كما لا يخفى على المنصف. و معلوم للفقيه: أن غرض الشارع أولا و بالذات أيضا «2» هذه التحديدات، بل إلغاء الخصوصية و قصر الحكم على الضوابط العامة. و يرشد إلى ذلك تعليل النصوص و الفتاوى أيضا في هذه المقامات بملائمات و مناسبات، أتى بها في النصوص بسياق العلة و في الفتاوى بطريق الحكمة. و سر جعلهم له حكمة مع استدلالهم به و ظهوره من النص من باب التعليل لما عرفوا من طريقة الشارع عدم إحالة الأحكام على مثل هذه الأمور الغير المنضبطة. و قد خالف في هذه التحديدات جماعة من الأصحاب في بعض مقامات الباب، رجوعا إلى «3» ما هو المعلوم من القاعدة و التعليل و طرحا للخصوصية، حتى اجترأ الكاشاني في باب الكر، حيث جعل الميزان في الانفعال التغير و العدم كما استفيد من النص و الإجماع و جعل الكرية كاشفة عن التغير و عدم التغير «4» فيكون قول الشارع: (لا ينجسه شي‌ء) أي: لا يغيره. و إن شئت تفصيل كلامه فراجع ما كتبناه في المياه. و جعل الفاضل العلامة باب الحريم مبنية على عدم الإضرار «5» و ألغى خصوصية الأذرع المحدودة في الشرع «6» المفتي بها عند فقهائنا. و نظير ذلك قاله بعضهم في البئر و البالوعة و في سنة التعريف، حيث جعل الميزان اليأس من المالك. و لا ريب أنه يمكن إبداء مثل هذا الاعتبار المناسب‌
______________________________
(1) كذا في النسخ، و المناسب: أشياء.
(2) في «ن» زيادة: ليس، لكن شطب عليها.
(3) في «ن»: على.
(4) مفاتيح الشرائع 1: 83 (مفتاح- 93).
(5) القائل بذلك هو ابن الجنيد، و استجوده العلّامة في المختلف 6: 208.
(6) في «ن» زيادة: و.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 192‌
في هذه التحديدات، سيما فيما وردت العلة في ذلك، كمسألة العدة و الاستبراء و نظائرهما فتدبر. و لا ريب أن هذه العلل على ما يتجه في النظر القاصر هو الباعث على هذه الأحكام، و مع ذلك لا نقول بمقالة مثل العلامة في الحريم و الكاشاني في الكر و نظائرهما في غيرهما، بل نتعبد بالتحديدات وفاقا للأعيان، نظرا إلى أنا علمنا من الشارع أنه لما رأى أن المكلفين بحسب اختلاف الأمزجة و النفوس يدور أمرهم في الأحكام غالبا بين إفراط و تفريط و الذي يعتدل قواه و يستوي أركانه في ذلك قليل لا تناط الأحكام بمثلهم جعل الشارع هذه الحدود حسما لمادة التشاجر و التنازع و حفظا للنفوس عن طرفي الوسواس و المسامحة. فإن الشارع مثلا لو أناط حريم البئر بعدم الضرر، فواحد يقول: هذا مضر، و الآخر يقول: هذا غير مضر، و يصير التنازع، و واحد يكون محتاطا في دينه لا يمكنه إحداث عمارة من وسوسة نفسه بأن ذلك لعله ضرر. و لو أناط غسل الوجه بالعرف فأهل الوسواس «1» كانوا يدخلون آذانهم و نصفا من رؤوسهم و مع ذلك لا يطمئنون به، و أهل المسامحة يقتصرون على العينين و الأنف و الخدين. فدعت الحكمة إلى أن الشارع يلاحظ أحوال الغالب من الأمزجة و النفوس و الأبدان و الأراضي، و غير ذلك مما علق عليه الحكم، و يجعل للموضوع حدا محدودا و إن كان السبب النفس الأمري للحكم قد يوجد بأقل منه، و قد لا يوجد بذلك الحد، بل يحتاج إلى الأزيد، لكنه ألغاها الشارع لعدم الانضباط، و لاحظ الغالب و حدده بذلك كي لا يتجاوزه المعتدون و لا يقصر فيه المتسامحون، فصار هذا تعبدا في قاعدة، كما يوجد في أبواب الفقه قاعدة في تعبد صرف تطرد و لا يعلم وجهها، و المقام معلوم الوجه واضح القاعدة، أخذ فيه التعبد بالعرض.
______________________________
(1) في غير «م»: فأهل المحتاج، و لا يبعد أن يكون مصحّف: أهل الاحتياط.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 193‌
فتدبر في هذا الكلام تحل لك الإشكالات في أغلب المقامات، منها: درهم الدية و دينارها مع التفاوت الفاحش في زماننا، مع أن المعلوم ملاحظة الشارع كل عشرة بواحدة، و تندفع به شبهة المتأخرين في كثير من موارد التحديدات، و الله الهادي.
الثاني: أن هذه التحديدات أغلبها بل كلها تحقيق في تقريب أو بالعكس‌
، فإن المراد واحد، و الأول أنسب بالتعبير كما يظهر من ملاحظة معانيه. و المراد: أن هذه الحدود مأخوذة على سبيل التحقيق و المداقة، فلو نقص ما حدد بالزمان مثلا كما في الأمثلة السابقة بساعة مثلا فضلا عن يوم، فضلا عن أيام لم يتعلق به الحكم اتباعا لظاهر التحديدات المحمولة على الواقعية الحقيقية. و كذا لو نقص المحدود بالمساحة بإصبع مثلا، فضلا عن شبر، فضلا عن ذراع، فضلا عن ميل. و كذلك لو نقص المحدود بالوزن بمثقال فضلا عن مد، فضلا عن رطل، فضلا عن صاع. و مثله لو نقص ما حدد بالعدد بنصف أو ثلث، فضلا عن الواحد التام. فإن قلت: لم يؤخذ هذا التحديد إلا من ظاهر اللفظ، و لا ريب أن قوله عليه السلام: (ألف و مائتا رطل) أو (ثمانية فراسخ) أو (عشرون يوما) أو (سبعون دلوا) و نحو ذلك يتسامح فيه في العرف بمثل هذه النقائص التي مثلت، فينبغي احتساب الكسور القليلة التي يتسامح فيها العرف تاما، كالساعة من اليوم، و اليوم من الشهر «1» و الأسبوع بل الشهر من سنة أو سنتين «2» و الإصبع من ذراع أو شبر أو أشبار، و الذراع و الأذرع من الميل، و الميل من الفراسخ، و المد من صاع، و الواحد من ألف، و نحو ذلك. و أخذ هذه كلها بالدقة و التحقيق لا دليل على ذلك في شي‌ء مما مر بعد فهم العرف و استعمالهم كذلك.
______________________________
(1) في «ن»: الشهور.
(2) في «م»: سنين.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 194‌
قلت أولا: إن هذا الكلام يتم فيما له أسماء خاصة من المقادير المتدرجة «1» كالإصبع و الشبر و الذراع و الميل و الفرسخ و اليوم و الشهر و السنة و المد و الرطل و الصاع، و نحو ذلك. و أما ما كانت المراتب بإضافة العدد إلى ذلك المقدار حتى يتزايد، كقولك: عشرون شبرا أو أربعة آلاف ذراع أو أربعة و عشرون إصبعا أو عشرة أمداد أو ألف و مائتا رطل أو خمسون يوما و نحو ذلك، فلا، لأنا نرى العرف لا يطلقون على ما نقص من الأذرع واحد أنه أربعة آلاف و إن أطلقوا عليه الميل، و كذا لو نقص إصبع واحد لا يقال: أربعة و عشرون و إن قيل عليه: الذراع. فدعوى هذا الكلام في المكسورات على إطلاقه في غير محله، إذ طائفة من هذه التحديدات وردت في الشرع من القسم الثاني دون الأول، بل الغالب ذلك، و إذا لم يجر هذا الكلام في نحوه فالباقي يلحق به بعدم القول بالفصل. فإن قلت: إلحاق الموضوع بعدم القول بالفرق لا وجه له. قلت: غرضي أنه لو لم تثبت حقيقة الموضوع من أحد الطرفين ففي الحكم يتمسك بعدم القول بالفرق. فإن قلت: معلوم أن هذا في طرف الملحق به لعدم إمكان المسامحة و عدم جريان طريق أهل العرف به، و في طرف الملحق معلوم خلافه. قلت: هذا غير قادح في الحكم بالإلحاق ما لم يثبت في الثاني الأعمية. و ثانيا نقول: لا ريب أن المعنى اللغوي في هذه الألفاظ إنما هو ما يوافق المقدار بالتحقق «2» كما هو المصرح به في كلام اللغويين، بل الظاهر إطباقهم على ذلك و هذه التوسعة في العرف إما من باب المجاز أو النقل أو الاشتراك لفظا، إذ الاشتراك المعنوي في اللغة معلوم الانتفاء، بل لا يكاد ينازع فيه منازع، و ثبوته‌
______________________________
(1) في «ن»: المقدّر به، و في «ف»: المقدّرة به.
(2) كذا في النسخ، و الظاهر: بالتحقيق.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 195‌
في العرف داخل تحت النقل، إذ يكون من باب نقل اسم الفرد إلى الكلي. و لا ريب أن المجاز لو قطعنا النظر عن الأمارات أولى من الأخيرين كما قرر في محله. و ثالثا نقول: إن الظاهر المجازية، لأصالة عدم النقل و الوضع الجديد، و صحة السلب في العرف عن الناقص، و تبادر التام منه، و عدم اطراد إطلاقه على الناقص في كل مقام و فيه كلام و شي‌ء من ذلك لا يخفى على المتدبر، فإذا ثبت المجازية فالأصل في الاستعمال الحقيقة حتى يظهر خلافه. فإن قلت: هذا مجاز شائع و في ترجيح الحقيقة عليه كلام مشهور و اختلاف عظيم. قلت: وصوله إلى هذا الحد ممنوع، ثم مكافئته للحقيقة حتى يتوقف مع عدم القرينة غير مسلمة، فضلا عن ترجيحه عليها، بل الحق تقديم الحقيقة، و الكلام موكول إلى محله. و رابعا نقول: إن الشارع إذا علق الحكم على شي‌ء محدود فندري يقينا دخول ما يساوي الحد تحقيقا تحت الدليل، فيترتب عليه أحكامه. و أما الناقص فلا أقل من الشك في دخوله، فالمرجع القاعدة أو الأصل بحسب مقامه، نظير التشكيك في المطلقات، بل هو منها. و خامسا: قد قررنا أن سر هذه التحديدات إنما هو الخلاص عن الوسواس، و لا ريب أن انطباقه على التحقيق في أصل المقدار حاسم لهذه المادة، بخلاف الابتناء على التسامحات العرفية، فلا تذهل. و هذا نظير ما قلناه في القراءة بالنسبة إلى هذه التغييرات التي في ألسنة عوام العرب و خواصهم، إذ الترادف و نحو ذلك مقطوع العدم. و أما المراد من أنه تحقيق في تقريب: أن غالب ما يعلم منه هذه المقادير مختلفة، كالإصبع و الشبر و الذراع و الأيام و نحو ذلك، إذ لا يمكن عادة اتفاق الأشبار أو الأصابع أو الأذرع أو الأيام، و كذا أفراد ما اعتبر بالعدد كالأنعام‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 196‌
و الرضعات و الدلاء، و نحو ذلك الأوزان بالنظر إلى اختلاف الأحوال و اختلاف كيفية الاستعلام و الاستعمال و إن كان التفاوت قليلا، و الكيل مما لا يخفى تفاوته على أحد. و لا ينفع في ذلك اعتبار مستوي الخلقة أو نظيره في غير ذلك، لتفاوت أفراد ذلك أيضا عرضا عريضا لا يدخل تحت ضابطة، و لا يقف على رابطة، فإن كون الإبل و البقر و نحو ذلك و كذلك رضعة الطفل متوسطة في الصغر و الكبر و الزيادة و النقصان من المحالات العادية بل العقلية، لتفاوت أفراد النوع لا محالة، فهي من هذه الجهة تقريب، و من الجهة الأولى تحقيق، و لذلك سميناه تحقيقا في تقريب و لم نسمه بالعكس. و هذا أيضا من المؤيدات القوية على أن هذه التحديدات تعبد في قاعدة، و ليس المدار على الحكم و العلل التي لا تندرج تحت فرد خاص، بل يمكن وجوده فيما هو أقل و أنقص، فلذا اعتبر الشارع التحديد في جهة حسما لمادة الاختلاف بما ذكر، و لم يعتبر في جهة أخرى إرشادا إلى كون ذلك ليس لخصوصية خاصة، بل شي‌ء يوجد في أفراد متقاربة و إن تفاوتت. و اختار الشارع التحديد في ذلك و التقريب هنا، لعسر ضبط الثاني، فإن ضبط الكر بالأشبار أسهل من ضبط نفس الشبر مع اختلاف أفراده، مضافا إلى أن ضبط الأسافل يستلزم ضبط جميع الأعالي لتلفقها منه «1» و لا يمكن «2» العكس إلا بتكلف بارد في بعض المقامات، بخلاف الفرق بنحو ما وقع من الحكيم على الإطلاق، فتدبر.
الثالث: في تحديد مفاهيم هذه الألفاظ المستعملة في التحديدات‌
على ما ثبت عندي بالنقل أو بالأمارة، فنقول: أما اليوم: فيطلق على معان ثلاثة:
______________________________
(1) كذا في النسخ، و المناسب: منها.
(2) في «ف، م»: فلا يمكن.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 197‌
أحدها: من طلوع الشمس من الأفق الحسي، بمعنى كون مركزها فوق الأفق، أو خروج القرص تاما و الأول أظهر إلى غروبها فيه على أحد الاحتمالين، و الثاني أقرب. و بعبارة اخرى: لا يدخل فيه الليل، و لا ما بين الطلوعين للفجر، و لا له و للشمس، و إن كان في هذا المقام بعد ذلك صور و احتمالات، لكنه كلام آخر. و ثانيها: إطلاقه على ذلك المتقدم مع إضافة ما بين طلوع الفجر الصادق و طلوع الشمس إلى ذلك. و ثالثها: إطلاقه على مجموع اليوم و الليلة من الطلوع إلى الطلوع. و لم أقف على من احتمل الوجه الرابع، و هو كونه من طلوع الفجر الكاذب إلى الغروب، مع أن ما بين الطلوعين عند أهل التنجيم هو من الفجر الكاذب كما صرحوا به، و إنما الكلام في الحقيقة من بين هذه المعاني. و الحق أن المعنى الثالث مجاز، لأنه خلاف المتبادر، و يصح السلب عن المجموع المركب، و قرينة التقابل بين اليوم و الليلة في العرف و اللغة. و مجرد الاستعمال لو ثبت فهو لا يفيد الحقيقة، مع أنه غير ثابت، إذ الظاهر أنه تخيل من دخول الليلة في بعض استعمالات العرف من باب اللزوم أو بالقرينة. و الحق أن الاستعمال في مثل ذلك أيضا في النهار، و أما دخول الليلة فيعلم من خارج، و لم يعهد من كتب أهل اللغة غير ما ذكر من الاستعمال. و أما المعنيان الأولان: فالحق أن الثاني حقيقة في العرف و اللغة، لأنه متبادر منه، و لا يصح سلبه عنه، و نص أهل اللغة أيضا على ذلك، و مقابلة الليلة المطلقة على ما بين غروب الشمس و طلوع الفجر. نعم، الكلام في المعنى الأول هل هو حقيقة أم لا؟ وجهان، بل قولان. و الذي أراه أنه حقيقة فيه أيضا، لعدم صحة السلب على الإطلاق، و لكنه هل هو على الاشتراك لفظا أو معنى؟ احتمالان، و الذي يقوى هو الثاني، فالوضع للقدر المشترك بين الأمرين.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 198‌
و لكن استقراء موارد الشرع قضى بكون المراد باليوم: المعنى الثاني، كما يظهر بالتتبع، حتى اشتهر في ألسنتهم: اليوم الشرعي. و لا يخفى عليك أن هذا في غير ما كان هناك قرينة على الخلاف كالاستيجار على عمل، فإن يوم الأجير من طلوع الشمس، بل لو انكسر منه أيضا في الجملة فلا بأس، نظرا إلى أن الإطلاق كما يأتي ينصرف إلى المعتاد، و هو فيه كذلك. و قد يكون يجتمع فيه الجهتان كيوم التراوح، فإن الشرعية تقضي بكونه يوم الصوم، و تعلقه بالعمل يقتضي «1» بكونه يوم الأجير، و قوينا فيه جانب الشرع تغليب للتعبد و عملا بالمتيقن بعد جريان استصحاب النجاسة. و أما اليوم و الليلة: فلا خفاء في معناه. و أما الشهر: فاستعمالاته ثلاثة: أحدها: الشهر الشمسي، و هو مدة مسير الشمس في أحد البروج الاثنى عشر، فقد يكون ثلاثين، و قد يزيد واحد، و قد يزيد اثنان. و هذا الإطلاق مجاز غير متبادر عن إطلاقه، و يصح سلبه عنه، و ليس لهذا المعنى في اللغة و العرف أثر، و إنما هو اصطلاح من أهل التنجيم. و ثانيها: إطلاقه على ثلاثين يوما، و هو المسمى بالشهر العددي. و ثالثها: إطلاقه على ما بين الهلالين، وافق ثلاثين أو نقص واحد. و الكلام في أنه هل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما دون الأخر؟ و على الأول هل هو على الاشتراك لفظا أو معنى؟ الذي أراه الاشتراك معنى على سبيل التشكيك، دفعا للمجاز و الاشتراك، و تبادر القدر المشترك، و عدم صحة السلب عنهما. لكن الفرد المتبادر منه هو الهلالي، فيحمل إطلاقه عليه ما لم تكن هناك قرينة على العددي أو الأعم. و سيأتي في باب اللوازم و الأحكام ما ينقح هذا المطلب.
______________________________
(1) كذا في النسخ، و الظاهر: يقضي.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 199‌
و السنة و العام و الحول بمعنى واحد، و إن كان لكل منها مناسبة في الاشتقاق «1» و لا حاجة لنا في ذكرها، و شأن الفقيه تتبع ما قضى به العرف. نعم، السنة في اللغة: من أول يوم عددته إلى مثله. و قيل: إن (العام) لا يكون إلا شتاء و صيفا، فيكون أخص من السنة، و لا فائدة في ذلك، لأنه مهجور في العرف على الظاهر. و المراد بالثلاثة ما عرفت في معنى السنة. نعم، الكلام في أن مثل ذلك اليوم في أي شي‌ء؟ هل هو بالنسبة إلى الشهور؟ بمعنى: أنه من العاشر لشعبان إلى العاشر منه، أو بالنسبة إلى الفصول؟ بمعنى: أن العاشر لفصل الربيع إلى العاشر منه و إن تغير بحسب الشهر، فالأول هو السنة الهلالية، و الثاني هو السنة الشمسية. و أما احتمال كون السنة عددية بمعنى: كونه ثلاثمائة و ستين يوما لا زائدا و لا ناقصا «2»، فهو قضية الشهر العددي إذا ثبت أن السنة اثنا عشر شهرا، و تعريف السنة بهذه العبارة لم أجد في اللغة. نعم، هو معروف عند الناس، فبناء على أن الشهر يطلق على معان ثلاثة تكون السنة كذلك، إذ هو اثنا عشر شهرا بأي معنى فرض، فيكون هناك أيضا سنة عددية. و هل هو «3» حقيقة في الكل على الاشتراك، أو التشكيك، أو في بعضها دون الأخر؟ وجوه. و الذي أراه أن العددية بخصوصها ليست حقيقة، بل إطلاقه عليها لوجود الهلالي في ضمنها. و أما الأولان: فهو حقيقة فيهما على التشكيك، و المتبادر الهلالي، لغلبة‌
______________________________
(1) في «ن»: للاشتقاق، لا حاجة.
(2) في «ف، م»: لا أزيد و لا ناقصا و في هامش «م»: أنقص، خ ل.
(3) تذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى العام أو الحول.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 200‌
الاستعمال، فينبغي حمل ما خلا عن القرينة في النصوص أو في المعاملات و الشروط عليه. و لزوم الزكاة بحلول الثاني عشر و إن لم يتم ليس لتغير معنى في الحول، بل إنما هو حكم ثبت بالدليل الخاص، و لا يخلو من مناسبة أيضا لاشتقاقه، فتأمل. و الكر على ما حققناه في الفروع ألف و مائتا رطل بالعراقي وزنا، و اثنان و أربعون شبرا و سبعة أثمان شبر بالمساحة. و المراد ببلوغ تكسيره إلى ذلك اشتماله على ثلاثة و أربعين مجسما مائيا يحيط به ست مربعات متساوية الأضلاع كل منها شبر إلا ثمن واحد منها. ثم إن كل بعد إما صحيح أو كسر أو ملفق منهما، فالاحتمالات سبعة و عشرون، فمع الكسر في الكل لا يبلغ الكر. و مع الصحة مطلقا يضرب أحدهما في الثاني، و الحاصل في الثالث، فإن نقص عما ذكر فليس بكر. و مع اشتمال الطرفين على الصحيح و الكسر تضرب مجنس أحدهما في مجنس الأخر، و مخرج أحد الكسرين في مخرج الأخر، و تنسب الحاصل من الأقل إلى الثاني، و إن لم يكن أقل فبالقسمة يتم العمل «1». و مع صحة أحدهما فقط و كسر الأخر كذلك تضرب الصحيح في صورة الكسر، و تنسب الحاصل إلى مخرجه أو تقسمه، كما مر. و مع التلفيق في أحدهما و الصحة في مقابله تضرب مجنس الأول على الثاني، و تتممه بنسبة أو قسمة «2». و مع الكسر تضرب المجنس منه في صورته و المخرجين أحدهما في الأخر‌
______________________________
(1) كذا في النسخ، و الظاهر حصول السقط أو التصحيف في العبارة، كما يظهر بالمراجعة إلى عبارة الشيخ البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين.
(2) في «ن، ف»: و تتمّة بنسبته أو قسمته.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 201‌
فتقسم أو تنسب بين الحاصلين و الخارج هو المطلوب في البين، فتدبر في هذا الضابط. و إن شئت تفصيلا في الكلام في طريقة الضبط و المحاسبة فعليك بالمراجعة إلى ما كتبه شيخنا بهاء الدين محمد العاملي في كتاب (الحبل المتين «1» فإن فيه ما لا مزيد عليه. و الرطل بالكسر و الفتح-: معيار يوزن به، و هو بالعراقي مائة و ثلاثون درهما، هي أحد و تسعون مثقالا شرعيا، و ثمانية و ستون مثقالا صيرفيا و ربع مثقال، فالكر أحد و ثمانون ألفا و تسعمائة بالصيرفي. و بالمن التبريزي ستمائة مثقال، يكون مائة و ستة و ثلاثين منا و نصف من. و المدني رطل و نصف بالعراقي، مائة و خمسة و تسعون درهما. و المكي رطلان بالعراقي. و الذي افتهمناه من استقراء موارد الفقه: أن الرطل حيث يطلق في الأخبار يراد به العراقي فعليك بالتتبع فليحمل عليه ما لم تقم قرينة على خلافه. و يؤيد ذلك الخبر: في الشن الذي ينبذ فيه التمر للشرب و الوضوء، و كم قدر الماء؟ قال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى فوق ذلك، قلت: بأي الأرطال؟ قال: بأرطال مكيال العراق «2»، فتأمل. و الصاع: تسعة أرطال بالعراقي، و ستة بالمدني، و أربعة و نصف بالمكي، فيكون ألفا و مائة و سبعين درهما، كل عشرة بسبع مثاقيل شرعية، و خمسة و ربع مثقال صيرفي. لكن في مكاتبة جعفر بن إبراهيم إلى أبي الحسن عليه السلام: (و أخبرني أنه يعني الصاع يكون بالوزن ألفا و مائتين «3» و سبعين وزنة «4» أي: مرة بالوزن، يعني:
______________________________
(1) الحبل المتين: 109.
(2) الوسائل 1: 147، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، ذيل الحديث 2.
(3) كذا في النسخ و الأصل في هذا: الطريحي رحمه اللّه في مجمع البحرين 4: 362، لكن الّذي ورد في المصادر الحديثيّة: «أنّه يكون بالوزن ألفا و مائة و سبعين وزنة».
(4) الوسائل 6: 236، الباب 7 من أبواب زكاة الفطرة، ح 1.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 202‌
درهما. و المد بالضم و التشديد-: ربع الصاع، لأنه أربعة أمداد. و ما في الخبر: (أن صاع النبي صلى الله عليه و آله كان خمسة أمداد «1» محمول على شي‌ء مختص به، و إلا فالصاع المعروف في زمانه أربعة أمداد على ما ثبت بالنقل المعتبر «2». و الدينار: واحد الدنانير، واصلة دنار بالتشديد فأبدل، و معناه: مثقال من ذهب. و ليس المراد في الفقه من المثقال إلا الشرعي و هو عشرون قيراطا، و القيراط ثلاث حبات من شعير، كل حبة عبارة عن ثلاث حبات من الأرز، فيكون بالشعيرات ستون حبة، و بالأرز مائة و ثمانون حبة. و نص ابن الأثير: أن الدينار على هذا الحساب يكون الذهب الصنمي «3» و هو المسمى ب (باجاقلو «4» على الظاهر. و هو بالاعتبار الصحيح ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي. و الدرهم: عشرة منه بسبع مثاقيل شرعية، و هو المضروب «5» من الفضة، و هو ستة دوانيق توازي نصف مثقال و خمسه، و ثمانية و أربعين «6» حبة شعيرا، فتدبر. فقيل: إن في الجاهلية كان الدرهم مختلفا خفافا و هي (الطبرية) و بعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق، و كانت تسمى (العبدية) و البغلية: نسبة إلى (رأس البغل)
______________________________
(1) الوسائل 1: 338، الباب 50 من أبواب الوضوء، ح 3 و 4.
(2) لم نقف عليه، إلّا أنّ الطريحي رحمه اللّه بعد نقل الحديث المذكور قال: و لعلّه كان مخصوصا، و إلّا فالمشهور: أنّ الصاع الّذي كان في عهده صلّى اللّه عليه و آله أربعة أمداد، انظر مجمع البحرين 4: 362.
(3) لم نعثر عليه لفي النهاية.
(4) باج أقلى، باجغلو، باجقلى: قسمي مسكوك طلاى تركان عثماني (لغت نامه دهخدا 9: 169).
(5) في «ن»: للمضروب.
(6) في «ن»: ثمانية و أربعون.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 203‌
ملك من الملوك، فجمع الخفيف و الثقيل و جعلا درهمين متساويين، كل درهم ستة دوانيق «1». و قيل: إن عمر فعل ذلك حيث طلب جباية الخراج بالوزن الثقيل، فصعب على الرعية «2». و الشبر بالكسر-: مسافة ما بين طرفي الخنصر و الإبهام بالتفريج المعتاد. و يراد في التقديرات شبر مستوي الخلقة و إن تفاوتت أفراده أيضا، و قد مر تحقيقه. و الذراع: من المرفق إلى أطراف الأصابع و هو ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، كل إصبع سبع شعيرات متلاصقات بالسطح الأكبر في المشهور المنصور و قيل: ست عرض كل شعيرة سبع شعرات من شعر البرذون. و القدم: في باب الوقت يراد به: سبع قامة الشاخص، و المثل و المثلان تمامها و ضعفها، و أخذ ذلك من قدم الإنسان، فإن قامته سبعة أقدام بقدم نفسه في مستوى الخلقة. و المراد ببلوغ الظل ذلك على ما حققناه في أوقات الحياض المترعة في الشرح «3» بلوغ الظل الحادث بعد الزوال، سواء كان بعد انعدام أو بعد غاية قصر الى ذلك، لا مجموع الموجود و الحادث. و الميل: ثلث الفرسخ، أربعة آلاف ذراع على الأصح. و قريب منه تحديده في كلام العرب بقدر مد البصر كما في المغرب إذ لو فرض ذلك في أرض خالية عن تلال و وهاد من دون تسطيح عارضي يقارب ذلك جدا. و ليس المراد بمد البصر رؤية الشبح، إذ قد يكون ذلك أزيد من أربعة فراسخ، بل ظهور الجسم على الحس بصورته النوعية. و على هذا فالفرسخ ثلاثة أميال، اثنا عشر ألف ذراع، أو قدر مد البصر ثلاث مرات.
______________________________
(1) مجمع البحرين 6: 61.
(2) المصدر السابق.
(3) في «ن»: في الشرع.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 204‌
الرابع: قد تقدم سابقا أن المكسور و الناقص لا يعتد به في الشرعيات‌
، لأنه تحقيق من هذه الجهة. لكن الكلام في أن المنكسر من يوم أو شهر أو سنة هل يكون ملغى في الحكم، فيراد القدر المعتبر من الأيام الصحاح؟ أو لا، بل يعتبر التلفيق في جميع ما عددناه من الأحكام المتعلقة بالزمان من أيام الخيار و العدة و الاستبراء و أيام الدم و الطهر و نظائرها؟ وجهان: و منشأ المسألة أن يقال: هل اليوم مثلا حقيقة في الملفق من الاثنين؟ و كذا الشهر و السنة في وجه، إلا أن الكلام في الأخيرين ضعيف من جهة كون الشهر على ما قرر حقيقة في ثلاثين يوما، و السنة في عود مثل كل يوم عددته، و لا يدوران مدار هلال أو سير شمس أو نحو ذلك حتى يلزم فيهما الانكسار و التلفيق بالنسبة إلى أنفسهما. نعم، يدخلهما الكسر باعتبار اليوم، فإن انكساره كسر لهما، فالكلام فيهما الكلام فيه. نعم، لو قلنا: بأن الشهر عبارة عما بين الهلالين يجي‌ء فيه هذا الكلام، كما أنه لو قلنا في السنة باعتبار خصوصية كما مر الإشارة إليه في العام جاء فيه أيضا هذا الكلام. و نحوه لو اعتبر الشهر أو السنة ملفقا مع تخلل الفصل بين الشقين، و يجي‌ء لذلك توضيح في اللوازم. و الحاصل: هل إطلاق هذه الألفاظ على الملفق من الشقين على فرض إمكان التلفيق حقيقة أو مجاز؟ فعلى الأول فهل هو على التواطي أو التشكيك؟ وجوه ثلاثة. فعلى التواطي لا كلام في اعتبار التلفيق في جميع ذلك. و على الآخرين «1» لا دليل عليه، و هو على المجازية واضحة «2» و على التشكيك من جهة انصراف‌
______________________________
(1) في «ن، ف»: الأخيرين.
(2) كذا في النسخ، و المناسب: واضح.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 205‌
الألفاظ إلى الفرد المتبادر، كما لا يخفى. و الذي أراه: أن مقتضى الأمارات و طريقة العرف المجازية، فمقتضى القاعدة اللفظية الإفرادية عدم التلفيق، فيسقط المنكسر و يحسب من اليوم التام، و نظيره في الشهر و السنة على فرض ذلك. و لكن الكلام في الهيئات التركيبية المتولدة من إضافة الأفعال و جمع الأيام و الشهور و نحو ذلك، و يجي‌ء فيه البحث عن قريب. و على تقدير ثبوت التلفيق بحقيقة في وجه أو قرينة على الأصح، فهل المراد بالتلفيق: اعتبار مقدار ما مضى من اليوم المنكسر من اليوم الأخر، أو اعتبار بقاء الزمان من اليوم الأخر كمقدار بقائه من المنكسر، أو ملاحظة مقدار نسبته إلى اليوم الأخر كنسبة ذلك المقدار إلى اليوم المنكسر؟ وجوه ثلاثة. و تظهر الثمرة في نقصان الأيام و زيادتها. ففي ثلاثة أيام لخيار الحيوان مثلا لو فرضنا وقوع البيع بعد أربع ساعات من طلوع الشمس في يوم مقداره اثنا عشر ساعة كليلته فيكون اليوم الثاني اثنى عشر و دقيقتين، و اليوم الثالث اثنى عشر و أربع دقائق، و الرابع اثنى عشر و ست دقائق. فعلى الوجه الأول: ينبغي بقاء الخيار في اليوم الرابع إلى مضي أربع ساعات من النهار و إن بقي إلى الليل «1» ثمانية و ست «2» دقائق. و على الوجه الثاني: يبقى «3» الخيار إلى أربع ساعات و ست دقائق ليكون الباقي ثمانية «4» كيوم البيع. و على الوجه الثالث: يبقى الخيار إلى أربع ساعات و دقيقتين، إذ الذي مضى من يوم البيع أربع ساعات، و هو ثلث بالنسبة إلى اثني عشر، فيعتبر ثلث اليوم‌
______________________________
(1) في «م»: لليل، و في «ن»: الليلة.
(2) كذا في «ن»: و في «ف، م»: ثمانية و ستّة، و الصواب: ثمان ساعات و ستّ دقائق.
(3) في «ف»: ينبغي بقاء الخيار.
(4) أي: ثمان ساعات.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 206‌
الرابع و هو أربع [ساعات] «1» و دقيقتان. و نظير ذلك لو كان نقص اليوم ست دقائق، فعلى الأول: إلى أربعة، و على الثاني: إلى أربعة إلا ست دقائق، و على الثالث: إلى أربعة إلا دقيقتين. و قس على ذلك سائر الفروض في الأيام المختلفة، و تلفيق النهار من الليل أو بالعكس فيما يحتاج إلى ذلك. و الذي يساعده العرف اعتبار الوجه الثالث، إذ لا يفهمون من قول القائل: (بقيت ثلاثة أيام في البلد الفلاني) مع انكسار أحدها، أو قول القائل: (خذ من اليوم الاتي بمقدار المنكسر من هذا اليوم) إلا التوزيع بالإشاعة و ملاحظة النسبة. و يقولون مثلا: من نصف هذا اليوم إلى نصف ذلك اليوم، أو من ثلثه إلى ثلثه. و ليس لأحد أن يقول لو بقي في بلد من نصف نهار إلى نصف نهار: (إني ما بقيت يوما ملفقا تاما) لأنه على تقدير نقص اليوم الثاني صار هذا ينقص بدقيقة، أو (إني بقيت يوما و دقيقة) على تقدير الزيادة، بل يعد هذا يوما ملفقا تاما. و السر فيه: أن إلحاق شقي اليوم باليوم الزائد حتى ينقص، أو إلحاقه باليوم الناقص فيزيد لا دليل عليه، بل لا يفهم من معنى التلفيق إلا ظهور مركب يباين الطرفين من وجه و يناسبهما من آخر، كتركب «2» المز من الحلو و الحامض. فاليوم الملفق لا ينقص عن أطولهما و يزيد عن أقصرهما، فتدبر فإنه كلام ليس عليه غبار.
الخامس: فيما يلزم هذه الحدود و يلحقها‌
. قد عرفت مما مضى أن اليوم حقيقة في النهار، و ليس الليل داخلا في معناه إلا في وجه ضعيف جدا. فلو قال الشارع: ثلاثة أيام كذا مثلا أو خمسة و أربعون يوما للاستبراء، فمعناه: اعتبار النهار دون الليالي. لكن اللازم من هذا التركيب دخول الليالي المتوسطة في ذلك، دون الليلة الأولى و الأخيرة، فإن المتبادر من قوله: (خيار‌
______________________________
(1) الزيادة من هامش «م».
(2) في «ف، م»: كتركيب.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 207‌
الحيوان ثلاثة أيام للمشتري) دخول الليلتين الواقعتين بعد الأول و الثاني ذلك في الحكم، و هذا من لوازم التركيب. و لا يتخيل متخيل أن الخيار في اليوم دون الليلة، و نحو ذلك في ناوي الإقامة، فإن المتبادر من قوله: (إلا أن ينوي عشرة أيام) دخول تسع ليال فيها، و ليس المعنى: إقامة أيامها و إن سافر بلياليها. و من يقول: بأن الليلة داخلة في اللفظ يجي‌ء فيه وجوه ثلاثة: أحدها: إدخاله الليلة السابقة أيضا في ذلك حتى يتم ثلاث ليال. و ثانيها: إدخال الليلة اللاحقة لآخر اليوم، لعين ما مر. و ثالثها: إدخال السابقة إن قلنا بأن الليل مقدم على النهار عملا بالعرف، و إدخال اللاحقة إن قلنا بالعكس عملا بالشرع، كما حقق في محله. و يحتمل أيضا التخيير، لعدم الترجيح. و يحتمل إدخال السابقة إن اتفق ابتداء الشي‌ء المحدود من الليل، و اللاحقة إن ابتدأ من النهار. و يحتمل أيضا سقوط الليلة الواحدة في الثاني. و يجي‌ء على هذا القول التلفيق في الليل على ما قررناه في النهار لو اتفق البدأة في وسط الليل. و للبحث في هذا المقام مجال واسع، و العمدة في النظر التنبيه على الضوابط، و للتنقيح مقام آخر. و قد يلزم التركيب أيضا دخول الليالي بعدد الأيام، لا من حاق اللفظ كما ذكرناه بل من الوجود الخارجي، كما لو اتفق البيع أو نية الإقامة أو التولد أو الموت أو الطلاق أو نحو ذلك في أول الليل، فإنه يدخل الليلة الأولى أيضا في عداد الأيام، لتوقف مضي الأيام المعتبرة حينئذ إلى وجود الليالي في الخارج، و هو منشأ الالتزام. و كما لو اتفق أحد هذه الأمور في وسط النهار، و قلنا بالتلفيق‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 208‌
فإنه يكون الليالي بعدد الأيام، لكنه يكون الليالي تامة و الأيام ملفقة. و قد يدخل نصف الليل، أو أزيد أو أنقص لو وقع شي‌ء من ذلك في الأثناء. و لذلك اعتبر جماعة من الأصحاب في هذه التحديدات الليالي المتوسطة و لم يلتفتوا إلى غيرها، لما عرفت من دخولها في أصل مدلول الخطاب، لعدم الانفكاك عن الماهية، و دخول ما ذكر هنا في بعض المصاديق للزومه للوجود الخارجي في بعض الأحيان. و ليس غرضهم من تخصيص الدخول بالمتوسطات إخراج ما عداها عن الحكم و إن فرض كما فرضناه، فلا تذهل. و قد عرفت أيضا أن إطلاق الشهر يحمل على الهلالي، لكن لو وقع ما حدد بالشهور من أجل مبيع أو عدة أو شرط أو نحو ذلك في أثناء الشهر فللأصحاب في ذلك وجوه ثلاثة. و السر في ذلك: القطع بعدم احتساب الناقص كاملا، و عدم سقوط هذا الناقص من الاعتبار مطلقا حتى يحتسب بعده شهورا هلالية تامة، إما بقرينة المقام أو كون القاعدة التلفيق، فلا بد «1» من ضم هذا الناقص إلى ما بعده. فمن زعم أن هذا قرينة على عدم إرادة الشهور الهلالية أصلا، لعدم إمكان وجودها من حين وقوع الواقعة في أثناء الشهر، و المعتبر أن إطلاق اللفظ اعتبر كلها عددية و لم يعتبر الهلالي. و من زعم أن المتبادر الهلالي إلا أن تقوم قرينة على غيره، سواء جعلنا ذلك مجازا أو فردا غير متبادر، و ادعى الاقتصار في الخروج عن القاعدة إلى المتيقن ادعى أن الشهور الهلالية التامة الاتية «2» لا دليل على اعتبارها عددية. نعم، هذا المنكسر بعد الدليل على عدم سقوطه بل لزوم انضمامه، عرفنا أنه لا يمكن كونه هلاليا حملناه على معنى آخر، و اعتبرنا فيه التلفيق، كما هو طريقة‌
______________________________
(1) في «ن، ف»: فلا من، و هكذا في أصل «م» أيضا، إلّا أنّه صحّح بما أثبتناه.
(2) الآتية: ليست في «ف»، و وردت في هامش «م» نسخة.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 209‌
المشهور، لكن لهم هنا طريقين. أحدهما: تتميم الشهر الناقص من الأخر بمقدار ما مضى منه، فيمكن أن يكون ثلاثين لو هل الهلال الأول بعده، و أن يكون تسعة و عشرين لو نقص بيوم من آخره. و لعل الوجه في ذلك تبادر هذا الفرض من الإطلاق، فإن قول القائل في اليوم الثاني عشر من رجب وقت طلوع الشمس: (آجرتك هذه الدار من يومنا هذا إلى ستة أشهر) لا يفهم منه إلا إلى الثاني عشر من المحرم وقت طلوع الشمس و إن كان شهر رجب ناقصا بيوم. و ثانيهما: تكميل الناقص ثلاثين، ففي هذا الفرض يجعل اليوم الثاني عشر أيضا في مدة الإجارة لو كان شهر رجب ناقصا، كما اختاره أساطين أصحابنا. و الوجه في ذلك بعد العلم باحتساب الناقص الخروج عن ظاهر اللفظ في ذلك الشهر خاصة بحمله على العددي، فإنه إما معنى مجازي أو فرد غير متبادر كما اخترناه فمع القرينة على عدم إرادة الهلالي لعدم إمكانه في المنكسر يحمل على العددي، و هو ثلاثون. أما إتمام الناقص بمقدار ما مضى، فقد يكون تسعة و عشرين، مع أنه ليس شهرا هلاليا و لا عدديا، و لا ريب أنه إما مجاز أو أبعد المجازين، و لا يسمى في العرف تسعة و عشرون يوما شهرا مطلقا. و هذا الذي ذكر قوي متين لو لم يعارضه التبادر العرفي في المعاني التركيبية في باب التلفيق، فإنه قد يستفاد من المركب معنى لا ينطبق على قواعد المفردات، كما ذكرناه في جواب ابن جني «1» حيث زعم أن أغلب اللغة مجازات. فنقول: بعد ما قررنا من كون التلفيق على خلاف القاعدة بالنظر إلى اللفظ المفرد هل هناك ضابط كلي من قرينة خارجية على إرادة الملفق من هذه التراكيب؟ مثلا: قول الشارع في التراوح أو الرضاع أو مسافة القصر: ينزحون‌
______________________________
(1) لم يذكره فيما سبق من هذا الكتاب، و لعلّه قدّس سرّه أفاده في مؤلّف آخر من مؤلّفاته.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 210‌
يوما أو ترضع يوما أو مسيرة يوم، و كذلك قوله: أقل الحيض و الانتظار لمشتبه الموت و الرباط و خيار الحيوان و التصرية و التأخير و مهلة الشفيع في إحضار الثمن ثلاثة أيام و نظير ذلك لو فرض زيادة المدة و قوله: يعرف اللقطة حولا، أو ينزح عشرون دلوا، أو في خمس من الإبل شاة، أو الدية مائة بعير، هل يشمل النزح أو الرضاع أو مسيرة نصفي يوم، أو اليومين التأمين مع نصفي يومين «1» في الثلاثة، أو التعريف نصفي سنة مع انفصالهما، أو كفاية أربعين نصفا من دلو، أو لزوم الشاة في عشرة من الإبل مشتركة بين اثنين، أو كفاية إعطاء النصف المشاع من مائتي بعير؟ و نحو ذلك فيما تعلق بشي‌ء من ذلك و نحوه نذر و شبهه أو لا يشمل مطلقا؟ أو يدور مدار القرائن الخاصة؟ و الذي يظهر بعد التأمل عدم وجود ما يدل على دخول الملفق على الإطلاق. نعم، لو دل قرينة على عدم خروج المنكسر عن الحكم و عدم زيادة على ذلك كما هو الظاهر في الحيض و الطهر و خيار الحيوان و مهلة الشفيع و نصاب الأنعام بعد التأمل التام فلا بأس بالدخول، و إلا ففي ما عدا ذلك فالأصل عدم ترتب الآثار بعد عدم الدخول تحت اللفظ. و عليك بملاحظة أدلة المقامات في التحديد حتى يظهر لك جلية الحال، فإن هذا مقام استعجال، ليس لي في البسط مجال.
الضابطة الثالثة: ما لم يرد له تحديد في الشرع‌
سواء كان أصل التعبير من الشارع، أو من المكلفين في معاملاتهم من عقد أو إيقاع قسمان: أحدهما: ما اعتبر فيه الاعتياد من الشرع، أو لتحقق عنوان الحكم الذي صدر من الشارع.
______________________________
(1) في «م»: نصفي يوم.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 211‌
و ثانيهما: ما ليس فيه خصوص الاعتياد. أما الأول: فمنه دلو البئر، و مخرج الأحداث، و تحقق العادة للحيض و النفاس، و المأكول و الملبوس في سجود الصلاة، و الكيل و الوزن في المعاوضات و نحوها، و توابع متعلقات العقود، كالتوابع للمبيع و العين المستأجرة، و نقود المعاملة و المرض و البول في الفراش و الإباق في كونهما «1» عيبا، و في كون الشي‌ء مكيلا و موزونا في تحقق الربا، و لزوم الاعتياد «2» بذلك في صحة المعاملة و انصراف إطلاق اللفظ إليه، و فيه بحثان: أحدهما: في أن الاعتياد بعد اعتباره في معنى اللفظ، أو في لحوق الحكم لانصراف الدليل إليه، أو قيام القرينة عليه بأي شي‌ء يحصل؟ فنقول: لا بحث في أن العادة ليست لها حقيقة في الشرع غير ما هو معناه لغة و عرفا، لأصالة عدم النقل، و لم يدعه أحد أيضا. و ما ورد في باب الحيض من التحديد كما سنذكره لا يدل أولا على نقل معنى اللفظ، بل إنما هو تحديد لما يلحقه أحكام العادة من الأقراء و إن لم يطلق عليه اسم العادة حقيقة. و بعبارة اخرى نقول: إن تحديد الشارع هناك ليس لتحقق معنى اللفظ و صدقه بمجرد حصول ذلك الحد، بل لما كان حكم المعتادة الرجوع إلى عادتها، و كانت العادة أمرا عرفيا لا تنضبط سيما مع أن المكلف هناك النساء اللاتي ليس لهن إدراك الماهيات الخفية بالرجوع إلى العرف، كيف و قد اضطرب في مثل ذلك أجلة العلماء المتفحصين! و كان التكليف منوطا بأمهات العبادات: من صلاة و صوم و قراءة و دخول مسجد و نظائر ذلك، مضافا إلى حقوق آخر أراد الشارع إعطاء ضابط في ذلك للتسهيل، على مقتضى ما قررناه في سر التحديدات في الشرع «3».
و الحاصل: إن حقيقة الاعتياد كاشفة عن كون ما زاد على العادة حيضا «4» لا‌
______________________________
(1) في «ن»: كونها.
(2) في أكثر النسخ: الاعتبار.
(3) راجع ص: 190- 192.
(4) كذا في النسخ، و الظاهر: استحاضة.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 212‌
العادة التي جعلت بالشرع، و اعتبار ذلك من الشارع تعبد في قاعدة، كما أسسناه سابقا «1». و ثانيا نقول: إن هذا تحديد لأيام الأقراء و أيام الحيض، و لفظ (العادة) اصطلاح لم يستعمل إلا نادرا، و لم يسق اللفظ لبيان ماهية العادة. و ثالثا نقول: إن كون ذلك معنى العادة في الحيض لا يدل على كونه بهذا المعنى في كل مكان، و كونه كاشفا عن الحقيقة ممنوع. و رابعا نقول: على فرض تسليم هذا المعنى يفيد أن لفظ (العادة) متى ما أطلق في الشرع يراد به: المتكرر مرة، و لا ينفع ذلك فيما جاء فيه اعتبار العادة من إطلاق الألفاظ و انصرافها، فإنه ينصرف إلى المعتاد العرفي، دون ما جعله الشرع عادة. فإذا لم يكن كذلك فنقول: لا كلام في عدم تحقق العادة بالمرة الواحدة، لأن المتبادر خلافه، و يصح سلبه عنه. و يرده مادة اللفظ لاعتبار معنى العود في اشتقاقه. و أما المرتان، فظاهر جماعة من أصحابنا منهم شيخنا الشهيد رحمه الله في قواعده في عيب البول في الفراش «2» الحصول به، لأنه عود فيدخل تحت العادة، إذ هو بمعنى ما يعود و يتكرر. و لما دل في باب الحيض أنه لو رأت الدم أياما معلومة مرة، فإذا جاء الدم بعد ذلك عدة أيام سواء فتلك أيامها «3» و ليس هذا إلا لتحقق معنى العادة، إذ في النصوص بيان من لها عادة و أيام معلومة بتلك العبارة فلا تذهل و خصوصية الحيض في هذا المعنى غير ثابتة. و لأن العرف يطلق العادة بعد المرتين. و الذي أراه عدم الصدق عرفا بمجرد المرتين. و كون الحيض كذلك لا يدل،
______________________________
(1) راجع ص: 196.
(2) القواعد و الفوائد 1: 149.
(3) انظر الوسائل 2: 545، الباب 7 من أبواب الحيض.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 213‌
و الفرق ما ذكرناه في صدر البحث. و كون اشتقاقه من العود لا يدل على كون كل عود عادة لجواز اعتبار الملكة و الاستعداد في مفهومها. نعم، يدل على عدم صدقه بدون العود، و به يرد مذهب من قال بأنها تتحقق بالواحدة في الحيض «1». و أما الثلاث، فهو ظاهر الأكثر في تحقق العادة، و هو محتمل لأمرين: أحدهما: كون الثالثة كاشفة عن تحقق العادة بالثانية. و ثانيهما: كونها ناقلة من زمان تحققها. و الفرق بين الأول و المرتين: أن بمجرد تحقق المرتين لا يحكم بحصول العادة على الكشف، بمعنى: أنه يشترط في صدق العادة بالثانية لحوق الثالثة، و ليس للثالثة مدخلية، بل التقيد داخل و إن كان القيد خارجا. و بعبارة اخرى: تعقب الثالثة للثانية «2» شرط في صدق العادة بالثانية. و افتراق الثاني عنه لا يحتاج الى بيان. و الذي أراه الصدق العرفي في الثالثة على طريق النقل، و بمجرد الثانية لا أظن صدق العادة، إلا أن ظاهر جمع من فقهائنا الاكتفاء بها. و ثانيهما: أن المدار حصول العادة في كل زمان و مكان، أو في مكان واحد في زمن واحد. و على الثاني هل يسري الحكم بذلك إلى الكل، أو يتحقق في مورده خاصة؟ و على التقادير هل يدور الحكم مدار الاعتياد وجودا و عدما، فبالحصول يحصل و بالعدم ينعدم أو يدور مداره وجودا خاصة؟ بمعنى: أنه متى ما تحقق تعلق الحكم و لا يزول بالزوال. و تنقيح البحث: أن العادة بنفسها لو جعلت في كلام الشارع موضوعا لحكم كما في الحيض و النفاس و التوابع في العقود و في نقود المعاملة و عيبية المرض‌
______________________________
(1) هو قول بعض العامّة، انظر الخلاف 1: 239، المسألة 206.
(2) في «ن»: ثالثة لثانية.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 214‌
و البول و الإباق و انصراف الكيل و الوزن إلى المعتاد و نظائر ذلك و مرادنا بكونها مناطا لحكم: كونها باعثا على البناء على هذا الحكم و كونها علة في ذلك فإن تحققها صار سببا للرجوع عليها من أيام الدم، و للحوق مفتاح الدار و البناء و الأغلاق في بيعها، و ثياب المملوك في بيعه، و لحوق القتب و الزمام و نحو ذلك في إجارة البغل، و في انصراف إطلاق النقد أو البيع به، أو التوكيل في معاملة إلى الغالب، و في صدق العيب بهذه الأسباب إذ الواحدة «1» لا تعد عيبا و في انصراف المن أو القفيز أو نحو ذلك إلى المعتاد، و في لزوم نفقة المضارب، و كيفية عمل العامل في المساقاة و نحوه «2» و حفظ الودائع. و بعبارة اخرى: نريد كون العادة سببا لجعل حكم أو صرف لفظ إلى معنى، فهناك يدور الحكم مدار الاعتياد في زمانه و مكانه و نوعه و جنسه، فكل امرأة تتبع عادة نفسها، و إن تغيرت فالحكم للاحقة. و كل لفظ من الألفاظ المذكورة و تابع من التوابع يتبع بلد الإطلاق للفظ و إيقاع المعاملة في ذلك، و كلما تغيرت العادة في شي‌ء من ذلك تغير.
و من طريق تحرير المسألة علم الوجه في ذلك، إذ لا ريب في زوال المعلول بزوال سببه من هذه الحيثية، و وجود سبب آخر لا دخل له في محل البحث. و في قواعد الشهيد أن: (في اعتبار العرف الخاص تردد، كاعتياد قوم قطع الثمرة قبل الانتهاء «3». و ليس في محله بعد العادة. و لو كان اعتبار الاعتياد في موضوع للحكم بمعنى تعلق الخطاب من الشارع بلفظ و انصرف ذلك اللفظ إلى المعتاد، لا لأن العادة سبب في ذلك الحكم، بل العلة لا نعلمها، أو نعلم أنها غير العادة، لكن تعلق بموضوع شائع معتاد كقول الشارع: لا تسجدوا على مأكول و على ملبوس، أو في نفقة الزوجة «4» و الأقارب و المملوك:
______________________________
(1) في «ن، ف»: الوحدة.
(2) كذا، و المناسب: و نحوها.
(3) القواعد و الفوائد 1: 149.
(4) في «ف، م»: الزوجيّة.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 215‌
أطعموهم مما تأكلون و ألبسوهم مما تلبسون، و يحرم الربا في المكيل و الموزون، و يجب نزح عشر دلاء عن البئر، و ينقض الوضوء ما خرج من المخرجين، و غير ذلك مما علق الشارع عليه الحكم و انصرف إلى المعتاد، و نحوه مسألة مستوى الخلقة المأخوذة من الإطلاقات و انصراف التحديدات إليه فهنا وجوه: أحدها: ملاحظة المعتاد في زمان الشارع «1» في جميع ما ذكر، نظرا إلى أن عنوان الحكم هو ذلك، و مجرد اعتبار وصف معه قابل للتغير و التبدل بحسب الأزمان و الأوقات لا يوجب تقييد الموضوع بالوصف، فكما أن الدينار و الدرهم و الرطل و نظائر ذلك من الذوات التي لم يؤخذ معها وصف يراد بها ما في زمن الشارع و كذلك الأوزان و لا يعتمد على ما في هذا الزمان، فكذلك في الملبوس و المكيل و المخرج و نحو ذلك مما اعتبر بلفظ الوصف، فيعم الحكم في ذلك الموضوع لكل زمان و مكان و إن تبدل الوصف أو لم يكن في ذلك وصف في مكان أصلا. و لا عبرة بما يتجدد فيه الوصف في زمان آخر، أو كان فيه الوصف في مكان آخر. و ثانيها: الفرق بين الذوات و الموصوفات بأن اعتبار الوصف يشعر بكون ذلك علة في ذلك الحكم في الجملة، فكل ما كان هذا الوصف معتادا فيه و لو في بعض الأمكنة فهو داخل تحت اللفظ سواء كان في زمن الشرع أو غيره، لأن عنوان الحكم إنما هو المشتق و المشتق يصدق على كل فرد وجد منه في الخارج و صار من الأفراد الغالبة، إذ ليس معناه إلا ما تلبس بهذا الوصف في الغالب المعتاد. و الفرض تحقق القيدين معا، و كلما زال أحد الأمرين أو انتفى بأن يكون موصوفا غير غالب، أو غالبا غير موصوف ينتفي الحكم في ذلك، لانتفاء الاسم و العنوان، و مجرد كونه كذلك في زمن الشارع أو مكانه لا يقضي بالعموم. و ثالثها: اعتبار ما وجد من الأفراد في زمان الشارع و إن تغير بعد ذلك‌
______________________________
(1) في «م» زيادة: و مكانه.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 216‌
أوصافهم، أخذا بالحكم باعتبار الذات و كون الوصف موردا لا قيدا. و اعتبار غير ذلك من الأفراد أيضا إذا تحقق فيها الوصف ما دام فيه الوصف، للعلية المستفادة من تعليق الحكم عليه، جعل «1» الوصف مثبتا في غير ما في زمن الشارع، لا نافيا لما في زمنه إذا تغير وصفه، جمعا بين الموردية في الوصف و العلية، و تعميم الحكم لكل الأمكنة. و رابعها: عموم الحكم في المكان دون الزمان، بمعنى: أن المعتاد في زمن الشرع في أي مقام كان يجري حكمه بالنسبة إلى الجميع، لعموم اللفظ لكل ما تحقق فيه الوصف و الاعتياد، و شمول الحكم لكافة المكلفين بالخطاب أو بقاعدة الاشتراك. و أما الزمان فلا، بمعنى: أنه ما حصل فيه الوصف في الأزمنة المتأخرة في مكان خاص أو عام لا يلحقه الحكم عموما و لا خصوصا. نعم، ما ثبت في زمان الشارع لحقه الحكم فيه ما دام الوصف باقيا و لو في مكان في كل الأمكنة. و خامسها: عموم الحكم في الزمان، بمعنى: أن كل زمان تجدد فيه الوصف فهو داخل تحت الحكم، لعموم العلة، و لا يعم غير مكان اعتياده. فقول الشارع: (لا تسجد على ملبوس و لا مأكول) معناه: كل ما وجد شي‌ء متصف بأحدهما في أي زمان كان حكمه المنع عن السجود بالنظر إلى المكان الذي حصل فيه الوصف و الاعتياد دون غيره، فيكون كل مكلفا بعادة نفسه وجودا و عدما. و سادسها: عموم الحكم لكل زمان و كل مكان، مع عدم دوران الحكم مدار الوصف عدما فكل ما تحقق فيه الوصف في أي زمان [و أي مكان] «2» لحقه الحكم‌
______________________________
(1) كذا في النسخ، و الصواب- ظاهرا-: بجعل.
(2) لم يرد في «ن».



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 217‌
و عم المكلفين في الأزمنة و إن زال الوصف بعد ذلك، إثباتا للحكم في ذلك باستنباط العلية في الإثبات فيعم كل زمان، و بقاعدة الاشتراك فيعم كل مكان، و إبقاء له بعد زوال الوصف بالاستصحاب، لعدم ثبوت العلية في العدم. و الظاهر من كلمة الأصحاب: اعتبار الوجه الخامس في النفقات، و اعتبار الوجه الثاني في السجدة على المأكول و الملبوس، و اعتبار الوجه الثالث في الربا في المكيل و الموزون. و يظهر من بعضهم وجوه آخر في ذلك. و الذي ينبغي تأسيس الضابط في ذلك، و خروج بعض الأفراد بدليل خاص غير قادح. فنقول: أما الذوات كالدلو و اليد و الرجل و الحنطة و نحو ذلك فالأقوى اتباع المعتاد الغالب في ذلك بحسب كل زمان و مكان بحسب أهله. و احتمال لزوم النزح بدلو معتاد في زمن الخطاب، و غسل الأعضاء أو المساحة بشبر أو ذراع معتاد في زمن الخطاب فلا ينفع ما اعتيد في هذا الزمان لو ثبت القصر أو الصغر عن ذلك بعيد جدا. و ليس ذلك لعدم الانصراف إلى المتعارف، بل لأن التكليف بالذات المتعارف، فيكون كل مكلفا على حسب متعارف زمانه و مكانه. و لا يتخيل متخيل: أنه على هذا يلزم مثله في الأرطال و الموازين و الدرهم «1» و نحو ذلك، لأن كلامنا في الكلي المتعارف الأفراد، لا في اللفظ المختلف المعاني، فإن اشتراك اللفظ أو نقله من معنى إلى آخر لا يوجب إجزاء المعنى الأخر عما أراده الشارع. و بالجملة: الكلام في الذوات بمعنى أسماء الأجناس التي لها أفراد متعارفة في الأزمنة و إن كان المتعارف من أفراد الحنطة و الإبل مثلا في زمان غير ما هو المتعارف في زمان آخر. و يدلُّ على هذا المعنى طريقة أهل العرف و أصحابنا‌
______________________________
(1) في «ن، ف»: و الدراهم.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 218‌
في أبواب الفقه، حيث داروا مدار التعارف في الذوات، و لم يذكر أحد كونه فردا متعارفا في زمن الشارع. فإن قلت: هذا البناء مفهم اتكال على عدم تغير الأفراد المتعارفة الشائعة في الذوات، و لو ثبت التغير لاعتبروا المعتاد في زمن الشرع. قلت: مع أن ذلك لا يمكن في مثل دلو البئر و نظائره خلاف ظاهر كلامهم، بل ظاهرهم كفاية المتعارف «1» اليوم، و السر تعلق التكليف بالطبائع في ضمن الفرد المتعارف و قد حصل، و تعارف زمن الشرع لا دخل له في ذلك. و أما ما اعتبر فيه الأوصاف التي تختلف بحسب الزمان و المكان، فالحق فيه عموم الحكم لأهل كل مكان بعد صدق الموضوع، فمجرد كون الشي‌ء مأكولا أو ملبوسا أو مكيلا و موزونا معتادا في أحد الأمكنة يوجب صدق هذه الأسماء عليه «2» ما لم يصرفه صارف إلى اعتبار أشخاص مخصوصة أو بلدان كذلك، فإذا صدق هذه الألفاظ تعلق الحكم على كافة المكلفين بقاعدة الاشتراك في التكليف، إلا إذا دل دليل من خارج على التخصيص. و أما بحسب الزمان، فلا كلام في دخول ما وجد فيه الوصف في زمان الخطاب و لو في مكان ما دام باقيا على هذا الوصف، و لا كلام في خروج ما تجدد اتصافه بعد زمن الشارع بعد «3» زوال الوصف عنه، لأن المعتبر إما الذات المدلول عليها بخطاب الشارع و ليس إلا المعتاد في زمانه بذلك الوصف، و إما علية الوصف المستفاد من خطابه و المفروض أنه قد زال، فلا وجه لدخول هذا الفرض في الحكم من حيث الدليل. نعم، لو قلنا بدخوله تحت الدليل ما دام الوصف تجئ شبهة الاستصحاب بعد زوال الوصف. و التحقيق عدم جريانه، لما قررنا من اشتراط بقاء الموضوع،
______________________________
(1) في «ن، م»: التعارف.
(2) في النسخ: إليه. و هو سه.
(3) في «م»: و بعد.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 219‌
و حيث إن ثبوت الحكم للعلة فيكون عنوان الحكم المشتق، لا الذات إذا اتصف. لا يقال: الماء المتغير بعد زوال تغيره يستصحب نجاسته لاحتمال كون الوصف علة محدثة و المبقية غيره، فكذا فيما تجدد فيه الوصف الموجب للحكم بعد زوال الوصف. لأنا نقول: فرق بين كون الموضوع (الماء إذا تغير) و بين كونه (المتغير) و على الثاني لا يجري فيه الاستصحاب، كما لا يجري في المشرك إذا أسلم. و فرق بين كون الاسم المأخوذ للحكم الذات إذا اتصف بصفة و بين كونه الموصوف المشتق، فلا تذهل. فإذا كان موضوع الحكم (الحنطة إذا كانت مكيلة) يستصحب حكمها إذا خرجت عن المكيلية، و إذا كان الموضوع (المكيل) لا يستصحب الحكم المتعلق به بعد زوال الوصف، إذ لا موضوع، و الحنطة لا دخل له «1» في الحكم بالمرة. فبقي البحث في المتصف في زمن الشارع إذا زال عنه الوصف في الأزمنة المتأخرة، و في المتجدد فيه الوصف في زمان متأخر ما دام الوصف مع عدم اتصافه في زمن الشارع، ففي دخولهما تحت الحكم أو خروجهما أو دخول الأول دون الثاني أو بالعكس، وجوه، يعلم وجوهها مما سبق. و الذي يترجح في النظر القاصر الوجه الأخير، للعلية المستفادة من الوصف، و دخول الأول فرع كون الذات موضوع الحكم و لو بهذا العنوان، و هو خلاف ظاهر اللفظ. و فتوى الأصحاب إن كان إجماعا فهو المعتمد، و إن كان هناك دليل آخر فهو المتبع. و إن جعلنا فتواهم قرينة على إرادة ذلك كما نتكل عليه في غالب الموارد خلافا للمتأخرين المعرضين عن كلمة أصحابنا المتبحرين فالإشكال مرتفع، و إلا فلا دليل على شي‌ء من ذلك.
______________________________
(1) كذا، و المناسب: لها.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 220‌
و أما الثاني: فهو ما لم يؤخذ فيه خصوص العادة و لا التحديد، بل معناه موكول إلى العرف، كما في معنى الغسل و العصر و ما لا ينقل في التطهير بالشمس و ثوب الكفن و الكسوة، و معنى الدفن و الصعيد و العورة في وجه و الفعل الكثير و الجهر و الإخفات و كثير الشك و السهو و السفر و سوم الأنعام و الإطعام و منافيات المروة و بدو الصلاح، و معنى القبض و ضبط الأوصاف بحيث يرتفع الجهالة في كل شي‌ء بحسبه، و معنى الفورية في الخيارات و الشفعة، و في صدق الجار في الوصية، و في معنى الأحياء و العيب و حرز السارق، و نظائر ذلك مما لا يحصى. و المرجع في ذلك كله العرف، لانصراف اللفظ إلى ما يسمى في العرف به، و تقدمه على المعنى اللغوي إذا تعارض. و الدليل في ذلك: كون الرسالة بلسان القوم. و إلى ذلك يدور كلمة الأصوليين في باب الأوامر و النواهي و المفاهيم و المناطيق و الإجمال و البيان و العموم و الخصوص و الإطلاق و التقييد، إذ ليس في هذه المسائل شي‌ء معتمد سوى ما يستفاد من العرف، و إن أطال جماعة في تحرير الوجوه و الأدلة و الاعتراضات و الشبهات.
الضابطة الرابعة: إذا كان المرجع في تحقيق معنى اللفظ إلى كلمة أهل اللغة‌
، بمعنى: المتتبعين للاستعمالات الملاحظين للمقامات الذين صنفوا في ضبط المعاني تصانيف كثيرة، فإن اتحد مفاد كلامهم في معنى اللفظ فلا إشكال في ذلك، و إن اختلفت كلماتهم كما اتفق ذلك في مثل الكعب و الصعيد و الطهور، و معنى السحر و الغناء و الكهانة و نحوها، و معنى السلاح، و في إطلاق اسم الأنساب إلى المراتب اللاحقة، و في صدق النسبة من طرف الام، و نظائر ذلك فنقول: إن للاختلاف صورا كثيرة: أحدها: أن يكون التفاوت بالأقل و الأكثر المستقل، بمعنى: أن أحدهما ذكر‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 221‌
معنى واحدا، و الآخر ذكر هذا المعنى مع معنى آخر. و ثانيها: التفاوت بالقلة و الكثرة في المصداق الراجع إلى التباين في المفهوم، كتفسير أحدهما (اليد) بما دون الكتف، و الآخر بما دون المرفق. و تفسير (الجمع) بالاثنين، أو الثلاثة. و ثالثها: تخالف التفسيرين بالتباين، كتفسير أحدهما اللفظ لمعنى، و ذكر الأخر معنى آخر مباين له. و رابعها: التفاوت بالعموم و الخصوص مطلقا، كتفسير أحدهما (الصعيد) بوجه الأرض، و الآخر بالتراب. و خامسها: التفاوت بالعموم و الخصوص من وجه، كذكر أحدهما في (الغناء) أنه مد الصوت مع الطرب، و الآخر مد الصوت مع الترجيع. و قد يجتمع الأقسام، و الحكم يعلم من ذلك. و مع ذلك كله: فإما أن يصرح كل منهما بنفي الأخر، أو نفي ما عدا ما ذكره في كتابه، أو سكت عن ذلك، و على تقديره: فإما أن يطلع على ما ذكره غيره و لم يلتفت إليه، أو لم يطلع. فنقول: إن كان التفاوت بالقلة و الكثرة بالاستقلال، فالمعنى المتفق عليه ثابت. و أما الأخر، فإن كان الساكت نفاه فهو التعارض الاتية أحكامه، و إن سكت عنه مع اطلاعه عليه فيحتمل القول بأن هذا بمنزلة النفي، إذ لو كان حقا لذكره بعد اطلاعه، فالسكوت بيان لعدم كونه بهذا المعنى. و يحتمل أن يقال: إنه كما لم يطلع، فإن فيه أيضا وجهين: أحدهما: أن يقال: بأن عدم الذكر دال على العدم، من جهة أن بناء أهل اللغة على حصر المعاني و الاستعمالات و نفي ما عداها، لا مجرد إثبات ما علم عنده و إن كان هناك معان آخر، إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر. و ثانيهما: أن يقال: إن ذلك يفيد الحصر فيما اطلع عليه، فعدم الذكر يدل على‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 222‌
أنه لم يقف عليه في استعمال العرب، و لا ينافيه اطلاع غيره على غيره. و الحق هو الوجه الثاني، إذ عدم الذكر أعم من النفي، لجواز كونه لعدم وقوفه عليه أو عدم ثبوته عنده و العام لا يدل على الخاص، فإذا لم يدل على ذلك فالمثبت في هاتين الصورتين سليم عن المعارض، فيقبل. و إن كان بدخول الأقل في الأكثر، فهل يؤخذ هنا الأقل لأنه متيقن من المعنيين، أو لا؟ وجهان، و الوجه: الثاني، إذ ليس هنا بين المعنيين متيقن في المفهوم الذي هو ميزان الوضع، و ليس هذا إلا كالتباين حقيقة. و إن كان بالتباين، فمع نفي كل منهما الأخر يقع التعارض، و يأتي حكمه. و بدونه مع اطلاع أو بدونه فالأقوى ثبوت المعنيين معا، لما قرر «1» أن السكوت غير ناف، فكل منهما مخبر بلا معارض. و إن كان بالعموم مطلقا، فربما يتوهم كون هذا التعارض مثل الأخبار، فيحمل المطلق على المقيد، فلو قال أحدهما: (إن الغناء هو مد الصوت) و قال الأخر: (مد الصوت مع الترجيع) و قال ثالث: (مع الطرب أيضا) نقول: إن الغناء عبارة عن مد الصوت مع الترجيع المطرب. و هذا توهم فاسد. أما أولا: فلأن الإطلاق و التقييد فرع كون المطلق غير ناف للمقيد، و لقائل أن يقول: إن الإطلاق في مقام التعريف غير الإطلاق في مقام الحكم، فمن قال: إنه مد الصوت «2» هو ذلك لا غير، فهذا أيضا مقيد بالعدم، فكيف يجعل هذا مطلقا؟ لا يقال: إنك ذكرت أن السكوت غير دال على النفي، فلعله لم يطلع عليه.
قلت: هذا في المعنيين حق، و أما المعنى الواحد فالظاهر كون ما ذكره تمام المعنى.
______________________________
(1) في «ف»: لما قرّرنا.
(2) كذا في النسخ و الظاهر سقوط كلمة، و الأصل: فمن قال: إنّه مدّ الصوت، معناه: هو ذلك لا غير.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 223‌
فإن قلت: تفسير أهل اللغة بالأعم كثير غالب، فيكون التفسير قرينة على إرادة الأخص منه. قلت: التفسير بالأخص أيضا كثير، فيكون ذكر الأعم في القول الأخر قرينة على إرادة الأعم، فترجيح أحدهما على الأخر ترجيح بلا مرجح. و أما ثانيا: فلأن مبنى التقييد فهم العرف، و ذلك إنما هو في كلام الشخص الواحد، أو ما هو في حكم الواحد ككلام الله و رسوله و أمنائه، لاطلاع كل منهم بما اطلع عليه الأخر و بينه بأي نحو كان، و الفرض أن الحكم في الواقع واحد و المراد متحد. و أما تقييد كلام المصنفين بعضهم ببعض فهذا من الأوهام العجيبة! بل إنا نمنع من تقييد كلام المصنف الواحد في مقامين بعضه ببعض، بل نجعله عدولا عن المعنى الأول. و أما ثالثا: فلأن مبنى التقييد العلم باتحاد التكليف، و مع إمكان كونهما تكليفين فلا وجه للتقييد. فنقول هنا: إن احتمال الوضع للمطلق و المقيد قائم، بل ظاهر كلام الناقلين «1» ذلك، فحمل إطلاق أحدهما على الأخر خال عن وجه، مع ما في هذا الكلام من الضعف من وجوه آخر أيضا. فإذا لم يجز التقييد فيكونان معنيين متكافئين كصورة التباين، فإن كان أحدهما نفى الأخر فهو تعارض، و إلا فمقتضى ما قررناه الأخذ بهما معا، لأنهما ناقلان عن الوضع، و لا معارض بشي‌ء منهما. و إن كان بالعموم من وجه: فقد يقال بالأخذ بمادة الاجتماع، و مرجعه تقييد كل من الكلامين بالآخر، فيلزم من ذلك مثلا اعتبار الطرب و الترجيع كليهما في معنى الغناء في المثال المتقدم. و الوجه فيه أيضا نظير ما مر في الإطلاق و التقييد من جهة واحدة: من أصالة عدم الاشتراك، و كون المقيد المتيقن، و شيوع التفسير بالأعم في كلامهم.
______________________________
(1) في «ن» زيادة: هو.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 224‌
و الجواب بعينه ما مر من اندفاع الأصل بظاهر النقل، و عدم وجود المتيقن في عالم المفهوم الذي هو مرجع التعاريف، و المتيقن في الوجود لا دخل له في التحديد نعم ثمرته في التكاليف و كما أنهم يفسرون بالأعم يفسرون بالأخص أيضا، و التقييد مع احتمال التعدد و ظهوره و كونه في كلام أشخاص متعددين و ظهور كلام كل منهما في نفي الأخر على وجه قررناه لا وجه له. فيكون هذا كصورة التباين في تحقق التعارض مع النفي لكل منهما الأخر، و اقتضاء القاعدة اعتبار المعنيين معا بدونه «1» على حسب ما قررناه في نظيره. و أما صورة التعارض الذي ذكرناه في هذه الفروض، أو غير ما ذكرناه أيضا بناء على انحلال اختلاف اللغويين مطلقا على التعارض بدعوى كون عدم الذكر دالا على إرادة العدم، سيما مع اطلاعه على ما ذكره غيره و سكوته عنه في وجه تقدم ففيه وجوه: أحدها: تقديم المثبت على النافي، فأخذ ما أثبته كل منهما، و عدم الالتفات إلى نفيه، فينحل المعنى إلى الاشتراك في صورة التعارض في الصور الخمسة و وجه تقديمه عليه: إما لعدم قبول الشهادة على النفي، كما في باب الدعاوي و الحكومات. و إما من جهة انحلاله على قوله: (لا أدري) و إن قال: (أدري لا) فإنه بعد الدقة ينحل إلى عدم العلم فتدبر فلا يعارض كلام المثبت، إذ عدم علمه لا ينافي علم غيره. و إما من جهة عدم مقاومة قوله مع قول المثبت في حصول الظن، إذ احتمال خطأ المثبت بعيد جدا، و احتمال عدم اطلاع «2» النافي قريب من العقل و العادة، فالظن بالإثبات أزيد من النفي. و إما من جهة أن كلام النافي مقرر للأصل فيكون كالمنكر، و كلام المثبت‌
______________________________
(1) أي: بدون النفي.
(2) في «م»: عدم احتمال النافي.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 225‌
مخرج عنه فيكون كالمؤسس المدعي، و لا ريب أن كلام المثبت في الحجية كالبينة، و لا ريب أن بينة المدعي مقدمة في صورة التعارض، فلا تذهل. و ثانيها: أخذ القدر المشترك بين المعنيين إن كان بينهما قدر مشترك، نفيا لكل من الخصوصيتين بإنكار الأخر و أخذا للقدر المشترك المتيقن من كلاميهما، و إن لم يكن هناك قدر مشترك فيقدم قول المثبت. و ثالثها: العمل على التراجيح المذكورة في باب الأخبار و البينات. فمنها: التعدد، فيقدم المتعدد على الواحد، و الأكثر على الأقل. و منها: الضبط، فيقدم الأضبط على غيره. و منها: العدالة و الوثوق، فإن الأوثق يقدم على غيره. و منها: العلم و كثرة التتبع، فيقدم الأعلم على غيره. و منها: الشهرة، فيقدم ما هو المشهور بين أهل اللغة. و نحو ذلك من الأمارات الموجبة للترجيح. و مع فقد التراجيح فالتوقف و رمي اللفظ بالإجمال، لعدم وضوح معناه. و التحقيق أن يقال: إن الحق كما قررناه في علم الأصول أن الرجوع إلى كلمة أهل اللغة في الموضوع المستنبط ليس من باب التعبد المحض كالبينة، بل حجية كلامهم إنما هو للكشف عن الواقع و حصول الظن منهم بذلك. و حيث إن باب العلم لنا في هذه الموضوعات المشتبهة منسد غالبا فلا بأس بالعمل بالظن، و إنكار جماعة من المقاربين لعصرنا ذلك بناء على انفتاح باب العلم في الموضوع المستنبط غير مسموع، إذ ليس هنا كلام يوجب لنا القطع في شي‌ء من ذلك. نعم، يمكن القول بأن سد باب العلم فرع عدم إمكان الاستكشاف بالعرف بالأمارات «1» المجعولة الكاشفة عن الحقيقة و المجاز، و هو ممكن إلا في نادر من‌
______________________________
(1) في «ف، م»: بالأمارة.



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 226‌
الألفاظ، و يمكن الرجوع في المشتبهات إلى البراءة من دون لزوم خروج عن الدين، أو الاحتياط من دون لزوم عسر و حرج. و الجواب عن ذلك على حسب ما قررناه في الأصول و في مقامات من الفقه أن نفس اللفظ من حيث هو و إن لم ينسد فيه باب العلم، لكن الأحكام قد انسد فيه الباب غالبا، كما هو مسلم المنكر هنا. فكون الظن بالحكم من الدليل حجة في الحكم كاف في إثبات حجية الظن باللفظ، لا من حيث نفسها، بل لأنه مؤد إلى الظن بالحكم، مثلا: اختلاف اللغويين في معنى الصعيد يوجب الشك في جواز التيمم بالحجر و الرمل، فإذا حصل الظن بأن معنى الصعيد: هو مطلق وجه الأرض حصل الظن بجواز التيمم بهما من هذا الدليل، فيتبع. و هذا القدر كاف في المرام، إذ شأن الفقيه المبالغة في فهم الألفاظ للثمرات الحكمية الفقهية. و نظير هذا الكلام نذكره في الموضوع الصرف مع اشتباه العرف بالنظر إلى ظن المقلد على إشكال قوي، و إلى حكم الحاكم في وجه قوي. و تمام الكلام في باب الولايات، فانتظر. فعلى هذا، فالمتبع ظن الفقيه، سواء كان بالتراجيح المذكورة، أو بموافقة الأصل أو بمخالفته على الوجهين أو بمسألة الإثبات و النفي و الوجوه المذكورة فيه، أو قرائن خاصة آخر: و منها: فتوى الأصحاب على طبق أحد المعاني على الوجه الأقوى، فإنهم أربط بمعاني الألفاظ و فهم الدليل من غيرهم و إن كان في كمال دقة النظر لقاعدة التأييد و اللطف المقرر في مسألة الإجماع. و أما مع عدم حصول الظن بأحد المعاني، فالذي أراه: عدم التعبد بشي‌ء من التراجيح و إن قلنا به في الأخبار و البينات لنص أو إجماع، إذ لا دليل على جريانها هنا، و ليس ورودها في مطلق الخبر حتى يندرج المقام تحتها. و لا وجه‌



العناوين الفقهية، ج‌1، ص: 227‌
لتقديم قول المثبت أيضا تعبدا. و الوجوه الماضية لا تصلح لإثبات التعبد في ذلك. نعم، لو حصل الظن فهو المتبع. و لم نقف على دليل متين يفيد حجية قول أهل اللغة تعبدا، و ليس في الباب إلا انحصار الطريق مثلا في كلامهم، و قد عرفت أنه ليس كذلك، لأن العرف ينقح أغلب الموضوعات بقوة الأمارات. و في مقام الانحصار أيضا لم يقم دليل قطعي على التعبد بمعنى اللفظ و لو مع هذا الاشتباه حتى يلتجئ «1» إلى كلامهم تعبدا اضطرارا. و إجماع الأصحاب و وفاقهم على العمل بكلامهم خلفا و سلفا لم يثبت في غير صورة حصول الظن، و نحن نقول بذلك. و أخذ القدر المشترك طرح للكلامين معا، ترده الوجوه الماضية في مسألة التقييد و زيادة. فالمعتمد بعد ذلك الرجوع إلى الأصل الحكمي بحسب مقاماته من اشتغال أو براءة، بتقريب: أن المتيقن من التكليف أو المسقط هذا المعلوم من أهل اللغة. و أما المشكوك بالتعارض فلا شي‌ء لنا يثبت الموضوع حتى نقبله، و ليس فيه أصل منقح، ففي مقام الحكم يرجع إلى الأصل. و من ذلك حكمنا في الغناء باعتبار مد الصوت مع الترجيع و الطرب، مع اختلاف كلمة اللغويين بإطلاق و تقييد مطلقا، أو من وجه و بالتباين في بعض الفروض، و رجعنا «2» في غير الفرد الملخص من كلامهم إلى أصالة البراءة من التحريم، لا من قاعدة التقييد و الإطلاق، إذ قد أبطلناها فيما عرفت بما لا مزيد عليه. هذا ما اقتضاه الحال في بسط المقال، على سبيل التشوش و الاستعجال.
______________________________
(1) في «ن»: نلتجأ.
(2) في «ف، م»: فرجعنا.


























«الاحکام تدور مدار الاسماء»-ایجاد شده توسط: حسن خ