بسم الله الرحمن الرحیم

مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام-قاعدة الانصراف‌-الشيخ أحمد المبلغي‌

فهرست فقه
انصراف-تعارف-کثرت افراد-اطلاق-عموم
مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام-قاعدة الانصراف‌-الشيخ أحمد المبلغي‌




مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 115‌
قاعدة الانصراف‌
الاستاذ الشيخ أحمد المبلغي‌
يقسم الانصراف إلى قسمين رئيسين:
القسم الأوّل: الانصراف الناشئ من الامور الخارجية.
القسم الثاني: الانصراف المتكئ على الارتكاز.
و هناك قسم ثالث سنشير إليه في آخر البحث.

القسم الأوّل الانصراف الناشئ من الامور الخارجية‌
و ينقسم بدوره إلى أقسام أربعة، هي:
أ- الانصراف الناشئ من غلبة الوجود.
ب- الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال.
ج‍- الانصراف الناشئ من وجود ظروف خاصة سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك.
د- الانصراف الناشئ من ظهور مصداق جديد لعنوان الموضوع بعد عصر التشريع.
و لم يشر العلماء إلّا إلى القسمين الأولين، مع أنّ هناك موارد للانصراف لا تندرج تحتهما، بل تندرج إمّا تحت القسم الثالث أو الرابع، فلا بدّ من‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 118‌
اعتبارهما و البحث عنهما أيضاً، و لا يمكن ذلك إلّا بذكرهما في عداد أقسام الانصراف و ذكر ما لهما من الضوابط و النكات.
و من الجدير بالذكر أنّ سرّ اعتبار هذه الأقسام الأربعة من الانصراف الناشئ من الامور الخارجية سيأتي ذكره عند توضيح الفروق الموجودة بين هذا القسم الرئيسي و بين القسم الذي عبّرنا عنه بالانصراف الناشئ من الارتكاز.
و فيما يلي نتعرض للأقسام الأربعة المشار إليها:

أ- الانصراف الناشئ من غلبة الوجود:
و المقصود من هذا القسم ما إذا كان للفظ مصاديق تكون لها غلبة وجودية بالنسبة إلى مصداق أو مصاديق اخرى للفظ، فحينئذٍ توجب هذه الغلبة انصرافاً للفظ إلى تلك المصاديق الغالبة.
و قد جرى البحث في اعتبار هذا الانصراف، فذهب الاصوليون المتقدمون- كصاحب المعتبر و من جاء بعده- إلى اعتباره، بينما أصرّ المتأخرون الذين جاءوا بعد حركة تجديد علم الاصول على عدم اعتباره و صرحوا بأنّه بدوي لا عبرة به.
و قد استدل المتقدمون على اعتباره: بأنّه لو لم يكن هذا الانصراف معتبراً فلما ذا يحمل الأمر بالأمر بالغسل على الغسل بالماء المطلق مع أنّ الغسل بالماء المضاف ليست مشكلته إلّا ندرة الوجود؟! فإجماع الفقهاء على عدم صحة الغسل بالماء المضاف يرشدنا إلى أنّ هذا الانصراف صحيح و معتبر.
و بعبارة اخرى: إنّه يعني إجماعاً على اعتبار مثل هذا الانصراف.
و يلاحظ عليهم: بأن هؤلاء لم يتفطّنوا إلى قسم آخر للانصراف- و هو الانصراف الناشئ من مناسبة الحكم و الموضوع و الذي سنذكره في محله- و هذا ما جعلهم يتصوّرون أنّ الحكم بعدم صحة الغسل بالماء المضاف قد تمّ‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 119‌
على أساس النظر إلى الانصراف الناشئ من الغلبة بعين الاعتبار، مع أنّ هذا الحكم نشأ عن ذلك القسم الآخر؛ حيث إنّ الانسان يحس بالوجدان أنّ الماء الذي يصح الغسل به ليس هو إلّا الماء المطلق، فالحكم- و هو الغسل- يتناسب مع حصة من الماء و هي الماء المطلق فحسب.
أمّا المتأخرون المعاصرون فقد حاولوا إثبات عدم كون الانصراف الناشئ من الغلبة معتبراً بوجوه في كلماتهم ترجع في الحقيقة إلى أمر واحد، و إن اختلفت هذه الوجوه بعضها مع البعض من حيث الصياغة و من حيث الوفاء بالمقصود:
الأوّل: ما ذكره الشيخ الأنصاري حيث قال ما حاصله:
انّ هذا القسم من الانصراف عبارة عن صرف حضور الفرد الغالب في الذهن لا على أساس أنّه المراد. و الحقيقة أنّه لو نظرنا إلى هذا الكلام بعنوان استدلال على إثبات عدم اعتبار هذا الانصراف فسوف نجد فيه نقصاً من حيث الوفاء بالمقصود و إثباته و إن كان فيه شي‌ء مما لا بدّ أن يقال لإثباته، و سوف نشير إلى كل من موردي النقص و الكمال في كلامه.
أمّا السيد الإمام فقد ذكر في إثبات عدم اعتبار هذا الانصراف ما حاصله:
انّ الطبيعة التي أخذها المتكلم في كلامه لا تحكي عن الأفراد، بل لا يعقل أن تحكي عنها، و عليه يكون تمام الموضوع هو نفس الطبيعة بلا قيد، فنفس الأفراد و غلبتها بما أنهما خارجتان عن الطبيعة المفروغ عنها عند إلقاء الكلام، فالنتيجة أنّ الإطلاق لا تضره غلبة الأفراد.
و هذا البيان يتضمن أيضاً بعض ما نحتاج في البرهنة على عدم اعتبار هذا الانصراف، و سوف نشير إلى ذلك.
و هناك بيان آخر و هو للشهيد الصدر، و حاصله: انّ الغلبة لا تؤثر على‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 120‌
إطلاق اللفظ شيئاً؛ و ذلك لأنّ الانصراف الناشئ منها انس ذهني بالحصة مباشرة.
و هذا البيان يتضمن أيضاً بعض ما نحتاجه في مقام الاستدلال على المدعى.
و الصحيح في المقام أن يقال: إنّه بالنظر إلى ما يلي يتّضح عدم اعتبار الانصراف الناشئ من الغلبة؛ و ذلك:
أوّلًا- أنّه لا بدّ لنا من الأخذ بما أراده المتكلم، و انطلاقاً من ذلك لا يكون شي‌ء معتبراً لنا إلّا أن يكون هو طريقاً لدى العرف إلى تعيين مراده.
ثانياً- أنّ فهم مراد المتكلم يتم على أساس أحد شيئين: إمّا الوضع و إمّا قيام القرينة، فلو وضع شي‌ء لمعنى فلا بد من أخذ الموضوع له مراداً لمن تكلم بذلك اللفظ بشرط ألّا تكون هناك قرينة تدل على أنّه أراد معنى آخر؛ و هذا يعني أنّ كلًا من الوضع و القرينة طريق إلى فهم مراد المتكلم.
و كما هو معلوم يكون الأخذ بالقرينة متعيّناً عند قيامها حتى لو أحرزنا أنّ الموضوع له اللفظ ذلك المعنى الفلاني.
ثالثاً- أنّ الانصراف يستمد اعتباره من كونه من مصاديق القرينة، فهو لا يكون حجة إلّا لأنّه قرينة على مراد المتكلم، و هذه القرينة تعدّ بمثابة قيد يلتصق باللفظ فيمنع أن يستفاد من اللفظ تمام الأفراد المندرجة تحته بلحاظ المدلول الوضعي، بل لا بدّ أن يُحمل اللفظ على الحصة التي ينصرف الذهن إليها.
رابعاً- أنّ الانصراف لا يحتاج في صدقه و تحققه إلّا إلى عنصر واحد؛ ألا و هو حضور الحصة في الذهن، فلو حصل هذا المقدار لكفى في صدق عنوان الانصراف، غير أنّ هذا المقدار لا يكفي في اعتبار الانصراف و حجيته، بل لا بد‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 121‌
لذلك من تحقق عنصر آخر؛ و هو كون حضور الحصة في الذهن حضوراً خاصاً، و ذلك بأن يحضر الفرد في الذهن على أساس أنّه المراد، و كلام الشيخ الأنصاري ناظر إلى هذه النقطة.
خامساً- أنّه لا يحضر الفرد في الذهن على أساس أنّه المراد إلّا فيما إذا تحقق هذا الحضور في الذهن بلحاظ حصول علاقة بين اللفظ و الحصة.
و بعبارة اخرى: إنّ الذهن في انصرافه و توجهه إلى فرد إمّا أن يتأثّر بالعلاقة القائمة بين اللفظ و الحصة، أو لا يتأثر.
و بعبارة ثالثة: إنّ توجه الذهن إلى الفرد قد يتم بشكل مباشر من دون وساطة علاقة اللفظ بالحصة، و قد يتم عبر تلك العلاقة المشار إليها.
و من المعلوم أنّه عند ما يتم بشكل مباشر و من دون وساطة تلك العلاقة ليس أمامنا حينئذٍ شي‌ء يدل على أنّه المراد للمتكلم؛ لأنّ المراد يتم كشفه عبر تلك العلاقة و بسببها، بل الدليل قائم على أنّ ذلك الفرد الجائي إلى الذهن لم يكن مراداً للمتكلم من إطلاقه اللفظ، و هو أنّ المتكلم لا ينظر إلّا إلى الطبيعة و لا نظر له إلى الأفراد، و بما انّ غلبة الأفراد شأن مرتبط بالأفراد فلا نظر للمتكلم إليها، فتحصّل أنّ الانصراف الناشئ من غلبة الأفراد لا عبرة به.
و من هنا يمكن أن نفهم مكان كلٍ من بياني الصدر و الإمام 0، فإنّ كلام الشهيد ناظر إلى ذلك المطلب الذي أشرنا إليه من أنّه لو لم يتم الانصراف على أساس علاقة اللفظ بالحصة فلا يبقى أمامنا شي‌ء يدل على أنّ هذه الحصة هي المرادة للمتكلم؛ لأنّ المراد يحصل على أساس هذه العلاقة.
و أمّا كلام السيد الإمام قدس سره فهو ناظر إلى ما ذكرنا من أنّه يوجد أمامنا دليل على عدم إرادة المتكلم للحصة المشار إليها فحسب.
فكلام الشهيد قدس سره ناظر إلى عدم الدليل على كونها المرادة للمتكلم؛ و كلام‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 122‌
الإمام إلى وجود الدليل على عدم كونها مرادة له.
و من الجدير ذكره أنّ السيد الخوئي قدس سره استدل لإثبات عدم حجّية هذا القسم بما يشبه كلام الإمام.
و بهذا البيان نتمكن من تقييم كل البيانات الواردة في إثبات عدم حجّية هذا القسم؛ بمعنى أن نجعل كل بيان في موضعه اللائق به.
هذا، و لكن السيد المرتضى رحمه الله استدل لإثبات عدم اعتبار الانصراف في مورد من موارد الانصراف إلى العادة- و هو مسألة: هل الأمر بالغسل ينصرف إلى الماء المطلق أو يشمل مثل ماء الكبريت أيضاً؟- بقيام الإجماع على كون الغسل بماء الكبريت جائزاً و صحيحاً، و من ذلك نعلم عدم الاشتراط بالعادة و عدم الانصراف إليها، بل المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة.
و قد أجاب عنه بعض العلماء- و من جملتهم السيد العاملي في مدارك الأحكام-: بأنّ الغسل لا ينصرف إلى المعتاد، و أمّا عدم تناوله لماء الكبريت لو سلّمناه- فإنّما قد تم على أساس انعقاد الإجماع.
و هذا الجواب يرجع إلى أنّ حصول الإجماع على خلاف ما اقتضاه الانصراف لا يدل على عدم اعتبار ذلك الانصراف، بل يدل على أنّ مورداً من الموارد المندرجة تحت المنصرف عنه خارج بسبب قيام الإجماع.
و بعبارة اخرى: إنّ الإجماع بما هو دليل من الأدلّة لو قام على مورد لم يشمله الدليل الآخر، فلا بدّ من اعتباره من حيث الحكم كالذي شمله الدليل الآخر، و هنا النص لا يشمل ماء الكبريت لمكان الانصراف؛ غير أنّ قيام الإجماع على صحة الغسل به يكفي للحكم بالصحة و إن لم يشمله النص.
و الحقيقة أنّنا و إن لم نكن مع السيد المرتضى في المدّعى لكننا لا نرتضي الدليل الذي أقامه، بل نرى أنّ ما قاله صاحب المدارك في محله؛ بمعنى أنّ‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 123‌
قيام الإجماع على ثبوت الحكم المنصرف إليه بالمنصرف عنه- كما في المقام لا يدلّ على عدم اعتبار الانصراف، بل إنّما يكون قيامه بمعنى قيام دليل آخر على أنّ ثبوت الحكم لما لا يشمله الدليل الأوّلي. اللهم إلّا أن يقال: ليس مقصود السيد المرتضى من التمسك بالإجماع في المقام لإثبات عدم الانصراف هو التمسك بالإجماع الرائج المعهود بيننا، بل بمعنى إجماع العلماء بعنوان أنّهم عقلاء و من أبناء العرف. و من المعلوم أنّ العقلاء لو فهموا شيئاً من لفظ فإنما يكون فهمهم هذا هو الحكم، فلا بدّ من الرجوع إليه.
و لمّا لم يعبأ العلماء بالانصراف المتصور في المقام فنستكشف حينئذٍ أنّ العقلاء و العرف لا يرون لمثل هذا الانصراف وزناً، فيرجع حينئذٍ ما قاله إلى الوجه الذي تمسك به المعاصرون في إثبات عدم حجّية الانصراف إلى الفرد الشائع و الغالب. و الاختلاف بينهما يعود إلى الصورة و القالب، حيث إنّنا نقول في إثبات عدم حجيته: بأنّ الانصراف إلى الأفراد الغالبة يعني الانصراف الذي لم يرده المتكلم- كما شرحنا ذلك سابقاً لأنّ المتكلم يجعل حكمه للطبيعة بما أنّه من العرف.
أقسام الانصراف الناشئ من الغلبة:
إنّ المتأخرين المعاصرين و إن ذهبوا إلى عدم حجّية الانصراف الناشئ من الغلبة، غير أنهم اعتبروه في بعض الموارد الفقهية حجة، كما أنهم حكموا بالإجمال في موارد اخرى من مصاديق هذا الانصراف؛ أي لم يحكموا لا بالانصراف و لا بالإطلاق.
إنّ مشاهدة هذا الوضع تجعل وضعية هذا الانصراف مبهمة لدى الإنسان، فيتساءل: لو لم يكن الانصراف المذكور معتبراً فلما ذا اعتبروه في بعض الموارد حجة و في بعضها الآخر مجملًا وضعه؟ و لكي نخرج هذا الانصراف من وضعه المبهم هذا نرى ضرورة تقسيمه إلى ما يلي:



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 124‌
القسم الأوّل: كون الغلبة ناشئة من تعسّر حصول الإنسان على الفرد الآخر؛ أي الفرد الذي يكون بحسب الفرض منصرفاً عنه اللفظ، و الذي نعبّر عنه بالفرد النادر.
القسم الثاني: ما تكون الغلبة الموجودة فيه ناشئة من كون المصداق المنصرف إليه كمصداق أكمل و أبرز للعنوان.
أمّا القسم الأوّل- و هو ما إذا كانت الغلبة حاصلة بسبب كون وجود المصداق النادر متعسّراً‌
أو متعذّراً- فهو ينقسم بنفسه إلى أقسام ثلاثة:
الأوّل: ما إذا كانت الندرة من الطرف الآخر ندرة عادية، و المقصود منها أنّها لم تكن بالغة حدّاً بحيث نعتبرها ملحقة بالعدم، بل يكون الفرد النادر بحسب رؤية العرف موجوداً في الخارج غير أنّه قليل الوجود، أو كان تحصيله يحصل بشكل نادر.
و هذا القسم هو الذي لا بدّ من اعتبار الانصراف فيه غير حجة؛ فإنّ كلام الفقهاء و الاصوليين حول عدم حجّية الانصراف الناشئ من الغلبة ناظر إلى هذا القسم.
و المثال المعروف الذي ذكروه هنا- من انصراف لفظ «الماء» في العراق إلى ماء الفرات- يرتبط بهذا القسم، و هذا القسم توجه له أمثلة كثيرة في الفقه فلا بد للمستنبط أن يرى أنّ ما بدا له من الانصراف الذي نشأ من الغلبة هل هو من هذا القسم الذي كانت الندرة فيه عادية أم هو من القسمين الآخرين؟ و أكثر ما يوجد من اضطراب في كلمات الفقهاء في المسألة إنّما هو ناشئ عن عدم التفاتهم إلى هذه النكتة التي يبرز على أساسها تقسيم الغلبة إلى أقسام ثلاثة.
الثاني: ما إذا كانت الندرة شديدة بحيث تلحق بالعدم، و مثل هذا الانصراف‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 125‌
لا يصح القول بعدم حجيته بل إنّه لما كان بحيث يمكن عدّه كقرينة على المراد فهو من قبيل الانصراف الذي يسبب حصول علاقة للفظ في الحصة، و مثل هذا الانصراف حجة كما هو معلوم، و سر كون هذا الانصراف بالغاً إلى حد يُعدّ كقرينة على الانصراف يكمن في أنّ الفرد النادر بحسب الفرض يكون منسيّاً تماماً لدى الذهن العرفي؛ فمدلول اللفظ- و كما قال الشهيد الصدر- حصل فيه ضيق بسبب هذا الانصراف.
و لا يخفى أنّ الفرد النادر في هذا القسم قد يشترك مع المنصرف إليه في الحكم على أساس تنقيح المناط أو المناسبات القائمة بين الموضوع و الحكم، فحينئذٍ لا بدّ من تسرية حكم المنصرف إليه إلى المنصرف عنه، و مثاله: ما ورد من أنّه «يجزيكم أذان جاركم»، فإنّ لأذان الجار مصداقين: أذان الرجل و المرأة، و بما أنّ هذا المصداق الثاني يعد فرداً نادراً يلحق بالعدم، فاللفظ ينصرف إلى المصداق الأوّل، و حسب القاعدة لا بدّ أن نعتبر هذا الانصراف حجة؛ لأنّ ندرة المصداق الثاني ندرة شديدة ملحقة بالعدم، و مقتضى هذا الانصراف عدم تسرية الحكم- أي الإجزاء- إلى المنصرف عنه أي المصداق الثاني، غير أنّ الفقيه عند ما ينظر إلى النص المزبور و يدقق فيما بين الحكم و الموضوع من المناسبات يحصل له التأكد من أنّ موضوع الحكم يكون أعم و يشمل أذان المرأة، و بعبارة اخرى:
يتّضح أمامه أنّ المناط هو شي‌ء يشمل كلا الفردين. و من المعلوم أنّ هذا لا يعني أنّ ما ادّعيناه- من كون الانصراف الناشئ من الندرة الشديدة حجة- في غير محله. فإذاً هذه النكتة تبدو كتتمة لذلك المدعى المذكور و الذي برهنّا على إتيانه سابقاً.
الثالث: ما إذا كان أمر الغلبة من حيث الندرة أو الشدة مجملًا؛ أي لا نعلم هل الندرة شديدة حتى يكون الانصراف معتبراً أو عادية حتى يكون الإطلاق معتبراً؟ و يمكن أن نفترض لذلك هذا المثال: و هو انصراف مسح الرأس إلى‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 126‌
مسحه مقبلًا و انصرافه عن مسحه معكوساً، لكن لا نعلم هل ندرة هذا الفرد المنصرف عنه شديدة حتى يكون انصرافه عنه معتبراً أو عادية حتى لا يكون كذلك بل كان المتعين الرجوع إلى الإطلاق و الحكم بإجزاء الإتيان بهذا المسح المعاكس؟
و هنا لا بدّ في هذا القسم من أن ندع كلًا من الانصراف و الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق يرجع إليه حيث لا يكون هناك إجمال، و هو موجود في المقام حسب الفرض، كما أنّ الانصراف يُعبأ به فيما إذا أحرزنا كونه قرينة، و المفروض أنّ قرينيّته في المقام غير محرزة؛ حيث إنّ الإجمال المشار إليه يؤدي إلى وقوع الإجمال في كون الانصراف هنا كقرينة، فلا بدّ حينئذٍ من الرجوع إلى مقتضى القواعد.
و من المعلوم أنّ القاعدة هنا تقتضي عدم إجزاء الإتيان بالمسح المعاكس؛ لأنّ الذمة مشغولة بتكليف و لا بدّ من اليقين بخروجها عن هذا التكليف.
و هذه النتيجة هي نفس النتيجة المترتبة على فرض اعتبار الانصراف في المقام، و ربما تكون النتيجة المترتبة على القاعدة- في بعض الموارد- نفس النتيجة المترتبة على الإطلاق.
و أمّا القسم الثاني فهو: أن تكون الغلبة- التي ينشأ عنها الانصراف-
بمعنى كون الحصة أبرز مصاديق العنوان و أكملها، و مثل هذه الغلبة غلبة كيفية تتبعها غلبة كمية؛ بمعنى أنّ المصداق يتمتع بكيفية عالية و مطلوبة لدى العرف مما يسبب أن تكون هذه الحصة أكثر كمية بعد توجه العرف إليها.
و مثاله: المسح باليد في مقابل المسح بالرجل، فإذا جاء الدليل على وجوب المسح فإنّه و إن شمل المسح بالرجل أيضاً غير أنّ العرف لا يلتفت إلى مثل هذا المصداق للمسح، بل يرى أنّ المصداق الكيفي المطلوب لعنوان المسح هو‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 127‌
المسح باليد، فالمصداق هذا أبرز المصاديق و أكملها، و هذه الأبرزية من حيث الكيفية توجب الانصراف للفظ «المسح».
و الحق أنّ هذا الانصراف حجة، و سرّه أنّ العرف عند ما يطلق لفظ «المسح» ينصرف إلى ذهنه ذلك المصداق ككونه مراداً للمتكلم.
و الفرق بين هذا القسم و بين الانصراف الناشئ من الغلبة الوجودية: أنّ الندرة الحاصلة في جانب الفرد المنصرف عنه في هذا القسم تسبب حصول عنصر الندرة في مجال الإطلاق، فالندرة الحاصلة في هذا القسم كأنّها عبارة عن ندرتين: ندرة للفرد من حيث الكيفية و بتبعها ندرة كمية، و ندرة في جانب إطلاق اللفظ، و هذه الندرة الحاصلة في مجال إطلاق اللفظ تنشأ عن الندرة الاولى؛ أي الندرة من حيث الكيفية و التي تتبعها ندرة وجودية و كمية، و هذا هو السبب في كون الانصراف في هذا القسم معتبراً، فإنّ العرف لو اعتبر إطلاق لفظ في حصةٍ ما أمراً نادراً فهو يعني أنّ إطلاقه عليه غير متعارف، و من المعلوم أنّه لا يُعبأ بالإطلاقات غير المتعارفة، و الانصراف في محله.
و غير خفي أنّ هذا القسم يشترك مع القسم الأوّل في نقطة؛ ألا و هي:
أنّه توجد في كليهما ندرة وجودية- أي كمية- غير أنّ الفرق بينهما يكمن في أنّ الندرة الوجودية في القسم الثاني تنشأ عن وضع كيفي للحصة، بخلاف القسم الأوّل، فإنّ الندرة الوجودية الكمية فيه ليست حاصلة بهذا اللحاظ، بل ربما يكون الفرد النادر أبرز من حيث الكيفية غير انّه لا يوجد في عالم الخارج إلّا نادراً.
و خلاصة القول في بيان دليل كون هذا القسم من الانصراف حجة هي أنّ في هذا القسم يكون إطلاق اللفظ على الفرد النادر إطلاقاً غير متعارف، بخلاف إطلاق اللفظ على الفرد النادر في القسم الأوّل، فانّه- مثلًا لو انصرف لفظ‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 128‌
«الماء» في العراق عن غير ماء الفرات فانّه لا يكون إطلاق اللفظ على غيره غير متعارف، بل العرف في نفس الوقت الذي يتحقق له الانصراف يُذعن بأنّ إطلاق اللفظ على غير ماء الفرات يكون متعارفاً، و هذا هو السبب في عدم كون الانصراف في القسم الأوّل حجة.
و جدير بالذكر أنّ هذا القسم توجد له ملاحظة لا بد من الالتفات إليها: و هي أنّه لو أمكن تسرية الحكم من الفرد المنصرف إليه إلى الفرد المنصرف عنه على أساس قاعدة تنقيح المناط أو المناسبات الحكمية فلا بد من هذه التسرية، و مثاله: ما ورد في مبطلية الأكل و الشرب، فإنّهما ينصرفان إلى ما يوصله الإنسان إلى حلقه من طريق الفم بلحاظ أنّ هذا الفرد هو الذي يعدّ لدى العرف أكمل المصاديق و أبرزها؛ فانّه بحسب هذا الانصراف- و الذي برهنّا على اعتباره لابد من جعل شأن المبطلية مختصاً بما يوصله الإنسان إلى الحلق من طريق الفم و الحكم بعدم مبطلية ما يوصله من طريق الأنف بعد كونه منصرفاً عنه، غير أنّ العرف نفسه يرى أنّ المناط هو صرف إيصال الشي‌ء إلى الحلق و أنّ طريقية الفم ملغاة، أو يرى انّه حسب المناسبات القائمة بين الموضوع و الحكم؛ فإنّ الموضوع عبارة عن أصل إيصال الشي‌ء إلى الحلق لا إيصاله عن طريق الفم، فلا يُعبأ بالانصراف؛ بل يحكم بتسرية حكم المبطلية إلى الفرد النادر و هو الإيصال عن طريق الأنف.
ب- الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال:
و هذا القسم قد صرّح باعتباره الاصوليون، و مثاله: انصراف لفظة «الدرهم» إلى النقد الغالب، و انصراف لفظة «الدابة» إلى ذات الأربع، كما يمكن أن يمثّل لذلك بمثال فقهي، و هو انصراف لفظ «المطر» عن القطرات اليسيرة النازلة، و الدليل الوارد في مطهرية المطر لا يشمل مثل هذا المطر و إن صدق عليه عنوان المطر من حيث اللغة.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 129‌
و دليل اعتبار هذا القسم هو أنّ كلا العنصرين- اللذين ذكرنا أنّهما لو توفرا يُصبح الانصراف معتبراً- متوفر هنا في هذا القسم، و هما حضور فرد من الأفراد في الذهن أوّلًا، و كون حضوره في الذهن أنّه المراد ثانياً، و وجه توفر هذين العنصرين هنا أنّ العرف لمّا كثر استعماله للفظة في مصداق خاص فلا محالة يريد من استعمالها ذلك المصداق، و لو أراد مصداقاً آخر فإنّه يستعين بقرينة تدل عليه، فكثرة الاستعمال توجب أن تتحقق علاقة للفظ بتلك الحصة فلا يستعمل اللفظ، إلّا أنّه ينتقل إلى كل من ذهن المتكلم و المستمع تلك الحصة، فإذا استمع المستمع اللفظ من المتكلم تنتقل الحصة في ذهنه كأنّها المرادة للمتكلم، و المتكلم أيضاً يلتفت إلى هذا الذي يتحقق لمستمع كلامه، فهذا الوضع وضع عرفي في عالم المحاورات.
و جدير بالإشارة أنّ هذا الذي ذكرنا من كون هذا الانصراف معتبراً يختص بما إذا كانت كثرة الاستعمال حاصلة في عصر التشريع، أمّا لو واجهنا لفظة لم يكثر استعمالها في حصة في عصر التشريع، غير أنّه بعد ما مضى ذلك العصر كثر استعمالها في حصة فأوجبت هذه الكثرة في الاستعمال انصرافاً إلى تلك الحصة، فمثل هذا الانصراف لا يكون حجة.
و مثاله: انصراف لفظ «الكراهة» إلى ما لها من المعنى الاصطلاحي، فإنّ ذلك قد حصل بعد عصر التشريع و لم يكن له أثر في ذلك الأمر، بل كان يُطلق هذا اللفظ على الأعم من الكراهة الاصطلاحية و الحرمة.
ج‍- الانصراف الناشئ عن وضعية خاصة أحاطت بحصةٍ من الحصص في زمن ما:
فما دامت هذه الوضعية قائمة فانصراف اللفظ إلى تلك الحصة قائم.
و يمكن أن يمثّل لذلك بانصراف لفظ «الجائزة» في زمن الأئمة عليهم السلام إلى ما كان يعطيه الخلفاء، أو انصراف لفظ «الغناء» إلى ما كان لبني العباس من‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 130‌
مجالس لهوية خاصة.
و بالإمكان أن نعبّر عن هذا القسم بالانصراف الناشئ من صيرورة الحصة كشأن لنزول الحكم، و هذا القسم يمثّل حالة متوسطة بين القسمين اللذين ذكرا، فإنّه من ناحية يشبه الانصراف الناشئ من الغلبة من حيث إنّ الفرد المنصرف عنه لا يخرج عن دائرة الاستعمال العرفي للفظ تماماً؛ و ذلك لأنّ المفروض أنّ اللفظ أصبح في ظروف خاصة و زمن خاص منصرفاً إلى الحصة فحسب، أمّا في غير تلك الظروف فإنّه يرجع إلى ما كان عليه قبل تلك الظروف؛ أي أصبح يطلق على الفرد المنصرف عنه أيضاً، هذا أوّلًا.
و ثانياً: المفروض أنّه في دائرة التشريع أو العرف المتشرعي يكون اللفظ منصرفاً إلى الحصة، و لذا عبّرنا بأن الحصة أصبحت كشأن لنزول الحكم، أمّا لو نخرج من تلك الدائرة للتشريع و المتشرعة فسوف نجد اللفظ يطلق على سائر الحصص أيضاً، فالاستعمال العرفي بالنسبة إلى غير الحصة لا يزال قائماً حتى في نفس الظروف التي نعتبر أنّ اللفظ فيها ينصرف إلى حصة خاصة.
و هذا وجهُ شبهِ هذا القسم بالقسم الناشئ من الغلبة و الذي وجدنا فيه أيضاً أنّ الاستعمال العرفي كان حاصلًا بالنسبة إلى الفرد النادر أيضاً، هذا من ناحية. و من ناحية اخرى يشبه هذا القسم الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال من حيث إنّ الفرد المنصرف عنه يصبح فيه مهجوراً تماماً عند المتكلم و المخاطب؛ بمعنى أنّ كليهما يريدان و يفهمان من اللفظ تلك الحصة التي اكتنفتها ظروف خاصة، و لا يلتفتان إلى غير تلك الحصة.
و من هنا يتبين أنّه لا مجال لتوهم ضرورة جعل هذا القسم من أقسام الانصراف الناشئ من الغلبة بدعوى أنّه توجد في هذا القسم غلبة و ندرة أيضاً؛ فإنّ اللفظ عند ما أصبح بحيث ينصرف في ظروف خاصة إلى حصة‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 131‌
فهو يعني أنّ هذه الحصة حصلت فيها غلبة كما أنّه حصل في غيرها ندرة، و عليه يحسن أن يجعل هذا القسم قسماً من الانصراف الناشئ من الغلبة. و وجه عدم المجال لهذا التوهم ما نجده من الفرق بين هذا القسم و القسم الناشئ من الغلبة.
و لا يخفى أنّ الندرة الموجودة في القسم الأوّل عبارة عن ندرة كمية في قبال غلبة كمية، مع فرق بين القسمين اللذين لهذا القسم الأوّل؛ فإنّه في قسم منه كانت الغلبة و الندرة كميتين من البداية، و في قسم آخر منه كانت الندرة و الغلبة كيفيتين في البداية إلّا أنهما تصيران كميتين في المآل.
و هذا القسم هو الذي عبّرنا عنه بالانصراف الناشئ من أكملية المصداق؛ فإنّ الأكملية أمر كيفي إلّا أنّ هذه الكيفية تسبب حصول وضع كمي؛ بمعنى أنّ المصداق الأكمل سيصبح بلحاظ أكمليته مصداقاً أكثر كمية من غيره، مع أنّ القسم الذي نحن فيه- و هو الناشئ من حصول وضعية خاصة للمصداق لا نجد فيه إلّا غلبة كيفية من دون أن ينظر إلى حيثية الكمية لو اتفق حصول هذه الكمية له، مع أنّه لا يتفق حصول هذه الأوفرية من حيث الكمية للمصداق أحياناً؛ فإنّ المصداق الذي ينصرف إليه اللفظ بلحاظ كونه ذا وضعية خاصة قد يكون من حيث الكمية أقل وجوداً من غيره، و عليه لا ينظر في هذا القسم إلى حيثية الغلبة الكمية أصلًا، و لو نظر إلى الغلبة الكمية في مورد فانصرافه إلى الحصة يكون من سنخ القسم الأوّل، و ليس من هذا السنخ الذي فرضنا فيه أنّ سبب الانصراف هو توفر وضعية خاصة للمصداق بحيث تجعله كشأن لنزول الحكم.
ما هو حكم هذا القسم؟
قد يقال: بعدم اعتبار هذا القسم بلحاظ أنّ المورد لا يخصص ما ورد‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 132‌
كعامّ، و لذلك لا يصار إلى اعتبار الحكم الوارد في الدليل مختصاً بمورده الذي يعتبر كشأن النزول. و الوضعية التي فرضنا حصولها للمصداق لا تزيد على أنها تجعل المصداق كشأن للنزول، و من المعلوم- كما قلنا- أنّ شأن النزول لا يمكنه تخصيص أو تقييد الحكم.
إلّا أننا نقول: هناك فرق بين ما نحن فيه و ذلك الذي يعبّر عنه بشأن النزول- و الذي حكمه أنّه لا يقيد الحكم و لا يخصصه- و هو: أنّه هناك ينزل الحكم بصيغة عامة بحيث لا يستفيد العرف اختصاصه بالمورد، مع أنّ الذي هنا هو أنّ اللفظ بعد أن كان عاماً في استعماله يصبح لدى العرف ناظراً إلى حصة بلحاظ توفر وضعية خاصة في هذا المصداق، فهنا يوجد انصراف للفظ إلى الحصة، بينما الانصراف غير موجود هناك، بل إنّ العرف هناك ليحكم بالعمومية و ان المورد لا يخصص الحكم و لا يقيده.
لا يقال: بأنّه صحيح أنّ شأن النزول هنا شي‌ء غير شأن النزول هناك، إلّا أنّ الذي يوجد هنا ليس أزيد من وجود انصراف للفظ إلى حصة، و من المعلوم أنّ صِرف الانصراف لا يكون كقرينة على أنّ المتكلم أراد هذه الحصة في كلامه، كما أنّ الانصراف الناشئ من الغلبة لا يمنع- كما قلنا- من ثبوت الإطلاق للحكم مع أنّه موجود حقيقة؛ فإنّ الملاك هو حصول العلاقة بين اللفظ و الحصة بحيث إذا ذكر اللفظ تحضر الحصة في الذهن بعنوان كونها المرادة للمتكلم، و هذا مفقود في المقام؛ حيث إنّ مثل هذه العلاقة لا تحصل إلّا إذا كثر استعمال اللفظ في الحصة، و من المعلوم أنّ كثرة الاستعمال غير حاصلة في المقام؛ و إلّا لكان من الواجب إلحاق هذا القسم بقسم الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال.
فاننا نقول: إنّ كثرة الاستعمال تكون سببيتها لحصول العلاقة بين اللفظ و الحصة حاصلة بلحاظ توفر عنصر خاص فيها، و هو: اعتداد العرف‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 133‌
و اعتناؤهم بإطلاق اللفظ في تلك الحصة و عدم اعتدادهم و اعتنائهم بإطلاقه في غيرها بحيث يكون إطلاقه فيها عرفياً و إطلاقه في غيرها غير عرفي، و هذا العنصر هو السبب الأساس في حصول العلاقة بين اللفظ و الحصة، و من المعلوم أنّ هذا العنصر كما ينشأ عن كثرة الاستعمال فكذلك من الممكن أن ينشأ عن سبب مناسب، و المدعى هنا أنّ الوضع الخاص الذي حصل لحصةٍ ما في زمن التشريع قد يكون بإمكانه أن يسبب حصول ذلك العنصر؛ أي اعتداد العرف و اعتنائهم بإرادة الحصة الخاصة من اللفظ، و إن كان هذا حاصلًا لعرف المتشرعة، و سيما إذا كان مثل حصول هذا الوضع الخاص للحصة في برهة متأخرة من زمن التشريع و لم يكن للشرع قبل هذه البرهة هذا الدليل الذي كان البحث في انصرافه إلى حصة خاصة، مثل مفهوم «الغناء» و «الجائزة» فإنّهما و إن شملا بحسب اللغة و العرف مجالس غير بني العباس و جوائزهم إلّا أنهما ينصرفان إليهما بلحاظ وضع خاص كان متوفراً فيهما، سيما و أننا نجد أنّ كثيراً من النصوص الواردة في الغناء و الجائزة لو لم نقل جلّها بل كلها- وردت في زمن بني العباس.
و على أي حال فإنّ للعرف اعتناء بأن يراد ذلك المصداق الخاص من اللفظ عند استعماله، و هذا هو السبب في صيرورة انصرافٍ ما معتبراً، و على الأقل يكون مثل هذا الانصراف صالحاً للقرينية، و مع وجوده لا يمكن التمسك بالإطلاق، و هذا بخلاف الانصراف الناشئ من الغلبة- مثل انصراف الماء في العراق إلى ماء الفرات- فإنّه لا يصح تصور كونه مما يصلح للقرينية حتى يدفع بسببه الإطلاق.
د- الانصراف الناشئ من حصول مصداق جديد للموضوع بعد زمن التشريع: و هذا القسم يتصور له شقّان:



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 134‌
الشق الأوّل: ما إذا لم يكن لعنوان الموضوع قابلية بارزة لدى رؤية العرف‌
في عهد التشريع لقبول مصاديق جديدة على مرّ الزمن، فإنّه لو اتفق لمثل هذا الموضوع بعد عصر التشريع مصداق جديد فإنّ انصراف اللفظ إلى المصاديق الموجودة في عصر التشريع مما لا محيص منه.
و مثال ذلك: «الدم» فإنّه في زمن التشريع كان لمصرفه مورد واحد و هو أكله، و لم تكن قابليته لقبول مصارف جديدة واضحة معلومة لدى العرف آنذاك، و عليه لا بد من حمل ما ورد من تحريمه على ذلك المصرف الموجود آنذاك و هو الأكل، أمّا ما حدث بعد عصر التشريع من موارد جديدة لمصرفه فاللفظ ينصرف عن مثل هذه الموارد.
الشق الثاني: ما إذا كان للعنوان قابلية لقبول المصاديق‌
و كانت هذه القابلية بارزة واضحة لدى العرف الموجود في عصر التشريع. و مثاله:
عنوانا «الفقر» و «الغنى» أو عنوان «النعل» الذي ورد في حقه أنّه يطهر بالمشي على الأرض، فما قد يبدو لبعض الأذهان من انصراف مثل هذه الألفاظ إلى المصاديق الموجودة في عصر التشريع غير معتبر.
القسم الثاني الانصراف الناشئ من الارتكاز‌
و هو ما إذا كان الانصراف ناشئاً من حكم ارتكازي موجود في البين و الارتكاز ليس من الامور الخارجة، و لذلك جعلنا الانصراف الناشئ منه في قبال الانصراف الناشئ من الامور الخارجية،
و هذا الانصراف ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
أ- الانصراف الناشئ من وجود حكم ارتكازي على خلاف النص الشرعي‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 135‌
فيما إذا أصبح مصداق من مصاديق موضوع الدليل الشرعي موضوعاً للحكم الارتكازي المخالف، فحينئذٍ ينصرف عنوان الموضوع للحكم الشرعي عن هذا المصداق. و غير خفي أنّه لتحقق هذا القسم لا بدّ من توفر امور ثلاثة:
أوّلًا- أن يكون هناك حكمان في البين؛ حكم للشرع و آخر ارتكازي.
ثانياً- أن يكون هناك تخالف بين الحكمين؛ بمعنى أنّ الحكم الشرعي إذا كان هو التحريم كان الحكم الارتكازي هو التحليل.
ثالثاً- أن يكون موضوع الحكم الارتكازي مصداقاً من مصاديق موضوع الحكم الشرعي.
و هذا القسم ينقسم بدوره إلى قسمين، هما:
1- ما إذا كان الحكم الارتكازي عقلائياً، و مثاله: ما ورد في الشرع من إثبات الولاية للأقرب بالنسبة إلى امور مثل التكفين و الدفن، فإنّ هذا الدليل الشرعي ينصرف عما إذا نصب الميت وصياً لنفسه للإتيان بهذه الامور، فإنّه بناءً على ما لدى العقلاء من الارتكاز القائل بأن الوصي بمنزلة الميت فلا بدّ من عدم الرجوع إلى الأقرب إلى الميت، غير أنّ الرجوع إلى الأقرب مما دلّ عليه الشرع، فما ذا نفعل في المقام؟
الجواب: هو أنّ دليل الشرع ينصرف عن هذه الحالة التي نُصب فيها وصي من قِبل الميت، فيُرجع إلى الأقرب فيما إذا لم تكن هذه وصية من قِبل الميت في جعل شخص كوصي لنفسه.
و لا يخفى أنّ هذا الانصراف معتبر فيما إذا لم يكن للشرع تنصيص بالنسبة إلى ذلك المصداق، أمّا لو وجد مثل هذا التنصيص فلا عبرة بالانصراف، و مثاله: تنصيص الشارع على حرمة الخمر حتى فيما إذا أمكن التداوي بها، فإنّه من المعلوم أنّه لو لا هذا التنصيص الشرعي لحكمنا بحلية الخمر بلحاظ أنّ‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 136‌
دليل تحريمها ينصرف عن مورد التداوي الذي هو موضوع الحكم الارتكازي القائل بالحلية، فإنّ العقلاء يرون بارتكازهم أنّ كل شي‌ء يحرم التصرف فيه يرتفع قبحه فيما إذا أصبح وسيلة.
2- ما إذا كان الحكم الارتكازي موجوداً لدى المتشرعة، و مثاله: ما نجده إزاء الدليل الدال على مشروعية الصوم الندبي من ارتكاز للمتشرعة يقول بأنّ الندب لا يزاحم الوجوب، فلولا هذا الارتكاز لقلنا بأنّ الصوم الندبي يشمل دليلُه ما إذا كان في عهدة الإنسان صوم واجب، فالصوم الندبي في هذا الوقت يكون حسب هذا الشمول أمراً مشروعاً يمكن الإتيان به، غير أنّ هذا المصداق الخاص أصبح موضوعاً لحكم ارتكازي متشرعي هو يدل على عدم مشروعيته، فلا بدّ من عدم اعتبار مشروعية لهذا المصداق بلحاظ أنّ الدليل الشرعي ينصرف عن هذا المصداق بسبب ذلك الارتكاز.
ب- ما إذا كان الانصراف ناشئاً من وجود حكم ارتكازي للعقلاء جاء النص الشرعي على وفقه،
فعندئذٍ لا بد ألّا يُعبأ بما لعنوان الموضوع من الشمول من حيث اللغة، بل يحمل على ما أصبح موضوعاً لحكم العقلاء.
و مثاله: «الماء مطهّر»، فإنّ عنوان الموضوع- و هو الماء- يشمل الطاهر و غير الطاهر من حيث اللغة، إلّا أنّه لمّا كان للعقلاء حكم بأن الماء الطاهر هو المطهّر فلا بدّ من حمل الماء الوارد في النص على الطاهر منه.
ج‍- ما إذا كان الانصراف ناشئاً من مناسبة يجدها الشخص بارتكازه قائمة بين الموضوع و الحكم،
فيحكم على أساسه بأن لفظ الموضوع ينصرف إلى ذلك الشي‌ء الذي وجده مناسباً للحكم.
و مثاله: ما ورد من أنّ الظرف الذي يلغ فيه الكلب يجب تعفيره؛ فإنّ عنوان «الظرف» من حيث اللغة كما يشمل الإناء يشمل الظروف المصنوعة‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 137‌
من القماش، غير أنّ هذا العنوان ينصرف إلى الإناء؛ و ذلك بسبب أنّ الارتكاز يحكم بأن الظرف الذي يتناسب معه حكم التعفير هو الإناء فحسب.
و هنا نكات لا بدّ من الالتفات إليها:
النكتة الاولى: إنّ هذه الأقسام الثلاثة تشترك في أنّ الانصراف في كلها ينشأ عن الارتكاز،
بينما تفترق في أنّ الأوّل و الثاني ينشأ الانصراف فيهما عن وجود حكم ارتكازي في البين، بخلاف الثالث فإنّه ليس وراء النص الشرعي حكم ارتكازي، و يفترق الأوّل عن الثاني بأنّ الحكم الارتكازي فيه قد تمّ على خلاف ما ورد في النص الشرعي من الحكم، بخلاف الثاني فإنّ الحكم الارتكازي فيه موافق لما ورد في النص الشرعي.
النكتة الثانية: إنّ هذه الأقسام الثلاثة يمكن أن تجتمع في مورد واحد‌
فيكون الانصراف فيه مؤكداً جداً، و مثاله:
«الماء مطهر» فإنّه أوّلًا: يوجد حكم ارتكازي جاء النص على وفقه؛ و هو ما للعقلاء من الحكم بأنّ الماء الطاهر مطهّر.
و ثانياً: يوجد فيه حكم للعقلاء بعدم المطهرية لمصداق من المصاديق اللغوية لموضوع النص الشرعي، و هو حكمهم بأن الماء النجس غير مطهّر.
و ثالثاً: أنّ الإنسان عند ما يواجه هذا النص القائل بأن «الماء مطهّر» يرى بحسب ارتكازه أنّ المطهّرية حكم يتناسب مع الماء الطاهر و لا يتناسب مع الماء النجس.
و جدير بالالتفات أنّ هذه الأقسام الثلاثة المتوفرة في هذا المثال ترجع كلها إلى نقطة واحدة؛ و هي ما للعقلاء من الارتكاز الذي يوجد بالنسبة إلى مسألة المطهّرية.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 138‌
كما يمكن ألّا تجتمع هذه الأقسام الثلاثة، كما في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً، غير أنّه لو وجد القسم الثاني- و هو الانصراف الناشئ من وجود ارتكازٍ جاء الدليل على وفقه- فيوجد حتماً القسم الأوّل أيضاً؛ و ذلك لأنّ العقلاء عند ما اقتصروا في حكمهم على مصداق من الموضوع فطبعاً يحكمون بأنّ غير ذلك المصداق ليس له هذا الحكم، و لكن ليس بالعكس؛ فإنّه إن كان الانصراف من القسم الأوّل فليس من الواجب توفر القسم الثاني.
النكتة الثالثة: إنّه من المعلوم أنّ الامامية لا تحكم بشي‌ء‌
كعلة و موضوع للحكم إلّا إذا حصل اليقين بأنّه كذلك، بخلاف أهل السنّة فانهم يرون أنّه يصح استنباط العلة و كفاية الظن بها.
غير أنّ هذه القاعدة الثابتة لدينا- من لزوم حصول اليقين بالعلة- يختلف تطبيقها في قضية الحكم بالمناسبة؛ و ذلك لأنّه لو كان الموضوع و الحكم بحيث تبرز مناسبة خاصة بينهما في رؤية الذي ينظر إليهما، فإنّ مثل هذا البروز و إن تحقق للشخص بشكل ظني فإنّه لا بد أن ينظر إلى هذه المناسبة بعين الاعتبار، و لكن بشرط ألّا يكون بروز المناسبة حاصلًا على أساس سليقة الشخص، بل حاصلًا على أساس رؤية عامة للجميع و إن كانت هذه الرؤية ظنية.
و لتوضيح ذلك نقول: إنّ اعتبار وجود مناسبة بين الموضوع و الحكم قد يكون ناشئاً من السليقة، فإذاً يمكن تصور التعددية للمناسبة؛ بمعنى أنّ السلائق بما أنها متعددة فلا محالة تبرز مناسبات متعددة بين الموضوع و الحكم الواردين في نصّ ما، و من المعلوم أنّ الشارع لا يراعي في محاوراته مع الناس إلّا تلك القواعد العامة السائدة في المحاورات العرفية.
و قد يكون بروز المناسبة بين الموضوع و الحكم على أساس ثبوت حكم ارتكازي حصل للعقلاء بالنسبة إلى ذلك الذي أصبح كموضوع للنص، مثل:



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 139‌
«الماء مطهّر»، فإنّ الشخص عند ما يواجه هذا النص يرى أنّ المطهّرية حكم يتناسب مع الماء الطاهر فحسب، أمّا النجس فلا يتناسب معه هذا الحكم. و من المعلوم أنّ بروز هذه المناسبة تكمن جذوره فيما للعقلاء من الحكم بأنّ الماء الطاهر مطهّر، و هذا خارج عن محل بحثنا؛ فإنّه من قبيل القسم الثاني الذي مرّ ذكره.
و هناك قسم ثالث في قضية بروز المناسبة بين الموضوع و الحكم- و هذا هو محط بحثنا- و هو أن يكون عروض المناسبة على أساس رؤية ارتكازية للأشخاص جميعهم من دون أن يوجد هناك للعقلاء حكم مثل الحكم الوارد في النص بالنسبة إلى الموضوع، و هذا يكون على أقسام:
فتارة تكون الرؤية العامة رؤية قطعية يقينية، و مثاله: ما ذكرناه سابقاً من النص الوارد في أنّ الظرف الذي يلغ فيه الكلب يجب تعفيره، فإنّ العرف عند ما يواجه هذا النص يحكم بأنّ الموضوع ليس مطلق الظرف بل الموضوع هو الإناء فحسب؛ حيث إنّ الظرف المصنوع من القماش غير قابل للتعفير.
و قد تكون هذه المناسبة ظنية؛ بمعنى أنّ كل شخص يواجه النص يظن أنّ المناسبة لهذا الحكم هي هذا الموضوع، فلا بدّ للشارع من رعاية هذا الذي للعرف من حصول الظن لديهم بالنسبة إلى نصه بلحاظ أنّه يتكلم حسب ما لديهم من الاصول و القواعد التي يتحقق على أساسها فهم النصوص لديهم، فهذا الظن الارتكازي يعدّ كقرينة متصلة، و هذا المورد هو الذي لا بدّ من اعتباره كتخصيص و استثناء من تلك القاعدة العامّة لدى الإمامية من عدم اعتبار الظن.
و قد تفطّن إلى هذا الموضوع أحد الفقهاء الماضين، و هو الشيخ فضل اللّٰه النوري رحمه الله حيث صرّح بكفاية الظن في حصول المناسبة الحكمية، و قد ذكرنا وجه ذلك قبل أسطر.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 140‌
النكتة الرابعة: إنّه توجد في جميع الأقسام الثلاثة المناسبة الحكمية،
و لكنه رغم ذلك سمّينا القسم الثالث بالانصراف الناشئ من المناسبة، فما الوجه في ذلك؟
في القسمين الأولين يتحقق الانصراف حقيقة من الحكم الذي للعقلاء قبل أن تتحقق المناسبة الحكمية، فإنّ المناسبة هذه تكون هي مسببة أيضاً عن ذلك الحكم الارتكازي، فالمنشأ الأساس ذلك الحكم الارتكازي، فإنّه بوجوده يتحقق شيئان و هما: الانصراف و تلك المناسبة القائمة بين الموضوع و الحكم، فكأنّ هناك ترتّباً بين الامور الثلاثة بهذه الصورة:
1- يوجد الحكم الارتكازي.
2- تتحقق المناسبة.
3- يتحقق الانصراف.
فالمناسبة ناشئة من الحكم الارتكازي، و الانصراف ناشئ من المناسبة، بخلاف القسم الأخير فإنّه لا يوجد هناك أي حكم ارتكازي، بل توجد في المقام المناسبة الحكمية فينشأ منها الانصراف. و سمّينا هذا القسم بهذا الاسم لكي يتميز أمره عن القسمين الأولين، و إلّا فإنّه توجد في جميع الأقسام المناسبة الحكمية، و من المعلوم أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح.
الانصراف البدوي‌
و هو الذي يمرّ عليه الذهن سريعاً ثمّ لا يلبث، سواء كان هذا الذهن عادياً أو ذهناً اصولياً يمتلكه المجتهد. و إن شئت فقل في تعريفه: هو الذي يمر على الذهن و لا يبقى فيه بل يزول.
و قد ذكر أنّ مصداقه هو ذلك الانصراف الناشئ من الغلبة الوجودية؛ مثل‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 141‌
انصراف لفظة «الماء» في العراق إلى ماء الفرات الذي هو الماء الغالب هناك، غير أنّه لا بدّ أن يذكر هنا شيئان:
أوّلًا- إنّه ليس كل انصراف ناشئ من الغلبة انصرافاً بدوياً، بل هو كذلك إذا كانت الغلبة غلبة عادية، و يكون في مقابلها ندرة عادية، أمّا إذا كانت الندرة و الغلبة شديدتين فليس الانصراف بدوياً.
ثانياً- إنّ مصداق الانصراف البدوي لا ينحصر في الانصراف الناشئ من الغلبة، بل هناك مصداقان آخران هما أيضاً من أقسام الانصراف البدوي:
أحدهما: ذلك الانصراف الناشئ من ظهور مصداق جديد بعد عصر التشريع، و كان عنوان الموضوع ذا قابلية بحسب الفرض الموجود في زمن التشريع لكي يغطي المصاديق الجديدة. و مثاله: عنوانا «الفقر» و «الغنى»، فإنّ انصرافهما عمّا يعتبر في هذه الأزمان كمصداق للفقر و الغنى انصراف بدوي.
و الآخر: الانصراف الذي كان ثابتاً قبل تحقق النص الشرعي، غير أنّه بعد مجي‌ء النص يذهب على أساس مناسبة الحكم و الموضوع. و مثاله: لفظ «الخمس» فإنّه ينصرف إلى ذلك الواجب المعهود عند الشرع، إلّا أنّ هذا اللفظ جاء في نصّ للمعصوم عليه السلام قال فيه: «تصدّق بخمس مالك» «1». فإنّ ذلك الانصراف يزول في هذا النص الشرعي و يكون المقصود منه ما له من المعنى اللغوي، و ذلك على أساس مناسبة الحكم و الموضوع؛ حيث إنّ كلمة «تصدّق» لا تناسب ذلك الخمس الرائج؛ حيث إنّه لا يكون من الصدقة، فالحكم- و هو وجوب التصدق- يتناسب مع المعنى اللغوي للخمس.
و ينبغي أن يعلم أنّ الانصراف الثابت قبل مجي‌ء النص قد يكون انصرافاً في العرف العام، و قد يكون انصرافاً حسب العرف الخاص، و الذي ذكرنا من‌
______________________________
(1)- وسائل الشيعة 9: 506، ب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح 4.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌26، ص: 142‌
المثال له علاقة بما إذا كان الانصراف ثابتاً لدى العرف الخاص.
فتحصل مما ذكرنا كله الآن: أنّ الانصراف البدوي له أقسام ثلاثة، كما تبيّن أن كون الانصراف بدوياً قد يحصل لذهن عادي مثل انصراف الماء في العراق إلى الفرات، و قد يحصل لذهن اجتهادي كمثال الخمس المذكور، فإنّ المجتهد هو الذي يفهم أنّ الخمس الرائج لا يكون من الصدقة، فينتقل إلى أنّ انصرافه إلى الخمس الرائج بدوي.