بسم الله الرحمن الرحیم

فهرست علوم
علم کلام

اثبات جهة الفوق

المجسمة
اثبات جهة الفوق






البيهقي وموقفه من الإلهيات (ص: 354)
وقبل أن أختم الحديث عن هذه القضية أحب أن أبيّن أن لفظ الجهة فيه إجمال وتفصيل فنحن نوافق على نفيه عن الله تبارك وتعالى من وجه، ولكننا نثبته من الوجه الآخر.
ذلك أنه قد يراد بنفي الجهة أن الله تعالى ليس موجوداً في داخل هذا العالم، فإن إريد هذا، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته.
وإن كان المقصود بنفي الجهة نفي الجهة العدمية التي هي عبارة عن أن الله تعالى فوق هذا العالم كلّه، فإن هذه جهة عدمية لا وجودية، ولما كان الله تعالى فوق خلقه، فلا يصح أن يقال إنه سبحانه ليس في جهة، بقصد نفي فوقيّته وعلوّه على خلقه. وعلى هذا فالجهة قسمان:
1 - جهة يجب أن ينزه الله تبارك وتعالى عنها، وهو هذا العالم الوجودي. فإن الله تعالى ليس حالاً في شيء من مخلوقاته.
2 - الجهة الثانية عدم محض، وهو ما فوق العالم. فإثبات جهة لله تبارك وتعالى بمعنى أنه فوق العالم على عرشه بائن من خلقه. فهذا واجب شرعاً، مع مراعاة عدم التشبيه والتكييف والتعطيل. لأن هذه الجهة ثابتة لله تبارك وتعالى بما تواتر من نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. بل جميع الأديان السماوية والكتب المنزلة تثبت ذلك. فمن قال إن الله تبارك وتعالى فوق العالم، لم يقل بجهة وجودية، بل بجهة عدمية أثبتها الشرع، وأثبتتها الفطرة، والعقل أيضاً.
أما نفي علماء الكلام لهذه الجهة، والذي وافقهم البيهقي عليه فهذا نفي باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وهذا التفصيل هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وسبقه إليه ابن رشد. فقد قال ابن تيمية موضحاً هذا المعنى: "إذا كان سبحانه فوق الموجودات كلّها، وهو غني عنها، لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلاً عن أن يحتاج إليها.
وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذلك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي، وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا، وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته، ثم رتبوا على ذلك أن يكون محتاجاً إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه"1.
فإثبات الجهة لله تبارك وتعالى بالمعنى الذي ذكره ابن تيمية - رحمه الله - موافقاً في ذلك ابن رشد، هو ما تضافرت الأدلة الشرعية والعقلية، والفطرية على إثباته.
أما نفي أن يكون الله تبارك وتعالى في جهة على الإطلاق، كما هو مذهب البيهقتي فإن هذا إثبات وهمي، وحقيقته نفي الوجود وإن كان أصحابه لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا التنزيه إلا أنهم وقعوا في خطأ جسيم، خالفوا به الشرع والعقل والفطرة.





أرشيف ملتقى أهل الحديث - 3 (31/ 262)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:

قوله: (والله فوق العرش). هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوًا ذاتيًا، وعلو الله ينقسم إلى قسمين:
أ. علو الصفة، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله؛ كما قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}.
ب. علو الذات، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام، فيقولون كل العلو الوارد المضاف إلى الله المراد به علو الصفة، فيقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: (والله فوق العرش)، أي: في القوة والسيطرة والسلطان، وليس فوقه بذاته.
ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل في الصفات.
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين:
أ. من قال: إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لا شك ضلال مقتض للكفر.
ب. من قال: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صفوا العدم؛ ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف.
ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر.
(ج2/ 539)

---
المتن: وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟. قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو دواد وغيره.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:




القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 308)
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
والعلو قسمان:
الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.
الثاني: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم; فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات. وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم; لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.



القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 539)
قوله: "والله فوق العرش": هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوا ذاتيا، وعلو الله ينقسم إلى قسمين:
أ- علو الصفة، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5.
ب- علو الذات، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام، فيقولون: كل العلو الوارد المضاف إلى الله المراد به علو الصفة، فيقولون في قوله صلى الله عليه وسلم " والله فوق العرش " أي، في القوة والسيطرة والسلطان، وليس فوقه بذاته. ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل في الصفات.
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين:
أ- من قال: إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لا شك ضلال مقتض للكفر.
ب- من قال: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صفوا العدم، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف. ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر.




شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية في ضوء الكتاب والسنة (ص: 25)
35 - صفة الاستواء، 36 - والعلو:
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1)، ذكر الله ذلك في سبعة مواضع من كتابه، فنحن نثبت ما أثبته الله لنفسه فنقول: إنه استوى حقيقة استواء يليق بجلاله، فالاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة (2). وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3)، والعلوُّ وصفٌ ذاتيٌّ لله تعالى: فله العلوُّ المطلق: علوُّ الذاتِ وعلوُّ القدر، وعلوُّ القهر (4)، وفي الحديث: ((والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)) (5).



تسهيل العقيدة الإسلامية (ص: 103)
المؤلف: عبد الله بن عبد العزيز بن حمادة الجبرين
في الكتاب والسنة ذكر صفات كثيرة لله تعالى، وأجمع أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على إثباتها له تعالى على الوجه اللائق بجلاله.
ومن هذه الصفات:
1- علو الله تعالى. وينقسم إلى قسمين: علو ذات، وعلو صفات.
فأما علو الصفات فمعناه: أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى أعلاها وأكملها.
وأما علو الذات فمعناه: أن الله بذاته فوق جميع خلقه، وقد دل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة.
فأما الكتاب والسنة فهما مملوءان بما هو نص، أو ظاهر في إثبات علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، وقد تنوعت دلالتهما على ذلك إلى أنواع كثيرة، منها:
1- التصريح بفوقيته سبحانه على خلقه، مقرونا بأداة "مِنْ"المعيِّنة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] .
2- التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ، وثبت في الحديث أنه يشرع للعبد أن يقول في حال سجوده - وهو أكثر ما يكون سفولاً بوضعه أشرف أعضائه - وهو الوجه - على الأرض -: "سبحان ربي الأعلى" "1"، فيصف ربه بصفة العلو وهو - أي الساجد - على هذه الحال من السفول وتنكيس الجوارح تذللا للعلي العظيم"2".
3- التصريح بكونه تعالى في "السماء""3"، كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [تبارك: 16] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " رواه البخاري ومسلم"4".
4- التصريح بأنه تعالى على العرش مستو عليه، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته يوم القيامة: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره فأخر له ساجد اً" "1"
5- التصريح بصعود الأشياء وعروجها إليه، كما في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وكما في قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ، وكما في أحاديث المعراج، وهي أحاديث متواترة، وفيها أنه عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا، ثم إلى السماء الثانية، وهكذا حتى وصل إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، ثم كلمه ربه وفرض عليه خمسين صلاة، فنزل إلى موسى في السماء السادسة، فأشار إليه أن يرجع إلى ربه، فيسأله التخفيف، فصعد إلى ربه تعالى يطلب منه التخفيف، فخففها تعالى إلى أربعين صلاة، ثم لم يزل هكذا يتردد بين موسى عليه السلام وبين ربه تعالى، حتى خففها الباري وجعلها خمس صلوات"1".
6- التصريح بتنزيل الكتاب منه، ونزول جبريل عليه السلام منه جل وعلا بالقرآن، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، وكما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] .
7- التصريح بنزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر " وهو حديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم "1"، وفي بعض ألفاظه في آخره زيادة: " ثم يصعد ""1".
8- التصريح بلفظ "الأين"كقول أعلم الخلق بربِّه وأنصحهم لأمته وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح للجارية: "أين الله?" قالت: في السماء. قال صلى الله عليه وسلم لسيدها معاوية بن الحكم: " أعتقها، فإنها مؤمنة"رواه مسلم"1".
9- الإشارة إليه حسّاً إلى العلو، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبته يوم عرفة مخاطبا لجموع المسلمين: " أنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد " ثلاث مرات"2".
10- التصريح بأنه تعالى فوق السموات السبع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وأن تقسم أموالهم وذراريهم: " لقد حكمتَ فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات " "1".
وقد ذكر بعض كبار أصحاب الإمام الشافعي أن أدلة علو الله تعالى بذاته على خلقه في كتاب الله تعالى تزيد على ألف دليل"2".
ومع ورود كل هذه الأدلة الشرعية المتواترة المتنوعة والصريحة في دلالتها في إثبات علو الله تعالى بذاته على جميع مخلوقاته لم يقبل المعطلة
__________
"1" رواه ابن سعد في ترجمة سعد بن معاذ 3/426، والنسائي في الكبرى كما في التحفة، حديث " 3881 "، والذهبي في "العلو"، رقم "62" من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده حسن. وقد صححه الذهبي، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ص378. وحسنه الألباني في مختصر العلو. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب عند الذهبي "61"، وشاهد آخر من مرسل علقمة بن وقاص عند ابن إسحاق وغيره. وإسناده صحيح إلى مرسله. وقد توسعت في تخريج هذا الحديث في رسالة "اليهود"تحت رقم " 34 ".
"2" وقد جمع هذه الأدلة الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب "العرش"، والموفق ابن قدامة في كتاب "إثبات علو الله تعالى على عرشه"، والحافظ الذهبي في كتاب "العلو"، وأبو محمد الجويني في رسالة "إثبات الاستواء والفوقية"، والحافظ ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وغيرهم، وقال ابن أبي العز الحنفي بعد ذكره ثمانية عشر نوعاً من أدلة إثبات علو الله بذاته على خلقه: "وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك". وينظر مجموع الفتاوى 5/226.



تسهيل العقيدة الإسلامية (ص: 111)
كالمعتزلة وكثير من الأشاعرة"1" إثبات هذه الصفة لله تعالى، وقدموا على هذه النصوص الشبهات العقلية التي أخذوها من علم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فجعلوا العقول البشرية حاكمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الميل البيِّنِ عن الصراط المستقيم، وصدق الإمام الشافعي - رحمه الله - حيث قال: "ما أحد ارتدى بالكلام فأفلح" "2".
وأما دليل الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة أهل السنة على أن الله تعالى عال على خلقه بذاته، مستو على عرشه، وكلامهم في ذلك مشهور ومتواتر، وقد حكى أبوعبد الله
__________
"1" غالب الأشاعرة ينكرون صفة العلو لله تعالى، فبعضهم يقول: إنه في كل مكان بذاته، وعامة متأخريهم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، وذهب بعض متقدميهم إلى إثبات هذه الصفة لله تعالى، وإثبات أنه تعالى فوق عرشه. ينظر مجموع الفتاوى 2/298، و5/272، العلو ترجمة حماد بن زيد "352".
"2" رواه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام وأهله"4/285، وقال الحافظ الذهبي في "العلو"ص166 بعد ذكره لبعض أقوال الإمام الشافعي في ذم الكلام وأهله، والتحذير منه قال: "تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في الأصول والفروع"وينظر في ذم كثير من السلف لعلم الكلام كتاب "ذم الكلام وأهله".



تسهيل العقيدة الإسلامية (ص: 112)
القرطبي المالكي إجماع السلف على أن الله تعالى في جهة العلو"1".
وقال الإمام الأوزاعي التابعي الجليل: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من صفاته عز وجل ""2".
__________
"1" ينظر تفسير القرطبي "تفسير الآية 54 من سورة الأعراف" 7/219. ونص كلامه: "قد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة"أ. هـ. ولفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن إذا أريد بها أنه تعالى فوق العالم مباين للمخلوقات، ليس داخلاً فيها، فهذا صحيح، ويكون المراد بالجهة حينئذ أمراً عدمياً وذلك بتسمية ما وراء العالم جهة. وإن كان الأولى استعمال اللفظ الشرعي "العلو". وينظر التدمرية مع شرحها التحفة ص153- 157، مجموع الفتاوي 6/39، 40، صفات الله عز وجل للسقاف ص85 - 87.
"2" رواه البيهقي في الأسماء والصفات باب ما جاء في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ص515. وإسناده حسن إن شاء الله. وقد صحح إسناده ابن تيمية كما في مجموع الفتاوي 5/39، وجوده الحافظ ابن حجر في الفتح في التوحيد باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِْ} 13/406، وينظر أيضاً في حكاية الإجماع على أنه تعالى بذاته فوق جميع مخلوقاته عال على عرشه ما يأتي عند الكلام على صفة "الاستواء على العرش".



تسهيل العقيدة الإسلامية (ص: 113)
ولم يقل أحد من السلف قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء.
وأما دليل الفطرة: فإن جميع العباد بطباعهم إذا أرادوا دعاء الله تعالى والتضرع إليه رفعوا أيدهم، واتجهت قلوبهم جهة العلو، فالله تعالى قد فطر قلوب عباده على التوجه في دعائه إلى الجهة العلوية، وهذا يدل على أنه تعالى بذاته فوق جميع مخلوقاته"1".
__________
"1" ينظر شرح الطحاوية ص390-392، وينظر الإبانة لأبي الحسن الأشعري 2/107، الحجة للأصبهاني2/117.
وقد روى الحافظ أبو منصور بن الوليد بإسناده عن أبي جعفر بن أبي علي الهمداني الحافظ، قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ? فقال: كان الله ولا عرش وجعل يتخبط في الكلام. فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة ?. فقال: ما تريد بهذا القول وما تعني بهذه الإشارة?، فقلت: ما قال عارف قط: " يا رباه " إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة? فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت. وبكيت، وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، ونزل، ولم يجبني إلا: "يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة". فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: "حيرني الهمداني". ذكره الحافظ الذهبي في "العلو"ص259، وقال الألباني في "مختصر العلو"ص277: "إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ".





شرح لامية ابن تيمية (14/ 5، بترقيم الشاملة آليا)
أقسام العلو
نعجب من هؤلاء المبتدعة إذ لم يقبلوا نصوص الكتاب والسنة بل أولوها، وقالوا: إن المقصود منها أن العلو للفوقية هنا فوقية المكانة والقدر، بمعنى أن الله في العلو له المكانة، وإلا فإنهم لا يقبلونه، وأهل السنة يقولون: إن العلو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- علو قدر وهي المكانة.
2- علو قهر وهي الغلبة {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] .
3- علو الذات.
المبتدعة لا يجادلونا في علو القدر ولا في علو القهر، ولكن يجادلونا في علو الذات، ولا يثبتون الله في العلو، أما نحن فنثبت أنواع العلو كلها لله، ونقول: إن لربنا الكمال فيها كلها، ونقول: الله سبحانه وتعالى عالٍ على خلقه علواً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
والقول بعلو القدر وعلو المكانة لله تعالى أمر تأنف منه العقول، فإذا جئت إلى شخص مثلاً وقلت له: إنك والله لك منزلة في نفسي أفضل من الحمار والكلب، هل ينبسط أم يغضب؟ قال الشاعر:
ألم ترَ أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فلو جاء إنسان يوازن بين السيف وبين العصا فإنه قد نقص قيمة السيف، وإذا قيل: إن الله خير من خلقه وأفضل من خلقه فهذا تنقص للرب سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الأمر مغروس في الفطر (أن الله سبحانه وتعالى فوق خلقه منزلة وقدراً وقهراً) ومع وجود هذا الأمر وهو أمر فطري نثبته لله، لكن ليس هذا هو مدح للرب سبحانه وتعالى، بل إن المدح أن نثبت له سبحانه وتعالى الكمال المطلق، ومنه إثبات علو الذات له سبحانه وتعالى، وبهذا يبطل كلام هؤلاء في تأويلهم على أن العلو يقصد به علو المكانة أو أن المقصود أن الله خير من خلقه سبحانه وتعالى.
انطلقوا إلى النصوص الدالة على الدليل الفطري، عندما قلنا لهم: إن الإنسان إذ يقول: يا الله، يجد قلبه يتعلق بالعلو، قالوا: تعلق القلب بالعلو لأن السماء هي قبلة الدعاء، وهذا الكلام باطل وليس بصحيح لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً، القبلة في اللغة هي ما تستقبل بوجهك، فهل نحن إذا دعونا نرفع أبصارنا إلى السماء؟ لا، بل نهينا عنه: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو ليخطفن الله أبصارهم) نهينا أن نرفع، ولهذا يسمى ما يقبل به الإنسان قُبل، وخلفه يسمى دُبر، ندعو الناس إذا أرادوا أن يدعوا أن يتوجهوا بوجوههم إلى السماء.




التعليق على فتح الباري (ص: 14)
المؤلف: عبد الله بن محمد بن أحمد الدويش (المتوفى: 1409هـ)
- قال في الجزء السادس ص 136 " ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحل كون ذلك من جهة الحس ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي ولم يرد ضد ذلك وإن كان الله قد أحاط بكل شيء علماً "
جـ ـ إعلم أن لفظة إطلاق الجهة في حق الله نفياً او إثباتاً بدعة وأما قوله إن وصفه بالعلو مستحيل من جهة الحس فليس كذلك بل هو سبحانه فوق كل شيء بذاته وهذا قول أهل السنة والجماعة يثبتون له تعالى صفة العلو علو الذات وعلو القهر وعلو القدر خلافاً لأهل البدع الذين لا يثبتون علو الذات وأما قوله ولم يرد ضد ذلك إلخ , فيقال إنه سبحانه لم يوصف بضد ذلك لأنه ينافي كونه سبحانه فوق كل شيء وهذا أدل دليل على علوه سبحانه بذاته على كل شيء سبحانه وتعالى كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم في كتابه الصواعق أ. هـ راجع الدرر السنية المجلد الثاني ص 369



التعليق على فتح الباري (ص: 23)
- قال في الجزء السابع ص 412 , 413 " قال السهيلي قوله من فوق سبع سماوات معناه أن الحكم نزل من فوق قال ومثله قول زينب بنت جحش وزوجني الله من نبيه من فوق سبع سماوات أي نزل تزويجها من فوق قال ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه "
جـ ـ لا حاجة إلى هذا التكلف فإن هذا الحديث كنظائره من الأحاديث الدالة على إثبات علوه جل وعلا على جميع المخلوقات علو الذات وعلو القهر وعلو القدر على ما يليق بجلاله وعظمته وهذا هو قول أهل السنة والجماعة.




فتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 909، بترقيم الشاملة آليا)

وأما العلي فيدل: على أن جميع معاني العلو ثابتة له من كل وجه، فله علو الذات، كما أخبر أنه استوى على عرشه، وله علو القدر وعظمة الشأن، وله علو القهر والغلبة.












الجهمية



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 142)
بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش
فقلنا: لم أنكرتم أن يكون الله على العرش، وقد قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقال: {خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الحديد: 4] .


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 143)
فقالوا: هو تحت الأرض السابعة. كما هو على العرش، فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلو آية من القرآن: {وهو الله في السموات وفي الأرض} [الأنعام: 3] .
وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المعنى بإيضاح في سورة الأعراف.
__________
1 قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في أضواء البيان "139/2، 140":
في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى:
الأول: أن المعنى وهو الله في السموات وفي الأرض، أي: وهو الإله المعبود في السموات وفي الأرض؛ لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء، وعلى هذا فجملة: يعلم حال أو خبر، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84] أي: وهو المعبود في السماء والأرض بحق، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره؛ لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [يونس: 66] . وهذا القول في الآية أظهر الأقوال، واختاره القرطبي.
الوجه الثاني: أن قوله: {في السموات وفي الأرض} يتعلق بقوله: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم} أي: وهو الله يعلم سركم في السموات وفي الأرض، ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} [الفرقان: 6] الآية. قال النحاس: وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية، نقله عنه القرطبي.
الوجه الثالث: وهو اختيار ابن جرير: أن الوقف تام على قوله: {في السموات} وقوله: {وفي الأرض} يتعلق بما بعده، أي: يعلم سركم وجهركم في الأرض، ومعنى هذا القول: إنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك.
ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 16، 17] الآية، وقوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] مع قوله: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] وقوله: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 7] .


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 144)
الرد على الجهمية في زعمهم أن الله في كل مكان
فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء. فقالوا: أي مكان؟
فقلنا: أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش، والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء1.
__________
ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 16، 17] الآية، وقوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] مع قوله: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] وقوله: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 7] .
وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المعنى بإيضاح في سورة الأعراف.
واعلم أن ما يزعمه الجهمية: من أن الله تعالى في كل مكان. مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ضلال مبين وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السموات والأرض، الذي هو أعظم من كل شيء وأعلى من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسموات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها أو في كل جزء من أجزائها؟ لا وكلا. هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك فاعلم أن رب السموات والأرض أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3] سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 110] .
1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "534/2" ثم قال رحمه الله: هذا الذي ذكره الإمام أحمد متضمن إجماع المسلمين، ويتضمن أن ذلك من المعروف في فطرتهم التي فطروا عليها وقوله: من عظم الرب. كلمة شديدة، فإن اسمه العظيم يدل عل العظم الذي هو قدره كما بيناه في غير هذا الموضع. وذكر الحشوش والأجواف؛ لأن علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم، ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه، إذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من == البشر، فكيف من يدعيه في البشر كلهم، وكذلك ما ذكره من أجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة فإن هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه أن يكون فيها أو ملاصقا لها أو مماسا. وتخصيص هذه الأجسام القذرة والأجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه.
فإن الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو المنهج العقلي المستقيم، فيستعملون في هذا الباب قياس الأولى والأحرى والتنبيه في باب النفي والإثبات، فما وجب إثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرب أولى بذلك، وما وجب تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق، وبهذا جاء القرآن في مثل قوله: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم} وفي مثل قوله: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا} وغير ذلك، فإنه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك؛ لأنه نقص وعيب عندهم، فإذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف ومثل السوء، فكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء، بل: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء" ولهذا شبه الله من ذمه بالحمار تارة وبالكلب أخرى.
ثم قال رحمه الله في "537/2":
فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى، وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها توعد على ذلك بالعقاب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "تنزهوا عن البول، فإن عامة عذاب القبر منه" وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة، فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه، لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات، ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة، وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها، ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن =



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 146)
وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] .
{أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 17] .
وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] .
وقال: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] .
{بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] .
وقال: {وله من في السموات والأرض ومن عنده} [الأنبياء: 19] .
وقال: {يخافون ربهم من فوقهم} 1 [النحل: 50] .
وقال: {ذي المعارج} [المعارج: 3] .
وقال: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] .
__________
= النجاسة، كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر، للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كل ما ينزه عنه غيره.
ثم قال رحمه الله في "541/2":
وذكر الأئمة في الرد على الجهمية ما علمه المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم من تنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضا مع ما ذكروه من تنزهه عن الأنجاس؛ لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله، فكلما كان المعلوم مما يحسه الإنسان ويعقله بديهة كان أعلم به، لاسيما مع تكرر إحساسه به وعقله له.
1 إلى هنا انتهى نقل ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 201، 202".
ثم قال رحمه الله:
ذكر هذ الكتاب كله أبو بكر الخلال في كتاب السنة له الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، وعلى منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه: جامع النصوص من كلام الشافعي، وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 147)
إثبات ذم صفة السفل وأنها منفية عن الله عز وجل
وقال: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] .
فهذا خبر الله، أخبرنا أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموما بقول الله جل ثناؤه: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] {وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} 1 [فصلت: 29] .
__________
1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "542/2، 543".
ثم قال:
وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهو أن السفل مذموم في المخلوق، حيث جعل الله أعداءه في أسفل السافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب به المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفا بالسفل، هو أو شيء منه، أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه، ولهذا يروى عن بشر المريسي أنه كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل. وكذلك بلغني عن طائفة من أهل زماننا أن منهم من يقول: إن يونس عرج به إلى بطن الحوت، كما عرج بمحمد إلى السماء. وأنه قال: "لا تفضلوني على يونس" وأراد هذا المعنى، وقد بينا كذب هذا الحديث وبطلان التفسير في غير هذا الموضع. أ. هـ.
قال محشيه رحمه الله: فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن القاسم: انظر "ج2، ص: 223، 224" من مجموع فتاويه.
وقال ابن بطة في الإبانة "142/3، 143":
ثم ذم ربنا تعالى ما سفل ومدح ما علا فقال: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] يعني السماء السابعة، والله تعالى فيها. وقال: {إن كتاب الفجار لفي سجين} [المطففين: 7] يعني الأرض السفلى، فزعم الجهمي الحلولي أن الله هناك حيث يكون كتاب الفجار الذي ذمه الله وسفله، تعالى الله عما يزعم هؤلاء علوا.
وقال: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فذم الأسفل. وقال: {نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} [فصلت: 29] .


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 148)
نفي اجتماع الله بالشياطين وتنزيهه عن مجامعة الخبث والجنس
وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس [مكانه مكان، ومكان الشياطين مكانهم مكان] 1 فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد2.
وإنما معنى قول الله جل ثناؤه: {وهو الله في السموات وفي الأرض} [الأنعام:3] . .
__________
1 ما بين المعكوفين في نسخة الدكتور عميرة ونسخة الشيخ الأنصاري: "أن إبليس كان مكانه والشياطين مكانهم" والمثبت من بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية "544/2".
2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "544/2":
هذا التنزيه عن مجامعة الخبيث والنجس من الأحياء نظير التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات، ولهذا نهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش وأعطان الإبل ونحو ذلك، وإن كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء، بل أرواث الإبل طاهرة، بل قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح من غير وجه أنه ذكر أن الكلب يقطع الصلاة، وخصه في الحديث الصحيح بالأسود، وقال: "إنه شيطان" لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود، فقال: "الأسود شيطان".
وقد ذكر شيخ الإسلام أن شيطان الجن يقطع الصلاة وأنه ملعون رجيم، وأن الشياطين ترجم بالشهب لئلا تسترق السمع وأمر سبحانه عباده بالاستعاذة من الشيطان.
ثم قال رحمه الله في "545/2":
فإذا كان ملعونا مبعدا مطرودا عن أن يجتمع بملائكة الله أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي، فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم وتنزه الله وتقدسه عن قرب الشياطين فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءا، وكان تعالى في كل مكان كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين، بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه دع الملائكة وهذا يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته، فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس عن جميع هذه الأعيان المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء.



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 149)
أدلة عقلية على عدم مماسة الله لخلقه
يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12] ، ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه1.
وخصلة أخرى: لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله وله
__________
1 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "546/2":
قلت: وقد تقدم أن كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق فالخالق أحق به وأولى.
فضرب أحمد -رحمه الله- مثلا وذكر قياسا وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلا فيه ولا محايثا له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به، وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعا في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قوله الله تعالى: {وله المثل الأعلى} مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى بالمثل الأعلى، إذ القياس الأولى والأحرى هو من المثل الأعلى. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال. ففي هذا الكلام الذي ذكره، واستدلاله بهذه الآية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله، وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس، فإن العبد إذا كان هذا الكمال ثابتا له فالله الذي له المثل الأعلى أحق بذلك.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 150)
إثبات أن الله بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع الخلق
المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، وعلم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق1.
__________
1 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "547/2":
وهذا أيضا قياس عقلي من قياس الأولى قرر به إمكان العلم بدون المخالطة، فذكر أن العبد إذا فعل مصنوعا كدار بناها فإنه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها لكونه هو بناها، فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وإن لم يكن فيه محايثا لها، وهذا من أبين الأدلة العقلية، وهذان القياسان: أحدهما: لإحاطته بخلقه، إذ الخلق جميعا في قبضته وهو محيط بهم ببصره.
الثاني: لعلمه بهم؛ لأنه هو الخالق كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}
وقال ابن بطة في "الإبانة" "136/3":
باب الإيمان بأن الله -عز وجل- على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه.
وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله -تبارك وتعالى- على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه لا يأبى ذلك ولا يكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية، وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين. وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان. فقالوا: إنه في الأرض كما هو في السماء، وهو بذاته حال في جميع الأشياء، وقد أكذبهم القرآن والسنة وأقاويل الصحابة والتابعين من علماء المسلمين. فقيل للحلولية: لم أنكرتم أن يكون الله تعالى على العرش؟ وقال الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقال: {ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59] فهذا خبر الله أخبر به عن نفسه وأنه على العرش.
فقالوا: لا نقول إنه على العرش لأنه أعظم من العرش، ولأنه إذا كان على العرش فإنه يخلو منه أماكن كثيرة، فنكون قد شبهناه بخلقه، إذا كان أحدهم في منزله فإنما يكون في الموضع الذي هو فيه، ويخلو منه سائر داره، ولكنا نقول: إنه تحت الأرض السابعة كما هو فوق السماء السابعة، وأنه في كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان.
قلنا: أما قولكم: إنه لا يكون على العرش لأنه أعظم من العرش، فقد شاء الله أن يكون == على العرش، وهو أعظم منه. قال الله تعالى: {ثم استوى إلى السماء} [فصلت: 11] وقال: {وهو الله في السموات} [الأنعام: 3] ثم قال: {وفي الأرض يعلم} ، فأخبر أنه في السماء وأنه بعلمه في الأرض. وقال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقال: {ثم استوى على العرش الرحمن} [الفرقان: 59] ، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] فهل يكون الصعود إلا إلى ما علا. وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} فأخبر أنه أعلى من خلقه. وقال: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] فأخبر أنه فوق الملائكة وقد أخبرنا الله تعالى أنه في السماء على العرش، فقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 16، 17] ، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] وقال لعيسى: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] وقال: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] وقال: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون} [الأنبياء: 19] وقال: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم} [الأنعام: 18] وقال: {رفيع الدرجات ذو العرش} [غافر: 15] ، وقال عز وجل: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] وقال: {ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره} [المعارج: 4] .
فهذا ومثله في القرآن كثير، ولكن الجهمي المعتزلي الحلولي الملعون يتصامم عن هذا، وينكره، فيتعلق بالمتشابه ابتغاء الفتنة لما في قلبه من الزيغ؛ لأن المسلمين كلهم قد عرفوا أماكن كثيرة، ولا يجوز أن يكون فيها من ربهم إلا علمه وعظمته وقدرته، وذاته تعالى ليس هو فيها، فهل زعم الجهمي أن مكان إبليس الذي هو فيه يجتمع الله تعالى وهو فيه؟
بل يزعم الجهمي أن ذات الله تعالى حالة في إبليس؟ وهل يزعم أن أهل النار في النار وأن الجليل العظيم العزيز الكريم معهم فيها؟! تعالى الله عما يقوله أهل الزيغ والإلحاد علوا كبيرا.
وهل يزعمون أنه يحل أجواف العباد وأجسادهم وأجواف الكلاب والخنازير والحشوش والأماكن القذرة، التي يربأ النظيف الطريف من المخلوقين أن يسكنها أو يجلس فيها، أو قال له، إن أحدا ممن يكرمه ويحبه ويعظمه ويحل فيها وبها. == والمعتزلي يزعم أن ربه في هذه الأماكن كلها، ويزعم أنه في كمه وفي فمه وفي جيبه وفي جسده، وفي كوزه وفي قدره وفي ظروفه وآنيته، وفي الأماكن التي نجل الله تبارك وتعالى أن ننسبه إليها.
قال ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع فتاويه "121/5":
قد وصف الله تعالى نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عال على الخلق وأنه فوق عباده.
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أقوال عدد غير قليل من الأئمة في إثبات العلو لله -عز وجل- وأنه فوق العرش استوى، منهم ابن كلاب والأشعري والباقلاني والقاضي أبو يعلى وابن رشد وأبو نصر السجزي وأبو عمر الطلمنكي ونصر المقدسي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو أحمد الكرخي وابن عبد البر ومعمر بن أحمد الأصبهاني وابن أبي حاتم وأبو محمد المقدسي وأبو عبد الله القرطبي وأبو بكر النقاش وأبو كبر الخلال وعبد الله بن أحمد وأبو بكر البيهقي وأبو حنيفة وعبد الله بن المبارك وابن خزيمة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهم.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 96" إثبات استواء الله على عرشه بالكتاب:
قال شيخ الإسلام: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعامة كلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوء بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه، مثل قوله تعالى ... وذكر آيات من كتاب الله، سبق أن ذكرناها في كلام ابن بطة في "الإبانة" ثم ذكر ابن القيم أدلة إثبات استواء الله على عرشه من السنة.
فذكر قصة المعراج وتجاوز الرسول -صلى الله عليه وسلم- السموات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى فقربه وأدناه. وذكر حديث: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش" وحديث: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت =سبحات وجهه ما انتهى إليه من بصره من خلقه".
وحديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم -وهو أعلم بهم- فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" وعندما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" وفي لفظ: "من فوق سبع سموات" ولما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة الذهب بين أربعة قال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء" وحديث الجارية عندما سألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "فمن أنا" قالت: أنت رسول الله قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وحديث زينب بنت جحش عندما كانت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات. وحديث: "الراحمون يرحمهم الله الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" وحديث: "ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها" وحديث: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ليس فيهما شيء". وحديث: "إن لله ملائكة سيارة فضلا يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم" وفي رواية مسلم: "فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيسألهم الله -عز وجل- وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ " وحديث: "كان الله -عز وجل- على العرش وكان قبل كل شيء، وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء يكون". وحديث: "لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه" إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- ثم نقل من كلام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم الكثير، نحيل القارئ الكريم على مراجعة هذه النقول في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 118-331" حيث استشهد بكلام الإمام أحمد المذكور هنا في الرد على الجهمية. ذكره ابن القيم في "اجتماع الجيوش" "ص: 200-208".
وانظر: الشريعة للآجري "1081/3-1106".



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 154)--ابن حنبل--المحقق: صبري بن سلامة شاهين
بيان ماتأولت الجهمية من قول الله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم}
...
بيان ما تأولت الجهمية من قول الله:
{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم}
قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: الله جل ثناؤه يقول: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} [المجادلة: 7] .
ثم قال: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] يعني الله بعلمه، {ولا خمسة إلا هو} يعني الله بعلمه {سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} يعني بعلمه فيهم {أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء} يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه1.
ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟
__________
1 قال ابن بطة في "الإبانة" "144/3، 145":
واحتج الجهمي بقول الله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7] . فقالوا: إن الله معنا وفينا، واحتجوا بقوله: {إنه بكل شيء محيط} [فصلت: 54] ، وقد فسر العلماء هذه الآية: {ما يكون من نجوى ثلاثة} إلى قوله: {خمسة إلا هو سادسهم ولا} إنما عني بذلك: علمه، ألا ترى أنه قال في أول الآية: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} فرجعت الهاء والواو من هو على علمه لا على ذاته.
ثم قال في آخر الآية: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} فعاد الوصف على العلم، وبين أنه إنما أراد بذلك العلم، وأنه عليم بأمورهم كلها.



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 155)
فإن قال: نعم فقد زعم أن الله بائن من خلقه دونه، وإن قال: لا. كفر1.
وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟
فيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال، لابد له من واحد منها.
إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه2.
__________
1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "548/2" ثم قال رحمه الله: وذلك أن من أثبت أن شيئا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينا، فإن المباينة والبين من اشتقاق واحد، وإذا كان شيء بين شيئين فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض، وهذا الوسط من هذا، وهو ما بينه وبين هذا هو مباينته، ومباين المباينين أولى أن يكون مباينا.
2 قال ابن بطة في "الإبانة" "140/3-142":
ويقال للجهمي: أليس قد كان الله ولا خلق؟ فيقول: نعم. فيقال له: فحين خلق الخلق أين خلقهم؟ -وقد زعمت أنه لا يخلو منه مكان- أخلقهم في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فعندها يتبين لك كفر الجهمي، وأنه لا حيلة له في الجواب. لأنه إن قال: خلق الخلق في نفسه. كفر وزعم أن الله خلق الجن والإنس والأبالسة والشياطين والقردة والخنازير والأقذار والأنتان في نفسه، تعالى اله عن ذلك علوا كبيرا.
وإن زعم أنه خلقهم خارجا عن نفسه فقد اعترف أن ههنا أمكنة قد خلت منه.
ويقال للجهمي في قوله: إن الله في كل مكان: أخبرنا هل تطلع عليه الشمس إذا طلعت؟ وهل يصيبه الريح والثلج والبرد؟ ولو أن رجلا أراد أن يبني بناء أو يحفر بئرا أو يلقي قذرا لكان إنما يلقي ذلك ويضعه في ربه. فجل ربنا وتعالى عما يصفه به =



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 156)
إن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا كفرا أيضا [حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم. رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة] 1، 2.
__________
= الملحدون وينسبه إليه الزائغون.
لكنا نقول: إن ربنا تعالى في أرفع الأماكن وأعلى عليين، قد استوى على عرشه فوق سماواته وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما نأى كما يعلم ما دنا، ويعلم ما بطن كما يعلم ما ظهر، كما وصف نفسه تعالى، فقال: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
فقد أحاط علمه بجميع ما خلق في السموات العلا وما في الأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم الخطرة والهمة، ويعلم جميع ما توسوس النفوس به، يسمع ويرى وهو بالنظر الأعلى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرضين إلا وقد أحاط علمه به وهو على عرشه سبحانه العلي الأعلى. ترفع إليه أعمال العباد وهو أعلم بها من الملائكة الذين شاهدوها وكتبوها ورفعوا إليه بالليل والنهار، فجل ربنا وتعالى عما ينسبه إليه الجاحدون ويشبهه به الملحدون.
1 ما بين المعكوفين سقط من نسخة د. عميرة واستدركته من نسخة الشيخ الأنصاري، ومن درء تعارض العقل والنقل "176/3" ومن بيان تلبيس الجهمية "549/2" ثم بين لي أن هذا السقط وجد بعد قوله الآتي: فأين يكون ربنا؟ فقال: يكون في كل شيء.
2 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل "176/3" وبيان تلبيس الجهمية "549/2" ثم قال رحمه الله في بيان التلبيس:
وهذه الحجة التي ذكرها أحمد مبناها على أنه يخلو عن المباينة للخلق المحايثة لهم.
وهذا كما أنه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم، فإن الجهمية كثيرا مما يضطرون إلى تسليم ذلك كقوله: إنه في كل مكان. ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم ومما ينكره الناس عليهم. =



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 157)
إذا أردت أن تعلم الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] .
وقال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [النساء: 166] .
وقال: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] .
وقال: {وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فصلت: 47] .
فيقال له: تقر بعلم الله هذا الذي أوقفك عليه بالأعلام والدلالات أم لا؟ ... فإن قال: ليس له علم، كفر.
وإن قال: لله علم محدث كفر، حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علما فعلم.
فإن قال: لله علم وليس مخلوقا ولا محدثا، رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة] 1.
__________
وقال رحمه الله في درء التعارض:
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته، من أنه لابد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له، ومع المحايثة: إما أن يكون هو في العالم، وإما أن يكون العالم فيه؛ لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلابد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات، فإنها قد تكون جميعا قائمة بغيرها.
وانظر كذلك مجموع فتاوى شيخ الإسلام "312/5، 313".
1 من قوله رحمه الله: حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء. إلى هنا، انتقل موضعه في الفصل التالي، بيان ما ذكر الله في القرآن: {وهو معكم} من نسخة الدكتور عميرة، ولا أدري كيف وجد هذا النقل في هذا الموضع ولعله حدث نتيجة تقدم صفحة على صفحة من المخطوط؟!


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 158)
بيان ما ذكر الله في القرآن:
{وهو معكم} ، وهذا على وجوه:
قال الله جل ثناؤه لموسى: {إنني معكما} [طه: 46] .
يقول: في الدفع عنكما.
وقال: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .
يقول: في الدفع عنا.
وقال: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249] .
يقول: في النصر لهم على عدوهم.
وقال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم} [محمد: 35] .
في النصر لكم على عدوكم.
وقال: {ولا يستخفون من الله وهو معهم} [النساء: 108] .
يقول بعلمه فيهم.
وقال: {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين} 1 [الشعراء: 61، 62] .
__________
1 إن الآيات السابقة التي تدل على معية الرب تبارك وتعالى مع بعض المخلوقين يوهم =



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 159)
يقول: في العون على فرعون1.
فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه.
فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسا2؟
__________
= ظاهرها أن هناك اضطرابا مع قوله سبحانه: {الرحمن على العرش استوى} وقوله: {ثم استوى على العرش} وغيرهما من الآيات التي تثبت أن الرب سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، وأجاب على هذا الإشكال فضيلة الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في كتاب "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" "ص: 191" فقال:
قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} [الحديد: 4] يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على جميع خلقه، وقوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] يوهم خلاف ذلك.
والجواب: أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواء لائقا بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق.
ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها، والسموات والأرض ومن فيهما في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستو على عرشه، لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.
1 في نسخة د. عميرة: قريش. والتصويب من نسخة الشيخ الأنصاري ودرء تعارض العقل والنقل "178/3" وبيان تلبيس الجهمية "551/2" واجتماع الجيوش الإسلامية "ص: 205".
2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان تلبيس الجهمية "553/2".
وأحمد -رحمه الله- ذكر ما يعلم بضرورة العقل من أنه إذا كان فيه وليس بمباين لأنه لابد =



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 160)
قال: لا. قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب.
فقال: بلا كيف. فيخدع جهال الناس بهذه الكلمة وموه عليهم1.
فقلنا: أليس إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو في الجنة والنار والعرش والهواء2؟
__________
= أن يكون مماسا له، فإنه لا يعقل كون الشيء في الشيء إلا مماسا له أو مباينا له، فإنه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان ذكر أنه لابد من المماسة أو المباينة على هذا التقدير، وهو تقدير المحايثة، فإن أولئك لم يكونوا ينكرون دخوله في العالم، وإنما ينكرون خروجه.
1 قال ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "553/2":
فبين أحمد أن هذه الكلمة إنما يقبلها الجهال فينخدعون بها، لأنهم يعتقدون أن ما ذكره هذا ممكن، وإن لم نعلم نحن كيفيته، وإنما كانوا جهالا لأنهم خالفوا العقل والشرع، وقبلوا ما لا يقبل العقل، واعتقدوا هذا من جنس ما أخبر به الشارع من الصفات التي لا نعلم نحن كيفيتها.
2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "557/2":
ثم ذكر أحمد الحجة الثانية فقال: قلنا لهم: إذا كان يوم القيامة أليس إنما الجنة أو النار والعرش والهواء. إلى آخره. فبين أن موجب قولهم أن يكون بعضه على العرش، وبعضه في الجنة، وبعضه في النار، وبعضه في الهواء، لأن هذه هي الأمكنة التي ادعوا أن الله فيها فيتبعض ويتجزأ بتبعض الأمكنة وتجزيها، وذكر أنه عند ذلك تبين للناس كذبهم على الله، لأن الناس في الدنيا آمنوا بالغيب وبأمور أخرى لم يروها في الدنيا وسوف يرونها في الآخرة، فإن ظهر لهم أن هؤلاء يقولون إنه يكون في الآخرة، كما كان في الدنيا متفرقا متجزءا لم يمكن أن يراه أحد، ولا أن يحايث أحدا، ولا أن يختص أولياؤه بالقرب منه دون أعدائه، بل يكون في النار مع أعدائه، كما هو في الجنة مع أوليائه، فظهر بذلك من كذبهم على الله ما لم يظهر بما ذكروه في أمر الدنيا.



الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 161)
قال: بلى. فقلنا: فأين يكون ربنا؟
فقال: يكون في كل شيء. كما كان حين في الدنيا في كل شيء.
فقلنا: فإن مذهبكم إن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء.
فعند ذلك تبين كذبهم على الله جل ثناؤه1.
__________
1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "551/2، 552" وفي درء تعارض العقل والنقل "177/3، 178" فقال رحمه الله في بيان التلبيس:
فذكر الإمام أحمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين، فذكر قول الجهمية أنه في كل شيء غير مماس للأشياء، ولا مباين لها، وهذا قول الجهمية الذين ينفون مباينته، ثم يبقون مع ذلك مماسته، فيقولون هو في كل مكان، والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقية، وإن قالوا إنهم يثبتون مباينته بالحقيقة والزمان، فإن أولئك أيضا وإن نفوا المباينة فإنهم يثبتونها بالحقيقة والزمان، فكلا الطائفتين يقولون: إنهم يثبتون مباينته لكن ينفون أن يكون خارج العالم.
وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة، فالأولون يقولون كما تقول الجماعة: إنه إذا لم يكن مباينا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثا له خلافا للطائفة الأخرى، ثم يقول بما تقول به الأخرى: وليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان، فيلزم أن يكون محايثا له. والآخرون يقولون إذا كان محايثا للعالم كان مماسا له، كما تقول الجماعة خلافا لتلك الطائفة، ثم يقولون مع الجماعة: وليس بمماس للعالم، فيلزم أن لا يكون فيه ولا مباينا له بغير الحقيقة والزمان، فلا يكون خارجا عنه.
وقال رحمه الله في درء التعارض:
فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية، سواء قالوا: إنه في كل مكان أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، أو قالوا: إنه في العالم أو خارج العالم، إذ جماع قولهم: إنه ليس مباينا للعالم مختصا بما فوق العالم. =


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 162)
الكلام على أسم الله في القران هل هو مخلوق؟
أوزعمت الجهمية أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟
قالوا: لم يكن له اسم1.
فقلنا: وكذلك قبل أن يخلق العلم أكان جاهلا لا يعلم حتى يخلق لنفسه علما2. وكان لا نور له حتى يخلق لنفسه نورا. وكان ولا قدرة له حتى يخلق لنفسه قدرة؟
__________
= ثم هم مع هذا مضطربون يقولون هذه تارة، وهذه تارة، ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد.
1 قال الخلال في كتاب السنة "138/5":
قال أبو عبد الله: فالقرآن من علم الله ألا تراه يقول: {علم القرآن} والقرآن فيه أسماء الله -عز وجل- أي شيء تقولون؟ ألا يقولون إن أسماء الله -عز وجل- غير مخلوقة؟ من زعم أن أسماء الله -عز وجل- مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله -عز وجل- قديرا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة ولسنا نشك أن علم الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق، وهو كلام الله -عز وجل- ولم يزل الله -عز وجل- حيكما.
ثم قال أبو عبد الله: وأي كفر أبين من هذا؟! وأي كفر أكفر من هذا؟! فإذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون: إنما يقولون القرآن مخلوق، فيتهاونون ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر.
2 قال الخلال في السنة "29/6":
أخبرني أبو النضر إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال إن أسماء الله -عز وجل- مخلوقة، وإن علمه مخلوق فهو كافر. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، لأنه يزعم أن علم الله مخلوق، وأنه لم يكن له علم حتى خلقه.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 163)
فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته حين زعم أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق.
وقلنا للجهمية: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا كان لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه.
وقلنا له: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء من بعدهم، والحكام والقضاة، إنما كانوا يحلفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ فكانوا في مذهبهم مخطئين، إنما كان ينبغي للنبي -عليه السلام- ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله. يقولون: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله بما ادعى من الكذب على الله.
ولكن نقول: إن الله هو الله، وليس الله باسم: إنما الأسماء شيء سوى الله1؛ لأن الله إن لم يتكلم فبأي شيء خلق الخلق؟
__________
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى "185/6-187": اختلف في الاسم والمسمى: هل هو هو أو غيره أو لا يقال: هو هو، ولا يقال: هو غيره أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟ فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره، والذي كان معروفا عند أئمة السنة أحمد وغيره الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة. فيقولون: الاسم غير المسمى.
وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلامه غير مخلوق، بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء.
والجهمية يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به. بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه =


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 164)
قالوا: أموجود عن الله أنه خلق الخلق بقوله وبكلامه؟ وحين قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] .
فقالوا: إنما معنى: {قولنا لشيء إذا أردناه} يكون. قلنا: فلم أخفيتم أن يقول له، فقالوا: إنما معنى كل شيء في القرآن معانيه، وقال الله مثل قول العرب: قال الحائط، وقالت النخلة فسقطت، فالجهمية لا يقولون بشيء، فقلنا: على هذا أفتيتم؟ قالوا: نعم.
فقلنا: فبأي شيء خلق الخلق إن كان الله في مذهبكم لا يتكلم؟
فقالوا: بقدرته. فقلنا: هي شيء؟ قالوا: نعم، فقلنا: قدرته مع
__________
= الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به، فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه.
ثم قال رحمه الله:
والمقصود هنا أن المعروف عند أئمة السنة إنكارهم على من قال: أسماء الله مخلوقة، وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم.
وقال الدارمي -رحمه الله- في نقضه على المريسي الجهمي العنيد "161/1، 162":
فمن ادعى أن صفة من صفات الله تعالى مخلوقة أو مستعارة فقد كفر وفجر؛ لأنك إذا قلت: الله فهو الله. وإذا قلت: الرحمن فهو الرحمن. وهو الله. وإذا قلت: الرحيم فهو كذلك. وإذا قلت: حكيم حميد مجيد جبار متكبر قاهر قادر، فهو كذلك، وهو الله سواء. لا يخالف اسم له صفته ولا صفته اسما.
ثم قال رحمه الله: والله تبارك وتعالى اسمه كأسمائه سواء، لم يزل كذلك ولا يزال، لم تحد له صفة، ولا اسم لم يكن كذلك قبل الخلق كان خالقا قبل المخلوقين، ورازقا قبل المرزوقين وعالما قبل المعلومين، وسميعا قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيرا قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 165)
الأشياء المخلوقة؟ قالوا: نعم.
فقلنا: كأنه خلق خلقا بخلق، وعارضتم القرآن وخالفتموه حين قال الله جل ثناؤه: {خالق كل شيء} [الأنعام: 102] .
فأخبرنا الله أنه يخلق، وقال: {هل من خالق غير الله} [فاطر: 3] .
فإنه ليس أحد يخلق غيره، وزعمتم أنه خلق الخلق غيره، فتعالى الله عما قالت الجهمية علوا كبيرا.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 166)
بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق، من الأحاديث التي رويت
فقالوا: جاء الحديث: "إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن أظمأت نهارك وأسهرت ليلك" 1.
قال: فيأتي به الله فيقول: يا رب.
فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه الأحاديث.
فقلنا لهم: القرآن لا يجيء إلا بمعنى: أنه قد جاء من قرأ: {قل هو الله أحد} . فله كذا وكذا. ألا ترون أن من قرأ: {قل هو الله أحد} لا يجئه إلا بثوابه، لأننا نقرأ القرآن فيقول: يا رب. لأن كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال. وإنما معنى: أن القرآن يجيء إنما يجيء ثواب القرآن. يا رب2.
__________
1 أخرجه أحمد "348/5، 352، 361" وابن ماجه "رقم: 3781" والدارمي بنحوه "رقم: 3394" وفي الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع "رقم: 6416".
2 قال ابن بطة في الإبانة "202/2-205":
ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث، مثل الحديث الذي روي: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن: أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك، فيأتي الله فيقول: أي رب تلاني ووعاني وعمل بي. والحديث الآخر: "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما == غمامتان، فأخطأ في تأويله، وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله: يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ويجيء ثواب ذلك كله، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة.
قال الله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر، ليس يرى الخير والشر، وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب. كما قال عز وجل: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} [آل عمران: 30] وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب. كما قال تعالى: {من يعمل سوءا يجز} [النساء: 123] فيجوز في الكلام أن يقال: يجيء القرآن وتجيء الصلاة وتجيء الزكاة، يجيء الصبر، يجيء الشكر، وإنما يجيء ثواب ذلك كله، يجزى من عمل الشيء بالسوء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره} أفترى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير.
وأما ما جاءت به السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ظل المؤمن صدقته" فلا شيء أبين من هذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة فإرشادك الضالة صدقة وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة" "وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، ومباضعتك لأهلك صدقة"، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله؟ إنما عنى بذلك كله ثواب صدقته، أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر معسرا أو ليدع له" فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 168)
بيان ما تأولت الجهمية من قول الله:
{هو الأول والآخر}
فزعموا أن الله هو قبل الخلق، فصدقوا، وقالوا: يكون الآخر بعد الخلق، فلا يبقى شيء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسي.
وزعموا أن شيئا مع الله لا يكون، هو الآخر كما كان، فأضلوا بهذا بشرا كثيرا1.
وقلنا: أخبرنا الله عن الجنة ودوام أهلها فيها، فقال: {لهم فيها نعيم مقيم} [التوبة: 21] .
__________
1 قال الآجري في كتاب الشريعة "1101/3-1103":
ومما يحتج به الحلولية مما يلبسون به على من لا علم معه قول الله عز وجل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول: قبل كل شيء من حياة وموت. والآخر: بعد الخلق. وهو الظاهر: فوق كل شيء، يعني السموات. وهو الباطن: دون كل شيء، يعلم ما تحت الأرضين، ودل على هذا آخر الآية: {وهو بكل شيء عليم} .
كذا فسره مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان، وبينت ذلك السنة.
حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن شاهين قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء".
قال محشيه: إسناده حسن.


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 169)
فإذا قال جل وجهه: {مقيم} وقال: {خالدين فيها أبدا} [النساء: 57] وقال: {أكلها دائم} [الرعد: 35] ، فإذا قال الله: {دائم} لا ينقطع أبدا.
وقال: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] وقال: {وإن الآخرة هي دار القرار} [غافر: 39] .
وقال: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64] .
وقال: {ماكثين فيه أبدا} [الكهف: 3] ، وقال: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [آل عمران: 107] .
وقال: {وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 32، 33] . ومثله في القرآن كثير.
وذكر أهل النار فقال: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر: 36] .
وقال: {أولئك يئسوا من رحمتي} [العنكبوت: 23] .
وقال: {لا ينالهم الله برحمة} [الأعراف: 49] .
وقال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [الزخرف: 77] .
وقال: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21] .
وقال: {خالدين فيها أولئك هم شر البرية} [البينة: 6] .
وقال: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} [النساء: 56] .


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 170)
وقال: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} [السجدة: 22] . وقال: {إنها عليهم موصدة} [الهمزة: 8] .
ومثله في القرآن كثير 1.
وأما السماء والأرض فقد بادتا؛ لأن أهلها صاروا إلى الجنة والنار. وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب؛ لأنه سقف الجنة والله عليه فلا يهلك ولا يبيد.
وأما قوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] . وذلك أن الله أنزل: {كل من عليها فان} [الرحمن: 26] .
قالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأنزل الله آية يخبر عن أهل السموات وأهل الأرض أنهم يموتون، فقال: {كل شيء} من الحيوان {هالك} يعني ميت {إلا وجهه} أنه حي لا يموت، فأيقنوا عند ذلك بالموت.
وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان فقلنا: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: {فلما تجلى ربه للجبل} [الأعراف: 134] .
لم يتجلى للجبل إن كان فيه بزعمهم؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشيء هو فيه، ولكن الله -جل ثناؤه- على العرش، وتجلى
__________
1 انظر في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، وكذا النار وأبديتها ودوامها: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن قيم الجوزية -رحمه الله- الباب السابع والستون "ص: 480-528" وكذا "الشريعة" للآجري "1371/3-1382".


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 171)
لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قبل ذلك1.
وقلنا للجهم: فالله نور؟ فقال: هو نور كله، فقلنا: فالله قال: {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] .
فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورا.
فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إن زعمتم أن الله في كل مكان؟
وما بال السراج إن أدخل البيت يضيء؟ 2.
فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى.
فرحم الله من عقل عن الله ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة. وقال بقول العلماء. وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته3.
__________
1 قال ابن بطة في كتاب "الإبانة" "139/3، 140":
وزعم الجهمي أن الله لا يخلو منه مكان، وقد أكذبه الله تعالى، ألم تسمع إلى قوله: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} [الأعراف: 143] فيقال للجهمي: أرأيت الجبل حين تجلى له؟ وكيف تجلى للجبل وهو في الجبل؟!
2 قال ابن بطة في كتاب "الإبانة" "140/3":
وقال الله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] فيقال للجهمي: هل الله نور؟ فيقول: هو نور كله. قيل له: فالله في كل مكان؟ قال: نعم. قلنا: فما بال البيت المظلم لا يضيء من النور الذي هو فيه، ونحن نرى سراجا فيه فتيلة يدخل البيت المظلم فيضيء، فما بال الموضع المظلم يحل الله تعالى فيه بزعمكم فلا يضيء.
فعندها يتبين لك كذب الجهمي وعظيم فريته على ربه.
3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "592/1": =


الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 172)
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
آخر الكتاب
__________
= وجميع البدع: كبدع الخوراج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدعة الجهمية النفاة، فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا، ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما أحدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، ولهذا يصير محققوهم إلى مثل فرعون مقدم المعطلة، بل وينتصرون له ويعظمونه.
والمبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، وبيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. أ. هـ.
قلت: فأسألك اللهم أن تجعل عملي في هذا الكتاب من الجهاد في سبيلك، وأن تجعله من موازيني وصحائفي يوم العرض عليك، وبيض به وجهي يوم تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف.
انتهيت من تحقيق هذا الكتاب المبارك في يوم الجمعة الموافق 20 من ربيع الأول لعام 1424هـ الموافق 2003/6/20م، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
صبري بن سلامه بن شاهين
جوال: 052929348
ص. ب 380937
رمز بريدي 11345









منهاج السنة النبوية (2/ 558)
وكذلك الكلام في لفظ " الجهة " فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي (1) كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم.
فإذا أريد الثاني (أمكن) (2) أن يقال: كل جسم في جهة. وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر.
فمن قال: الباري في جهة، وأراد بالجهة أمرا موجودا، فكل ما سواه مخلوق له، (ومن قال: إنه) (3) في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ.
وإن أراد بالجهة أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم، وقال: إن الله فوق العالم، فقد أصاب. وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات.
وأما إذا فسرت (4) الجهة بالأمر العدمي، فالعدم (5) لا شيء.
وهذا ونحوه من الاستفسار، وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه.
فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤي لكان في جهة، وهذا ممتنع، فالرؤية ممتنعة.
قيل له: إن أردت بالجهة أمرا وجوديا، فالمقدمة الأولى ممنوعة، وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة، فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير، فتكون الحجة باطلة.
وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا، لم يلزم أن يكون كل مرئي في جهة وجودية، فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية، ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام. فبطل قولهم: كل مرئي لا بد أن يكون في جهة وجودية، (1 إن أراد بالجهة أمرا وجوديا 1) . (1) وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية، فإنه إذا قال: الباري ليس في جهة عدمية، وقد علم أن العدم ليس بشيء، كان حقيقة قوله: إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه، حيث لا موجود إلا هو، وهذا باطل.
وإن قال: هذا يستلزم (2) أن يكون جسما أو متحيزا، عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز. (3) فإن قال: هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وغير ذلك من المعاني الممتنعة على الرب، لم يسلم له هذا التلازم.







منهاج السنة النبوية (2/ 648)
وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ " الجهة " يراد به أمر موجود وأمر معدوم ; فمن قال: إنه فوق العالم كله، لم يقل: إنه في جهة موجودة، إلا أن يراد (1) بالجهة (* العرش، ويراد بكونه فيها أنه عليها، كما قد (2) قيل في قوله: إنه في السماء، أي على السماء.
وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها، وهو غني عنها، لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها، فضلا عن أن يحتاج إليها.
وإن أريد بالجهة *) (3) ما فوق العالم، فذاك ليس بشيء، ولا هو أمر موجود (4) حتى يقال: إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه. وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا أنه (5) إذا كان في جهة كان في [كل] (6) شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته [وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء] (7) ، ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره، والله تعالى غني عن كل ما سواه، وهذه مقدمات كلها باطلة.
وكذلك قوله: " كل ما هو في جهة فهو محدث " لم يذكر عليه دليلا، وغايته (8) ما تقدم من أن [الله] (9) لو كان في جهة لكان جسما، وكل جسم محدث، لأن الجسم لا يخلو من الحوادث [وما لا يخلو من الحوادث] (1) فهو حادث.
وكل هذه المقدمات فيها نزاع: فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم ; فإذا قيل له: هذا خلاف المعقول، قال: هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى، وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى، وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة، [فثبت أنه في الجهة] (2) على التقديرين.
ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث، كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم، والكلام معهم.
وهؤلاء لا يسلمون [له] (3) أن الجسم لا يخلو من الحوادث، بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث، كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل (4) .
وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة (5) ينازعهم (6) في قولهم: إن ما لا يخلو عن الحادث (7) فهو حادث.
وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة [الموافقين] للمعتزلة (1) عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من [الرافضة] (2) فضلا، عن غيرهم من الطوائف.
تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله: (فصل) : قال الرافضي: وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد.








بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 603)
وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلَّ ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية وهو ما فوقها وما تحتهاونحو ذلك ومنه ما يكون عدميًّا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو جهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو من العالم أيضًا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلاً على أن كل ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال إن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما يسمى بالحيز أو الجهة يكون موجودًا الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم ولا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون





بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 615)
الوجه السادس أن يقال هَبْ أن وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما أنه يجب أن يكون فوقنا فالاختصاص في الأمور النسبية والإضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم أو لمعنى فيه لا في العالم أو في العالم لا فيه لا لمعنى في أمر وجودي غيرهما وقوله يمتنع أن يكون في سائر الجهات والحياز المعنى فيه سبحانه وهو أنه العلي الأعلى وهو الظاهرالذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل أن وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به أن يكون هو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب أن تكون الجهة وجودية لأن العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فإذا قيل يجب أن يكون فوقهم وأن يكون عاليًا عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن فيما يقتضي أن يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض أن وراء العالم ست جهات وأن العالم كالإنسان الذي له ست جهات لكان إذاقيل يجب أن يكون الله فوقه ولا يكون عن يمينه ولا عن يساره إنما هو إيجاب لنسبة خاصة وإضافة خاصة له إلى العالم لا يقتضي ذلك أن يكون هناك أمور وجودية فضلاً عن أن تكون مختلفة الحقائق






بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 627)
الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في الجهة يقال له الأجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته أفتقول إنه يستحيل عقلاً حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل أن كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما أن العالم حاصل في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلاً قال إن كل جسم يجب أن يكون حاصلاً في حيز وجودي منفصل عنه وإذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في جهة التي قد قدم إنها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفي على من تأمله وإنما الرجل غلط أو خالط في المقدمتين فإنه قد سمع وعلم أن الجسم لا يكون إلا متحيزًا فلابد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا أن الجهة أمر وجودي فركب أن كل جسم يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الإجمال والاشتراك فيأخذ أحدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشترى قد قارن زحل وهذا هو المشترى الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل أو يقول هذه الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم أن الجهة التي نصر أنها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم يوضح ذلك الوجه الرابع عشر






بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 371)
وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو تحمل العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول أنه في مكان دون مكان







موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1031)---تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود
تمهيد
ويشمل:
أ- خلاصة أقوال الطوائف في الصفات:
تعددت أقوال الطوائف في الصفات وإثباتها لله تعالى، وأهم هذه الأقوال:
1- قول الجهمية، الذين ينفون الأسماء والصفات جميعا، ويوافقهم على هذا كثير من الفلاسفة والباطنية وغيرهم الذين يصفونها بالسلوب والإضافات فقط.
2- قول المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ولكن إثبات
هؤلاء للأسماء لا يفيدهم شيئا لأنهم يقولون إما أنها أعلام محضة لا تدل على صفات، أو يقولون: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة.
3- قول الأشاعرة الذين يثبتون الأسماء وبعض الصفات، ويتأولون بعضها- على اختلاف فيما بينهم- أو يفوضون.
4- قول المشبهة الذين يثبتون الصفات، ولكنهم يجعلونها من جنس صفات الخلوقين، فيشبهون الله بخلقه.
5- قول من يتوقف فيها: إما أنهم يقولون يجوز أن يكون المراد بالصفات ما يليق بالله، أو أمور أخرى، وإما أنهم لا يبحثون ذلك مطلقا، بل يقتصرون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث.
6- وهناك بعض الغلاة الذين قالوا: إن أثبتنا الصفات شبهناه بالموجودات، وإن نفيناها شبهناه بالمعدومات، ولذا فالأولى سلب النقيضين عنه، فيقال:
لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، وبعضهم يقول: لا موجود، ولا ليس بموجود، ولا معدوم، ولا ليس بمعدوم وهكذا، وهؤلاء هم غلاة القرامطة والباطنية الملاحدة، والعجيب أن شيخ الإسلام ذكر أن هناك طائفة من هؤلاء لما رأوا أن قول المثبتة يلزم منه التشبيه بالموجودات، وقول النفاة يلزم منه التشبيه بالمعدومات، وقول هؤلاء الغلاة الذين يسلبون عنه النقيضين يلزم منه تشبيهه بالممتنعات؛ لجأوا إلى الوقف والسكوت وقالوا: "نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم لا بهذا ولا بهذا، فلا نقول:
ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول: هو موجود ولا نقول هو معدوم" (1) .
7- قول أهل السنة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسولهـ صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل. فهم يثبتون الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته.
ولشيخ الإسلام تقسيم دقيق لأقوال الطوائف المنتسبة للسنة، حيث قال: " وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام: - قسمان يقولان: تجري على ظواهرها.
- وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
- وقسمان يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين. فهؤلاء المشبهة. ومذهبهم باطل، أنكره السلف.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله ... .
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس في الباطن مدلول هو صفة الله قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته: إما سلبية، أو إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات- وهي الصفات السبعة، أو الثمانية، أو الخمسة عشر- أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين- فهؤلاء قسمان:
(قسم) يتأولونها، ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.
(وقسم) يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.
وأما القسمان الواقفان:
(فقوم) يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
(وقوم) يمسكون عن هذا كله، لا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها" (1) ، ثم بين أن الصواب طريقة السلف، وأن فيها السلامة والرشاد، وأن الطرق الأخرى- خاصة طرق الفلاسفة والمتكلمين- قد يكون فيها العطب والهلاك.
ب- أقوال الأشاعرة في الصفات:
سبق عند الحديث عن تطور المذهب الأشعري وأشهر رجاله تتبع أقوال الأشاعرة في مسائل الصفات وغيرها، وتبين اختلاف أقوالهم في الصفات وتعددها أحيانا، ويمكن تلخيص ذلك كما يلي:
1- أجمع الأشاعرة على إثبات الصفات السبع العقلية، واختلفوا في صفة البقاء.
2- أجمع الأشاعرة على نفى الصفات الاختيارية عن الله، وهي التي يعبرون عنها بحلول الحوادث، وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول، والإتيان، وغيرها.
وهذا هو أصل مذهب ابن كلاب، الذي تبعه عليه الأشعري وأصحابه، وما ورد من هذه الصفات إما أن يثبتوها بما لا يتعارض مع هذا الأصل وإما أن يؤولوها- كما هو الغالب على مذهب كثير من الأشاعرة- وقد أوضح شيخ الإسلام مذهب الأشاعرة في ذلك فقال: "لما كان من أصل ابن كلاب ومن وافقه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقضاة: أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى الفراء، وأبي جعفر السمناني، وأبي الوليد الباجي، وغيرهم من الأعيان، كأبي المعالي الجويني، وأمثاله، وأبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهما: أن الرب لا يقوم به ما يكون بمشيئته وقدرته، ويعبرون عن هذا بأنه لا تحله الحوادث ووافقوا على ذلك الجهم (1) بن صفوان وأتباعه من الجهمية والمعتزلة- صاروا فيما ورد في الكتاب والسنة من صفات الرب على أحد قولين: إما أن يجعلوها كلها مخلوقات منفصلة عنه، فيقولون: كلام الله مخلوق بائن عنه، لا يقوم به كلام، وكذلك رضاه، وغضبه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، وغير ذلك، هو مخلوق منفصل عنه، لا يتصف الرب بشيء يقوم به عندهم. وإذا قالوا: هذه الأمور من صفات الفعل، فمعناه أنها منفصلة عن الله، بائنة، وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به، ولهذا يقول كثير منهم: إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات.
وإما أن يجعلوا جميع هذه المعاني قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه، وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي، كما يقولون: إن القرآن قديم أزلي، ثم منهم من يجعله معنى واحدا، ومنهم من يجعله حروفا، أو حروفا وأصواتا قديمة أزلية، مع كونه مرتبا في نفسه ويقولون: فرق بين ترتيب وجوده وترتيب ماهيته" (1) .
وقوله: "ثم منهم من يجعله حروفا أو حروفا وأصواتا قديمة ... قصد به أقوال بعض الحنابلة الذين أرادوا موافقة شيوخهم الحنابلة في أن كلام الله حروف وأصوات، مع قولهم بأصل ابن كلاب والأشعري، والذي فرق بين ترتيب الوجود وترتيب الماهية هو ابن الزاغوني الذي قال: إن القرآن حروف وأصوات أزلية ثم ترتبت من حيث الوجود لا من حيث الماهية، وهو قول ساقط (2) .
والتحليل السابق لشيخ الإسلام- وهو الخبر بالمذهب الأشعري- يبين كيف أن بعض الأشاعرة قد يجمع بين الإثبات لبعض الصفات مع اعتقاد الأصل الكلابي، والملاحظ أن الأشاعرة في بعض الصفاتء مثل الاستواء والنزول والمجيء يفسرونها بما يوافق القول الأول، أي أنهم يجعلونها من المفعولات المنفصلة عن الله تعالى. وفي مثل صفة الرضا والغضب يفسرونها بما يوافق القول الثاني، أي أنهم يجعلونها أزلية (2) . ولذلك اشتهر عنهم القول بالموافاة ومعناه عندهم أن الله لم يزل راضيا عمن علم أنه يموت على الإيمان ولو عاش أغلب عمره كافرا، ولم يزل غاضبا على من علم أنه يموت على الكفر ولو عاش أغلب عمره مؤمنا.
3- أما الصفات الخبرية، كالوجه واليدين والعين، واليمين، والقبضة، والساق، والقدم، والأصابع وغيرها. فقد اختلفت أقوال الأشاعرة فيها:
أ- فمتقدموهم يثبتونها في الجملة، فالوجه واليدان والعين يثبتها الأشعري (4) ،والباقلاني (1) ، وابن فورك (2) ، والبيهقي (3) ، وغيرهم، أما صفة اليدين والقبضة والقدم والأصابع، فأغلب هؤلاء يتأولها، مثل أبي الحسن الطبري- تلميذ الأشعري- (4) ، الذي قال أيضا إن الله راء بلا عين (5) ، ومثل ابن فورك (6) ، والبيهقي (7) ، ولذلك قيل إن متقدمي الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، لأن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية وهي الوجه، واليدان، والعين.
على إن إثبات بعضهم لها من باب التفويض (8) .
ب- أما متأخروهم فيتأولون هذه الصفات، وذلك مثل البغدادي (9) ، والجويني (10) ، ومن جاء بعدهم، وهو الذي استقر عليه المذهب الأشعري، وإن كان المتأخرون صاروا يحكون القولين في مذهبهم:
- التأويل، وهو الذي يرجحونه.
- أو الإثبات لكن بشرط التفويض.
4- أما صفة العلو والاستواء، فمثل الصفات الخبرية:
أ- متقدمو هم يثبتونها، كالأشعري (11) ، وتلاميذه (12) ، والباقلافي (13) .
ب- ثم بدأ تأويلها في وقت مبكر نسبيا، على يد ابن فورك (1) ،- وله قول آخر بإثباتها (2) ، والبغدادي (3) ، والبيهقي (4) ، والجويني الذي صرح بنفي العلو وتأويل الاستواء بالاستيلاء كقول المعتزلة (5) .
5- أما صفة الكلام، فأصل المذهب الذي كان عليه متقدمو الأشاعرة باق- وهو إثبات أزليته، والقول بالكلام النفسي، وكونه واحدا- وقد سار عليه المتأخرون، مع بعض الاختلافات في التفاصيل.
هذه خلاصة أقوال الأشاعرة في الصفات بإجمال، وما لم يذكر فيما سبق فهو إما داخل في الصفات الفعلية فيتأولونها، أو داخل في الصفات الخبرية فتختلف أقوالهم فيها.
ولشيخ الإسلام بعض التفصيلات حول أقوال الأشاعرة في الصفات، فمثلا يقول: "الإثبات في الجملة مذهب الصفاتية، من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وأهل الحديث، وجمهور الصوفية، والحنبلية، وأكثر المالكية، والشافعية- إلا الشاذ منهم- وكثير من الحنفية أو أكثرهم، وهو قول السلفية، لكن الزيادة في الإثبات إلى حد التشبيه هو قول "الغالية" من الرافضة، ومن جهل أهل الحديث، وبعض المنحرفين.
وبين نفي الجهمية وإثبات المشبهة مراتب:
فالأشعرية: وافق بعضهم في الصفات الخبرية.
وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية.
وأما في الصفات القرآنية فلهم قولان:
- فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها.
- وبعضهم يقر ببعضها.








موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1042)
2- من المسائل المشهورة في هذا الباب مسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، والمعروف أن الجهمية حرصوا على تقرير أن الاسم غر المسمى ليسلم لهم مذهبهم الفاسد القائل بخلق القرآن. فقابلهم البعض فقالوا: بل الاسم هو المسمى، حتى لا يقال: إن أسماء الله غير الله، وهذا قول بعض المنتسبين إلى السنة.
وقد ذكر شيخ الإسلام عدة أقوال في هذه المسألة، وهي:
1) أن الاسم غير المسمى، وهذا قول الجهمية، الذين يقولون: إن أسماء الله غير الله، وما كان غير فهو مخلوق (3) .
2) التوقف والامساك عن إطلاق مثل هذه العبارات نفيا وإثباتا، وأن كلا من الإطلاقين بدعة، وقد ذكر هذا الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره، وكما ذكره أبو جعفر الطبري في صريح السنة (4) ، وعده من الحماقات.
3) أن الاسم هو المسمى، وهذا قول كثير من المنتسبين إلى السنة، مثل أبي بكر عبد العزيز، وأبي القاسم الطبرى، واللالكائي (1) ، وأبي محمد البغوي في شرح السنة (2) . وغيرهم. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري (3) ، اختاره أبو بكر بن فورك وغيره.
4) والقول الثاني- وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري- أن الأسماء ثلاثة أقسام:
تارة يكون الاسم هو المسمى، كاسم الموجود.
وتارة يكون غير المسمى، كاسم الخالق.
وتارة لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدوس (4) .
5) أن الاسم للمسمى، كما يقوله أكثر أهل السنة، فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول لقوله تعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" [الأعراف: 180] وقال: "أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" [الإسراء: 110] . وهؤلاء إذا قيل لهم: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟ "فصلوا فقالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى، وإذا قيل: إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا. فهذا باطل؟ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة منه، فكيف بالخالق، وأسماؤه من كلامه، وليس كلامه بائنا عنه، ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا، مثل أن يسمى الرجل غيره باسم، أو يتكلم باسمه، فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى، لكن المقصود به المسمى، فإن الاسم مقصوده اظهار المسمى وبيانه" (5) .







موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1049)
ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة:
والمقصود بالصفات الصفات السبع التي أثبتها جميع الأشاعرة، متقدموهم ومتأخروهم، وهي: العلم، والقد رة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، وهي الصفات التى يسمونها صفات المعاني أو الصفات المعنوية، ويجعلونها في مقابل الصفات النفسية- أو الذاتية- مثل كون الرب موجودا، وقائما بنفسه، وقديما عند بعضهم، ويضيفون إليها قسما ثالثا وهو الصفات الفعلية، وقد انتقد شيخ الإسلام هذا التقسيم عندهم (1) .
وإثبات الأشاعرة لهذه الصفات- ولغيرها- جعلهم يدخلون ضمن دائرة الصفاتية المثبتة في الجملة، خلافا للجهمية والمعتزلة النفاة، ولكن مذهب الأشاعرة في الصفات الأخرى، كالصفات الاختيارية وغيرها أثر على تفاصيل أقوالهم في هذه الصفات السبع الني أثبتوها،




موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1053)
المسألة الثانية: الصفات السبع وحلول الحوادث:
وهذه المسألة من أهم المسائل المتعلقة بالصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة، لأنها توضح جانبا مهما من جوانب دلالة هذه الصفات وقع فيه الأشاعرة بخطأ جسيم، نظرا لضلالهم في مسائل أخرى في باب الصفات مثل الصفات الاختيارية لله تعالى.
وبيان ذلك أن الأشاعرة يقولون بنفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أي نفي ما يتعلق بالله من الصفات الفعلية والاختيارية التي تقوم بذاته، وهذا قالوه بناء على دليل حدوث الأجسام، وأن ما حلت به الحوادث فهو حادث.
ثم إن الأشاعرة مع قولهم بهذا وتقريرهم له أثبتوا لله الصفات السبع، فوجدوا أن هذه الصفات- ما عدا صفة الحياة- يلزم من إثباتها حلول الحوادث بالله، لأنه مع وجود المخلوقات توجد معلومات ومرادات ومسموعات ومبصرات، ومقدرات، وكذا إذا كلم بعض رسله أو أوحى اليهم، وصلة هذه بالله تعالى
يلزم منها ما يسمونه بحلول الحوادث بالله تعالى، لأن علم الله بالشيء بعد وجوده ليس هو نفس علمه قبل وجوده، لم يتجدد له فيه نعت ولا صفة، وإلا صار
جهلا، وهكذا بقية الصفات.
فالأشاعرة حلوا هذه المعضلة- بزعمهم- بأن قالوا بأزلية هذه الصفات، وأنها لازمة لذات الله أزلا وأبدا، وقالوا إنه لا يتجدد لله عند وجود هذه الموجودات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم فقط.
وهؤلاء قد خالفوا المعقول والمنقول، لأن العلم بالشيء بعد وجوده ليس كالعلم به قبل وجوده، وقد ذكر الله تعالى علمه بما يكون في بضعة عشر موضعا، مع أنه تعالى قد أخبر أن علمه قد أحاط بكل شيء قبل كونه.
ونضرب أمثلة لمناقشات شيخ الإسلام لهؤلاء في هذه المسألة، في صفة العلم، والإرادة، والسمع والبصر، أما صفة الكلام وهي أوضحها في هذا الباب فسيأتي لها مبحث مستقل إن شاء الله.
أ- صفة "العلم" (1) .
يقول شيخ الإسلام موضحا الخلاف في علم الله وتعلقه بالمستقبل: "الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته، ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم، وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات، لكن هؤلاء يقولون: يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم، لا بين العلم والمعلوم.
وقد تنازع الأولون: هل له علم واحد أو علوم متعددة؟ على قولين:
والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، ونحو هؤلاء.
والثاني قول أبي سهل الصعلوكي.
والقول الثاني: أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها، وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون: لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف، لم يسبق القدر لا شقاوة ولا سعادة، وهم غلاة القدرية ... .
والقول الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها، ويعلمها بعلم آخر حين وجودها" (1) . وهذا قول السلف، وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر من الفلاسفة، وقول الرازي في المطالب العالية، وهو مخالف لما ينسب إلى الجهم الذي يقول بتجدد علم قبل الحدوث، والذي في القرآن أن التجدد يكون بعد الوجود (2) . يقول شيخ الإسلام: "لا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهل يتجدد له علم آخر؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا؟
هذا فيه نزاع بين النظار" ثم قال عن القول الأول- وهو أنه يتجدد له علم آخر- "واذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشر مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف " (3) .
__________
(1) رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل (1/177-179) - ت رشاد سالم-
(2) انظر: المصدر السابق (1/179- 181) .
(3) درء التعارض (10/17) .






موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1057)
ومما سبق يتبين حقيقة الخلاف، وعلاقته بمسألة حلول الحوادث التي جعل الأشاعرة منعها أحد أصولهم التي لا يتنازلون عنها، ومما سبق أيضا يتبين المذهب الحق في ذلك، وأن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده مع علمه السابق به قبل وجوده، وأن علمه الثاني والأول ليس واحدا، وهذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ" [البقرة: 143] وقوله: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [آل عمران: 142] ، وقوله: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ" [آل عمران: 140] ، وقوله: "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"- إلى قولهـ "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 3-11] وقوله: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" [محمد: 31] ، وغيرها.
يقول شيخ الإسلام حول هذه الآيات: "وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: "إلَّا لِنَعْلَمَ" و "حَتَّى نَعْلَمَ"، يتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون، وهذا جهل؛ فإن القرآن قد أخبر بأنه يعلم ما سيكون في غر موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلفه علما مفصلا، وكتب ذلك، وأخبر بما أخبر به من ذلك قبل أن يكون، وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوه، ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون، فهذا هو الكمال، وبذلك
جاء القرآن في غير موضع، بل وإثبات رؤية الرب له بعد وجوده، كما قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105] ، فأخبر
أنه سيرى أعمالهم ... " (1) .
ثم ذكر شيخ الإسلام أقوال المفسرين في قوله "إِلَّا لِنَعْلَمَ" [البقرة: 143] فقال: " وروى عن ابن عباس في قوله: "إِلَّا لِنَعْلَمَ" أي لنرى، وروى لنميز وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون (2) ، ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب، قال فمعنى قوله "إِلَّا لِنَعْلَمَ" أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد، وهذا كقوله: "قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ" [يونس: 18] ، أي بما لم يوجد، فإنه لو وجد لعلمه، فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان، يلزم من ثبوث أحدهما ثبرقه الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه" (3) .
فالعقل والقرآن يدلان على أن علمه تعالى بالشيء بعد فعله قدر زائد عن العلم الأول (4) . وتسمية ذلك تغيرا أو حلولا لا يمنع من القول به ما دام دالا على الكمال لله تعالى من غير نقص، وما دامت أدلة الكتابه والسنة تعضده.










موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1061)
بقي في مسألة الارادة أن شيخ الاسلام في شرحه لمذهب أهل السنة في الإرادة لما ذكر الفرق بين الإرادة القدرية الشاملة السابقة، وإرادة فعل الشيء في وقته ذكر العزم والقصد، ثم ذكر أن هناك خلافا في العزم، هل يوصف الله به على قولين:
أحدهما: المنع، كقول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى.
والثاني: الجواز.
ثم قال عن الثاني "وهو أصح، فقد قرأ جماعة من السلف: "فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ" [آل عمران: 159] بالضم (1) ، وفي الحديث الصحيح من حديث أم سلمة "ثم عزم الله لي" (2) ، كذلك في خطبة مسلم: " فعزم لي" (3) ، وسواء سمى عزما أو لم يسم فهو سبحانه إذا قدرها علم أنه سيفعلها في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها، فإذا جاء الوقت فلابد من إرادة الفعل المعين، ونفس الفعل ولابد من علمه بما يفعله" (1) .
__________
(1) قراءة الجمهور بفتح التاء من "عزمت"، وقرأ جابر بن زيد، وأبو نهيك، وعكرمة وجعفر ابن محمد- بضم التاء-، انظر: الدر المنثور (2/360) - ط دار الفكر-، وتفسير ابن عطية: المحرر الوجيز (3/281) ، وتفسر القرطبى (4/252) ، والبحر المحيط (3/99) ، وإعراب القرآن للنحاس (1/416) ، والمحتسب لابن جني (1/176) ، ومختصر في شواذ القرآن لابن خالويه (ص:
23) ، والتبيان للعكبري (1/305-306) . وغيرها. وقد ذكر السيوطي أن قراءة جابر بن زيد وأبي نهيك أخرجها ابن أبي حاتم.
(2) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، ورقمه (918) مكرر.
(3) الذي في مقدمة صحيح مسلم (1/4) - ط عبد الباقي- "أن لو عزم لي عليه" وكذا في طبعات مسلم الأخرى. وفد نفى هذه الصفة النووي في شرحه لمسلم (1/46، 6/221-222) ، وذكر أقوالا قي تأويلها، وشيخ الإسلام استشهد بقول مسلم هنا لبيان أن أئمة السلف يقولون به، ومسلم قصد أن لو عزم الله لي، قال المازري في المعلم: "لا يظن بمسلم أنه أراد لو عزم الله عليه، لأن إرادة لله سبحانه لا تسمى عزما ... " (ص: 102) ، وهذا بناء عل مذهب بعض الأشاعرة، وقد رد عليه ابن الصلاح قائلا: ليس ذلك كما قال، ثم استشهد بحديث أم سلمة، وذكر وجهين في معنى العزم، انظر: صيانة صحيح مسلم (ص: 116-117) .







موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1095)
ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها:
سبق في بداية الفصل تفصيل أقوال الأشاعرة في الصفات التي نفوها أو أولوها، مع بيان الفرق بين متقدميهم ومتأخريهم في هذا الباب:
1- فقد تبين أن جميع الأشاعرة ينفون الصفات الاختيارية عن الله وأنه لا فرق في ذلك بين متقدميهم ومتأخريهم.
2- كما أن أقوالهم في كلام الله والقرآن مرتبطة بهذه المسألة.
3- كما تبين أن الصفات الخبرية أثبتها المتقدمون وتأولها المتأخرون.
4- وكذا العلو والاستواء.
والذي استقر عليه المذهب الأشعري تأويل ماعدا الصفات السبع التي أثبتوها (1) ، وقد كان جل اهتمام شيخ الإسلام منصباً على هؤلاء، وكثيرا ما يرد عليهم بأقوال شيوخهم المتقدمين، كما هو واضح في منهجه.
وخطة هذا المبحث يمكن عرضها من خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: بيان حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، وبيان مناقشة شيخ الإسلام لهذه الحجج.
المسألة الثانية: بيان القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات. ثم مناقشتهم تفصيلا في:
المسألة الثالثة: الصفات الإختيارية [ومسألة حلول الحوادث] .
المسألة الرابعة: الصفات الخبرية.
المسألة الخامسة: العلو.
المسألة السادسة: كلام الله.
ويلاحظ أن بعض هذه المناقشات ستتم الإحالة - منها - على ما سبق ذكره في الفصول والمباحث السابقة.
_________
(1) مع أن إثباتهم لها فيه ما فيه كما سبق تفصيله.