بسم الله الرحمن الرحیم

النجاسات-الکافر

فهرست علوم
فهرست فقه
تنجیس النجس و المتنجس
نجاسة المیت-ایجاد شده توسط: حسن خ



مصباح الفقیه، ج 7، ص 255-290

بقي الكلام في شرح مفهوم «الكافر». فنقول - و باللّه الاستعانة -: الكفر لغة هو: الجحد و الإنكار، ضدّ الإيمان، فالشاكّ‌ في اللّه تعالى أو في وحدانيّته أو في رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ما لم يجحد شيئا منها لا يكون كافرا لغة، و لكنّ‌ الظاهر صدقه عليه في عرف الشارع و المتشرّعة، كما يظهر ذلك بالتدبّر في النصوص و الفتاوى. و ما يظهر من بعض الروايات من إناطة الكفر بالجحود - مثل: رواية محمّد ابن مسلم، قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام، قال: ما تقول في من شكّ‌ في اللّه تعالى‌؟ قال: «كافر يا أبا محمّد» قال: فشكّ‌ في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «كافر» ثمّ‌ التفت إلى زرارة، فقال: «إنّما يكفر إذا جحد» و في رواية أخرى: «لو أنّ‌ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» - فلا يبعد أن يكون المراد به أنّ‌ الناس المعروفين بالإسلام المعترفين بالشهادتين، الملتزمين بشرائع الإسلام في الظاهر إذا طرأ في قلوبهم الشكوك و الشبهات الناشئة من جهالتهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم يجحدوا ذلك الشيء الذي شكّوا فيه و لو بترتيب آثار عدمه في مقام العمل، كترك الصلاة و الصوم و نحوهما، فليس المراد بمثل هذه الروايات أنّ‌ من لم يتديّن بدين الإسلام و لم يلتزم بشيء من شرائعه معتذرا بجهله بالحال ليس بكافر، بل لا ينبغي الارتياب في أنّ‌ الملاحدة و غيرهم من صنوف الكفّار لا يخرجون من حدّ الكفر إلاّ بالإقرار بالشهادتين و التديّن بشرائع الإسلام على سبيل الإجمال. و هل يكفي الإقرار و التديّن الصوري في ترتيب أثر الإسلام من جواز المخالطة و المناكحة و التوارث، أم تعتبر مطابقته للاعتقاد، فلو علم نفاقه و عدم اعتقاده، حكم بكفره، و أمّا لو لم يعلم بذلك، حكم بإسلامه، نظرا إلى ظاهر القول‌؟ وجهان لا يخلو أوّلهما عن قوّة، كما يشهد بذلك معاشرة النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله مع المنافقين المظهرين للإسلام مع علمه بنفاقهم.

بقي الكلام في شرح مفهوم «الكافر». فنقول - و باللّه الاستعانة -: الكفر لغة هو: الجحد و الإنكار، ضدّ الإيمان، فالشاكّ‌ في اللّه تعالى أو في وحدانيّته أو في رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ما لم يجحد شيئا منها لا يكون كافرا لغة، و لكنّ‌ الظاهر صدقه عليه في عرف الشارع و المتشرّعة، كما يظهر ذلك بالتدبّر في النصوص و الفتاوى. و ما يظهر من بعض الروايات من إناطة الكفر بالجحود - مثل: رواية محمّد ابن مسلم، قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام، قال: ما تقول في من شكّ‌ في اللّه تعالى‌؟ قال: «كافر يا أبا محمّد» قال: فشكّ‌ في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «كافر» ثمّ‌ التفت إلى زرارة، فقال: «إنّما يكفر إذا جحد» و في رواية أخرى: «لو أنّ‌ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» - فلا يبعد أن يكون المراد به أنّ‌ الناس المعروفين بالإسلام المعترفين بالشهادتين، الملتزمين بشرائع الإسلام في الظاهر إذا طرأ في قلوبهم الشكوك و الشبهات الناشئة من جهالتهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم يجحدوا ذلك الشيء الذي شكّوا فيه و لو بترتيب آثار عدمه في مقام العمل، كترك الصلاة و الصوم و نحوهما، فليس المراد بمثل هذه الروايات أنّ‌ من لم يتديّن بدين الإسلام و لم يلتزم بشيء من شرائعه معتذرا بجهله بالحال ليس بكافر، بل لا ينبغي الارتياب في أنّ‌ الملاحدة و غيرهم من صنوف الكفّار لا يخرجون من حدّ الكفر إلاّ بالإقرار بالشهادتين و التديّن بشرائع الإسلام على سبيل الإجمال. و هل يكفي الإقرار و التديّن الصوري في ترتيب أثر الإسلام من جواز المخالطة و المناكحة و التوارث، أم تعتبر مطابقته للاعتقاد، فلو علم نفاقه و عدم اعتقاده، حكم بكفره، و أمّا لو لم يعلم بذلك، حكم بإسلامه، نظرا إلى ظاهر القول‌؟ وجهان لا يخلو أوّلهما عن قوّة، كما يشهد بذلك معاشرة النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله مع المنافقين المظهرين للإسلام مع علمه بنفاقهم.

مضافا إلى شهادة جملة من الأخبار بكفاية إظهار الشهادتين في الإسلام  الذي به يحقن الدماء و يجري عليه المواريث من غير إناطته بكونه ناشئا من القلب، و إنّما يعتبر ذلك في الإيمان الذي به يفوز الفائزون، و هو أخصّ‌ من الإسلام الذي عليه عامّة الأمّة، كما نطق بذلك الأخبار الكثيرة، و شهد له قول اللّه عزّ و جلّ‌ قٰالَتِ‌ الْأَعْرٰابُ‌ آمَنّٰا قُلْ‌ لَمْ‌ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ‌ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ‌ الْإِيمٰانُ‌ فِي قُلُوبِكُمْ‌ . و يستفاد من تلك الأخبار الكثيرة إسلام المخالفين المنكرين للولاية، بل جملة منها مصرّحة بذلك، و سيأتي التعرّض لبعضها إن شاء اللّه. و يشهد له أيضا السيرة المستمرّة من زمان حدوث الخلاف إلى يومنا هذا على المعاملة معهم معاملة المسلمين، بل المتأمّل في الأخبار المسوقة لبيان الآثار العمليّة المتفرّعة على الإسلام - مثل: حلّ‌ ذبيحة المسلم، و طهارة ما في أيدي المسلمين و أسواقهم من الجلود و غيرها - لا يكاد يشكّ‌ في أنّ‌ المراد بالمسلم ما يعمّهم، فلا ينبغي الارتياب في أنّهم مسلمون، لكن لا كرامة لهم بذلك، فإنّه ليس لهم منه في الآخرة من نصيب. فما في الأخبار المستفيضة بل المتواترة ممّا يدلّ‌ على كفر جاحد الولاية محمول على ما لا ينافي إسلامهم الظاهري المترتّب عليه الآثار العمليّة

فما عن بعض الأصحاب - من الحكم بكفرهم في الظاهر - ضعيف. و الحاصل: أنّه - بعد أن علم أنّ‌ الأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم لم يزالوا يعاملون معهم معاملة المسلمين، و دلّت الأخبار المتكاثرة على إسلامهم، و وضوح إرادة الأعمّ‌ منهم في كثير من الأخبار المسوقة لبيان الآثار العمليّة المتفرّعة على الإسلام - لا مجال للارتياب في كونهم محكومين بالإسلام في مقام العمل، فمقتضى الجمع بين هذه الأدلّة و بين ما دلّ‌ على كفرهم إمّا الالتزام بكفرهم حقيقة و إسلامهم حكما، و به يتمّ‌ المدّعى، إذ لم يقصد إثبات صفة الإسلام لهم إلاّ بلحاظ الآثار المترتّبة عليه في مقام العمل، أو الالتزام بأنّ‌ لهم مرتبة من الكفر لا تترتّب عليه الآثار العمليّة، فإنّ‌ للكفر مراتب أدناها إنكار حكم من الأحكام الشرعيّة إثباتا أو نفيا، فإنّ‌ من أنكر حكما شرعيّا تصحّ‌ نسبة الكفر إليه بلحاظ ذلك الحكم، بل يصحّ‌ أن يسند إليه الخروج من الدين، و الكفر بشريعة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله باعتبار أنّ‌ الشريعة اسم للمجموع من حيث المجموع. و يشهد على صحّة إطلاق الكفر أو الشرك بإنكار حكم شرعيّ‌ غير واحد من الأخبار: ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: عن أدنى ما يكون به العبد مشركا، قال: «من قال للنواة: حصاة، و للحصاة نواة و دان به» .  و في مكاتبة عبد الرحيم القصير: «لا يخرجه - أي المسلم - إلى الكفر إلاّ الجحود، و الاستحلال أن يقول للحلال: هذا حرام، و للحرام: هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإسلام و الإيمان، داخلا في الكفر» . و يحتمل أن يكون المراد بهذه المكاتبة الكفر المطلق الذي تترتّب عليه آثاره، كما ستعرف توجيهه.

و في خبر آخر: «أدنى ما يكون العبد به كافرا من زعم أنّ‌ شيئا نهى اللّه عنه أنّ‌ اللّه أمر به و نصبه دينا» إلى غير ذلك من الأخبار. و أنت خبير بأنّ‌ هذه المرتبة من الكفر، المتحقّقة بتحريف الشريعة زيادة أو نقصا لا تؤثّر في ترتيب آثار الكفر، و لا في إطلاق الكافر عليه عرفا و شرعا ما لم يكن المحرّف متعهّدا في ذلك بحيث يوجب تحريفه تكذيب النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله و إنكار رسالته و لو في الجملة. و كيف كان فالمعتبر في الإسلام - الذي به يخرج من حدّ الكفر، و تترتّب عليه الآثار العمليّة على ما يستفاد من النصوص و الفتاوى بعد التأمّل و التدبّر - إنّما هو الشهادة بالتوحيد و الرسالة و تصديق الرسول صلّى اللّه عليه و آله في جميع أحكامه على سبيل الإجمال، المستلزم للتديّن بالأحكام الضروريّة الثابتة في الشريعة من وجوب الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ‌ و نحوها من الضروريّات التي لا تكاد  تختفي شرعيّتها على من تديّن بهذا الدين، فمثل هذه الأشياء و إن لم يكن الاعتراف بحقّيّتها تفصيلا من مقوّمات الدين لكنّ‌ التديّن بها و عدم إنكارها شرط في تحقّق الإسلام، فإنّ‌ إنكار مثل هذه الأمور المعروف ثبوتها في الشريعة يناقض الاعتراف الإجمالي بصدق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله و حقّيّة شريعته. (و) قد أشرنا آنفا إلى أنّ‌ من لم يتديّن بدين الإسلام فهو كافر في عرف الشارع و المتشرّعة، سواء جحد أم لم يجحد، فالكافر (ضابطه: كلّ‌ من خرج من) حدّ المسلم، سواء باين (الإسلام) بأن لم يشهد بالتوحيد أو الرسالة كسائر فرق الكفّار (أو انتحله) بإظهار الشهادتين (و) لكن (جحد ما يعلم من الدين ضرورة) ممّا ينافي إنكاره الاعتراف الإجمالي (كالخوارج) الذين استحلّوا قتل الأمير و الحسنين عليهم السّلام، بل مطلق النواصب الذين أظهروا عداوة أهل البيت الذين أوجب اللّه مودّتهم و ولايتهم، و أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، مع علمهم بعظمة شأنهم في الإسلام و وجوب الصلاة عليهم في كلّ‌ صلاة، و اهتمام النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في الأمر بولايتهم و مودّتهم، و إخباره بأنّهم سادات أهل الجنّة ، و أنّ‌ عليّا مع الحقّ‌ و الحقّ‌ مع عليّ‌ ، و غير ذلك من الأخبار التي لا يجتمع الإذعان بصدقها مع النصب و استحلال القتل و الاستخفافات التي أظهروها قولا و فعلا فلم يكونوا مذعنين بصدق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله فيما أوصاهم في أهل بيته. لكن ليعلم أنّ‌ إنكار الضروريّ‌ أو غيره من الأحكام المعلومة الصدور عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله ليس ضروريّ‌ التنافي للتصديق الإجماليّ‌، بل قد يجتمعان بواسطة بعض الشكوك و الشبهات الطارئة على النفس، فليس الإنكار في مثل الفرض منافيا للإيمان باللّه و رسوله، فلا يكون موجبا للكفر، إلاّ أن نقول بكونه من حيث هو - كالكفر باللّه و رسوله - سببا مستقلاّ له، كما هو صريح بعض، و ظاهر آخرين. بل ربما استظهر ذلك من المشهور حيث جعلوه قسيما للأوّلين. و فيه تأمّل، نظرا إلى ما صرّح به غير واحد - بل قد يقال: إنّه هو المشهور عندهم - من استثناء صورة الشبهة، و هو لا يناسب سببيّته المستقلّة. فالمهمّ‌ في المقام إنّما هو تشخيص موارد التنافي، التي نحكم فيها بكفر المنكر و إن لم نقل بسببيّته المستقلّة. فنقول: أمّا مع التفات المنكر إلى التنافي بين إنكاره و تصديقه الإجماليّ‌ فالأمر واضح، فإنّه من أوضح مصاديق الكفّار. اللّهمّ‌ إلاّ أن يقال بعدم اشتراط الإسلام بتصديق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في جميع الأحكام، و كفاية تصديقه في البعض. لكنّه خلاف ما يفهم من النصوص و الفتاوى، بل لا يبعد اندراجه في الموضوع الذي أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله تعالى وَ يَقُولُونَ‌ نُؤْمِنُ‌ بِبَعْضٍ‌ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ‌ وَ يُرِيدُونَ‌ أَنْ‌ يَتَّخِذُوا بَيْنَ‌ ذٰلِكَ‌ سَبِيلاً. أُولٰئِكَ‌ هُمُ‌ الْكٰافِرُونَ‌ حَقًّا و إن كانت الآية بظاهرها منصرفة عنه. هذا إذا كان ملتفتا، و أمّا إن كان غافلا عن التنافي أو معتقدا عدمه، فإمّا أن يكون منشؤ غفلته المسامحة و عدم المبالاة بالدين، كغفلة المنهمكين في شرب الخمر - مثلا - عن حرمتها من باب عدم المبالاة بالحرمة، أو منشؤها الاغترار بقول من يحسنون به الظنّ‌، كالهمج الرعاء، الذين قلّدوا رؤساءهم و مشايخهم في قتل الحسين عليه السّلام و الخروج على الأمير عليه السّلام، فأخذوا بقولهم و نبذوا ما بلغهم عن اللّه و رسوله في فضلهما وراء ظهورهم، فحالهم حال عوام اليهود الذين قلّدوا علماءهم في تكذيب النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، و علماؤهم كعلمائهم، فلا ينبغي الاستشكال في كفرهم بعد فرض علمهم بقول النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، و عدم اعتنائهم به، سواء كان مبناه المسامحة أو التقليد.

اللّهمّ‌ إلاّ أن يكون حسن الظنّ‌ بمقلّده موجبا للتشكيك في ما أراده النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله بقوله، لا في صحّة القول و عدم الإيمان به على الإطلاق، فيكون معترفا بما إرادة النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى تصديقه الإجماليّ‌، لا بظاهر قوله. و سيأتي الكلام في حكم هذه الصورة. و إمّا أن يكون منشؤ الغفلة غفلته عن مقام النبوّة و توهّم كون الحكم الخاصّ‌ الصادر عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله ناشئا من اجتهاده أو ميلة النفسانيّ‌، فخطّأه في ذلك غفلة عن كونه ردّا على النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله بل تكذيبا للّه تعالى في قوله وَ مٰا يَنْطِقُ‌ عَنِ‌ الْهَوىٰ‌ فهذا النحو من الإنكار قد يكون بدويّا يرتدع المنكر عنه بمجرّد  الالتفات إلى نبوّته و ما يقتضيه تصديقه الإجماليّ‌. و قد يكون مستقرّا ناشئا ممّا بنى عليه من اجتهاد النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في بعض الأحكام، كما أنّ‌ العامّة - بحسب الظاهر - لا يستنكرون ذلك، بل ربما يدّعون صدور الخطأ عنه صلّى اللّه عليه و آله في مواطن عثر عليه رئيسهم، فأرشده إلى الصواب، و اهتدى به النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله. و كيف كان فإن كان هذا في الأحكام الشرعيّة أو غيرها من الأمور المتعلّقة بمنصب النبوّة، أي: ما كان الإخبار فيها إخبارا عن حكم الواقعة بلحاظ كونه نبيّا، فلا ينبغي الاستشكال في كونه موجبا للكفر بناء على وجوب تصديقه في جميع ما جاء به، كما هو الظاهر من النصوص و الفتاوى، إذ لا اعتبار بالاعتراف الإجماليّ‌ بصدقه في ما جاء به مع الردّ عليه في الموارد الخاصّة، كما هو ظاهر. لكن هذا في الإنكار المستقرّ المبنيّ‌ على تخطئة النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا الإنكار البدويّ‌ الناشئ من الغفلة عن نبوّته فهو - على الظاهر - بمنزلة ما لو أنكر على شخصه حكما شرعيّا و هو لا يعرفه، فهو غير مناف لتصديقه الإجماليّ‌، كما أنّه لا ينافي ذلك لو أنكر شيئا ضروريّا بناء منه على أنّ‌ ما هو المعروف عند الناس مغاير لما أراده النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، كما لو زعم أنّ‌ مراده صلّى اللّه عليه و آله، من الصلاة التي أوجبها مطلق الدعاء، و لكنّ‌ الناس اشتبهوا فزعموا أنّ‌ مراده الأركان المخصوصة، فهو معترف إجمالا بحقّيّة ما زعمه الناس صلاة على تقدير كونه مرادا للنبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، لكنّه يزعم أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرده، كما هو الشأن في جميع الأحكام الواقعيّة التي ينفيها المجتهد بالأدلّة الاجتهاديّة، فإنّ‌ إنكاره لها لا يقدح في إيمانه بالرسول في جميع ما أتى به، لا لما توهّمه بعض من أنّ‌ التعبّد بالأحكام الظاهريّة أيضا ممّا أتى به الرسول، فيكون مصدّقا له في هذه الأحكام، بل لما أشرنا إليه من عدم التنافي إذا التزم بخطئه على تقدير مخالفة قوله لقول الرسول، غاية الأمر أنّه اعتقد عدم المخالفة، و لا ضير فيه، و لذا لو أنكرها العوام أيضا أو المجتهد بظنون غير معتبرة لا يوجب كفره. و هذا النحو من الإنكار الغير المنافي للتصديق الإجماليّ‌ يتصوّر على أنحاء، فإنّه تارة يؤوّل كلام النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله متشبّثا بقواعد لفظيّة أو قرائن عقليّة أو نقليّة، حاليّة أو مقاليّة يزعم صلاحيّتها للقرينيّة لصرف الكلام عرفا، فيحمل الكلام الصادر عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله على المعنى الذي أراده بواسطة تلك القرائن، كما لو ادّعى في المثال السابق أنّ‌ الصلاة لغة هي الدعاء، و لم يثبت عندي إرادة غير معناها اللغوي، و الأصل عدم النقل. و هذا النحو من الإنكار لا يوجب الكفر بلا شبهة بناء على عدم كونه سببا مستقلاّ، كما هو المفروض. و تارة يؤوّله بواسطة بعض الأمور الغير الصالحة للقرينيّة عرفا، مثل ما حكي عن بعض الجهّال من المتصوّفة من إنكار وجوب الصلاة و نحوها على مشايخهم الذين أكملوا نفوسهم بالرياضات بزعمهم، مدّعيا أنّ‌ المقصود بالعبادات تكميل النفوس، فيسقط التكليف عنها بعد الكمال . و نظير ذلك ما لو اعترف بظهور الكلام في المعنى المعروف، و لكن ادّعى صدوره من باب التورية و نحوها من الأمور المقتضية لإظهار خلاف الواقع.

و حكم هاتين الصورتين كحكم الصورة السابقة إن قلنا بأنّ‌ إرادة خلاف الظاهر ممّا له ظاهر من غير نصب قرينة ليس بكذب، و إلاّ ففيه إشكال، و إن كان الأظهر فيه أيضا عدم الكفر، لانصراف ما دلّ‌ على سببيّة التكذيب للكفر عن مثل ذلك، كما أنّه ينصرف عمّا لو أسند إليه صريحا الكذب المجوّز بأن قيل: إنّه كذب في المورد الكذائي حفظا لنفسه عن القتل. و بهذا ظهر أنّه لو لم يدّع التورية و التأويل أيضا، بل حمل كلامه على كونه كذبا صادرا عن تقيّة، لا يكون ذلك أيضا موجبا للكفر. و تارة يؤوّل كلامه بما ينافي الإذعان برسالته على كافّة العباد، كما لو قيل - مثلا - بأنّ‌ المقصود ببعث الرسول اللطف و إهداء القاصرين إلى ما يقرّبهم إلى اللّه تعالى، فرسالته مقصورة على غير الحكماء الذين يرشدهم عقولهم إلى ما يصلحهم و يفسدهم، فالمقصود بالعمومات الصادرة عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله من قوله: «أقيموا الصلاة» و نحوه يراد بها غير مثل هذه الأشخاص. و قد حكي عن بعض الفلاسفة محاجّته مع عيسى عليه السّلام بمثل هذا القول. و نظير ذلك ما لو قيل بأنّه كان رسولا على الأعراب لا على عامّة العباد. و كيف كان فمثل هذا الإنكار كفر محض، فإنّه و إن لم يكن منافيا للتصديق الإجماليّ‌، لأنّه يعترف بصدقه على تقدير ادّعائه العموم، لكنّه يزعم أنّه لم يدّع ذلك إلاّ أنّه إنكار لرسالته في الجملة، و هو - كإنكار أصل الرسالة - سبب للكفر بالضرورة فضلا عن شهادة النصّ‌ و الإجماع عليه. و قد يكون الإنكار ناشئا من الجهل بصدور الحكم عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله رأسا، لقرب عهده بالإسلام، و عدم مخالطته مع المسلمين. و هذا لا ينافي الإقرار بالرسالة المطلقة و التصديق الإجماليّ‌، فلا يكون موجبا للكفر بلا شبهة. فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ‌ إنكار الضروريّ‌ يوجب الكفر إن كان منافيا للاعتراف الإجماليّ‌ أو كان موجبا لإنكار الرسالة في الجملة، و إلاّ فلا. هذا إذا لم نقل بكون إنكار الضروريّ‌ من حيث هو سببا مستقلاّ للكفر، كما صرّح به غير واحد من المتأخّرين، و استظهر من عبائر غيرهم ممّن قيّده بما إذا لم يكن عن شبهة، بل هذا ظاهر كلّ‌ من قيّده بعدم احتمال الشبهة، لأنّ‌ إقحام كلمة الاحتمال دليل على إرادة كون الإنكار طريقا لتشخيص الموضوع ما لم يكن احتمال الجهل و الاشتباه قائما في حقّه.

و يؤكّد هذا الظاهر تمثيلهم لمورد احتمال الشبهة بالفرض الأخير الذي نشأ إنكاره من الجهل الذي لا يطلق عليه الشبهة عرفا، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل. و أمّا على القول بالسببيّة - كما هو صريح بعض و ظاهر آخرين، بل ربما استظهر من المشهور - فلا بدّ في معرفة حكم جميع صور الإنكار بعد الفراغ من إثبات أصل السببيّة من النظر إلى ما تقتضيه أدلّتها من حيث الإطلاق و التقييد. فنقول: ما يمكن أن يستدلّ‌ به للقول بالسببيّة أمور: منها: أنّ‌ الإسلام عرفا و شرعا عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاصّ‌ الذي يراد منه مجموع حدود شرعيّة منجّزة على العباد، فمن خرج من ذلك و لم يتديّن به كان كافرا غير مسلم، سواء لم يتديّن به أصلا أو تديّن ببعضه دون بعض أيّ‌ بعض كان. و فيه: ما عرفت فيما سبق من أنّ‌ المعتبر في الإسلام إنّما هو التديّن بجميع ما جاء به النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله إجمالا بمعنى الاعتراف بصحّتها و صدق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في جميع ما جاء به على سبيل الإجمال، و أمّا التديّن بها تفصيلا فلا يعتبر في الإسلام قطعا، فالإنكار التفصيلي ما لم يكن منافيا للتصديق الإجماليّ‌ - بأن كان المنكر معترفا بخطئه على تقدير مخالفة قوله لما جاء به النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله - لا يوجب الخروج ممّا يعتبر في الإسلام. و منها: الأخبار الدالّة على سببيّة إنكار حكم من الأحكام الشرعيّة للكفر. مثل: صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: من شهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ‌ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مؤمنا، قال عليه السّلام: فأين فرائض اللّه‌؟» قال: و سمعته يقول: «كان عليّ‌ عليه السّلام يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة و لا حلال و لا حرام» قال: و قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ‌ عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ‌ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهو مؤمن، قال: «فلم يضربون الحدّ و لم تقطع أيديهم‌؟ و ما خلق اللّه عزّ و جلّ‌ خلقا أكرم على اللّه عزّ و جلّ‌ من مؤمن، لأنّ‌ الملائكة خدّام المؤمنين، و أنّ‌ جوار اللّه للمؤمنين، و أنّ‌ الجنّة للمؤمنين، و أنّ‌ الحور العين للمؤمنين» ثمّ‌ قال: «فما بال من جحد الفرائض كان كافرا

و في مكاتبة عبد الرحيم القصير مع عبد الملك إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّه عزّ و جلّ‌ عنها كان خارجا من الإيمان ساقطا عنه اسم الإيمان، ثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب و استغفر عاد إلى دار الإيمان، و لا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود و الاستحلال بأن يقول للحلال: هذا حرام، و للحرام: هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإسلام و الإيمان، داخلا في الكفر» . و في صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام‌؟ و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدّة و انقطاع‌؟ فقال: «من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشدّ العذاب، و إن كان معترفا أنّه أذنب و مات عليه أخرجه من الإيمان و لم يخرجه من الإسلام، و كان عذابه أهون من عذاب الأوّل» . و صحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا، قال: «من قال للنواة: حصاة، و للحصاة: إنّها نواة، و دان به» . و في رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أنّ‌ شيئا نهى اللّه عنه أنّ‌ اللّه أمر به و نصبه دينا يتولّى عليه، و [يزعم  أنّه] يعبد الذي أمره، و إنّما يعبد الشيطان» . إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه. مثل: قوله عليه السّلام: «من شرب النبيذ على أنّه حلال خلّد في النار، و من شربه على أنّه حرام عذّب في النار» . و مثل ما دلّ‌ على وجوب قتل من أفطر شهر رمضان أو شرب الخمر ، أو ترك الصلاة إذا نفوا الإثم عن أنفسهم. و يتوجّه على الاستدلال بمثل الروايات - بعد الغضّ‌ عمّا في بعضها من الخدشة من حيث الدلالة - أنّ‌ استحلال الحرام أو عكسه موجب للكفر من غير فرق بين كونه ضروريّا أو غيره، بل بعضها كالصريح في الإطلاق، و حيث لا يمكن الالتزام بإطلاقها يتعيّن حملها على إرادة ما إذا كان عالما بكون ما استحلّه حراما في الشريعة، فيكون نفي الإثم عن نفسه و استحلاله منافيا للتديّن بهذا الدين، و مناقضا للتصديق بما جاء به سيّد المرسلين، فيكون كافرا، سواء كان الحكم في حدّ ذاته ضروريّا أم لم يكن

و أمّا ما في ذيل صحيحة الكناني من إطلاق قوله عليه السّلام: «فما بال من جحد الفرائض كان كافرا» فلا يمكن الاستدلال به لإثبات سببيّة إنكار الفرائض - التي هي من الضروريّات على الإطلاق - للكفر، لجريه مجرى العادة من عدم اختفاء شرعيّتها على أحد من المسلمين، بل يعرفها كلّ‌ من قارب المسلمين فضلا عمّن تديّن بهذا الدين، ففرض كون إنكار الصلاة - التي هي عمود الدين - ناشئا من شبهة مجامعة للاعتراف بحقّيّة الشريعة و صدق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في جميع ما جاء به مجرّد فرض لا يكاد يتحقّق له مصداق في الخارج. و الحاصل: أنّه لا يفهم من مثل هذه الأخبار اعتبار عدم إنكار شيء من الأحكام الضروريّة من حيث هو و إن لم يكن منافيا لتصديق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله في جميع ما جاء به إجمالا في مفهوم الإسلام المقابل للكفر حتّى يتقيّد به الأخبار الواردة في تفسير الإسلام، الخالية عن ذكر هذا الشرط. مثل: ما رواه في الكافي عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن الإسلام و الإيمان أ هما مختلفان‌؟ فقال: «إنّ‌ الإيمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الإيمان» فقلت: فصفهما لي، فقال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدى، و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام» الحديث، إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه

نعم، ربما يظهر من جملة من الأخبار اعتبار التعبّد ببعض الفروع الضروريّة في حقيقة الإسلام. مثل: ما في رواية سفيان بن السمط عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الفرق بين الإسلام و الإيمان: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ‌ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حجّ‌ البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام» و قال: «الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقر بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالاّ» . و في الأخبار المستفيضة: «بني الإسلام على خمس: الصلاة و الزكاة و الحجّ‌ و الصوم و الولاية». و في خبر العرزمي عن الصادق عليه السّلام: «أثافيّ‌ الإسلام ثلاثة: الصلاة و الزكاة و الولاية، و لا تصحّ‌ واحدة منهنّ‌ إلاّ بصاحبتيها» . لكنّك خبير بأنّ‌ المراد بمثل هذه الأخبار المستفيضة هو التعبّد بنفس هذه الفروع، أي فعلها، لا مجرّد الاعتراف بوجوبها، فالإسلام الذي أريد بهذه الروايات أخصّ‌ من الإسلام الذي به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث. و أمّا رواية سفيان: فلا يبعد أن يكون المراد به الاعتراف بوجوبها بقرينة  قوله عليه السّلام في ذيلها: «فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر» إلى آخره، إلاّ أنّك عرفت أنّ‌ الاعتراف بمثل هذه الأمور الضروريّة من لوازم التصديق بالرسالة، فلا يستفاد من مثل هذه الرواية اعتبار الاعتراف بها من حيث هي، كالإقرار بالتوحيد و الرسالة في حقيقة الإسلام، و إلاّ لاقتضى كفر من لم يقرّ بها و إن لم يجحدها. هذا، مع أنّها أخصّ‌ من المدّعى، لعدم انحصار ضروريّات الدين فيما في هذه الروايات. و كيف كان فلا يمكن إثبات كفر منكر الضروريّ‌ من حيث هو بمثل هذه الروايات. و منها: تسالمهم على كفر النواصب و الخوارج متمسّكين لذلك بإنكارهم الضروريّ‌، فلو لا سببيّة الإنكار من حيث هو للكفر لم يكن لإطلاق حكمهم بكفر الطائفتين وجه، ضرورة أنّ‌ أغلبهم خصوصا المتأخّرين منهم المقلّدين لأسلافهم الذين نشأوا على عداوة أهل البيت ربما يتقرّبون بها إلى اللّه و رسوله، بناء منهم على ارتداد أهل بيت العصمة و الطهارة، لجهالتهم بما أنزل اللّه تعالى في حقّهم على لسان رسوله ممّا ينافي ذلك، فلا يكون إنكارهم منافيا للتصديق الإجماليّ‌ بالرسالة.

و فيه: أنّه إن أريد بذلك استكشاف الإجماع على السببيّة حتّى يتمّ‌ به الاستدلال، يتوجّه عليه - بعد الغضّ‌ عن تصريح غير واحد من المتأخّرين بالخلاف - أنّ‌ إطلاق القول بكفر الطائفتين و إن ناسب القول بالسببيّة، لكنّه مناف لما اشتهر بينهم من استثناء صورة الشبهة، فإنّ‌ جهّال الفرقتين خصوصا القاصرين منهم من نسائهم و صبيانهم الذين لم يبلغهم فضائل أهل البيت، و يتقرّبون إلى اللّه و رسوله بعداوتهم من أوضح موارد الشبهة، فهذا يكشف عن فساد استدلالهم بالإنكار لكفرهم على الإطلاق، أو إرادتهم في غير مثل الفرض، أو اختصاص الاستدلال به بمن يراه سببا على الإطلاق دون من استثنى منه صورة الشبهة، أو أنّ‌ اعتمادهم في كفرهم على الإجماع أو الأخبار الآتية الدالّة عليه، فيكون استدلالهم بالإنكار إمّا من باب التأييد، أو لكونه دليلا عليه في الجملة، أو لبنائهم على منافاة ما صدر من الخوارج و النواصب و لو من جهّالهم للتصديق الإجماليّ‌ بجميع ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مودّة ذي القربى، و وجوب احترامهم، و حرمة الاستخفاف بهم، و استحلال قتلهم، فكأنّهم أرادوا بصورة الشبهة التي استثنوها بعض الصور المتقدّمة التي أشرنا إلى عدم منافاتها للتصديق الإجماليّ‌، الملازمة لإذعان المنكر بخطئه على تقدير مخالفة قوله لما جاء به النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله. و ما صدر من الطائفتين - بحسب الظاهر - لم يكن من هذا القبيل، بل كان عكس ذلك، فإنّهم لمّا رأوا من الأمير و الحسنين عليهم السّلام ما زعموه فسقا أو ارتدادا استقلّت عقولهم القاصرة باستحقاقهم الاستخفاف و القتل، فلم يمكنهم تصديق النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله فيما صدر منه في حقّهم إلاّ بالحمل على الخطأ و غفلة النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله و جهله بما يؤول إليه أمرهم، و إلاّ لم يكن يأمر الناس بموالاتهم، أو الحمل على كونه ناشئا من شدّة حبّه لهم، أو غير ذلك من المحامل التي مآلها إلى طرح قول النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، لا تخطئة أنفسهم على تقدير مخالفة ما زعموه لما أراده النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله

و قد عرفت فيما سبق أنّ‌ هذا النحو من الإنكار كفر محض. هذا حال علمائهم المستبدّين بآرائهم، عصمنا اللّه من الاستبداد بالرأي، الموجب لهذا النحو من الإنكار، و أمّا عوامهم المقلّدين لهذه العلماء المغترّين بهم فحالهم حال علمائهم كعوام اليهود. اللّهمّ‌ إلاّ أن يكون المقلّد معترفا بخطإ من قلّده على تقدير مخالفة قوله لما صدر عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله، فلا يكون إنكاره حينئذ منافيا للتصديق الإجماليّ‌. لكنّ‌ الظاهر من حال العوام - الذين هم أضلّ‌ من الأنعام - خلاف هذا البناء. أ لا ترى أنّه لو قال عالم للعوام: إنّ‌ النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله أخطأ في الواقعة الفلانيّة، يغترّون بقوله و يعتقدونه صوابا. فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على سببيّة الإنكار من حيث هو للكفر، لكنّ‌ الأظهر كفر الطائفتين بواسطة منافاة ما أنكروه للتصديق الإجماليّ‌. و لكن هذا فيما إذا تديّنوا بنصب أهل البيت و عداوتهم، و أمّا لو اعترفوا بفضلهم و شرفهم في الإسلام و أنّهم سادات أهل الجنّة، و لكن أضمروا عداوتهم، أو أظهروها بواسطة الحسد، أو لكونهم معاندين لأئمّتهم الذين هم أئمّة الضلال، أو غير ذلك من الأسباب المورثة للعداوة - كما هو الشأن في كثير من المخالفين الموجودين في هذه الأعصار - فلا. و كيف كان فمتى حكمنا بكفرهم هل تثبت بذلك نجاستهم أم لا؟ فيه تردّد، نظرا إلى أنّ‌ عمدة مستنده الإجماع، و ربما يتأمّل في تحقّقه على نجاسة كلّ‌ كافر، نظرا إلى انصراف معاقد الإجماعات المحكيّة و كلمات المجمعين إلى غير المرتدّ، خصوصا مع وهن الكلّيّة - التي ادّعي عليها الإجماع - بما سمعته من الخلاف في نجاسة أهل الكتاب، و لكن مع ذلك ظاهرهم التسالم عليه. فدعوى الانصراف لعلّها في غير محلّها، خصوصا بالنسبة إلى الفرقتين الخبيثتين، فإنّه قد استفيض فيهما بالخصوص نقل الإجماع على كفرهما و نجاستهما. و استدلّ‌ لهما أيضا - مضافا إلى الإجماع و ما عرفته من إنكارهم للضروريّ‌، المستلزم للكفر الموجب للنجاسة بدليل الإجماع الذي تقدّمت الإشارة إليه - بالأخبار المستفيضة التي بعضها يدلّ‌ على الكفر، فيدلّ‌ على النجاسة أيضا بضميمة الإجماع، و جملة منها تدلّ‌ على نجاستهم، فيستفاد منها كفرهم بالالتزام. فممّا يدلّ‌ على كفر خصوص الخوارج ما أرسل عن النبيّ‌ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في وصفهم: «إنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة » . و رواية الفضيل ، قال: دخل على أبي جعفر عليه السّلام رجل محصور عظيم البطن، فجلس معه على سريره، فحيّاه و رحّب به، فلمّا قام قال: «هذا من الخوارج  كما هو» قال: قلت: مشرك‌؟ فقال: «مشرك و اللّه مشرك» . و في الزيارة الجامعة: «و من حاربكم مشرك» . و يدلّ‌ على نجاسة النواصب - الذين هم أعمّ‌ من الخوارج -: ما عن الكافي بسنده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام، فإنّ‌ فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب، و هو شرّهما، إنّ‌ اللّه لم يخلق خلقا شرّا من الكلب و إنّ‌ الناصب أهون على اللّه من الكلب» . و رواية القلانسي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ألقى الذمّي فيصافحني، قال: «امسحها بالتراب و بالحائط» قلت: فالناصب، قال: «اغسلها» . و مرسلة الوشّاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كره سؤر ولد الزنا و اليهودي و النصراني و المشرك و كلّ‌ ما خالف الإسلام، و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب . و رواية عليّ‌ بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السّلام في حديث أنّه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فإنّه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم»

و موثّقة عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم، فإنّ‌ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و إنّ‌ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» . و يؤيّده: المنع من أكل ذبيحة الناصب في جملة من الأخبار . و قد يناقش في دلالة هذه الروايات: أوّلا: بأنّ‌ المراد بالنجاسة فيها الخباثة المعنويّة القابلة للاتّصاف بالشدّة و الضعف، المقتضية لكراهة السؤر، دون النجاسة المصطلحة الغير القابلة له. كما يؤيّد ذلك - مضافا إلى ذلك - اشتمال أكثر الأخبار على ولد الزنا و الجنب من حيث هو جنب، كما هو ظاهر المقام، لا باعتبار نجاسة بدنه، بل قد سمعت في خبر ابن أبي يعفور أنّ‌ «ولد الزنا لا يطهر إلى سبعة آباء» فالمراد به - على الظاهر - ليس إلاّ عدم ارتفاع القذارة المعنويّة، لا نجاسته مع أولاده إلى سبعة بطون.  و ثانيا: بأنّ‌ المراد بالناصب في الروايات - على الظاهر - مطلق المخالفين، لا خصوص من أظهر عداوة أهل البيت و تديّن بنصبهم. كما يشهد لذلك: خبر المعلّى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنّك لا تجد أحدا يقول: أنا أبغض محمّدا و آل محمّد، و لكنّ‌ الناصب من نصب لكم و هو يعلم أنّكم تتولّوننا و تتبرّؤون من أعدائنا» . و هذه الرواية - مع ما فيها من تفسير النصب بما لا ينفكّ‌ عنه عامّة المخالفين - تشهد بندرة وجود الناصب بالمعنى الأخصّ‌ في عصر الصادق عليه السّلام، فيبعد حمل الأخبار المستفيضة المتقدّمة على إرادته بالخصوص. و يدلّ‌ أيضا على تحقّق النصب بمجرّد إزالة الأئمّة عليهم السّلام عن مراتبهم و معاداة من يعرف حقّهم من شيعتهم: ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن محمّد بن عليّ‌ بن عيسى، قال: كتبت إليه - يعني الهادي عليه السّلام - أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: «من كان على هذا فهو ناصب» .

و رواية عبد اللّه بن المغيرة - المحكيّة عن الروضة - قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: إنّي ابتليت برجلين أحدهما ناصب و الآخر زيديّ‌ و لا بدّ من  معاشرتهما، فمن أعاشر؟ فقال عليه السّلام: «هما سيّان، من كذّب بآية من كتاب اللّه تعالى فقد نبذ الإسلام وراء ظهره، و هو المكذّب لجميع القرآن و الأنبياء و المرسلين» ثمّ‌ قال: «هذا نصب لك، و هذا الزيديّ‌ نصب لنا» . فيكون حال الأخبار الدالّة على نجاسة الناصب و كفره حال غيرها من الأخبار الدالّة على كفر المخالفين على الإطلاق في أنّ‌ المتعيّن حملها على ما لا ينافي إسلامهم الظاهري، كما عرفت فيما سبق. و قد يجاب عن هذه المناقشة - بعد تسليم صدق الناصب في عرف الشارع و المتشرّعة على المعنى الأعمّ‌ - أنّ‌ المتبادر ممّا في بعض تلك الأخبار - من قوله عليه السّلام: «و الناصب لنا أهل البيت» - إرادته بالمعنى الأخصّ‌. هذا، مع اعتضاده بفتوى الأصحاب و إجماعهم، بل ربما يكتفى بذلك جابرا لما في الروايات من قصور الدلالة، فلا يلتفت معه إلى شيء من الخدشات المتقدّمة. لكنّ‌ الإنصاف أنّ‌ الاعتماد إنّما هو على الجابر لا المجبور، فعمدة المستند هي الإجماعات المحكيّة المعتضدة بعدم نقل الخلاف. لكن قد يشكل الحكم بكفرهم بشيوع النصب في دولة بني أميّة لعنهم اللّه، و اختلاط أصحاب الأئمّة عليهم السّلام مع النّصّاب و الخوارج، و عدم معروفيّة تجنّب الأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم عنهم، بل الظاهر أنّهم كانوا يعاملون معهم معاملة  المسلمين من حيث المعاشرة. و تنزيل مثل هذه المعاشرة في الأعصار الطويلة على التقيّة في غاية البعد. و قد يجاب عن ذلك: بأنّ‌ أغلب الناس كانوا يظهرون النصب و التبرّي من الأئمّة عليهم السّلام خوفا من سلطان الجور، و إلاّ فلم يكونوا في الواقع نواصب. و فيه: أنّ‌ ظاهر القول و الفعل حجّة معتبرة لا يجوز رفع اليد عنه إلاّ في الموارد التي علم خلافه. و دعوى: اختصاص معاشرتهم بخصوص هذه الموارد بعيدة.

و الأولى في الجواب ما نبّه عليه شيخنا المرتضى رحمه اللّه من أنّ‌ أغلب الأحكام الشرعيّة انتشرت في عصر الصادقين عليهما السّلام، فلا مانع من أن يكون كفر النواصب منها، فأصحاب الأئمّة عليهم السلام الذين كانوا يخالطون النواصب في دولة بني أميّة - لعنهم اللّه - لم يكونوا يعلمون هذا الحكم. و أمّا الأئمّة عليهم السّلام فلم يعلم معاشرتهم مع النواصب و الخوارج في غير مقام التقيّة، و اللّه العالم. (و) قد ظهر بما تقدّمت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السابقة أنّ‌ عمدة المستند للحكم بنجاسة سائر أصناف المرتدّين إنّما هو الإجماع. و الخدشة فيه بعدم الثبوت كأنّها في غير محلّها.

 












فایل قبلی که این فایل در ارتباط با آن توسط حسن خ ایجاد شده است