بسم الله الرحمن الرحیم
النشر فی القراءات العشر، ج ٢، ص ١٩۴-٢٠۶
باب بيان إفراد القراءات و جمعها
لم يتعرض أحد من أئمة القراءة فى تواليفهم لهذا الباب. و قد أشار اليه أبو القاسم الصفراوى فى إعلانه و لم يأت بطائل و هو باب عظيم الفائدة، كثير النفع، جليل الخطر، بل هو ثمرة ما تقدم فى أبواب هذا الكتاب من الأصول، و نتيجة تلك المقدمات و الفصول. و السبب الموجب لعدم تعرض المتقدمين اليه هو عظم هممهم، و كثرة حرصهم، و مبالغتهم فى الاكثار من هذا العلم و استيعاب رواياته و لقد كانوا فى الحرص و الطلب بحيث أنهم يقرءون بالرواية الواحدة على الشيخ الواحد عدة ختمات لا ينتقلون إلى غيرها و لقد قرأ الاستاذ أبو الحسن على بن عبد الغنى الحصرى القيروانى القراءات السبع على شيخه أبى بكر القصرى تسعين ختمة كلما ختم ختمة قرأ غيرها حتى أكمل ذلك فى مدة عشر سنين حسبما أشار اليه بقوله فى قصيدته:
و أذكر أشياخى الذين قرأتها عليهم فأبدأ بالامام أبى بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة بدأت ابن عشر ثم أكملت فى عشر
و كان أبو حفص الكتانى من أصحاب ابن مجاهد و ممن لازمه كثيرا و عرف به و قرأ عليه سنين لا يتجاوز قراءة عاصم. قال و سألته أن ينقلنى عن قراءة عاصم إلى غيرها فأبى علىّ، و قرأ أبو الفتح فرج بن عمر الواسطى أحد شيوخ ابن سوار القرآن برواية أبى بكر من طريق يحيى العليمى عن أبى الحسن على ابن منصور المعروف بابن الشعير الواسطى عدة ختمات فى مدة سنين و كانوا يقرءون على الشيخ الواحد العدة من الروايات و الكثير من القراءات كل ختمة برواية لا يجمعون رواية إلى غيرها و هذا الذى كان عليه الصدر الأول و من بعدهم إلى أثناء المائة الخامسة عصر الدانى و ابن شيطا و الأهوازى و الهذلى و من بعدهم فمن ذلك الوقت ظهر جمع القراءات فى الختمة الواحدة و استمر إلى زماننا و كان بعض الأئمة يكره ذلك من حيث إنه لم تكن عادة السلف عليه و لكن الذى استقر عليه العمل هو الأخذ به و التقرير عليه و تلقيه بالقبول.
و إنما دعاهم إلى ذلك فتور الهمم و قصد سرعة الترقى و الانفراد و لم يكن أحد من الشيوخ يسمح به إلا لمن أفرد القراءات و أتقن معرفة الطرق و الروايات و قرأ لكل قارئ ختمة على حدة و لم يسمح أحد بقراءة قارئ من الأئمة السبعة أو العشرة فى ختمة واحدة فيما أحسب إلا فى هذه الأعصار المتأخرة حتى إن الكمال الضرير صهر الشاطبى لما أراد القراءة على الشاطبى لم يقرأ عليه قراءة واحدة من السبعة الا فى ثلاث ختمات فكان إذا أراد قراءة ابن كثير مثلا يقرأ أولا برواية البزى ختمة ثم ختمة برواية قنبل ثم يجمع البزى و قنبل فى ختمة هكذا حتى أكمل القراءات السبع فى تسع عشرة ختمة و لم يبق عليه إلا رواية أبى الحارث و جمعه مع الدورى فى ختمة، قال فأردت أن أقرأ برواية أبى الحارث فأمرنى بالجمع فلما انتهيت إلى (سورة الأحقاف) توفى رحمه اللّه و هذا هو الذى استقر عليه العمل إلى زمن شيوخنا الذين أدركناهم فلم أعلم أحدا قرأ على التقى الصائغ الجمع الا بعد أن يفرد السبعة فى إحدى و عشرين ختمة و للعشرة كذلك. و قرأ شيخنا أبو بكر بن الجندى على الصائغ المذكور المفردات عشرين ختمة و كذلك شيخنا الشيخ شمس الدين ابن الصائغ و كذلك شيخنا الشيخ تقى الدين البغدادى و كذلك سائر من أدركناهم من أصحابه و قرأ شيخنا عبد الوهاب القروى الاسكندرى على شيخه الشهاب أحمد ابن محمد القوصى بمضمن الإعلان فى السبع أربعين ختمة و كان الذين يتساهلون فى الأخذ يسمحون أن يقرءوا لكل قارئ من السبعة بختمة سوى نافع و حمزة فإنهم كانوا يأخذون ختمة لقالون ثم ختمة لورش ثم ختمة لخلف ثم ختمة لخلاد و لا يسمح أحد بالجمع الا بعد ذلك و لما طلبت القراءات أفردتها على الشيوخ الموجودين بدمشق و كنت قرأت ختمتين كاملتين على الشيخ أمين الدين عبد الوهاب بن السلار ختمة بقراءة أبى عمرو من روايتيه و ختمة بقراءة حمزة من روايتيه أيضا ثم استأذنته فى الجمع فلم يأذن لى و قال لم تفرد على جميع القراءات و لم يسمح بأكثر من أن أذن لى فى جميع قراءة نافع و ابن كثير فقط «نعم» كانوا إذا رأوا شخصا قد أفرد و جمع على شيخ معتبر و أجيز و تأهل فأراد أن يجمع القراءات فى ختمة على أحدهم لا يكلفونه بعد ذلك إلى إفراد لعلمهم بأنه قد وصل إلى حد المعرفة و الاتقان كما وصل الأستاذ أبو العز القلانسى إلى الإمام أبى القاسم الهذلى حين دخل بغداد فقرأ عليه بمضمن كتابه الكامل فى ختمة واحدة. و لما دخل الكمال بن فارس الدمشقى مصر و قصده قراء أهلها لانفراده بعلو الإسناد و قراءته الروايات الكثيرة على الكندى فقرءوا عليه بالجمع للاثنى عشر بكل ما رواه عن الكندى من الكتب. و رحل الشيخ على الديوانى من واسط إلى دمشق فقرأ على الشيخ إبراهيم الإسكندرى بها بمضمن التيسير و الشاطبية فى ختمة. و رحل الشيخ نجم الدين بن مؤمن إلى مصر من العراق فقرأ على الشيخ تقى الدين بن الصائغ بمضمن عدة كتب جمعا و كذلك رحل شيخنا أبو محمد بن السلار فقرأ على الصائغ المذكور ختمة جمعا بمضمن التيسير و الشاطبية و العنوان. و رحل بعده شيخنا أبو المعالى بن اللبان فقرأ ختمة جمعا للثمانية بمضمن عقد اللآلى و غيرها على أبى حيان و أول ما قرأت أنا على ابن اللبان قرأت عليه ختمة جمعا بمضمن عشرة كتب و لما رحلت أولا إلى الديار المصرية قرأت جمعا بالقراءات الاثنى عشر بمضمن عدة كتب على أبى بكر بن الجندى و قرأت على كل من ابن الصائغ و البغدادى جميعا بمضمن الشاطبية و التيسير و العنوان ثم رحلت ثانيا و قرأت على الشيخين المذكورين جمعا للعشرة بمضمن عدة كتب و زدت فى جمعى على البغدادى فقرأت لابن محيصن و الأعمش و الحسن البصرى «فهذه» طريقة القوم رحمهم اللّه و هذا دأبهم. و كانوا أيضا فى الصدر الأول لا يزيدون القارئ على عشر آيات و لو كان من كان لا يتجاوزون ذلك و إلى ذلك أشار الأستاذ أبو مزاحم الخاقانى حيث قال فى قصيدته التى نظمها فى التجويد و هو أول من تكلم فيه فيما أحسب
و حكمك بالتحقيق إن كنت آخذا على أحد أن لا تزيد على عشر
و كان من بعدهم لا يتقيد بذلك بل يأخذ بحسب ما يرى من قوة الطالب قليلا و كثيرا إلا أن الذى استقر عليه عمل كثير من الشيوخ هو الأخذ فى الأفراد بجزء من أجزاء مائة و عشرين، و فى الجمع بجزء من أجزاء مائتين و أربعين و روينا الأول عن بعض المتقدمين (أخبرنى) عمر بن الحسن بقراءتى عليه ظاهر دمشق عن الخطيب أبى العباس أحمد بن إبراهيم الواسطى أخبرنا الحسين بن أبى الحسن الطيبى، أخبرنا أبو بكر عبد اللّه بن منصور أخبرنا أبو العز الواسطى. قال قرأت بها يعنى قراءة أبى جعفر على الشيخ أبى على. و أخبرنى أنه قرأ بها على أبى على الحسين ابن على بن عبيد اللّه الرهاوى بدمشق. و أخبره أنه قرأ بها على أبى على أحمد بن محمد الأصبهانى. و أخبره أنه قرأ بها على أبى عبد اللّه صالح بن سعيد الرازى ختمة كاملة فى مدة أربعة أشهر كل يوم جزء من أجزاء مائة و عشرين و أن صالحا قرأ على أبى العباس بن الفضل بن شاذان الرازى ختمة كاملة فى مدة أربعة أشهر على هذه الأجزاء و أن الفضل قرأ على أحمد بن يزيد الحلوانى. و أخذ آخرون بأكثر من ذلك و لم يجعلوا للأخذ حدا كما ذكرنا. و كان الإمام علم الدين السخاوى يختاره و يحمل ما ورد عن السلف فى تحديد الأعشار على التلقين و استدل بأن ابن مسعود رضى اللّه عنه قرأ على النبى صلى اللّه عليه و سلم فى مجلس واحد من أول سورة النساء حتى بلغ فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً كما ثبت فى الصحيح. و الذى قاله واضح فعله كثير من سلفنا و اعتمد عليه كثير ممن أدركنا من أئمتنا، قال الإمام يعقوب الحضرمى قرأت القرآن فى سنة و نصف على سلام. و قرأت على شهاب الدين بن شريفة فى خمسة أيام و قرأ شهاب على مسلمة بن محارب فى تسعة أيام و قد قرأ شيخنا الشهاب أحمد بن الطحان على الشيخ أبى العباس بن نحلة ختمة كاملة بحرف أبى عمرو من روايتيه فى يوم واحد و أخبرت عنه أنه لما ختم قال للشيخ هل رأيت أحدا يقرأ هذه القراءة؟ فقال لا تقل هكذا، قل: هل رأيت شيخا يسمع هذا السماع؟ و لما رحل ابن مؤمن إلى الصائغ قرأ عليه القراءات جمعا بعدة كتب فى سبعة عشر يوما و قرأ على شخص ختمة لابن كثير من روايتيه فى أربعة أيام و للكسائى كذلك فى سبعة أيام. و لما رحلت أولا إلى الديار المصرية و أدركنى السفر كنت قد وصلت فى ختمة بالجمع إلى سورة الحجر على شيخنا ابن الصائغ فابتدأت عليه من أول الحجر يوم السبت و ختمت عليه ليلة الخميس فى تلك الجمعة و آخر ما كان بقى لى من أول الواقعة فقرأته عليه فى مجلس واحد و أعظم ما بلغنى فى ذلك قضية الشيخ مكين الدين عبد اللّه بن منصور المعروف بالأسمر مع الشيخ أبى إسحاق إبراهيم بن محمد وثيق الاشبيلى و هى ما أخبرنى به الشيخ الإمام المحدث الثقة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبى بكر بن عرام الاسكندرى فى كتابه إلىّ من ثغر الاسكندرية ثم نقلته من خطه بها أن الشيخ مكين الدين الأسمر دخل يوما إلى الجامع الجيوشى بالاسكندرية فوجد شخصا واقفا و هو ينظر إلى أبواب الجامع فوقع فى نفس المكين الأسمر أنه رجل صالح و أنه يعزم على الرواح إلى جهته ليسلم عليه ففعل ذلك و إذا به ابن وثيق و لم يكن لأحد منهما معرفة بالآخر و لا رؤية فلما سلم عليه قال له: أنت عبد اللّه بن منصور؟ قال: نعم ما جئت من الغرب إلا بسببك لأقرئك القراءات، قيل فابتدأ عليه المكين الأسمر تلك الليلة الختمة بالقراءات السبع من أولها و عند طلوع الفجر إذا به يقول مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ فختم عليه الختمة جمعا بالقراءات السبع فى ليلة واحدة.
إذا تقرر ذلك فليعلم أنه من يريد تحقيق علم القراءات و إحكام تلاوة الحروف فلا بد من حفظه كتابا كاملا يستحضر به اختلاف القراء و ينبغى أن يعرف أولا اصطلاح الكتاب الذى يحفظه و معرفة طرقه و كذلك إن قصد التلاوة بكتاب غيره و لا بد من إفراد القراءات التى يقصد معرفتها قراءة قراءة على ما تقدم فإذا أحكم القراءات إفرادا و صار له بالتلفظ بالأوجه ملكة لا يحتاج معها إلى تكلف و أراد أن يحكمها جمعا فليرض نفسه و لسانه فيما يريد أن يجمعه و لينظر ما فى ذلك من الخلاف أصولا و فرشا فما أمكن فيه التداخل اكتفى منه بوجه و ما لم يمكن فيه نظر فان أمكن عطفه على ما قبله بكلمة أو بكلمتين أو بأكثر من غير تخليط و لا تركيب اعتمده و إن لم يحسن عطفه رجع الى موضع ابتدأ حتى يستوعب الأوجه كلها من غير اهمال و لا تركيب و لا اعادة ما دخل فان الأول ممنوع و الثانى مكروه و الثالث معيب و ذلك كله بعد أن يعرف أحرف الخلاف الواجب من أوجه الخلاف الجائز فمن لم يميز بين الخلافين لم يقدر على الجمع و لا سبيل له الى الوصول الى القراءات و كذلك يجب أن يميز بين الطرق و الروايات و إلا فلا سبيل له الى السلامة من التركيب فى القراءات و سأوضح لك ذلك كله ايضاحا لا يحتاج معه الى زيادة بتوفيق اللّه سبحانه و تعالى و عونه
(فاعلم) أن الخلاف إما أن يكون للقارئ و هو أحد الأئمة العشرة و نحوهم أو للراوى عنه و هو واحد من أصحابه العشرين المذكورين فى كتابنا هذا و نحوهم أو للراوى عن واحد من هؤلاء الرواة العشرين أو من بعده و إن سفل أو لم يكن كذلك فان كان لواحد من الائمة بكماله أى مما أجمع عليه الروايات و الطرق عنه فهو قراءة و إن كان للراوى عن الإمام فهو رواية و إن كان لمن بعد الرواة و إن سفل فهو طريق و ما كان على غير هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه كان وجها
فنقول: مثلا اثبات البسملة بين السورتين قراءة ابن كثير و قراءة عاصم و قراءة الكسائى و قراءة أبى جعفر و رواية قالون عن نافع و طريق الأصفهانى عن ورش و طريق صاحب الهادى عن أبى عمرو و طريق صاحب العنوان عن ابن عامر و طريق صاحب التذكرة عن الأزرق عن ورش. و نقول لك فى البسملة بين السورتين لمن بسمل ثلاثة أوجه و لا نقل ثلاث قراءات و لا ثلاث روايات و لا ثلاث طرق، و فى الوقف على نَسْتَعِينُ للقراء سبعة أوجه، و فى الإدغام لأبى عمرو فى نحو: اَلرَّحِيمِ مُلْكِ ثلاثة أوجه و لا نقل فى شىء من هذا روايات و لا قراءات و لا طرق كما نقول لكل من أبى عمرو و ابن عامر و يعقوب و الأزرق بين السورتين ثلاث طرق و نقول للأزرق فى نحو آمَنَ و آدَمَ ثلاث طرق و قد يطلق على الطرق و غيرها أوجه أيضا على سبيل العدد لا على سبيل التخيير. إذا علمت ذلك فاعلم أن الفرق بين الخلافين أن خلاف القراءات و الروايات و الطرق خلاف نص و رواية، فلو أخل القارئ بشيء منه كان نقصا فى الرواية فهو و ضده واجب فى إكمال الرواية و خلاف الأوجه ليس كذلك إذ هو على سبيل التخيير فبأى وجه أتى القارئ أجزأ فى تلك الرواية و لا يكون إخلالا بشيء منها فهو و ضده جائز فى القراءة من حيث إن القارئ مخير فى الإتيان بأيها شاء و قد تقدمت الإشارة إلى هذا و ذكرنا ما كان يختار فيه بعض ائمتنا و ما يراه بعض شيوخنا فى التنبيه الثالث من الفصل السابع آخر باب البسملة و ذكرنا السبب فى تكرار بعض أوجه التخيير و المحافظة على الإتيان به فى كل موضع فليراجع من هناك فانه تنبيه مهم يندفع به كثير من الإشكالات و يرتفع به شبه التركيب و الاحتمالات و اللّه أعلم
فصل
للشيوخ فى كيفية الأخذ بالجمع مذهبان أحدهما الجمع بالحرف و هو أن يشرع القارئ فى القراءة فإذا مر بكلمة فيها خلف أصولى أو فرشى أعاد تلك الكلمة بمفردها حتى يستوفى ما فيها من الخلاف فان كانت مما يسوغ الوقف عليه وقف و استأنف ما بعدها على الحكم المذكور و إلا وصلها بآخر وجه انتهى عليه حتى ينتهى إلى وقف فيقف و إن كان الخلف مما يتعلق بكلمتين كمد المنفصل و السكت على ذى كلمتين وقف على الكلمة الثانية و استوعب الخلاف ثم انتقل إلى ما بعدها على ذلك الحكم و هذا مذهب الصريين و هو أوثق فى استيفاء أوجه الخلاف و أسهل فى الأخذ و أخصر و لكنه يخرج عن رونق القراءة و حسن أداء التلاوة.
و المذهب الثانى الجمع بالوقف و هو إذا شرع القارئ بقراءة من قدمه لا يزال بذلك الوجه حتى ينتهى إلى وقف يسوغ الابتداء بما بعده فيقف ثم يعود إلى القارئ الذى بعده إن لم يكن دخل خلفه فيما قبله و لا يزال حتى يقف على الوقف الذى وقف عليه ثم يفعل ذلك بقارئ قارئ حتى ينتهى الخلف و يبتدئ بما بعد ذلك الوقف على هذا الحكم. و هذا مذهب الشاميين و هو أشد فى الاستحضار و أسد فى الاستظهار و أطول زمانا، و أجود إمكانا، و به قرأت على عامة من قرأت عليه مصرا و شاما و به آخذ،
و لكنى ركبت من المذهبين مذهبا، فجاء فى محاسن الجمع طرازا مذهبا. فابتدئ بالقارئ و انظر إلى من يكون من القراء أكثر موافقة له فاذا وصلت إلى كلمة بين القارئين فيها خلف وقفت و أخرجته معه ثم وصلت حتى انتهى إلى الوقف السائغ جوازه و هكذا حتى ينتهى الخلاف و لما رحلت إلى الديار المصرية و رأيت الناس يجمعون بالحرف كما قدمت أولا فكنت أجمع على هذه الطريقة بالوقف و أسبق الجامعين بالحرف مع مراعاة حسن الأداء و كما القراءة و سأوضح ذلك كله بأمثلة يظهر لك منها المقصود و اللّه تعالى الموفق.
و كان بعض الناس يختار الجمع بالآية فيشرع فى الآية حتى ينتهى إلى آخرها ثم يعيدها لقارئ قارئ حتى ينتهى الخلاف و كأنهم قصدوا بذلك فصل كل آية على حدتها بما فيها من الخلاف ليكون أسلم من التركيب و أبعد من التخليط و لا يخلصهم ذلك إذ كثير من الآيات لا يتم الوقف عليه و لا يحسن الابتداء بما بعده فكان الذى اخترناه هو الأولى و اللّه أعلم و أما قول الأستاذ أبى الحسن على بن عمر الأندلسى القيجاطى فى قصيدته التكملة المفيدة التى أشرنا اليها فى أوائل كتابنا مما رويناه من كتب القراءات حيث قال فيها: باب كيفية الجمع بالحرف و شروطه ثم قال
على الجمع بالحرف اعتماد شيوخنا فلم أر منهم من رأى عنه معدلا
لأن أبا عمرو ترقاه سلما فصار له مرقا إلى رتب العلا
و لكن شروط سبعة قد وفوا بها فحلوا من الإحسان و الحسن منزلا
ثم قال عقيب ذلككل من لقيت من كبار الشيوخ و قرأت عليه كالشيخ الجليل أبى عبد اللّه بن مسغون و الشيخ الجليل أبى جعفر الطباخ و الشيخ الجليل أبى على بن أبى الأحوص و غيرهم ممن كان فى زمانهم إنما كانوا يجمعون بالحرف لا بالآية و يقولون إنه كان مذهب أبى عمرو يعنى الدانى. قال و أما الشروط السبعة فترد بعد هذا ثم قال:
فمنها معال يرتقى بارتقائها و منها معان يتقى أن تبدلا
قال: أما المعالى فما تعلق بذكر اللّه تعالى و ذكر رسوله صلى اللّه عليه و سلم، و أما المعانى فحيث كان الوقف أو الوصل يبدل أحدهما المعنى أو يغيره فيجب أن يتقى ذلك ثم قال:
فتقديس قدوس و تعظيم مرسل و توقير أستاذ حلا رعيها علا
و وصل عذاب لا يليق برحمة و فصل مضاف لا يروق فيفصلا
و إتمامه الخلف الذى قد تلا به و يرجع للخلف الذى قبل أغفلا
و يبدأ بالراوى الذى بدءوا به و لكن هذا ربما عد أسهلا
قال هذه الشروط السبعة قد ذكرت هنا (فأولها) ما يتعلق بذكر اللّه سبحانه كقوله تعالى: وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اللّٰهُ لا يجوز الوقف قبل قوله إِلاَّ اللّٰهَ و كذلك فى قوله لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اللّٰهُ لا يجوز الوقف قبل الاستثناء فى ذلك فهذا و ما أشبهه هو (الشرط الأول) و فى ذكر النبى صلى اللّه عليه و سلم فى نحو قوله وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ ، وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لا يجوز الوقف قبل الاستثناء فى مثل هذا و إن وصل هذا و الذى قبله بعد ذلك. و كذلك لا يجوز الابتداء فى قوله وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً . بقوله لَسْتَ مُرْسَلاً دون ما قبله و هذا هو (الشرط الثانى) و كذلك يكره أن يقف فى قوله: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ قبل قوله أَيْدِيهِمْ و فى قوله إِلاّٰ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ كذلك و هذا هو (الشرط الثالث) و كذلك لا يجوز أن يقف فى مثل قوله: أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا حتى يأتى بما بعده و كذلك فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ حتى يأتى بما بعده أيضا و هذا هو (الشرط الرابع) و أما قطع المضاف من المضاف اليه فما زال الشيوخ يمنعون ذلك حتى كانوا ينكرون ما يجدون فى الكتب من قولهم يوقف على مثل رَحْمَتَ ، و نِعْمَتَ ، و سُنَّتُ ، و جنت، و شجرت و ما أشبه ذلك بالتاء أو بالهاء. و يقولون كيف يقال هذا و قطع المضاف من المضاف اليه لا يجوز؟ و يقولون معتذرين عنهم إنما ذلك لو وقع الوقف لكان هذا، و أما أن يجوز قطع المضاف من المضاف اليه فلا و هذا هو (الشرط الخامس) و أما اتمام الخلف إلى آخره فلا يجوز عندهم إذا قرأ القارئ ثم قرأ بعده القارئ الآخر ثم عرض له خلف إلا أن يتم قراءة القارئ الثانى إلى انقطاع الآية ثم يستدرك بعد ذلك ما نقص من قراءة القارئ الأول حذرا من أن يقرأ أول الآية لقارئ و آخرها لآخر من غير أن يقف بينهما و هذا هو (الشرط السادس) و أما (الشرط السابع) و هو أن يبدأ بورش قبل قالون و بقنبل قبل البزى بحسب ترتيبهم فهذا أسهل الأوجه السبعة فإن الشيوخ رضوان اللّه عليهم كانوا لا يكرهون هذا كما كانوا يكرهون ما قبله فيجوز ذلك لضرورة و لغير ضرورة. و الأحسن أن يبدأ بما بدأ به المؤلفون فى كتبهم انتهى قول القيجاطى فى هذا الباب نظما و نثرا. و فى الشرط الأخير نظر و كذلك فى الاقتصار على الستة الباقية إذ ليست وافية بالقصد فإن القصد تجنب ما لا يليق مما يوهم غير المعنى المراد كما إذا وقف على قوله فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أو ابتدأ بقوله: وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ و بلغنى عن شيخ شيوخنا الأستاذ بدر الدين محمد بن بصخان رحمه اللّه و كان كثير التدبير أن شخصا كان يجمع عليه فقرأ: تَبَّتْ يَدٰا أَبِي و وقف و أخذ يعيدها حتى يستوفى مراتب المد، فقال له: يستأهل الذى أبرز مثلك (فالحاصل) أن الذى يشترط على جامعى القراءات أربعة شروط لا بد منها، و هى رعاية الوقف، و الابتداء و حسن الأداء، و عدم التركيب، و أما رعاية الترتيب و التزام تقديم شخص بعينه أو نحو ذلك فلا يشترط بل الذين أدركناهم من الأستاذين الحذاق المستحضرين لا يعدون الماهر إلا من لا يلتزم تقديم شخص بعينه و لكن من إذا وقف على وجه لقارئ ابتدأ لذلك القارئ فان ذلك أبعد من التركيب و أملك فى الاستحضار و التدريب، و بعضهم كان يراعى فى الجمع نوعا آخر و هو التناسب فكان إذا ابتدأ مثلا بالقصر أتى بالمرتبة التى فوقه ثم كذلك حتى ينتهى إلى آخر مراتب المد و إن ابتدأ بالمد المشبع أتى بما دونه حتى ينتهى إلى القصر: و إن ابتدأ بالفتح أتى بعده ببين بين ثم المحض و إن ابتدأ بالنقل أتى بعده بالتحقيق ثم السكت القليل ثم ما فوقه و يراعى ذلك طردا و عكسا. و كنت أنوّع بمثل هذه التنويعات حالة الجمع على أبى المعالى بن اللبان لأنه كان أقوى من لقيت استحضارا فكان عالما بما أعمل و هذه الطريق لا تسلك الا مع من كان بهذه المثابة. أما من كان ضعيفا فى الاستحضار فينبغى أن يسلك به نوع واحد من الترتيب لا يزول عنه ليكون أقرب للخاطر. و أوعى لذى الذهن الحاضر، و كثير من الناس يرى تقديم قالون أولا كما هو مرتب فى هذه الكتب المشهورة. و آخرون يرون تقديم ورش من طريق الأزرق من أجل انفراده فى كثير من روايته عن باقى الرواة بأنواع من الخلاف كالمد و النقل و الترقيق و التغليظ فانه يبتدأ له غالبا بالمد الطويل فى نحو: آدَمَ و آمَنَ و إيمان و نحوه مما يكثر دوره ثم بالتوسط ثم بالقصر فيخرج مع قصره فى الغالب سائر القراء إلى غير ذلك من وجوه الترجيح يظهر فى الاختيار. و هذا الذى أختاره أنا إذا أخذت بالترتيب. و هو الذى لم أقرأ بسواه على أحد من شيوخى بالشام و مصر و الحجاز و الاسكندرية و على هذا الحكم إذا قدم ورش من طريق الأزرق يتبع بطريق الأصبهانى ثم بقالون ثم بأبى جعفر ثم بابن كثير ثم بأبى عمرو ثم يعقوب ثم ابن عامر ثم عاصم ثم حمزة ثم الكسائى ثم خلف و يقدم عن كل شيخ الراوى المقدم فى الكتاب و لا ينتقل إلى من بعده حتى يكمل من قبل و كذلك كان الحذاق من الشيوخ إذا انتقل شخص إلى قراءة قبل إتمام ما قبلها لا يدعونه ينتقل حفظا لرعاية الترتيب و قصدا لاستدراك القارئ ما فاته قبل اشتغال خاطره بغيره و ظنه أنه قرأه. فكان بعض شيوخنا لا يزيد على أن يضرب بيده الأرض خفيفا ليتفطن القارئ ما فاته فان رجع و إلا قال: ما وصلت. يعنى إلى هذا الذى تقرأ له فان تفطن و إلا صبر عليه حتى يذكره فى نفسه فان عجز قاله الشيخ له. و كان بعض الشيوخ يصبر على القارئ حتى يكمل الأوجه فى زعمه و ينتقل فى القراءة إلى ما بعد فيقول ما فرغت. و كان بعض شيوخنا يترك القارئ يقطع القراءة فى موضع يقف حتى يعود و يتفكر من نفسه. و كان ابن يصخان إذا رد على القارئ شيئا فاته فلم يعرفه كتبه عليه عنده فإذا أكمل الختمة و طلب الإجازة سأله عن تلك المواضع موضعا موضعا فان عرفها أجازه و إلا تركه يجمع ختمة أخرى و يفعل معه كما فعل أولا. و ذلك كله حرص منهم على الافادة و تحريض للطالب على الترقى و الزيادة، ففي الصحيح أن النبى صلى اللّه عليه و سلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبى صلى اللّه عليه و سلم فرد عليه السلام. فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبى صلى اللّه عليه و سلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل - ثلاثا - فقال و الذى بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمنى فقال «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء الحديث» و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قادرا على أن يعلمه من أول مرة و لكنه صلى اللّه عليه و سلم قصد أن ينبهه و ينبه به و يكون أرسخ فى حفظه و أبلغ فى ذكره و حيث انتهى الحال إلى هنا فنذكر بعد هذا فرش الحروف إن شاء اللّه تعالى
کتاب الآیات البینات فی حکم الجمع بین القرائات
نوشته روی جلد کتاب:
لابی بکر بن محمد بن علی بن خلف الحسینی من علماء الازهر الشریف
یرد به علی الرسالة المسماة بهدیة القراء و المقرئین المنسوبة للشیخ خلیل الجنابنی حیث زعم فیها جواز الجمع بین القرائات فی المحافل و ادعی ما لم یوافقه علیه الا قلیل من انصار الباطل
تنبیه
بالطبع کانت الآیات البینات هی العلیا و رسالة الشیخ خلیل الجناینی هی السفلی مفصولا بینهما بجدول