بسم الله الرحمن الرحیم
****************
ارسال شده توسط:
حسن خ
Friday - 17/5/2024 - 23:26
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 85
المبحث السادس: في الحكم
اختلف الناس هنا، فالمعتزلة القائلون بحسن الأشياء و قبحها عقلا ذهبوا إلى أنّ الحكم صفة للفعل في نفسه.
و الأشاعرة منعوا من ذلك، و جعلوه أمرا شرعيّا لا صفة حقيقيّة للفعل.
و اختلفوا في تعريفه، فقال الغزالي: إنّه خطاب الشرع المتعلّق بأفعال المكلّفين. «1»
__________________________________________________
(1). المستصفى من علم الأصول: 1/ 112.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 86
و يدخل فيه قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ «1» فإنّه خطاب الشرع متعلّق بأفعال المكلّفين و ليس حكما إجماعا.
و قال آخرون «2» زيادة على ذلك بالاقتضاء، أو التخيير «3».
و الخطاب قيل: إنّه الكلام الّذي يفهم السامع منه شيئا «4».
و ليس بجيّد، لدخول ما لم يقصد المتكلّم إفهام السّامع.
و قيل: «اللفظ المفيد الّذي يقصد به إفهام من هو متهيّئ لفهمه، فخرجت الحركات و الإشارات المفهمة و المهملة و ما لم يقصد به الافهام، و قولنا «لمن هو متهيّئ له» احتراز به عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم و المغمى عليه و نحوه» «5».
و قال السيّد المرتضى: الخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه، و يفتقر الخطاب في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له، لمشاركة ما ليس بخطاب له في جميع صفاته من وجود و حدوث و صيغة و ترتيب.
و لا بدّ من زائد به يحصل مسمّى الخطاب، و هو قصد المخاطب، و لهذا قد يسمع الكلام جماعة و الخطاب لبعضهم دون بعض لأجل القصد، و لهذا جاز أن
__________________________________________________
(1). الصافات: 96.
(2). و منهم محمد بن عمر المعروف بالرازي المتوفّى 606 ه في كتابه «المحصول في علم الأصول»: 1/ 15.
(3). ما فيه الاقتضاء عبارة عن الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة. و «التخيير» هو الإباحة.
(4). نقله الشيخ عليّ بن أبي علي المعروف بالآمدي عن بعض الأصوليّين. لاحظ الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 71.
(5). الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 71. نقله المصنّف ملخّصا.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 87
يتكلّم النائم و لم يجز أن يخاطب كما لم يجز أن يأمر و ينهى «1».
ثمّ قسّم الخطاب إلى مهمل و مستعمل.
فالأوّل ما لم يوضع في اللغة الّتي أضيف أنّه مهمل بالنّسبة إليها لشيء من المعاني و الفوائد.
و الثاني هو الموضوع لمعنى و فائدة «2»، و هو إمّا أن يكون له معنى و إن كان لا يفيد فيما سمّي به كالألقاب، مثل زيد و عمرو، فانّه بدل من الإشارة، و لهذا لا يستعمل في اللّه تعالى.
و الفرق بينه و بين المفيد أنّ اللّقب يجوز تغييره، و اللغة على ما هي عليه، و لا يجوز في المفيد ذلك، و لهذا كان الحقّ أنّ لفظة شيء ليست لقبا، بل هي من قسم مفيد الكلام، إذ لا يجوز تبديلها، و اللغة على ما هي عليه.
و إنّما لم تفد لفظة شيء، لاشتراك جميع المعلومات في معناها، فتتعذّر فيها طريقة الإبانة و التمييز، فعدم إفادتها لأمر يرجع إلى غيرها، و اللّقب لا يفيد لأمر و يرجع إليه.
و أمّا المفيد فهو المقتضي للإبانة فإمّا أن يبيّن نوعا من نوع كلون، و كون، و اعتقاد، و إرادة، أو جنسا من جنس كجوهر، و سواد، أو عينا من عين كعالم و قادر و أسود و أبيض. «3»
فالسيد المرتضى لم يشترط في الخطاب الفهم، و لا تهيّؤ السامع له، و لا
__________________________________________________
(1). الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 8.
(2). في المصدر: «أو فائدة».
(3). لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 9- 10. نقله المصنّف ملخّصا.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 88
بأس به، و لهذا ذمّ العقلاء من خاطب بغير المفيد أو للجماد «1» و سمّوه خطابا، أو أنّه استعمل في مورد القسمة الخطاب في معنى الكلام مجازا.
و قولنا: «الشارع» احتراز عن غيره.
و قولنا: «المتعلّق بأفعال المكلّفين» يخرج عنه ما عداه.
و قولنا: «بالاقتضاء [أ] و التخيير» يريد به الأحكام الخمسة، فإنّ الاقتضاء، قد يكون للوجود و للعدم إمّا مع الجزم أو بدونه، فيتناول الواجب، و الحرام، و المندوب، و المكروه.
أمّا التخيير فهو الإباحة.
و قد اعترض عليه من وجوه: «2»
الأوّل: إذا كان الحكم هو خطابه تعالى، و خطابه كلامه، و كلامه عند الأشاعرة قديم، فيكون حكم اللّه تعالى بالحلّ و الحرمة قديما، و هو باطل.
أمّا أوّلا: فلأنّ حلّ وطء الزوجة و حرمة الأجنبيّة صفة فعل العبد، فإنّه يقال: وطء حلال و حرام، و فعل العبد محدث فيستحيل أن يكون وصفه قديما.
و أمّا ثانيا فلأنّه يقال: حلّت المرأة بعد أن لم تكن كذلك، و هذا اعتراف بحدوث الحكم.
و أمّا ثالثا فلأنّ المقتضي هو العقد أو ملك اليمين، و معلول الحادث حادث.
__________________________________________________
(1). في «ج»: الجماد.
(2). هذه الوجوه أوردها المعتزلة على الأشاعرة القائلين بأن الحكم الشرعي قديم. لاحظ الكاشف عن المحصول: 1/ 225.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 89
الثاني: يخرج عن هذا الحدّ كون الشيء سببا، و شرطا، و مانعا، و صحيحا، و فاسدا.
الثالث: الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلّف، كما يجعل إتلاف الصّبيّ سببا لوجوب الضمان، و الدلوك سببا لوجوب الصلاة.
الرابع: إدخال كلمة «أو» في الحدّ خطأ، لأنّها للترديد و التشكيك، و الحدّ للإيضاح.
أجابوا عن الأوّل بالمنع من كون الحلّ و الحرمة و صفين للفعل، فإنّ معنى كون الفعل حلالا كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فعله، و كونه حراما كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك، فحكم اللّه تعالى هو كلامه، و الفعل هو متعلّق الكلام، و ليس لمتعلّق القول من القول صفة و إلّا لحصل للمعدوم باعتبار كونه مذكورا أو مخبرا عنه، و مسمّى بالاسم المخصوص وصف ثبوتيّ، و هو محال.
و قوله: «حلّت لزيد بعد أن لم تكن».
قلنا: حكم اللّه تعالى هو قوله في الأزل «سوّغت له حين وجوده في كذا» فحكمه قديم و متعلّق حكمه محدث.
و قوله: «الحكم يعلّل بالأسباب».
قلنا: المراد من السبب المعرّف لا الموجب.
و عن الثاني المراد من كون الدلوك سببا: أنّا متى علمنا أنّه تعالى أمر بالصّلاة فلا معنى للسببيّة إلّا الإيجاب.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 90
و قولنا: «العقد صحيح» معناه أنّ الشرع «1» أذن في الانتفاع به، و هو معنى الإباحة.
و قيل: يزاد في الحدّ أو الوضع.
و عن الثالث: أنّ معنى كون إتلاف الصّبي سببا لوجوب الضمان تكليف الولي بإخراج الضّمان من ماله.
و معنى كون الدلوك سببا تكليف الرجل بأداء الصلاة عنده.
و عن الرابع: أنّ المراد أنّ كلّ ما وقع عليه أحد هذه الوجوه كان حكما.
و قيل: إنّ السببيّة و الشرطيّة ليست حكما.
و قال بعضهم: الحكم خطاب الشارع المفيد فائدة شرعيّة تختص به أي لا يفهم إلّا منه، لأنّه إنشاء فلا خارج له.
و هذه الحدود «2» كلّها باطلة عندنا لما عرفت من أنّ كلامه تعالى عبارة عن الحروف و الأصوات و هي حادثة، و قد بيّناه في علم الكلام.
و لأنّ الحكم ليس هو الخطاب بل المستفاد منه، فإنّ الحكم ليس قول الشارع: أوجبت عليك بل نفس الوجوب المستفاد من ذلك الخطاب
تهذيب الوصول الى علم الأصول، ص: 50
الفصل الثاني: في الحكم الشرعي
الحكم: خطاب الشرع «1» المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
و الاقتضاء «2»: قد يكون للوجود مع المنع من «3» النقيض «4»، فيكون وجوبا.
و لا معه، فيكون ندبا.
و قد يكون للعدم مع المنع من النقيض، فيكون حراما.
و لا معه، فيكون مكروها.
و التخيير: الإباحة «5».
و الوضع: الحكم «6» على الوصف بكونه شرطا، أو سببا، أو مانعا. و ربّما رجع «7» بنوع من الاعتبار إلى الأوّل.
موسوعه الشهید الاول، الذکری، ج 5، ص 5
والمراد ب «الأحكام» ما اقتضاه الخطاب وجوداً أو عدماً - مانِعَين من النقيض أو لا - أو تخييراً، وهي الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. ومنه يُعلم رسومها. والسببيّة والشرطيّة والصحّة والفساد يرجع إلى الاقتضاء والتخيير إن جعلت أحكاماً. والمراد ب «الشرعيّة» ما استفيد من الشرع، إمّا بالنقل عن حكم الأصل، أو بالتقرير عليه، فيدخل في ذلك ما عُلم بالدليل العقلي.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج1، ص: 39
و بهذه المقاصد و الوسائل تنتظم كتب الفقه.
قاعدة- 8 الحكم: خطاب الشرع المتعلق بأفعال «1» المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
و زاد بعضهم «2»: أو الوضع.
و الوضع: هو الحكم على الشيء بكونه سببا، أو شرطا، أو مانعا.
فلنذكر أحكام هذه الثلاثة في قواعد.
قاعدة- 9 السبب لغة «3»: ما يتوصل به إلى آخر.
و اصطلاحا: كل وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل على كونه معرفا لإثبات حكم شرعي بحيث يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم، و يمتنع وجود الحكم بدونه، (و تخلف الحكم عنه يكون إما لوجود مانع أو فقد) [1] شرط [2].
__________________________________________________
[1] في (م): و يتخلف الحكم عنه لكونه سببا إما بوجود مانع أو فقدان.
[2] في (ح) زيادة: (و وجود الحكم بدونه محال، لأن المراد به نوع السبب فإذا عدم بعض أصنافه و وجد الحكم عند صنف آخر فهو تابع لذلك الآخر. أو نقول: الحكم الخاصّ المستند إلى سبب خاص يمتنع وجوده بدونه).
__________________________________________________
(1) في (م): بأحكام.
(2) انظر: العلامة الحلي- تهذيب الوصول: 2 (الطبعة الحجرية) و ابن الحاجب- مختصر المنتهى الأصولي: 34.
(3) انظر: الجوهري- الصحاح: 1- 61، فصل السين من باب الباء، مادة (سبب).
تمهيد القواعد، ص:29
المقصد الأول: في الحكم
و فيه بابان
الباب الأول: في الحكم الشرعي و أقسامه
مقدمة: الحكم الشرعي: خطاب اللَّه تعالى؛ أو مدلول خطابه، المتعلّق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
و زاد بعضهم: أو الوضع «1» ليدخل جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا، كجعل اللَّه تعالى زوال الشمس موجبا للظهر، و جعله الطهارة شرطا لصحة الصلاة، و النجاسة مانعة من صحتها؛ فإن الجعل المذكور حكم شرعي، لاستفادته من الشارع، و لا طلب فيه و لا تخيير، إذ ليس من أفعالنا حتى يطلب منّا أو نخيّر فيه.
و تكلّف المقتصر على الأول بمنع كونها أحكاما، بل هي أعلام له؛ أو
__________________________________________________
(1) منتهى الوصول: 23، الإحكام للآمدي 1: 136، و حكاه عن الأصوليين في سلم الوصول: 29، و عن بعضهم في مسلم الثبوت راجع فواتح الرحموت 1: 54.
تمهيد القواعد، ص: 30
بعودها إليها، إذ لا معنى للسببية إلا إيجاب اللَّه تعالى الفعل عنده، و للشرطية كذلك و نحوه عنده [1] و المانعية إلا التحريم، و هكذا.
و هو تكلّف بعيد، و مع ذلك فيتخلف «1» كثيرا في أفعال غير المكلفين، كما ستقف عليه [2].
إذا تقرّر ذلك: فمن فروع كون الحكم الشرعي لا بدّ من تعلّقه بأفعال المكلفين أنّ وطء الشبهة القائمة بالفاعل- و هي ما إذا وطئ أجنبية ظانا أنها زوجته مثلا- هل يوصف بالحل، أو الحرمة و إن انتفى عنه الإثم، أو لا يوصف بشيء منهما؟ فاللازم من القاعدة الثالث، لأن الساهي ليس مكلفا.
و ربما أبدل بعضهم «المكلفين» «بالعباد» ليدخل مثل ذلك، التفاتا إلى تعلّق الحكم الشرعي بكثير «2» من غير المكلفين، كضمان الصبي ما يتلفه من الأموال، و يجنيه على البهائم.
و الأشهر اعتبار (القيد) «3» و جعل المكلّف بذلك هو الولي.
و على هذا يتفرّع جواز وصف فعل الساهي للمحرّم على غيره بالحل، نظرا إلى عدم ترتب الإثم على فعله.
__________________________________________________
[1] يعني: و لا معنى للشرطية إلا إيجاب اللَّه تعالى الفعل و نحو ذلك عنده.
[2] من أنه لا يمكن عود الأحكام الوضعيّة في حق غير المكلفين إلى أحكام تكليفية، لأجل عدم تصور التكليف في حقهم. انظر قاعدة: 3.
__________________________________________________
(1) في «د»: فيختلف.
(2) في «م»: إلى أن تعلّق الحكم الشرعي يكون.
(3) في «م»: العقل. و المراد بالقيد هنا هو قيد «المكلّفين». فالمشهور أخذه في التعريف، انظر المحصول 1: 15، و المستصفى 1: 55، و مسلّم الثبوت (فواتح الرحموت) 1: 54.
تمهيد القواعد، ص: 37
قاعدة «3» الحكم الوضعي أيضا خمسة أقسام، و هي: السبب، و الشرط، و العلة، و العلامة، و المانع؛
كالوقت، و الطهارة، و البيع بالنسبة إلى الملك، و الإحصان بالنسبة إلى الحد الخاصّ؛ و الحيض بالنسبة إلى العبادات المشروطة بالطهارة. و يمكن رد العلة إلى السبب، و العلامة إليه أو إلى الشرط.
و يضاف إليها الصحة و البطلان؛ و قريب منهما الإجزاء و عدمه.
و هذه الأحكام ليست مشروطة بالتكليف على المشهور، و من ثمّ حكم بضمان الصبي و المجنون و السفيه ما أتلفوه من المال، و لم ينعقد بسبب الحدث صلاة الصغير، إلى غير ذلك من الأحكام و قد تقدّم بعضها.
ثمّ الأحكام بالنسبة إلى خطاب التكليف و الوضع تنقسم أقساماً:
فمنها ما يجتمع فيها الأمران، و هو كثير، كالجماع و غيره من الأحداث، فإنها توصف بالإباحة في بعض الأحيان، و سبب في وجوب الطهارة، و توصف بالتحريم مع بقاء السببية. و كذا فروض الكفايات، فإنها مع الفرض سبب في سقوط التكليف بها عن الباقين، و أُصول العبادات واجبة و سبب في عصمة دم غير المستحل لتركها، و المعاملات توصف بالأحكام مع سببيّتها لما يترتب عليها.
و منها: ما هو خطاب تكليف و لا وضع فيه، و مثّل بجميع التطوعات، فإنها تكليف محض و لا سببية فيها، و لا شرطية، و لا مانعية.
و يشكل بأنها سبب لكراهة المبطل، كالصلاة المندوبة؛ أو لتحريمه كما
تمهيد القواعد، ص: 38
في الحج، لوجوبه بالشروع.
و منها: ما هو خطاب وضع لا تكليف فيه، كالإحداث التي ليست من فعل العبد، من الحيض و أخويه، و كأوقات العبادات الموقتة، فإنها موانع و أسباب محضة.
و منها: ما هو من خطاب الوضع بعد وقوعه؛ و من خطاب التكليف قبله، كسائر العقود، فإنها قبل الوقوع توصف بالأحكام الخمسة، و بعد الوقوع يترتب عليها أحكامها.
السبع الشداد، ص: 35
المقالة الثّانية و فيها فصلان
فصل انّ من المشهور المحقّق المقرّر عند الفقهاء و الاصوليّين تقسيم الحكم الشّرعى بالقسمة المستوفاة إلى الاحكام الخمسة المشهورة
و ينعقد عليه شكّ فانّه ان اعتبر الحكم اعمّ من الصّريح و الضّمني على ما هو الحقّ و اختاره المحصّلون لم يكن الاحكام الشّرعيّة الّا ثلاثة اذ كما الحكم الصّريحىّ التّعليقىّ الوضعيّ ح يرجع إلى الاحكام التّكليفيّة ضمنا فسببية الدّلوك للصّلاة فى قوّة وجوبها عنده و شرطيّة التّطهّر للصّلاة فى قوّة وجوبه فيها او حرمتها من دونه و مانعيّة النّجاسة فى قوّة حرمة الصّلاة معها او وجوب ازالتها حالة التلبس بها و كون الاجماع حجّة فى قوّة وجوب العمل بمقتضاه فكذلك بعض الاحكام التّكليفيّة الصّريحيّة يرجع بعضها إلى بعض اخر منها فوجوب الفعل فى قوّة حرمة تركه و حرمته فى قوّة
السبع الشداد، ص: 36
وجوب تركه و استحبابه فى قوّة كراهة تركه و كراهته فى قوّة استحباب تركه فالاحكام اذا الاباحة و الوجوب او الحرمة و النّدب او الكراهة و ان كان المعتبر هو الحكم الصّريح لا غير كانت الاحكام ثمانية عند من لا يعتبر من الخطابات الوضعيّة الا السّببيّة و الشّرطيّة و المانعيّة و اكثر حسب تكثّر الاحكام الوضعيّة عند من يزيد فى خطاب الوضع العزيمة و الرخصة و الصّحة و البطلان او التّقدير و الحجّة ايضا و هذا الشّك ممّا لم يقع إليّ فيما بلغنى انّ احدا من العلماء تعرض لحلّه إلى زمننا هذا و نحن نقول استعانة باللَّه وحده انّ الحقّ ما اختاره المحصّلون انّ المعنى بالحكم فى مقام التّقسيم انّما هو الاعمّ من الصّريح و الضمنىّ و ان كان لا يعنى به فى مقام التّحديد الّا الصّريحي و لذلك زيد فى التّعريف او الوضع و الشّكّ مفتك بالفرق بين الحكم الوضعيّ التعليقى كالسّببيّة بالقياس إلى حكم ما تكليفىّ كالوجوب و بين الحكم الاقتضائى التّكليفى كالوجوب بالنّسبة إلى حكم اخر تكليفىّ ايضا كالحرمة فاعلمن انه فرقان ما بيّن غير طفيف بين ما للشيء في قوّته و منحل و راجع اليه و هو مضمّن فيه غير خارج عنه و عن حاشيتى عقد الحكم به و بين ما هو خارج عن الشيء لازم له لا مضمن فيه و في حاشيتي عقد الحكم به و لا الشيء منحل و لا راجع اليه بل انّما ملزوم له و مستلزم إيّاه لا غير و اذن فاحكم انّ
السبع الشداد، ص: 37
سببية الدّلوك لوجوب الصّلاة الّتى هى من الاحكام التعليقيّة فى قوّة وجوب الصّلاة عند الدّلوك الّذى هو من الاحكام التّكليفيّة و راجعة هى اليه اذ متعلّق الحكمين فى الصّورتين فعل واحد بعينه من افعال المكلّفين و هو الصّلاة و حاشيتا العقد فى احد الحكمين كقولنا الصّلاة واجبة عند الدّلوك غير خارجتين عن حاشيتى العقد فى الحكم الاخر كقولنا الدّلوك سبب لوجوب الصّلاة بل انّما المتغيّر و المتبدّل مفاد العقد و نفس الحكم و التّرتيب و خصوص الموضوع و المحمول لا غير و امّا الامر فى وجوب فعل الصّلاة بالنّسبة إلى حرمة تركها و هما حكمان من الاحكام التّكليفيّة فعلى خلاف تلك الشّاكلة اذ ليس الحكمان متعلّقهما واحدا بعينه بل متعلّق الوجوب فعل الصّلاة و متعلّق الحرمة تركها و هما موضوعان مختلفان و لا حاشيتا العقد فى احد الحكمين كقولنا فعل الصّلاة واجب مضمّنتان فى حاشيتى العقد فى الحكم الاخر كقولنا ترك الصّلاة حرام حتى يكون انّما المختلف نفس الحكم و مفاد العقد و خصوص التّرتيب و الوضع و الحمل لا غير بل حاشيتا احد العقدين مباينتان لحاشيتي العقد الاخر مطلقا و متعلّق احد الحكمين و الخطابين من افعال المكلّفين مباين لمتعلق الحكم الاخر و الخطاب الاخر
السبع الشداد، ص: 38
رأسا نعم احد ذينك الحكمين المتباينين بحسب نفس الحكم التّكليفى و بحسب متعلّق الحكم جميعا مستلزم لذلك الحكم الاخر و كذلك احد ذينك العقدين المتباينين بحسب مفاد الحكم العقدى و بحسب حاشيتى العقد و الوضع و الحمل مطلقا مستلزم لذلك العقد الاخر بناء على انّ الامر بالشّيء يستلزم النّهى عن ضدّه العام و هو تركه بتّة فقد بان لك انّ هذا التّشكيك مغالطة من باب اخذ ما مع الشّيء مكان ما فى الشّيء و من جملة الشّيء و منه الشّيء و من باب اخذ لازم الشّيء مكان الدّاخل فيه و من باب اخذ ما يلزم من الشّيء مكان ما ينحلّ و يرجع اليه الشّيء
زبدة الأصول، المتن، ص: 105
فصل [في حدّ الحكم]
«الغزّاليّ»: الحكم: خطاب اللّه المتعلّق بافعال المكلّفين «1».
و قد ينقض عكسه بالخواصّ من جهتين. و طرده، بقوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «2»؛ بل، انطباق الحدّ عليها اظهر؛ لمشاركتها له في الاشعار الظاهريّ بالعمومين؛ و لذلك استدلّوا بها على خلق الاعمال.
و قد يذبّ عن العكس: ب: انّ التعلّق بالغير في التخصيص ملحوظ؛ و الجنسيّة من الجمعين مقصودة. و عن الطرد: ب: انّ حيثيّة التكليف معتبرة.
و يخدشه التعدّد، و التجوّز، و اعتبارها في الآية، لتضمّنها الانكار عليهم في عبادة ما ينحتون.
ثمّ، سوقها ظاهر في ارادة خلقه- سبحانه- جوهر الصنم «3»- و هو المعمول- فلا
__________________________________________________
(1). المستصفى 1/ 55.
(2). الصافّات/ 96.
(3). م 2:+ نحو: الحجر و الخشب.
زبدة الأصول، المتن، ص: 106
يتمّ استدلالهم بها على خلق العمل.
و دعوى «البيضاويّ» «1» الاولويّة، غير مسموعة. و التوقّف لا يوجبها؛ كما في القدرة و المقدور.
خطاب اللّه: الخطاب- لغة- توجيه الكلام نحو الغير للافهام. و قد صرّح «الآمديّ» «2» و غيره «3» من علماء الاصول بنقله الى: الكلام الموجّه. فقول «الأبهريّ» «4»: «لا حاجة الى النقل» «5»، لا وجه له. و انتحال بعض المتأخّرين كلامه- مع فساده- و الردّ به على «المحقّق الشريف»، عجيب.
و قد ينقض عكسه بالخواصّ من جهتين: ك: وجوب قيام الليل عليه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- «6» و الجهتان: وحدة الفعل، و وحدة المكلّف. بل، بغير الخواصّ- ايضا- ك: الصلاة، و الصوم، و الحجّ؛ اذ لم يتعلّق الخطاب فيها بكلّ الافعال؛ كما هو مدلول الجمع المضاف؛ لكنّ النقض- هنا- من جهة واحدة؛ لا من جهتين.
بقوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «7»: لنا في هذه الآية كلام طويل
__________________________________________________
(1). تفسير البيضاويّ 3/ 464.
(2). الاحكام في الاصول الاحكام 1/ 136.
(3). البحر المحيط في اصول الفقه 1/ 126، مناهج العقول 1/ 41، شرح مختصر المنتهى 1/ 79.
(4). سيف الدين احمد الأبهريّ؛ من اعلام القرن الثامن الهجريّ. من مصنفاته: حاشية على شرح مختصر المنتهى.
(5). حاشية الابهريّ على شرح مختصر المنتهى/ الورقة 107/ الف.
(6). د، و:- و سلم.
(7). الصافّات/ 96.
زبدة الأصول، المتن، ص: 107
اوردناه في حواشي شرح «العضديّ»؛ فليطلب هناك «1».
في الاشعار الظاهريّ: انّما قال: «الظاهريّ»؛ لانّ اشعار ضمير الجمع بالعموم، انّما هو بحسب الظاهر.
بالعمومين: اي: عموم المخاطبين و عموم الموصول.
و قد يذبّ: الذبّ عن العكس من خواصّنا؛ و كذا خدشه. و الذبّ عن الطرد من خواصّ «العضديّ» «2»، و خدشه من خواصّنا.
ب: انّ التعلّق بالغير في التخصيص: اي: تخصيص النبي صلّى اللّه عليه و آله ملحوظ؛ فيكون الخطاب معلّقا بكلّ المكلّفين؛ لكن بالنسبة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله اثباتا، و بالنسبة الى الغير نفيا؛ لكن انّما يدفع النقض من جهة عموم المكلّفين؛ و بقي النقض من جهة عموم الافعال؛ فيدفع بقصد الجنسيّة.
ملحوظ: اذ ملاحظة الاغيار في الخاصّة مأخوذة؛ فصحّ التعلّق بالمكلّفين.
و اندفع النقض بها من احدى الجهتين «3».
و الجنسيّة من الجمعين مقصودة: كما قالوه في نحو: «زيد يركب الخيل»؛ و في قوله- تعالى-: «وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ!» «4»؛ و المراد: «جبرئيل» عليه السّلام «5»؛ فاندفع النقض بالخاصّة من الجهة الاخرى.
و يخدشه: اي: يخدش الذبّ عن العكس و الطرد.
__________________________________________________
(1). مع بذل جهدي- الى الآن- لم نعثر على نسخة منها.
(2). شرح مختصر المنتهى 1/ 80- 79.
(3). و: الحيثيّتين.
(4). آل عمران/ 45.
(5). د:- عليه السّلام.
زبدة الأصول، المتن، ص: 108
التعدّد: اي: تعدّد الحكم في الخواصّ. ففي اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله «1» بالزيادة على الاربع حكمان: اباحة بالنسبة اليه، و تحريم بالنسبة الى الامّة؛ فعاد نقض العكس بها.
التجوّز: اذ تعريف الجمع للاستغراق؛ و حمله على الجنس، تجوّز.
و اعتبارها في الآية: هذا خدش الذبّ عن الطرد. و الاوّلان خدشة عن العكس.
في عبادة ما ينحتون: و الآية حكاية عن قول «ابراهيم» عليه السّلام «2» لقومه بعد كسره «3» اصنامهم. و هي كذا: «قالَ: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «4».
سوقها ظاهر: هذا الكلام مذكور بالعرض.
و دعوى «البيضاويّ»: قال في تفسير قوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «5»: «اي: و ما تعملونه. فانّ جوهرها بخلقه، و شكلها؛ و ان كان بفعلهم.
و لذلك جعل «6» من افعالهم. فباقداره ايّاهم عليه و خلقه ما يتوقّف عليه فعلهم من الدواعي و العدد «7». او عملكم؛ بمعنى: معمولكم، ليطابق و ما تنحتون؛ أو أنّه بمعنى:
الحدث. فانّ فعلهم اذا كان بخلق اللّه- [تعالى]- فيهم، كان مفعولهم المتوقّف على فعلهم اولى بذلك. و بهذا المعنى تمسّك اصحابنا على خلق الاعمال. و لهم ان
__________________________________________________
(1). م 2: عليه السّلام.
(2). و: على نبيّنا و آله و عليه السلام.
(3). م 1، م 2: كسر.
(4). الصافّات/ 96- 95.
(5). الصافّات/ 96.
(6). م 2:+ اللّه.
(7). د، م 1، م 2: القدر عليه.
زبدة الأصول، المتن، ص: 109
يرجّحوه على الاوّلين، لما «1» فيهما من حذف او مجاز» «2»؛ انتهى كلامه. و من تدبّره، ظهر عليه ما فيه.
و التوقّف: و هو انّه اذا كان فعلهم مخلوقا له- تعالى- يكون ما يتوقّف على قولهم مخلوقا بالطريق الاولى؛ فيكون «ابراهيم»- على نبيّنا [و آله] و عليه السلام- اراد ان يبيّن لقومه مخلوقيّة الصنم للّه- تعالى- بطريق اولى. و قد طوّل «صاحب الكشف» التشنيع على الاشاعرة في استدلالهم بهذه الآية على خلق الاعمال «3». و غرض «البيضاويّ»، الردّ عليه؛ بل، و على «الفخريّ»- ايضا- حيث قال: «الاولى ترك الاستدلال بهذه الآية على ذلك المطلب «4»» «5».
كما في القدرة و المقدور: فانّ القدرة بخلق اللّه. و المقدور الموقوف عليها يمكن ان يكون بعلمنا؛ ك: الاحراق؛ فانّه موقوف على الالقاء في النار، مع انّ فاعل الاحراق هو النار.
__________________________________________________
(1). م 1، م 2: بما.
(2). تفسير البيضاويّ 3/ 464.
(3). الكشّاف 4/ 52- 51.
(4). في المصدر: «الاولى ترك الاستدلال بهذه الآية؛ و اللّه اعلم».
(5). التفسير الكبير 26/ 150.
زبدة الأصول، المتن، ص: 110
تتمّة
لو نقض طرد الحدّ بعد تحييثه باخيرتي «الزلزال»، لكان اظهر؛ لصراحة الوعد و الوعيد، و ارادة المكلّفين بذلك الخطاب. ان اصلحت الطرد، افسدت العكس بالاباحة؛ كزيادة الاقتضاء و التخيير.
ان حكم بحكميّة الوضعيّ، فيضاف: «او الوضع».
و من ارجعه اليهما، اسقطه، و لم يخصّ الاوّل بالصريح؛ بل، عمّم بما يشمل الضمنيّ؛ فيرد عليه النقض بكثير من الآيات؛ كما يرد على المخصّص، النقض بآية:
«وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً» «1»؛ لصراحتها في التحريم.
و الحقّ ادراجها في الحكم. و الإجماع على خلافه لم يثبت.
باخيرتي الزلزال: اي «2» الآيتين الاخيرتين من سورة «الزلزال»؛ و هما قوله- تعالى- «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً، يَرَهُ. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا، يَرَهُ» «3»؛ الآية.
__________________________________________________
(1). النساء/ 93.
(2). م 1، م 2:- اي.
(3). الزلزلة/ 8- 7.
زبدة الأصول، المتن، ص: 111
بذلك الخطاب: لاخراج تلك الآيتين، و أشباههما.
ان اصلحت الطرد، افسدت العكس: اي: فتخرج الآيتان. و انّما عبّر بلفظة «ان»؛ لانّه يمكن ان يقال: انّ فيهما تكليفا بعمل الخير و اجتناب الشرّ؛ فلم يخرجا.
بالاباحة: اذ «1» لا تكليف بخطابها.
كزيادة الاقتضاء و التخيير: اي: كما انّ زيادة الاقتضاء و التخيير في التعريف يفسده؛ بعكسه بخروج الحكم الوضعيّ، فيحتاج الى قولنا: «او الوضع».
فيضاف: ليستقيم العكس.
و من ارجعه اليهما: اي: الى الاباحة و التخيير.
اسقطه: اي اسقط لفظ: «او الوضع».
و لم يخصّ الاوّل: اي: الاقتضاء.
فيرد عليه النقض: اي: على من زعم.
كما يرد على المخصّص، النقض: الّذي خصّص الاقتضاء بالصريح.
بآية: «و من يقتل مؤمنا»: الآية هكذا: «و من يقتل مؤمنا متعمّدا، فجزاؤه جهنّم خالدا فيها» «2»؛ الآية.
و الحقّ ادراجها: اي: الآية الدالّة على الاقتضاء؛ سواء كان صريحا، او ضمنيّا؛ فاندفع النقض.
و الاجماع على خلافه: اي: على خلاف الادراج.
لم يثبت: اي: عدم كون هذه الآيات حكما.
__________________________________________________
(1). م 1، م 2: و.
(2). النساء/ 93.
الوافية في أصول الفقه، ص: 200
القسم السادس: استصحاب حال الشرع
، و هو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت، أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت، و في غير تلك الحال، فيقال: إن الأمر الفلاني قد كان، و لم يعلم عدمه، و كل ما هو كذلك فهو باق.
و قد اختلف فيه العامة بينهم، فنفته جماعة و أثبتته أخرى «1»، و اختاره منا العلامة رحمه الله «2»، و نسب اختياره إلى الشيخ المفيد أيضا «3» و سيجيء، و أنكره المرتضى «4»، و الأكثر.
حجة المثبتين: أن ما تحقق وجوده، و لم يظن طرو مزيل له، فإنه يحصل الظن ببقائه و بأنه ثبت الإجماع على اعتباره في بعض المسائل؛ فيكون حجة.
و فيه: أنه بناء على حجية مطلق الظن، و هو عندنا غير ثابت، و المسائل التي ذكروها ليست مما نحن فيه، كما ستطلع عليه.
و حجة النافين: أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة المنصوبة «5» من قبل الشارع، و الاستصحاب ليس منها.
و لتحقيق المقام لا بد من إيراد كلام يتضح به حقيقة الحال فنقول:
الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام:
__________________________________________________
(1) فهو حجة عند الشافعي و المزني و الصيرفي و الغزالي و الآمدي و البيضاوي، خلافا للحنفية و جماعة من المتكلمين كأبي الحسين و غيره، فانه لا يثبت به حكم شرعي عندهم، نعم تمسكوا به في النفي الأصلي. انظر: المستصفى: 1- 217، الإحكام: 4- 367، شرح العضد:
2- 453، الإبهاج: 3- 168، شرح البدخشي: 3- 176.
(2) تهذيب الوصول: 105.
(3) معالم الدين: 231.
(4) الذريعة: 2- 829- 832.
(5) في ط: المنصوصة.
الوافية في أصول الفقه، ص: 201
الأول و الثاني: الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل، و هي الواجب و المندوب.
و الثالث و الرابع: الاقتضائية المطلوب فيها الكف و الترك، و هي الحرام و المكروه.
و الخامس: الأحكام التخييرية الدالة على الإباحة.
و السادس: الأحكام الوضعية، كالحكم على الشيء بأنه سبب لأمر، أو شرط له أو مانع عنه. و المضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي- مما لا يضر فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا! فإذا ورد أمر بطلب شيء، فلا يخلو إما أن يكون موقتا، أو لا.
و على الأول: يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت، ثابتا بذلك الأمر؛ فالتمسك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني- بالنص، لا بالثبوت في الزمان الأول، حتى يكون استصحابا، و هو ظاهر.
و على الثاني: أيضا كذلك، إن قلنا بإفادة الأمر التكرار، و إلا فذمة المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان، و نسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كل جزء منها، سواء قلنا بأن الأمر للفور، أو لا.
و التوهم بأن الأمر إذا كان للفور، يكون من قبيل المؤقت المضيق؛ اشتباه غير مخفي على المتأمل.
فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.
و لا يمكن أن يقال: بأن إثبات الحكم في القسم الأول فيما بعد وقته- من الاستصحاب؛ فإن هذا لم يقل به أحد، و لا يجوز إجماعا.
و كذا الكلام في النهي، بل هو أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه، لأن مطلقه لا يفيد التكرار.
الوافية في أصول الفقه، ص: 202
و التخييري أيضا كذلك.
فالأحكام «1» الخمسة:- المجردة عن الأحكام الوضعية- لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب.
و أما الأحكام الوضعية: فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة- كالدلوك لوجوب الظهر، و الكسوف لوجوب صلاته، و الزلزلة لصلاتها، و الإيجاب و القبول لإباحة التصرفات و الاستمتاعات في الملك و النكاح، و فيه لتحريم أم الزوجة «2»، و الحيض و النفاس لتحريم الصوم و الصلاة، إلى غير ذلك- فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب، هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب و القبول، فإن سببيته على نحو خاص، و هو الدوام إلى أن يتحقق مزيل، و كذا الزلزلة؛ أو في وقت معين، كالدلوك و نحوه مما لم يكن السبب وقتا، و كالكسوف و الحيض و نحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم، فإن السببية في هذه الأشياء على نحو آخر، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة، و جميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء، فإن ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة.
و كذا الكلام في الشرط و المانع.
فظهر مما مر: أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الأحكام الوضعية- أعني: الأسباب، و الشرائط، و الموانع، للأحكام الخمسة- من حيث أنها كذلك [1]، و وقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها، كما يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة، إذا زال تغيره من قبل نفسه: بأنه يجب الاجتناب
__________________________________________________
[1] قيد الحيثية لجواز ان يكون حكم من الأحكام الخمسة سببا أو شرطا أو مانعا لآخر منها. (منه رحمه الله).
__________________________________________________
(1) في أ و ط: و الأحكام، و في ب: فان الأحكام.
(2) في ط: و كذا الإيجاب و القبول لتحريم أم الزوجة.
الوافية في أصول الفقه، ص: 203
عنه «1» في الصلاة، لوجوبه قبل زوال تغيره، فإن مرجعه إلى: أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره، فتكون كذلك بعده، و يقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده، أي: كان مكلفا و مأمورا بالصلاة بتيممه قبله، فكذا بعده، فإن مرجعه إلى: أنه كان متطهرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده، و الطهارة من الشروط.
فالحق- مع قطع النظر عن الروايات-: عدم حجية الاستصحاب، لأن العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت، لا يقتضي العلم بل و لا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى، فكيف يكون الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟! فالذي يقتضيه النظر، بدون ملاحظة الروايات: أنه إذا علم تحقق العلامة الوضعية، تعلق الحكم بالمكلف، و إذا زال ذلك العلم، بطرو شك- بل و ظن أيضا «2»- يتوقف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أولا.
إلا أن الظاهر من الأخبار: أنه إذا علم وجود شيء، فإنه يحكم به، حتى يعلم زواله
الفوائد الحائرية، ص: 95
الفائدة الثانية [في دفع توهّمين]
ربما توهّم بعض أنّ كلّ شيء يجب أخذه من الشّارع و وظيفته توقيفيّ موقوف على نصّه.
و توهّم بعض آخر: أنّه ربّما يرجع في بعض الأحكام الشرعيّة إلى العرف. و فساد الوهمين واضح.
و عند المجتهدين و الأخباريين أنّ الأحكام الشّرعيّة بأسرها توقيفيّة موقوفة على نصّه: سواء كانت في العبادات أو المعاملات، و سواء كانت الأحكام الخمسة، أو الوضعيّة مثل: النّجاسة، و الطّهارة، و الصّحة، و الفساد، و كون شيء جزء شيء، أو شرط شيء، أو مانع شيء، و أمثال ذلك، و سواء كانت ممّا يستقلّ بإدراكها العقل أم لا، لأنّ مجرّد إدراكه لا يجعلها حكما شرعيّا ما لم يثبت أنّ الشّارع حكم بها. لكن فقهاء الشّيعة و المعتزلة لمّا قالوا
الفوائد الحائرية، ص: 96
بالملازمة بين حكم العقل و الشّرع و كون الثاني كاشفا عن الأوّل، و بالعكس جعلوا حكم العقل من جملة أدلّة حكم الشّرع لا نفسه.
الرسائل الأصولية، متن، ص: 279
و أمّا نفس الأحكام و موضوعاتها إذا كانت عبادة، فهي توقيفيّة موقوفة على بيان الشرع و وظيفة الشارع لا غير.
و معلوم أنّ النجاسة الشرعيّة من جملة نفس الحكم الشّرعي؛ لأنّها من الأحكام الوضعيّة الشرعية كما لا يخفى.
فرائد الأصول، ج3، ص: 122
[كلام الفاضل التوني:]
فنقول: الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام:
الأوّل و الثاني: الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل، و هي الواجب و المندوب.
و الثالث و الرابع: الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الترك، و هي الحرام و المكروه.
و الخامس: الأحكام التخييريّة الدالّة على الإباحة.
و السادس: الأحكام الوضعيّة، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر أو شرط له أو مانع له. و المضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعيّ، ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا، فإذا ورد أمر بطلب شيء، فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا.
و على الأوّل، يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر، فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا، و هو ظاهر.
و على الثاني، أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار، و إلّا فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان. و نسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.
و التوهّم: بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق، اشتباه غير خفيّ على المتأمّل.
فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.
فرائد الأصول، ج3، ص: 123
و لا يمكن أن يقال: إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب؛ فإنّ هذا لم يقل به أحد، و لا يجوز إجماعا.
و كذا الكلام في النهي، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه؛ لأنّ مطلقه يفيد التكرار.
و التخييري أيضا كذلك.
فالأحكام التكليفيّة الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب.
و أمّا الأحكام الوضعيّة، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة- كالدلوك لوجوب الظهر، و الكسوف لوجوب صلاته، و الزلزلة لصلاتها، و الإيجاب و القبول لإباحة التصرّفات و الاستمتاعات في الملك و النكاح، و فيه لتحريم أمّ الزوجة، و الحيض و النفاس لتحريم الصوم و الصلاة، إلى غير ذلك- فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب: هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب و القبول؛ فإنّ سببيّته على نحو خاصّ، و هو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل، و كذا الزلزلة، أو في وقت معيّن؟ كالدلوك و نحوه ممّا لم يكن السبب وقتا، و كالكسوف و الحيض و نحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة.
و جميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء؛ فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة. و كذا الكلام في الشرط و المانع.
فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في
فرائد الأصول، ج3، ص: 124
الأحكام الوضعيّة- أعني، الأسباب و الشرائط و الموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك- و وقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه، بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة؛ لوجوبه قبل زوال تغيّره، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره، فكذلك تكون بعده.
و يقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده- أي: كان مكلّفا و مأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله، فكذا بعده- فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده. و الطهارة من الشروط.
فالحقّ- مع قطع النظر عن الروايات-: عدم حجّية الاستصحاب؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل و لا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى. فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!
فالذي يقتضيه النظر- بدون ملاحظة الروايات-: أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف، و إذا زال ذلك العلم بطروّ الشكّ- بل الظنّ أيضا- يتوقّف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أوّلا، إلّا أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء، فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله «1». انتهى كلامه، رفع مقامه.
و في كلامه أنظار يتوقّف بيانها على ذكر كلّ فقرة هي مورد للنظر، ثمّ توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر، فنقول:
__________________________________________________
(1) الوافية: 200- 203.
فرائد الأصول، ج3، ص: 125
قوله أوّلا: «و المضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعيّ داخل في الحكم الشرعيّ، لا يضرّ فيما نحن بصدده».
فيه: أنّ المنع المذكور لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره- و هو اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعيّة، أعني نفس السبب و الشرط و المانع- و إنّما يضرّ «1» في التفصيل بين الأحكام الوضعيّة- أعني سببيّة السبب و شرطيّة الشرط- و الأحكام التكليفيّة.
و كيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعيّ حكما مستقلا، و تسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف، تابع له حدوثا و بقاء؟! و هل يعقل التفصيل مع هذا المنع؟!
[الكلام في الأحكام الوضعيّة] «2»
[هل الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول، أو لا؟:]
ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعيّ حكم مستقلّ مجعول- كما اشتهر في ألسنة جماعة «3»- أو لا، و إنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول:
__________________________________________________
(1) كذا في (ص)، و في غيرها بدل «و إنّما يضر»: «لا».
(2) العنوان منّا.
(3) منهم: العلّامة في النهاية (مخطوط): 9، و الشهيد الثاني في تمهيد القواعد:
37، و الشيخ البهائي في الزبدة: 30، و الفاضل التوني في الوافية: 202، و الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة: 95، و السيد بحر العلوم في فوائده: 3، و كذا يظهر من القوانين 2: 54 و 1: 100، و هداية المسترشدين: 3، و اشارات الاصول: 6، و الفصول: 2.
فرائد الأصول، ج3، ص: 126
المشهور «1»- كما في شرح الزبدة «2»- بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين- كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين «3»-: أنّ الخطاب الوضعيّ مرجعه إلى الخطاب الشرعيّ، و أنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء، فمعنى قولنا:
«إتلاف الصبيّ سبب لضمانه»، أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ و العقل و اليسار و غيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «اغرم ما أتلفته في حال صغرك»، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان، و يقال: إنّه ضامن، بمعنى أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف.
و لم يدّع أحد إرجاع الحكم الوضعيّ إلى التكليف «4» الفعليّ المنجّز حال استناد الحكم الوضعيّ إلى الشخص، حتّى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين «5»: من أنّه قد يتحقّق الحكم الوضعيّ في مورد غير قابل للحكم التكليفي، كالصبيّ و النائم و شبههما.
__________________________________________________
(1) من جملة المشهور: الشهيد الأوّل في الذكرى 1: 40، و القواعد و الفوائد 1:
30، و المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 و ستأتي عبارته، و شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الاصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة و الوافية كما اشير إليهما، و غيرهم.
(2) غاية المأمول في شرح زبدة الاصول؛ للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 350.
(4) في (ت) و (ظ): «التكليفي».
(5) هو المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول: 7.
فرائد الأصول، ج3، ص: 127
و كذا الكلام في غير السبب؛ فإنّ شرطيّة الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، و كذا مانعيّة النجاسة ليست إلّا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، و كذا الجزئيّة منتزعة من الأمر بالمركّب.
و العجب ممّن ادّعى «1» بداهة بطلان ما ذكرنا، مع ما عرفت من أنّه المشهور و الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين. فقال قدّس سرّه في شرحه على الوافية- تعريضا على السيّد الصدر-:
[كلام السيد الكاظمي:]
و أمّا من زعم أنّ الحكم الوضعيّ عين الحكم التكليفي- على ما هو ظاهر قولهم: «إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء»- فبطلانه غنيّ عن البيان؛ إذ الفرق بين الوضع و التكليف ممّا لا يخفى على من له أدنى مسكة، و التكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع، و الكلام إنّما هو في نفس الوضع و الجعل و التقرير.
و بالجملة: فقول الشارع: «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» و «الحيض مانع منها»، خطاب وضعيّ و إن استتبع تكليفا و هو إيجاب الصلاة عند الزوال و تحريمها عند الحيض، كما أنّ قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «2»، و قوله: «دعي الصلاة أيّام أقرائك» «3»، خطاب تكليفيّ و إن استتبع وضعا، و هو كون الدلوك سببا و الإقراء مانعا.
__________________________________________________
(1) و هو المحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي.
(2) الإسراء: 78.
(3) الوسائل 2: 546، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.
فرائد الأصول، ج3، ص: 128
و الحاصل: أنّ هناك أمرين متباينين، كلّ منهما فرد للحكم، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته و احتسابه في عداد الأحكام. انتهى كلامه، رفع مقامه «1».
[مناقشة كلام السيد الكاظمي:]
أقول: لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفيّ و وضعيّ بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا؛ فإنّه إذا قال لعبده: «أكرم زيدا إن جاءك»، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشاءين و جعل أمرين:
أحدهما: وجوب إكرام زيد عند مجيئه، و الآخر: كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه؟ أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله «2» و لا إلى بيان مخالف لبيانه؛ و لهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء «سببيّة الدلوك» و «مانعيّة الحيض»، و لم يرد من الشارع إلّا إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل، و طلب تركها عند الثاني؟
فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى، كيف! و هما محمولان مختلفا الموضوع.
و إن أراد كونهما مجعولين بجعلين، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.
و كذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد؛ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببيّة و المانعيّة في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببيّة و المشروطيّة و الممنوعيّة، مع أنّ قول الشارع: «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» ليس جعلا للإيجاب استتباعا- كما ذكره- بل هو
__________________________________________________
(1) الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 243.
(2) في (ص) زيادة: «الأوّلي».
فرائد الأصول، ج3، ص: 129
إخبار عن تحقّق الوجوب عند الدلوك.
هذا كلّه، مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببيّة مجعولة فيما نحن فيه حتّى يتكلّم أنّه بجعل مستقلّ أو لا؛ فإنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب- خصوصا عند من لا يرى (كالأشاعرة) الأحكام منوطة بالمصالح و المفاسد الموجودة في الأفعال- إلّا إنشاء الوجوب عند الدلوك، و إلّا فالسببيّة القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته، بأن «1» يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله، و لو كانت لم تكن مجعولة من الشارع، و لا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة و لا «2» الخصوصيّات المصنّفة و المشخّصة.
هذا كلّه في السبب و الشرط و المانع و الجزء.
[الكلام في الصحّة و الفساد:]
و أمّا الصحّة و الفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به و مخالفته له، و من المعلوم أنّ هاتين- الموافقة و المخالفة- ليستا بجعل جاعل.
و أمّا في المعاملات، فهما: ترتّب الأثر عليها و عدمه، فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة لأثرها و عدم سببيّة تلك «3».
فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفيّ- كالبيع لإباحة التصرّفات، و النكاح لإباحة الاستمتاعات- فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببيّة و أخواتها.
__________________________________________________
(1) في (ه) بدل «بأن»: «بل».
(2) في (ص) شطب على «لا».
(3) في (ت) و (ه) زيادة: «له».
فرائد الأصول، ج3، ص: 130
و إن لوحظت سببا لأمر آخر- كسببيّة البيع للملكيّة، و النكاح للزوجيّة، و العتق للحريّة، و سببيّة الغسل للطهارة- فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعيّة. نعم، الحكم بثبوتها شرعيّ. و حقائقها إمّا امور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفيّة- كما يقال: الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به و بعوضه، و الطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل و الشرب و الصلاة، نقيض النجاسة- و إمّا امور واقعيّة كشف عنها الشارع.
فأسبابها على الأوّل- في الحقيقة- أسباب للتكاليف، فتصير سببيّة تلك الأسباب «1» كمسبّباتها امورا انتزاعيّة.
و على الثاني، يكون أسبابها كنفس المسبّبات امورا واقعيّة مكشوفا عنها ببيان الشارع.
و على التقديرين فلا جعل في سببيّة هذه الأسباب.
و ممّا ذكرنا تعرف الحال في غير المعاملات من أسباب هذه الامور، كسببيّة الغليان في العصير للنجاسة، و كالملاقاة لها، و السبي للرقّية، و التنكيل للحريّة، و الرضاع لانفساخ الزوجيّة، و غير ذلك. فافهم و تأمّل في المقام؛ فإنّه من مزالّ الأقدام.
تقریرات آیه الله المجدد الشیرازی، ج 2، ص 235
أقول: هذا مضافا إلى عدم استقامة الكلام في الشرعية أيضا، لما حقّقنا في محلّه: أنّ الأحكام الوضعيّة مما لا يقبل الجعل، بل إنّما هي أمور واقعية قد كشف عنها المطلع عليها، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أنّ الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة.
لا الجعل، فالشرعية ما يكون الحاكم بمقدّمته الشارع، و العقلية ما يكون الحاكم فيها العقل، و كذلك العادية ما يكون الحاكم فيها العادة
کفایة الاصول، ص 399
و أنه حكم مستقل بالجعل كالتكليف أو منتزع عنه و تابع له في الجعل أو فيه تفصيل حتى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف و الوضع من التفصيل.
فنقول و بالله الاستعانة.
لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف و الوضع مفهوما و اختلافهما في الجملة موردا لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية و مفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة و المباينة.
كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي و الوضعي بداهة أن الحكم و إن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه و لم يكد يصح إطلاقه على الوضع إلا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما و صحة إطلاقه عليه بهذا المعنى مما «2» لا يكاد ينكر كما لا يخفى و يشهد به كثرة
__________________________________________________
(1) التهذيب 1/ 285، الباب 12 الحديث 119.
(2) في «أ»: كان مما لا يكاد ينكر.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 400
إطلاق الحكم عليه في كلماتهم و الالتزام بالتجوز فيه كما ترى.
و كذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة كالشرطية و السببية و المانعية كما هو المحكي عن العلامة أو مع زيادة العلية و العلامية أو مع زيادة الصحة و البطلان و العزيمة و الرخصة أو زيادة غير ذلك كما هو المحكي عن غيره «1» أو ليس بمحصور بل كلما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه و موضوعه أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك و إنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه أو غير مجعول كذلك بل إنما هو منتزع عن التكليف و مجعول بتبعه و بجعله.
و التحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء
. منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا لا استقلالا و لا تبعا و إن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.
و منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف.
و منها ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه و تبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه و إن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه و جعله و كون التكليف من آثاره و أحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.
أما النحو الأول [ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل إطلاقا]
فهو كالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية لما هو
__________________________________________________
(1) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام/ 85، في حقيقة الحكم الشرعي و أقسامه.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 401
سبب التكليف و شرطه و مانعه و رافعه حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا حدوثا أو ارتفاعا كما أن اتصافها بها ليس إلا لأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا للزوم أن يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص به كانت مؤثرة «1» في معلولها لا في غيره و لا غيرها فيه و إلا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء و تلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين و بمثل قول دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها و أن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها و معه تكون واجبة لا محالة و إن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.
و منه انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.
نعم لا بأس باتصافه بها عناية و إطلاق السبب عليه مجازا كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده.
فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية و سائر ما لأجزاء العلة للتكليف إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر فتدبر جيدا.
و أما النحو الثاني [ما لا يكاد يترق إليه الجعل الاستقلالي دون التبعي]
فهو كالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية لما هو جزء المكلف به و شرطه و مانعه و قاطعه حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي و لا يكاد يتصف شيء بذلك أي كونه جزءا أو شرطا
__________________________________________________
(1) في «أ»: كان مؤثرا، و في «ب»: كانت مؤثرا.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 402
للمأمور به إلا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر و ما لم يتعلق بها الأمر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية و إن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية و جعل الماهية و اختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها فتصورها بأجزائها و قيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له و بدون الأمر به لا اتصاف بها أصلا و إن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة كما لا يخفى.
و أما النحو الثالث [ما يصح جعله استقلالا و تبعا للتكليف]
فهو ك الحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية و الزوجية و الملكية إلى غير ذلك حيث إنها و إن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها كما قيل و من جعلها بإنشاء أنفسها إلا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى أو من بيده الأمر من قبله جل و علا لها بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها كما يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية و الزوجية و الطلاق و العتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف و الآثار و لو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلا بملاحظتها و للزم أن لا يقع ما قصد و وقع ما لم يقصد.
كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات و لا الزوجية من جواز الوطء و هكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود و الإيقاعات.
فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف لا مجعولة بتبعه و منتزعة عنه.
وهم و دفع أما الوهم «1» فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات
__________________________________________________
(1) انظر شرح التجريد 216، المسألة الثامنة في الملك.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 403
الحاصلة بمجرد الجعل و الإنشاء التي تكون من خارج المحمول حيث ليس بحذائها في الخارج شيء و هي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون بهذا السبب بل بأسباب أخر كالتعمم و التقمص و التنعل فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك و أين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه.
و أما الدفع فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك و يسمى بالجدة أيضا و على اختصاص شيء بشيء خاص و هو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه ككون العالم ملكا للباري جل ذكره أو من جهة الاستعمال و التصرف فيه ككون الفرس لزيد ب ركوبه له و سائر تصرفاته فيه أو من جهة إنشائه و العقد مع من اختياره بيده كملك الأراضي و العقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا و عرفا.
فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا غير الملك الذي هو اختصاص خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد أو غير اختياري كالإرث و نحوهما من الأسباب الاختيارية و غيرها ف التوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا و الغفلة عن أنه بالاشتراك بينه و بين الاختصاص الخاص و الإضافة الخاصة الإشراقية كملكه تعالى للعالم أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف و استعمال أو إرث أو عقد أو غيرها «1» من الأعمال فيكون شيء ملكا لأحد بمعنى و لآخر بالمعنى الآخر فتدبر.
إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه من الدخل لعدم كونه حكما شرعيا و لا يترتب عليه أثر شرعي و التكليف و إن كان مترتبا عليه إلا أنه ليس بترتب شرعي فافهم.
__________________________________________________
(1) في «أ»: غيرهما.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 404
و أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل حيث إنه كالتكليف و كذا ما كان مجعولا بالتبع فإن أمر وضعه و رفعه بيد الشارع و لو بتبع منشإ انتزاعه و عدم تسميته حكما شرعيا لو سلم غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا نعم لا مجال لاستصحابه لا ستصحاب سببه و منشإ انتزاعه فافهم.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 104
التفصيل بين الحكم الوضعي و الحكم التكليفي
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق روايات الباب حجية الاستصحاب في الوجودي و العدمي و الموضوع و الحكم و الكلي و الجزئي و غير ذلك من التفاصيل، فلا يليق التعرض للأقوال و التفاصيل في حجية الاستصحاب، و إنّما تعرض الشيخ قدّس سرّه لكثير منها فمن أراد الاطلاع فليراجع الفرائد.
نعم لمّا كان التفصيل بين الشك في المقتضي و غيره، و كذا بين الأحكام التكليفية و الوضعية حاويا لمطالب علمية فقد تعرض المتأخرون عن الشيخ قدّس سرّه لهما تبعا للشيخ قدّس سرّه.
أمّا الأوّل: فقد تقدم.
[ما أفاده الفاضل التوني قدّس سرّه في وجه هذا التفصيل]
و أمّا الثاني: فعمدة ما دعا الشيخ قدّس سرّه «1» و غيره للتعرض له هو بيان الحكم الوضعي، فنقول: إنّه قد نسب إلى الفاضل التوني رحمه اللّه «2» حجية الاستصحاب في الحكم الوضعي دون التكليفي، و محصل ما أفاده بطوله في ذلك هو أنّ الأحكام الشرعية ستة، خمسة منها تكليفية و واحد منها وضعي، أمّا التكليفية: فأربعة منها اقتضائية، و واحدة منها تخييري، أمّا الاقتضائية: فإثنان منها راجعان إلى الفعل و هما الوجوب و الندب، و اثنان راجعان إلى الترك و هما الحرمة و الكراهة، و تسميتها بالاقتضائية واضحة لما فيها من المصلحة و المفسدة المقتضيتين للفعل بقسميه و الترك كذلك، و أمّا التخييري فهو الإباحة بالمعنى الأخص.
و أمّا الحكم الوضعي فهو السببية و الشرطية و المانعية و الجزئية كجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة و الوضوء شرط لها، و السورة جزء لها و النجاسة و الحرير
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 350.
(2) الوافية/ 200.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 105
و غيرهما مانعة للصلاة.
أمّا الأحكام التكليفية فدليلها إمّا يدل على التوقيت و إمّا يدل على الدوام و الاستمرار، و على كلا التقديرين لا مجال للاستصحاب لوجود الدليل الاجتهادي، و أمّا الحكم الوضعي فإن دلّ الدليل على كون وجود السبب آناً ما علة لوجود المسبب دائما كعقد البيع و النكاح أو دلّ على دوران المسبب وجودا و عدما مدار السبب، فلا إشكال، و أمّا إذا لم يدلّ إلّا على السببية في الجملة و شك في الزمان الثاني في بقاء سببيته، فلا مانع من جريان الاستصحاب الثابت اعتباره بالروايات فيه.
[اعتراض الشيخ على الفاضل التوني]
ثمّ اعترض الشيخ قدّس سرّه «1» على أكثر ما أفاده الفاضل التوني رحمه اللّه إلى أن انتهى إلى أنّ المنشأ بخطاب واحد كقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) هل هو حكم واحد و هو وجوب الإكرام عند المجيء، أم حكمان و هو الوجوب و سببية المجىء له، لا ينبغي الارتياب في كون الوجدان حاكما بأنّ المنشأ ليس إلّا نفس الوجوب، و أمّا سببية المجيء له فهي منتزعة عن إنشاء الوجوب للإكرام عند المجيء إذ لو كانت مجعولة يلزم أن يكون الوجوب رشحا للسببية من دون أن يكون مجعولا بالاستقلال.
و قد ينسب إلى الفاضل التوني رحمه اللّه القول بجريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعية، عكس التفصيل السابق المنسوب إليه، نظرا إلى عدم كون الوضعيات أحكاما شرعية و من المعلوم كون الاستصحاب أصلا عمليا غير جار إلّا في ظرف ترتب الأثر الشرعي عليه.
و جوابه حينئذ؛ كفاية مطلق الأثر الشرعي و لو بترتبه على المستصحب فيما إذا لم يكن المستصحب بنفسه أثرا شرعيا، فإنّ الاستصحاب يجري في الموضوع الخارجي كالحياة مع عدم كونها بنفسها أثرا شرعيا كما لا يخفى.
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 106
[ماهية الأحكام الوضعية]
و لا يخفى أنّ عمدة ما دعا الميرزا النائيني قدّس سرّه و غيره إلى تعرض التفصيل بين الأحكام التكليفية و الوضعية هي بيان ماهية الأحكام الوضعية و عددها،
و الميرزا النائيني قدّس سرّه قبل الخوض فيها مهّد امورا:
[الأمر الأول: توقف مجعولية الحكم الوضعي على إنشائية الأحكام التكليفية]
الأمر الأوّل: أنّ النزاع في مجعولية الأحكام الوضعية مبني على الالتزام بالجعل و الإنشاء في الأحكام التكليفية، و إلّا- كما عن بعض- فلا يبقى مجال لهذا النزاع.
لكن الحق عدم توقف مجعولية الحكم الوضعي على إنشائية الأحكام التكليفية، لأنّ بعض من ينكر الجعل في التكليفيات كالفقيه اليزدي على ما في درره يلتزم بالإنشاء في الزوجية و الملكية، و لذا يشترط في صيغتي النكاح و البيع قصد الإنشاء و صيغة خاصة، فإنكار الإنشاء في الأحكام التكليفية لا يلازم إنكاره في الوضعيات، فالجعل في الوضعيات ليس مبنيّا على الجعل في التكليفيات، فهذا الأمر الذي ذكره الميرزا النائيني قدّس سرّه ليس مما يتوقف عليه الجعل و الإنشاء في الوضعيات، نعم هو مطلب علمي لا بأس بالبحث عنه إجمالا.
[أدلة منكري الجعل و الإنشاء في التكليفيات و الإشكال عليها]
فنقول: إنّه قد ذهب بعض إلى إنكار الجعل و الإنشاء في التكليفيات، و جعل الخطابات الشرعية مخبرة عن الصلاح و الفساد و الحب و البغض نظير الإخبار عن الامور الخارجية كعلم زيد و شجاعة عمرو و فقر بكر و غير ذلك.
و استدل بعض المنكرين بعدم إمكان انقداح الإرادة و مباديها في المبدأ الأعلى، لاستلزام ذلك كونه تعالى محلا للحوادث- تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا- فلا بد من كون الخطابات كاشفة عن كون الفعل الكذائي ذا صلاح أو فساد، و استدل بعض آخر منهم بعدم علّية الألفاظ للإيجاد لعدم تأثيرها في وجود شيء، إذ لا سنخية بين الألفاظ و بين وجود شيء بها حيث إنّ الألفاظ تستعمل في معانيها دون أن يوجد بها شيء.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 107
و بالجملة فلا بأس بإنكار الإنشاء و الجعل في الأحكام الشرعية إن اريد جعله سبحانه و تعالى لها إذ ليس هناك إلّا العلم بالصلاح، و ليس ذلك حكما إن اريد بالحكم الجعل و الإنشاء، لأنّ العلم بالصلاح ليس إنشاء، و إن استتبع العلم بالصلاح الحالة النفسانية البعثية التي هي عبارة عن الميل الشديد إلى الفعل، و كان اللفظ مبرزا لذلك الميل، فعدم مجعوليته أيضا واضح، لأنّ تلك الحالة البعثية العارضة للنفس النبوية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحصل قهرا عقيب العلم بالصلاح، و ليس فعلا اختياريا و الألفاظ ليست إلّا إخبارا عمّا في النفس من الحالة البعثية، كالإخبار عن مجيء زيد و علمه و شجاعته و غير ذلك من الاخبار، و ليست إنشاء أصلا.
و الحاصل أنّ شيئا من المراحل الثلاث أعني العلم بالصلاح، و الحالة البعثية، و الألفاظ المبرزة ليس إنشاء، بل الحكم هو نفس الحالة البعثية، و من المعلوم عدم كونها إنشاء، و من هنا قيل بعدم الجعل و الإنشاء في الأحكام.
و الحق أنّ الإنشاء لا بد منه في الحكم و هو مترتب على العلم بالصلاح و الإرادة و هي الشوق و مباديها من الخطور بالبال و تصور صلاحه و ميل النفس إليه و غير ذلك إلى أن يصل إلى الحب الشديد المسمى بالإرادة، فعلى القول بأنّه بعد الإرادة لا واسطة بين الفعل و بين المراد لعلية الإرادة يلزم الجبر، و على القول بالواسطة و هو مرحلة فعالية النفس، فلا بد من تحقق الإنشاء حيث إنّ الشخص بعد تحقق الإرادة إمّا يختار الفعل مباشرة و تكوينا كأخذ الإناء بيده و شرب الماء منه نظير الإعطاء و الأخذ في المعاطاة، و إمّا يأمر عبده بمناولته إياه، فالإرادة إمّا توجب اختيار النفس للفعل تكوينا أو تشريعا بإيجاد النسبة بين الفعل و عبده أو إنشاء الطلب بناء على كون الصيغة حقيقة في إنشاء الطلب.
نعم قد يقال بأنّ الإرادة التي تكون في الممكن المنوطة بالمبادئ المذكورة مما يتوقف عليها الإنشاء، و ذلك لا يتصور في المبدأ الأعلى لاستلزام الإرادة و مباديها
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 108
تغيرا في ذاته تبارك و تعالى، و صريح النصوص ينفي التغير عنه سبحانه و تعالى، بل انتفاء التغير عنه عزّ و جلّ هو مقتضى كونه غنيا بالذات.
[عدم استلزام مجعولية الأحكام لكون ذات الباري سبحانه و تعالى محلا للحوادث]
فإن اريد من الإنشاء و جعل الأحكام العلم بالصلاح فهو ليس حكما مجعولا، و إن اريد الحالة البعثية العارضة على نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد العلم بالصلاح فذلك في غاية الضعف، إذ لازمه الجبر لعدم كون تلك الحالة اختيارية بل تعرض النفس قهرا.
و لكن لا يخفى أنّ تعليل عدم مجعولية الأحكام باستلزام جعلها كون ذات الباري تعالى شأنه محلّا للحوادث عليل، لما فيه؛
أوّلا: من عدم لزوم ذلك لأنّه إنّما يتصور في علوم المخلوق التي لا بد فيها من عالم و معلوم، و إضافة الصور المتصورة في النفس إلى الخارجيات، دون علم واجب الوجود الغني بالذات الذي هو عين ذاته جل و علا، فكما يكون ذاته قبل كل شيء و بعده و معه، زمانا كان أو زمانيا، و لا يكون إيجاد شيء تكوينا مغيّرا لعلمه، فكذلك يكون علمه الذي هو عين ذاته باقيا على حاله قبل خلق الخلق بل يقع علمه على الكائنات من دون تغير في علمه، و لا فرق في عدم تغير علمه بالموجودات بين التكوينيات و التشريعيات، نعم إرادته تعالى غير إرادة الممكن لتوقفها على المبادئ المزبورة التي لا تتمشى في الباري عزّ و جلّ، فالحق أنّ الأحكام مجعولة له تعالى، و يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرون مبلغين و حافظين لها.
و ثانيا: أنّه على تقدير كون الجعل مستلزما لتغير العلم يكون ذلك محذورا في المبدأ الأعلى دون المبادئ العالية، فيمكن ان تكون الإرادة قائمة بالنفس المقدسة النبوية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنكار الجعل لأجل كونه موجبا لوقوع ذات الباري تعالى محلا للحوادث لا وجه له.
و كيف كان فالحكم سواء كان مجعولا أم غيره ينقسم إلى التكليفي و الوضعي، و صحة هذا التقسيم لا تناط بمجعولية الأحكام التكليفية، بل على جميع المباني يصح
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 109
التقسيم المزبور، هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.
[الأمر الثاني: تقسيم الموجود إلى العيني و الاعتباري و الانتزاعي]
الأمر الثاني: أنّ الموجود تارة: يكون عينيا كالأعيان الخارجية التي يكون الخارج ظرفا لوجودها و هذا القسم من الموجودات يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة.
و اخرى: يكون اعتباريا كالموجودات الاعتبارية التي يكون وعاء الاعتبار ظرفا لوجودها، و يكون تكوينها بنفس اعتبارها، و الشاهد على وجود هذا القسم من الموجودات هو ظهور الآثار المترتبة عليها، لعدم تعقل ترتب الآثار الوجودية على العدم، و ذلك نظير من يكون وجيها عند الناس بحيث إذا أراد أن يستقرض منهم أعطوه كل ما يريده من الأموال دون غيره، فإنّ هذه الوجاهة تكشف عن وجود شيء يكون هذه الوجاهة من آثاره، و نظير رواج الكاغذ و غيره بإمضاء السلطان أو غيره ممن بيده الاعتبار، فإنّهما بعد إمضائهما يعتبر لهما المالية بلا إشكال مع أنّه لم يكن لهما مالية قبل الإمضاء أصلا كما هو واضح.
و ثالثة: يكون انتزاعيا بمعنى عدم تقرره في شيء من وعائي العين و الاعتبار بل قوامه بالتصور و الانتزاع، و مع الذهول عنه ينعدم فلا وجود له أصلا، بل الوجود يكون لمنشا انتزاعه فقط سواء كان المنشأ من الموجودات العينية كانتزاع العلية للنار و غيرها من العلل التكوينية الخارجية، أم من الموجودات الاعتبارية كانتزاع السببية عن العقد الموجب للملكية و الزوجية في وعاء الاعتبار، فإنّ العقد من الموجودات الاعتبارية كالمسبب الذي يترتب عليه أعني الملكية و نحوها.
[الفرق بين الاعتباري و الانتزاعي]
و الحاصل أنّ الامور الانتزاعية تكون من خارج المحمول و ليس لها ما يحاذيها في الخارج سواء انتزعت عن نفس الذات كعلية العلة و معلولية المعلول، و إمكان الممكن و وجوب الواجب و غير ذلك، أم انتزعت عن قيام عرض بالمحل كانتزاع الأسودية عن الجسم الذي عرض عليه السواد، فإنّ الأسودية ليس لها ما بحذاء في
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 110
الخارج كما لا يخفى.
و هذا بخلاف الامور الاعتبارية كالملكية و الزوجية، فإنّه يستكشف وجودهما من آثارهما، فإنّ الكاغذ المسمى بالنوط «1» مما يتنافس عليه العقلاء، و هذا التنافس أثر وجودي يكشف عن وجود مؤثر، و ذلك المؤثر لا يكون موجودا عينيا بالبداهة و لا أمرا انتزاعيا لتقوم الأمر الانتزاعي بالتصور، و مع الذهول عنه ينعدم و من المعلوم عدم انعدام الملكية و الزوجية بانعدام تصورهما، و عليه ففرق واضح بين الامور الاعتبارية و بين الامور الانتزاعية، و إن وقع فيها الخلط في جملة من كلمات بعض الأساطين كالشيخ قدّس سرّه «2» فإنّه عبّر عن الامور الاعتبارية بالانتزاعية و بالعكس، و لا نبغي خلط أحدهما بالآخر، إذ الوجودات الذهنية و هي الصور المخلوقة للنفس غير الوجودات الاعتبارية كالملكية، إذ وعاء تلك الصور هو الذهن و لا وجود لها عينا، و الاعتبار بل الوجود بأحد هذين القسمين يكون لمنشا الانتزاع.
[كلام الميرزا قدّس سرّه من أنّ الملكية الاعتبارية من سنخ الملكية الحقيقية]
ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدّس سرّه ذكر أنّه يمكن أن يقال: إنّ الملكية الاعتبارية تكون من سنخ الملكية الحقيقية التي تكون إحدى المقولات التسع المعبر عنها بالجدة، بتقريب: أنّ حقيقة الملكية هي الواجدية و الإحاطة و هي ذات مراتب أقواها ملكية السماوات و الأرضين و ما فوقهما و ما بينهما و ما تحتهما للّه تعالى، و أيّ واجدية تكون أقوى من واجدية العلة لمعلولها الذي يكون من مراتب وجودها، نظير واجدية النفس للصور المخلوقة لها و دون هذه الواجدية واجدية اولي الأمر صلوات اللّه عليهم أجمعين، لأنّها تكون من مراتب واجديته جلّ و علا، و دون هذه الواجدية واجدية الشخص لما يملكه و إن لم يكن تحت يده بل كان بعيدا عنه، و دون ذلك الواجدية
__________________________________________________
(1) و هو من أسماء النقد المصرفي سابقا.
(2) راجع: فرائد الاصول/ 350 و 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 111
الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالقميص و العمامة المحيطين بالبدن عند التقمص و التعمم، انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
و لا يخفى ما فيه، أمّا أوّلا: فلأنّه لا وجه لجعل الملكية الاعتبارية التي هي من الامور الاعتبارية- دون الانتزاعية- من الملكية الحقيقية، بعد كون الاعتبارية في مقابل الحقيقية و الانتزاعية، إذ الهيئة الحاصلة في وعاء الخارج تكون حقيقية و ليست اعتبارية، فلا سنخية بين الملكية الحقيقية و بين الملكية الاعتبارية و إن كان لكل منهما مراتب.
و ثانيا: فلأنّه لا وجه لتنظير واجدية اللّه سبحانه و تعالى للسماوات و الأرضين و غيرهما بواجدية النفس للصور و العلة للمعلول، ضرورة عدم كونه سبحانه و تعالى علة للسماوات و الأرضين بل هو عزّ و جلّ فاعل و موجد، و لا سنخية بين الواجب و الممكن حتى يكون المخلوق من مراتب وجوده و تنظيره عظمت كبرياؤه بالعلة التكوينية مما لا يليق به جلت آلاؤه.
و بالجملة فالملكية من الامور الاعتبارية و جعلها من الجدة الاصطلاحية الحقيقية مسامحة.
بل لا ينبغي جعل الملكية الاعتبارية ذات مراتب كجعل ملكية ما بيده من النقود أقوى من ملكية عمله، و هي أقوى من ملكية ما يملكه في مكان بعيد كأرض و غير ذلك، لأنّ الأمر الاعتباري ليس فيه مراتب عند العقلاء بل يرون جميعها في مرتبة واحدة.
و قيل: إنّ الملكية من مقولة الإضافة فكأنّ المملوك مربوط بالشخص نظير ربط مال خارجي بشخص بسبب خيط يكون أحد طرفيه متصلا بالشخص و الطرف الآخر متصلا بالمال، فإذا بيع المال يتبدل طرف الإضافة أعني المال و يتصل ذلك الخيط الموهوم بمال آخر مع عدم تغير فيمن يتصل طرف الآخر به، فالتبدل يكون في
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 112
المالين اللذين هما طرفا الإضافة من دون تغير في المضاف إليه، و لذا عرف البيع بمبادلة مال بمال، و في الإرث يكون التبدل في المضاف إليه و هو المالك و في الهبة إيجاد إضافة للمتهب و إعدامها عن الواهب، و كما تكون الملكية قائمة بالشخص كذلك تكون قائمة بالعنوان كالإمام و السلطان و السادة و الفقراء و المتولي و الموقوف عليهم.
[منافاة ما يستفاد من الأدلة من دخل الأمر الانتزاعي مع كونهما مما لا وجود له]
إيقاظ: لا يخفى أنّ جعل الامور الانتزاعية- كالفوقية و القبلية و الاجتماع و السبق و اللحوق و غيرها مما لا وجود لها أصلا لا خارجا و لا اعتبارا- ينافي ما يستفاد من الأدلة في بعض المقامات من دخل الأمر الانتزاعي كإدراك المأموم ركوع الإمام قبل رفع رأسه، و إسلام الوارث قبل القسمة و غيرهما في الحكم الشرعي، و حاصل الإشكال: أنّه إن لم يكن للعناوين الانتزاعية حظّ من الوجود فلا يمكن دخله في الحكم الشرعي.
و من هنا يشكل الأمر في إحراز الموضوعات المركبة كلّا أو جزء بالأصل كاستصحاب عدم إذن المالك و رضاه مع استيلاء الغير على ماله المثبت لموضوع الضمان، فإنّ إشكال جريان هذا الأصل من جهتين:
أحدهما: أنّه لا يثبت عنوان الاجتماع، إذ لاجتماع عدم الإذن مع الاستيلاء في الزمان دخل في الحكم، و لا يثبت عنوان الاجتماع بهذا الأصل إلّا على القول بالأصل المثبت.
ثانيتهما: أنّه كيف يمكن دخل الأمر الانتزاعي الذي لا وجود له في الخارج و لا في الاعتبار في الحكم الشرعي، و كيف تقوم المصلحة أو المفسدة بأمر عدمي.
[الأمر الثالث: تقسيم المجعولات الشرعية إلى الأحكام التكليفية و الوضعية و المناصب]
الأمر الثالث: المجعولات الشرعية بأسرها من تأسيسياتها و إمضائياتها تكون من الامور الاعتبارية و هي تنقسم إلى أقسام:
أحدها: الأحكام التكليفية و هي ما يتعلق بأفعال العباد، سواء كانت بعثية أم
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 113
زجرية، فإنّ الأحكام الخمسة التكليفية من الاقتضائية و التخييرية متعلقة بالأفعال.
ثانيها: الأحكام الوضعية، سواء كانت تأسيسية كالحرية و الرقية أم إمضائية كجميع الامور الاعتبارية العقلائية كالملكية و الزوجية و غيرهما، فإنّ الملكية و نحوها من الامور الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء و أمضاها الشارع، غاية الأمر أنّه زاد فيها قيودا و شرائط لم يطلع عليها العقلاء، بل الملكية و هي الاختصاص تكون فطريا للحيوانات في بعض المقامات، فإنّ فريسة حيوان مختصة به و لا ينازعه غيره من الحيوانات لما يرى سائر الحيوانات من نحو اختصاص لكل حيوان بفريسته.
ثالثها: المناصب، كولاية النبي و الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين و ولاية الفقيه و ولاية الأب و الجد و متولي الأوقاف و غير ذلك من الولايات، فإنّ الولاية أمر اعتباري شرعي لكنه ليس حكما تكليفيا و لا وضعيا، فسنخ الولايات غير سنخ الأحكام، فحصر المجعولات الشرعية في قسمين و هما التكليفي و الوضعي مما لا ينبغي، بل الحق انقسامها إلى ثلاثة أقسام.
ثمّ إنّ الوكالة غير الولاية، فإنّ الاولى تبطل بموت الموكل بخلاف الثانية، فإنّها لا تبطل بموت معطي الولاية، فالمتولي للوقف لا ينعزل بموت الواقف المعطي للولاية، و كذا ولاية الفقيه فإنّها لا تبطل بموت الإمام عليه السّلام، و لذا لم ينقل في التواريخ تحصيل الولاية من الإمام اللاحق لمن كان وليا من قبل الإمام السابق، و في ولاية الفقيه عموما أو في خصوص القضاء و الإفتاء كلام طويل مذكور في محله، و الذي يمكن استفادة الولاية المطلقة للفقيه منه هو رواية تحف العقول «1» التي فيها «مجاري الامور بيد العلماء» الظاهرة بقرائن في إرادة الفقهاء من العلماء لا الأئمة عليهم السّلام، و قوله عليه السّلام في تلك الرواية «الامناء على أحكامه» لا يكون قرينة على إرادة ولاية العلماء في
__________________________________________________
(1) مستدرك الوسائل 17/ 315، الحديث 21454، باختلاف يسير.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 114
خصوص الأحكام الشرعية و هي ولاية الإفتاء و القضاء كما لا يخفى.
[الأمر الرابع: كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية دون الخارجية]
الأمر الرابع: أنّ المقرر في محله كون الأحكام الشرعية مطلقا من القضايا الحقيقية دون القضايا الخارجية، و على الثاني تكون العناوين المأخوذة في حيّز الخطابات كالفقير و الغنيّ و السيد و المجتهد و غير ذلك من الجهات التعليلية دون التقييدية، لكون الموضوع هو الشخص الذي هو أمر تكويني و لا يبقى مجال للحكم الوضعي، فلا يقال: إنّ الدلوك سبب لوجوب الصلاة، لأنّ الدلوك حينئذ يكون من الجهات التعليلية فلا يتصف بالسببية التي هي حكم وضعي على ما قيل، لعدم قابلية الملاكات للجعل حيث إنّها من الامور التكوينية كما لا يخفى.
[الأمر الخامس: أنّ العلل على قسمين: علل الجعل و علل المجعول]
الأمر الخامس: أنّ العلل على قسمين: أحدهما علل الجعل و التشريع، و المراد بها ملاكات الأحكام.
و الآخر علل المجعول و المراد بها موضوعات الأحكام، و قد وقع الخلط فيها في جملة من الكلمات كما في الكفاية «1» حيث دفع إشكال الشرط المتأخر بأنّ الشرط هو لحاظه و وجوده العلمي الذي هو مقارن لوجود المشروط.
و توضيح الخلط هو: أنّ الشرط كالإجازة في الفضولي هو وجودها الخارجي لا العلمي، ضرورة ترتب الملكية على وجود الإجازة خارجا لا تصور الإجازة، فإنّ الإجازة قيد لموضوع الملكية و سببها أعني العقد، نعم ما يكون بوجوده التصوري دخيلا في الحكم فهو الملاك أعني علة الجعل، ففرق واضح بين علة الجعل التي تكون بوجودها التصوري علة له، و بين علة المجعول و هي الموضوع للحكم الذي يكون بوجوده الخارجي دخيلا في الحكم.
__________________________________________________
(1) كفاية الاصول/ 93- 34.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 115
[وجود الحكم الوضعي و عدمه]
إذا عرفت هذه الامور فاعلم أنّه وقع الخلاف في وجود الحكم الوضعي و عدمه على أقوال:
[الأقوال في وجود الحكم الوضعي و عدمه]
منها: أنّ الأحكام الوضعية مجعولة.
و منها: كونها منتزعة من الأحكام التكليفية فإنّها هي المجعولة شرعا.
و منها: أنّ بعض الأحكام الوضعية مجعول و بعضها منتزع، و الأوّل على قسمين:
أحدهما: ما يكون مجعولا عقلائيا مع إمضاء الشارع بمعنى موافقة نظره لنظر العقلاء من حيث كونه عاقلا لا من حيث كونه شارعا، و الآخر: ما يكون تأسيسيا للشارع.
[القسم الأوّل: الأحكام الوضعية التي اعتبرها العقلاء]
أمّا القسم الأوّل: فكالملكية التي يعتبرها العقلاء عند الحيازة و إحياء الموات و عقد البيع مثلا، فإنّ الملكية تكون مما يعتبرها العقلاء عند وجود هذه الأسباب و الشارع أمضاها، غاية الأمر أنّه زاد عليها شروطا لم يكن يراها العقلاء دخيلة في ذلك كقصد التملك في الحيازة و إحياء الموات، فإنّ العقلاء يرون هذين الأمرين سببين لاختصاص المحاز و المحيى بالحائز و المحيي، لكن الشارع اعتبر القصد فيهما، فالشارع أمضى الملكية العقلائية و زاد في بعض الموارد شروطا في أسبابها.
لكن الحق أنّ الملكية المترتبة على أسبابها العقلائية ليست مجعولة للعقلاء، بل الملكية أمر واقعي يدركه العقلاء عند الحيازة و نحوها، و ذلك لأنّ العقلاء لا يبنون على شيء بالتعبد و التنزيل، و لم يجتمعوا في محل و لا في زمان ليجعلوا الملكية عند الحيازة و نحوها بل يدركون الملكية عند أسبابها، و على هذا فالملكية أمر واقعي، غاية الأمر أنّها أمر اعتباري لا عيني و ليست من المجعولات العقلائية التي أمضاها الشارع، و كذا الحال في سائر الامور العقلائية، فإنّها امور واقعية أدركها العقلاء عند تحقق بعض الأشياء، و ليست مما اعتبرها العقلاء حتى تكون مما أمضاها الشارع.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 116
[القسم الثاني: الأحكام الوضعية التي تكون تأسيسيا للشارع]
و أمّا القسم الثاني: و هو المجعول التأسيسي فهو كملكية السادة و الفقراء للخمس و الزكاة.
و أمّا ما يكون منتزعا، فكالسببية و الجزئية و الشرطية و المانعية، و هي تارة:
تكون راجعة إلى متعلق الخطاب، و اخرى: إلى نفس الخطاب.
فهنا مقامان: الأوّل: فيما يتعلق بمتعلقات التكاليف من السبب و أخواته، و الثاني: فيما يتعلق من السبب و أخواته بموضوعات التكاليف.
[المقام الأوّل: الأحكام الوضعية المنتزعة عن متعلق التكليف]
أمّا المقام الأوّل: فيقال: إنّها منتزعة و ليست مجعولة غاية الأمر قد يقال: إنّ الجزئية و الشرطية و المانعية منتزعة عن الخطاب، و السببية منتزعة عن ربط تكويني، فهي تختلف من جهة منشأ الانتزاع و إلّا فلا فرق بين هذه الأربع من حيث الانتزاعية.
فالجزئية و الشرطية و المانعية تنتزع عن الخطاب المنبسط على عدة امور متباينة الحقائق كالقيام و الركوع و السجود و غيرها لكونها مقولات مختلفة، فإنّها مع شتاتها و اختلافها هوية تصير ببركة وحدة الأمر المتعلق بها واحدا اعتباريا، و تنتزع الجزئية عن ذلك الأمر لكل واحد من تلك الامور المتباينة الحقائق، لأنّ الموجب للوحدة و التركب هو الأمر، فلولاه لم يكن مركب حتى يكون له أجزاء، و الشرطية و المانعية تنتزعان عما دلّ على تقيد تلك الامور المتصفة بالجزئية بأمر وجودي يسمى بالقيد الوجودي كالطهارة و الستر و الاستقبال و غيرها، أو بأمر عدمي يسمّى بالمانع كعدم لبس ما لا يؤكل و الحرير و عدم التقدم على قبر المعصوم عليه السّلام.
و لكن لا يخفى أنّ الوحدة الاعتبارية ناشئة عن وحدة الملاك القائم بالامور المتباينة الحقيقية، فكل واحد من تلك الامور جزء لما هو المؤثر و الأمر ناشئ عن وحدة الملاك، فمنشأ انتزاع الجزئية هو الدخل التكويني لكل من تلك الامور فيكون و زان الجزئية و الشرطية و المانعية و زان السببية في كون منشأ الانتزاع هو الربط
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 117
الثبوتي التكويني.
فالمتحصل أنّ السببية و أخواتها أمر انتزاعي و منشأ انتزاعها هو الأمر الثبوتي التكويني.
[المقام الثاني: الأحكام الوضعية المنتزعة عن نفس التكليف]
و أمّا المقام الثاني: و هو السببية لنفس التكليف و الموضوع، و كذا أجزاء السبب و شرائطه و موانعه، فنقول: إنّ فيه أقوالا:
[الأقوال في السببية لنفس التكليف]
أحدها: كون السببية مجعولة بالاستقلال كنفس الحكم المترتب على السبب، فللشارع جعلان؛ أحدهما: متعلق بموضوع التكليف، كواجدية أربعين غنما بالنسبة إلى وجوب الزكاة، و العقد الذي يترتب عليه الملكية أو الزوجية أو الحرية أو الطلاق أو غيرها، فإنّ الشارع جعل الموضوعية لموضوعات التكاليف و السببية كالعقد و الحيازة و غيرهما لما يترتب عليه من الوضعيات. و الآخر: متعلق بالمسبب و هو التكليف أو الوضع، و هذا القول في غاية الوهن و السقوط، للغوية أحد الجعلين إذ يغني أحدهما عن الآخر كما هو واضح.
ثانيها: كون المجعول بالاستقلال هو السببية أما الوضع أو الحكم فهو مجعول تبعا نظير وجوب ذي المقدمة المستتبع لوجوب المقدمة.
ثالثها: كون المجعول بالاستقلال هو التكليف أو الوضع، و أنّ السببية لا جعل لها أصلا لا أصالة و لا تبعا، بل السببية منتزعة عن ترتب الحكم التكليفي أو الوضعي عليه، فالمستطيع و مالك النصاب و الفقراء و العقد و الحيازة مثلا تتصف بالموضوعية أو السببية بعد ترتب الحكم التكليفي أو الوضعي من وجوب الحج و الزكاة و الملكية عليها، و عليه فتكون السببية انتزاعية و تصير حينئذ من المحمول بالضميمة، إذ لا تنتزع عن نفس ما جعل موضوعا للتكليف أو سببا للوضع بل بعدّ ضم الحكم الشرعي من التكليف أو الوضع إليه نظير الأبيضية المنتزعة عن الجسم بعد عروض البياض عليه.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 118
و بالجملة فالسببية لموضوعات التكاليف و الوضعيات لا جعل لها لا أصالة و لا تبعا، و إنّما المجعول- تأسيسا كما في جميع الأحكام التكليفية و بعض الوضعيات، أو إمضاء كما في جميع الامور العقلائية التي أمضاها الشارع و زاد فيها امورا- هو التكليف أو الوضع، و السببية لموضوعات التكاليف و الوضعيات تنتزع عن التكليف أو الوضع المترتب عليه كما أنّ السببية التكوينية تنتزع عن ذات العلة التكوينية، فالسببية المنتزعة لموضوعات التكاليف و أسباب الوضع تكون من المحمول بالضميمة و السببية المنتزعة للعلل التكوينية تكون من خارج المحمول.
[اختيار الميرزا النائيني قدّس سرّه القول بعدم جعل السببية]
ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدّس سرّه اختار هذا القول أعني كون السببية لموضوعات التكاليف و أسباب الوضع منتزعة عن الحكم الشرعي المترتب عليهما، و أنّ المجعول أصالة هو ما يترتب عليهما من التكليف أو الوضع و أنّه لا حظّ لموضوعات التكاليف و الوضعيات من الجعل أصلا حتى تبعا.
و محصل ما استند إليه في هذه الدعوى وجهان:
أحدهما: أنّه يلزم من جعل السببية عدم كون الحكم المترتب على السبب فعلا اختياريا للشارع، حيث إنّ المسبب من آثار السبب و يكون رشحا له، فالمؤثر في المسبب هو السبب لا جعل الشارع، و هذا من البطلان بمكان من الوضوح، لكون الوجوب و الملكية و غيرهما من التكليف و الوضع من مجعولات الشارع من دون أن تحصل قهرا و بدون إرادته و اختياره.
ثانيهما: أنّ السببية غير قابلة للجعل لا تكوينا و لا تشريعا، و لا أصالة و لا تبعا، لأنّ السببية عبارة عن الرشح القائم بذات السبب و هذا الرشح من لوازم ذات السبب كسائر لوازم الماهية التي لا تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن التشريعي، فجعل السببية حينئذ عبارة عن إيجاد السبب و تكوينه.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 119
[كلام صاحب الكفاية قدّس سرّه في أنّ السببية أمر تكويني]
ثمّ إنّ لصاحب الكفاية قدّس سرّه «1» كلاما لا بأس بنقله، و حاصله: منع إمكان انتزاع السببية عن التكليف أو الوضع لتأخرهما عن وجود السبب و لا يعقل انتزاع المتقدم عن المتأخر، فسببية العقد للملكية و الدلوك للوجوب منتزعة عن خصوصية تكوينية تكون في ذات العقد و الدلوك، إذ لولاها يلزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء، و عليه فلا تكون السببية من المجعولات الشرعية و لا منتزعة عن المجعول الشرعي بل هي أمر تكويني كسائر الامور التكوينية، و كذا الحال في جزء السبب و شرطه و مانعة لتبعيتها لنفس المركب، نعم تنتزع الجزئية و الشرطية و المانعية لمتعلقات التكاليف من الخطاب المتعلق بعدة امور متباينة الحقيقة يقوم بها غرض واحد، ففرق واضح بين الجزئية و الشرطية و المانعية في باب متعلقات التكاليف و بينها في باب الأسباب، بعد اشتراك الكل في عدم جعلها أصالة، لكنها في الأوّل تنتزع عن تشريع التكليف بالمركب و في الثاني تنتزع عن الخصوصية التكوينية الثابتة في ذات السبب، هذا محصل كلامه زيد في علو مقامه.
[اعتراض الميرزا النائيني على صاحب الكفاية قدّس سرّهما]
و قد اعترض عليه الميرزا النائيني قدّس سرّه بأنّ ما أفاده من كون السببية هي الخصوصية الذاتية غير القابلة للجعل أصلا مما لا إشكال فيه و لا غبار عليه، لكنه غير مرتبط بالمقام أعني موضوعات التكاليف.
توضيحه: أنّ الملاكات الداعية إلى الجعل المسماة بعلل التشريع متأخرة وجودا عن المجعول و متقدمة عليه لحاظا بخلاف موضوعات التكاليف فإنّها متقدمة وجودا على الحكم تقدم العلة على المعلول، و السببية التكوينية غير القابلة للجعل أصلا هي علة التشريع و ليست هي مورد البحث. و المبحوث عنه فعلا هو سببية موضوعات التكاليف التي فيها الملاكات لا سببية الملاكات للأحكام، و قد عرفت أنّ سببية الموضوعات لأحكامها منتزعة عن الأحكام المترتبة عليها، فهذا خلط من صاحب
__________________________________________________
(1) كفاية الاصول/ 401.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 120
الكفاية قدّس سرّه بين علل الجعل و بين علل المجعول «1» أعني موضوعات الأحكام.
فإن قلت: إنّ مورد كلام الكفاية أيضا هو موضوعات التكاليف بقرينة تمثيله له بالدلوك و العقد اللذين هما موضوعان للوجوب و الملكية، فلم يخلط صاحب الكفاية قدّس سرّه بين علل التشريع أعني الملاكات الداعية إلى الجعل و بين علل المجعول، بل يقول: إنّ سببية موضوعات التكاليف و الوضعيات لا تكون مجعولة و لا منتزعة عن الحكم المترتب عليها.
قلت: لا يكون التمثيل بالدلوك و العقد في كلام الكفاية قرينة على إرادة موضوعات التكاليف، لتصريحه بأنّ سببيتهما ناشئة من خصوصية ذاتية فيهما أوجبت انتزاع سببيتهما، فغرضه انتزاع السببية عن تلك الخصوصية التكوينية لا عن ترتب الحكم الشرعي عليهما، فما أفاده الميرزا النائيني قدّس سرّه- من عدم ارتباط كلام الكفاية بالمقام و هو موضوعات التكاليف و الوضعيات، لكون محل كلامه الملاكات الداعية إلى التشريع- في محله.
فتلخص أنّ السببية في الموضوعات منتزعة عن الأحكام المترتبة عليها، و لا يمكن جعلها أصلا لا أصالة و لا تبعا و إنّما هي منتزعة عن التكليف أو الوضع المترتب عليه.
و توهم لزوم الدور ببيان: أنّ موضوعية الموضوع متقدمة على الحكم، فكيف يمكن أن تنتزع عن الحكم المتأخر عنه واضح الفساد، إذ: ما يتوقف عليه الحكم هو ذات الموضوع لا وصف موضوعيته، فلا يلزم من انتزاع موضوعية الموضوع عن الحكم دور أصلا.
[بيان أنّ الحق هو عدم إمكان جعل السببية]
و كيف كان فالحق أنّ السببية غير قابلة للجعل أصلا، و إنّما هي منتزعة عن الحكم المترتب على الموضوع، فالمجعول في عقد البيع تأسيسا أو إمضاء هو الملكية،
__________________________________________________
(1) كما سبق توضيحه في الصفحة 114.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 121
و أما سببية العقد للملكية و الفقر لملكية الصدقات و الاستطاعة لوجوب الحج، فهي منتزعة عن الحكم، فالملكية و نحوها كالزوجية من الأحكام الشرعية التأسيسية أو الإمضائية، لا أنّها منتزعة عن الأحكام التكليفية كجواز التصرف للمالك، و حرمة التصرف لغيره بدون إذنه في الملكية، و جواز الوطء للزوج و وجوب الإنفاق عليه و وجوب التمكين عليها للزوج في النكاح، و غير ذلك من الأحكام التكليفية كما نسب إلى الشيخ قدّس سرّه «1» و إن لم تكن النسبة خالية عن الإشكال لتصريحه في بعض المقامات بخلافه.
و على كل حال فالحق عدم انتزاعية الملكية و نحوها عن الأحكام التكليفية، بل هي بنفسها مجعولة تأسيسا أو إمضاء، و كيف يصح الالتزام بانتزاعيتها عن الأحكام التكليفية مع ترتب الأحكام عليها و كونها موضوعا لتلك الأحكام الموجب لتقدمها على الأحكام كتقدم سائر الموضوعات على أحكامها.
فتلخص من جميع ما ذكرنا عدم إمكان جعل السببية لموضوعات الأحكام تكليفية كانت أم وضعية، بل هي كما عرفت منتزعة عن الحكم المترتب عليها، و أمّا السببية بمعنى الخصوصية التكوينية التي يكون وجودها العلمي دخيلا فهي أمر تكويني و هي ملاك الجعل و التشريع و أجنبية عن موضوع الحكم الذي هو محل الكلام، و أمّا الجزئية و الشرطية و المانعية فهي منتزعة عن التكليف المتعلق بعدة امور يقوم بها غرض واحد، فإنّه من انبساط الخطاب الواحد عليها ينتزع الجزئية لكل منها، و من تقيد الأجزاء وجودا أو عدما ببعض الامور تنتزع الشرطية و المانعية.
إيقاظ: لا يخفى أنّ الامور العقلائية على قسمين:
أحدهما: ما يعتبرونه من دون أن يكون له واقعية كما إذا جعلوا شخصا سلطانا أو رئيس دائرة مثلا فإنّهم بعد اجتماعهم و توافق أنظارهم يجعلون الرئاسة لواحد، فإنّ
__________________________________________________
(1) راجع: فرائد الاصول/ 350 و 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 122
هذا الأمر الاعتباري مما أسسوه باجتماع الآراء و تبادل الأفكار، لا أنّهم رأوه حتى يكون ذلك أمرا واقعيا من الواقعيات التي أدركوها كالزوجية و الملكية و نحوهما، مما يرون ترتبها على أسبابها العقلائية التي أمضاها الشارع مع زيادة امور و شرائط عليها.
ثانيهما: الامور الاعتبارية الواقعية التي يدركها العقلاء عند تحقق بعض الأشياء كالزوجية و الملكية و غيرهما مما يراه العقلاء عند تحقق عقد النكاح و نحوه،- و لذا قيل: إنّ لكل قوم نكاحا- و عند تحقق الحيازة و احياء الموات مثلا فإنّ الملكية التي يراها العقلاء عند هذه الأسباب لا تكون مما يعتبرها العقلاء كاعتبارهم السلطة و الرئاسة لشخص، فإنّ اعتبار السلطنة و نحوها يكون باقتراحهم المسمى بالتعبد العقلائي، و إن كان هذا الاعتبار لمصلحة يرونها في شخص خاص دون غيره، و لذا يعتبرونها له لا لغيره، فإنّ الصلاحية و القابلية مما لا بد منهما في اعتبار الرئاسة كما هو واضح.
[هل أنّ الصحة و الفساد من الأحكام الوضعية]
بقى الكلام في جملة من الامور الآخر التي اختلف فيها.
الأول: الصحة و الفساد، فقيل: بكونهما من الأحكام الوضعية.
و قيل: بكونهما من الامور الواقعية.
و قيل: بكونهما من الامور الانتزاعية.
[الصحة بمعنى الخصوصية المترتبة على الشيء بحسب طبعه]
و الحق عدم كونهما من الأحكام الوضعية مطلقا، توضيحه: أنّ الصحة إن كانت عبارة عن الخصوصية المترتبة على الشيء بحسب طبعه كصحة البطيخ و الرقي و الخل و بيض الدجاج و غيرها و يقابلها الفساد، فلا إشكال في كون الصحة حينئذ أمرا تكوينيا غير قابل للجعل التشريعي بل الصحة بهذا المعني تكون من دواعي الجعل و علله، فلا تكون منتزعة عن الحكم الشرعي فضلا عن تعلق الجعل أصالة بها.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 123
[الصحة بمعنى التمامية]
و إن كانت الصحة عبارة عن التمامية- كما هو المقصود في مبحث الصحيح و الأعم إذ المراد بالصحيح هناك هو التام في مقابل الفاسد المراد به الناقص- فكذلك أيضا لأنّ المراد بكون المأتي به تاما هو واجديته لجميع ما يعتبر فيه شطرا و شرطا، و فاسدا هو عدم واجديته لجميع ذلك، ف (الصلاة صحيحة) معناها واجديتها لكل ما له دخل فيها و (فاسدة) معناها عدم واجديتها له، و من المعلوم أنّ الصحة و الفساد بهذا المعنى أيضا من الامور التكوينية غير القابلة للجعل أصلا، و لا مساس لهما بالحكم الوضعي الذي هو أمر اعتباري، فموافقة المأتي به للمأمور به الأولي عبارة عن كونه تاما و واجدا لجميع ما يعتبر في المأمور به و مخالفته عبارة عما يقابلها، و الصحة و الفساد ليسا إلّا الموافقة و المخالفة اللتين هما أجنبيتان عن الحكم الوضعي.
[الصحة بمعنى كون المأتي به موافقا للحكم الظاهري]
و إن كانت الصحة عبارة عن كون المأتي به موافقا للحكم الظاهري كما إذا شك في إتيان الركوع بعد تجاوز محله فإنّه يبنى على فعله و يقال: إنّ الصلاة صحيحة، و كذا إذا شك في شرط من شروط العقد فإنّه يبنى على صحته بمقتضى أصالة الصحة- الحاكمة على الاصول حتى الموضوعية منها المقتضية للفساد، كاستصحاب عدم بلوغ المتعاقدين أو أحدهما على ما هو الحق كما سيأتي في مباحث أصالة الصحة إن شاء اللّه تعالى- و كذا إذا عمل العامي عملا بلا تقليد، فإنّه يقال بصحته إن كان مطابقا لرأي من يختاره بعد ذلك من الفقهاء للتقليد، فقيل: إنّ الصحة في الأحكام الظاهرية لما كانت بمعنى الإجزاء و الكفاية، تكون متأصلة في الجعل، و يقابلها الفساد و الذي هو بمعنى عدم الإجزاء بخلاف الصحة و الفساد في الأحكام الواقعية، فإنّ الصحة و الفساد فيها من الامور التكوينية كما عرفت، فيفصل بين الصحة و الفساد في الأحكام الأولية، فيقال: إنّهما منتزعان عن موافقة الأمر الواقعي و مخالفته له، و بينهما في الأحكام الظاهرية فيقال: إنّهما مجعولان بالأصالة.
كما قيل بأنّ الصحة و الفساد في المعاملات مجعولان شرعيان، و في العبادات
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 124
انتزاعيان.
و وجه القول بكونهما مجعولين بالأصالة في الأحكام الظاهرية هو توهم أنّ إجزاء الأمر الظاهري الذي حكم به الشارع و كذا عدم الإجزاء عبارة عن الصحة و الفساد، كما أنّ وجه كونهما مجعولين في المعاملات هو توهم كون إمضاء الشارع للمعاملات عبارة عن الصحة و عدم إمضائها عن الفساد.
لكن الحق عدم كون الصحة و الفساد من المجعولات الشرعية، بل و لا منتزعين عنها، و ذلك لأنّهما في جميع الموارد عبارة عن المطابقة و عدمها، غاية الأمر أنّ الاختلاف يكون في موضوع الانطباق، فقد يكون المأمور به ثابتا بالحكم الأولي، فالصحة حينئذ هي انطباق ذلك المأمور به على المأتي به، و قد يكون ثابتا بالحكم الثانوي الاضطراري كسقوط السورة مثلا في ضيق الوقت، و قد يكون ثابتا بالحكم الظاهري كموارد جريان الاصول كقاعدتي التجاوز و الفراغ و غيرهما، فإنّ الصحة في جميع هذه الموارد تنتزع عن مطابقة المأمور به كالصلاة أو موضوع الحكم الوضعي كالبيع مع المأتي به، ففي موارد الحكم الظاهري يكون التصرف الشرعي الظاهري في موضوع الإجزاء، و هذا التصرف إمّا يرجع إلى تقييد الواقع و إمّا إلى جعل البدل، و على كل حال لا يكون الصحة و الفساد مجعولين شرعا بل هما منتزعان عن المطابقة المزبورة.
[محصل البحث]
فتحصل من البحث امور؛ الاول: أنّ الصحة و الفساد ليسا من الأحكام الوضعية لأنّهما عبارتان عن التمام و النقصان، سواء كانا في الأشياء الخارجية كالبطيخ و الرقي و نحوهما، أم في الأفعال كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها مما يقال إنّ الصحة فيها عبارة عن مطابقتها مع المأمور به، فإنّ الخصوصية المطلوبة من كل شيء عينا كان أم فعلا إن كانت مترتبة عليه يكون صحيحا و إلّا فهو فاسد، و من المعلوم
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 125
اختلاف الأنظار في الخصوصيات، فإنّ نظر بعض إلى خصوصية بملاحظة تكوينها كما في البطيخ و نحوه فإنّ الخصوصية المرغوبة منها أمر تكويني، و نظر آخر إلى خصوصيته بملاحظة تشريعها كما في بيض الدجاج، فإنّ البيض الذي فيه نقطة دم يكون فاسدا حيث إنّ الخصوصية المرغوبة فيه جعلت شرعا في حال خلوه عن الدم، و إلّا فمع قطع النظر عن حكم الشارع بحرمة أكله إذا كان فيه دم كما إذا كان من غير أهل الأديان يكون البيض الكذائي صحيحا في نظره، لإمكان الانتفاع بأكله، و نظر ثالث إلى الإجزاء و عدم وجوب الإعادة، فالفساد حينئذ ما يقابله من عدم الإجزاء، فالصحة في جميع الموارد بمعنى واحد و هو التمامية، و الاختلافات المزبورة ليست اختلافا في معناها بل اختلاف الأنظار في الخصوصيات المطلوبة من الشيء أوجب اختلاف التعبير عن الصحة و الفساد، و قد ظهر مما ذكرنا في تفسير الصحة و الفساد أنّ التقابل بينهما تقابل الإيجاب و السلب، إذ المفروض أنّ الصحة هي التمامية و الفساد هي النقصان، و إن شئت فعبّر عن الصحة بوجود الخصوصية المطلوبة، و عن الفساد بعدمها.
[كلام الشيخ في أنّ الطهارة و النجاسة من الامور الواقعية]
الثاني: ذكر الشيخ الأنصاري قدّس سرّه «1» أنّ الطهارة و النجاسة من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع، فإن كان مراده بذلك في النجاسة أنّ أمر الشارع بالاجتناب عن النجس كاشف عن ملاك أوجب تشريع وجوب الاجتناب عنه، ففيه: أنّ لازمه كون جميع الأحكام الشرعية التكليفية كاشفة عن الامور الواقعية، لأنّها كاشفة بناء على مذهب العدلية عن ملاكات و مصالح، و إن كان مراده بذلك أنّ النجاسة هي القذارة الموجودة في الأشياء القذرة التي يدركها العرف تارة كالقذارات الصورية التي يتنفر عنها الطباع، و لا يدركها اخرى، فالشارع يكشف عن القذارة الواقعية غير
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 126
المحسوسة للعرف بأمره بالاجتناب، فالنجاسة حينئذ من الامور التكوينية لا التشريعية، غاية الأمر أنّه في صورة عدم إدراك العرف لبعض مصاديقها يبيّن الشارع أنّ الشيء الفلاني من القذارات، و إن كان العرف لا يدركها فيكون بيان الشارع حينئذ من باب تمييز المصداق الذي يكون غير معلوم للعرف، و هذا في الفقه كثير.
فلا بأس بما أفاده الشيخ قدّس سرّه، و لا يرد عليه ما ذكره الميرزا النائيني قدّس سرّه من أنّه يا ليت بيّن مراده.
و بالجملة فالاحتمال الثاني يمكن أن يكون مرادا للشيخ قدّس سرّه و لا يرد عليه شيء إلّا الاستبعاد، و أنّه كيف تكون النجاسة أمرا واقعيا و لا تكون أمرا اعتباريا كسائر الأحكام الشرعية، و كذا الحال في الطهارة التي هي النظافة، فإنّ ما قيل في النجاسة آت في الطهارة، غاية الأمر أنّ الأولى هي القذارة و الثانية هي النظافة.
[عدم كون الرخصة و العزيمة من الأحكام الوضعية]
الثالث: أنّه قد يعد الرخصة و العزيمة من الأحكام الوضعية، لكن لم يظهر له وجه، لأنّهما إن كانا بمعنى السقوط على وجه التسهيل و على نحو الحكم و الإلزام كسقوط الإقامة في بعض الموارد، كما يظهر من قوله عليه السّلام في بعض الروايات «1» «أمنعه أشد المنع»، فهما عبارتان عن الحكم التكليفي لأنّهما بمنزلة أن يقال: «لا تفعل» في السقوط على وجه الإلزام، «و لا بأس بأن لا تفعل» في السقوط على وجه الرخصة.
و إن كانا بمعنى المشروعية و عدمها كصلاة الحائض فإنّها غير مشروعة في حقها، إذ لا أمر بها فالإتيان بها تشريع محرم، فكذلك لأنّ العزيمة حينئذ عبارة عن حرمة الفعل كما أنّ الترخيص يقابلها و هو الجواز، فعلى كل حال لا أساس للحكم الوضعي بالصحة و الفساد.
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 8/ 415، الحديث 11052.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 127
الرابع: أنّه قد يعدّ الطريقية من الأحكام الوضعية، فيقال بكونها حكما وضعيا كالملكية و الزوجية و الحرية و نحوها.
لكن فيه: ما لا يخفى، فإنّ جعل الطريقية إن كان بمعنى إعطاء الكشف و الطريقية التكوينية للظن أو الشك ففيه: أنّ التشريع أجنبي عن التكوين و لا توجد الطريقية التكوينية بجعلها تشريعا، و إن كان بمعنى جعل الأثر الشرعي و ترتيبه فهو أجنبي عن جعل الطريقية، فلا جعل للطريقية حتّى يقال بكونها حكما وضعيا.
[محصل البحث في أقسام الأحكام الوضعية]
فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّ القسم الأوّل الذي عدّ من الأحكام الوضعية كالسببية و الجزئية و الشرطية و المانعية لا يكون حكما وضعيا بل من الامور الانتزاعية.
و القسم الثاني: كالصحة و الفساد و الطهارة و النجاسة قد عرفت أيضا عدم كونه من الأحكام الوضعية.
و لا بأس بمزيد توضيح للنجاسة و الطهارة، فنقول: إنّ عمدة ما استفيد منه نجاسة بعض الأشياء هو النصوص الآمرة بالغسل نظير الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و إلّا فلفظ النجاسة لم يذكر في غالب الروايات- نعم ورد في تنجيس النبيذ أنّ ما على الميل من الخمر ينجّس حبّا من الماء «1»، و كذا في تنجس الماء الكرّ بالتغير- و يستكشف من الأمر بالغسل عن كون النجاسة خصوصية كامنة في الشيء لا ترتفع إلّا بالماء أو المسح على الأرض أو الشمس، و تلك الخصوصية دعت الشارع إلى جعل أحكام للشيء المتصف بالنجاسة، فالنجاسة أعني تلك الخصوصية تكون نظير الملاكات في الأحكام التكليفية، فلو كانت النجاسة أمرا
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 3/ 470، الحديث 4202: «عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث النبيذ، قال: ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء، يقولها ثلاثا».
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 128
اعتباريا لم يكن معنى لغسلها بالماء مثلا، فإنّ الأمر بالغسل كاشف عن كون النجاسة المجهولة ماهيتها أمرا تكوينيا خارجيا، فالنجاسة تكون كغير المأكول المحكوم بأحكام، فكما أنّ ما لا يؤكل من الامور الخارجية، فكذلك النجاسة، و يقابل النجاسة الطهارة فإنّها عبارة عن النظافة التي رتب عليها أحكام شرعية، و من هنا يصح أن يقال: إنّ النجاسة أمر وجودي و الطهارة أمر عدمي.
و تظهر الثمرة بين وجوديتهما، و وجودية أحدهما و عدمية الآخر في جريان الاصول، فإنّه بناء على كونهما وجوديين يجري الأصل فيهما و يسقط بالتعارض كما في تعاقب الحالتين، و بناء على وجودية أحدهما و عدمية الآخر بأن يقال: إنّ النجاسة أمر وجودي حيث إنّها خصوصية خارجية و الطهارة عدم تلك الخصوصية، فمع الشك في النجاسة يجري الأصل فيها فقط، و لا يجري في الطهارة.
القسم الثالث: كالملكية و الزوجية و الحرية و الرقية، فقد يقال بكونهما من الامور الانتزاعية، لكن فيه: أنّ الملكية مثلا التي تكون موضوعا لأحكام شرعية كحرمة التصرف في ملك الغير لا يمكن أن تنتزع عن الحكم المترتب عليها لتأخر الحكم عن الموضوع، و المفروض أنّ المأخوذ في الأدلة موضوعا للحكم هو الملك، فكيف يمكن أن تنتزع عن الحكم المتأخر عنه، و كذا الزوجية و نحوها فكون هذه الامور من الانتزاعيات لا وجه له أصلا.
نعم يدور الأمر بين كونها من الامور الاعتبارية العقلائية الإمضائية أو التأسيسية، و بين كونها من الامور الواقعية كالنجاسة على ما عرفت. توضيح ذلك:
أنّ العقلاء يرون و يدركون اختصاصا لمن حاز بقصد التملك شيئا من المباحات الأصلية، و الشارع يرى أيضا ذلك، و ليس للعقلاء تعبد حتى يقال إنّهم بنوا تعبدا على هذا الحق بسبب الحيازة، بل يرون وجود هذا الاختصاص عند تحقق الحيازة،
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 129
و عليه فتكون الملكية أمرا واقعيا، و كذا الزوجية.
و ربما يدل عليها قولهم عليهم السّلام «1» «لكل قوم نكاح» يعني أنّ العقلاء يرون عند تحقق ما هو سبب لديهم خصوصية تسمى بالزوجية المجهولة الماهية، فلا تكون حكما وضعيا، بل تكون كالنجاسة التي عرفت كونها أمرا واقعيا.
و يحتمل أن تكون الملكية و نظائرها من الامور الاعتبارية التي يعتبرها الشارع أو العقلاء، بأن يقال: إنّ الشارع يحكم بالملكية عند تحقق عقد البيع مثلا الجامع للشرائط المعتبرة فيه كحكمه بوجوب الصلاة عند الدلوك، فتكون الملكية مجعولا شرعيا كالوجوب، أو يقال: إنّ الملكية من الامور التي اعتبرها العقلاء عند تحقق أشياء كالحيازة و البيع و الإجازة و الصلح و غيرها من المعاملات الدائرة بينهم.
و لا يخفى أنّ المجعول الشرعي ليس منحصرا فيما ذكروه من التكليف و الوضع، لأنّ هناك امورا مجعولة أيضا كالولايات و المناصب كالقضاوة و تولي الأوقاف، و باب الضمانات كضمان المال الذي أتلفه من الغير سواء كان بالقصد أم لا، كإتلاف مال الغير سهوا و غفلة أو في حال النوم، فإنّ الشارع حكم بالضمان تأسيسا أو إمضاء حيث إنّ الضمان في بعض الموارد يكون من الامور العقلائية التي أمضاها الشارع، و على كل حال لو لم يكن الضمان مجعولا شرعيا لم يكن وجه في إجراء البراءة في الشك في الضمان كما هو واضح، و كذا باب الحقوق كالخيارات المجعولة شرعا كخياري المجلس و الحيوان، فإنّ الخيار و هو الاستيلاء على فسخ العقد مجعول شرعي، و كذا الحال في حكم الشارع بالشركة في مال كقوله: الخمس للسادة و الصدقة للفقراء، فإنّ الحكم باشتراك مال بين شخصين أو أزيد أو بين أشخاص وجهة كالسيد و الفقير مجعول شرعي.
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 21/ 199، الحديث 26892.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 130
و بالجملة فلا ينبغي الإشكال في كون الضمانات و الخيارات و الولايات طرا من المجعولات الشرعية، فلا وجه لإنكار الحكم الوضعي و حصر المجعول الشرعي في التكليف كما لا وجه لعدّ كثير مما لا تناله يد الجعل الشرعي من الحكم الوضعي كالسببية و الجزئية و نحوهما، و كذا الطهارة و النجاسة و غيرهما مما تقدم.
فالحق أنّ غالب ما عدّوه من الأحكام الوضعية أجنبي عن الحكم الوضعي، و غالب ما لم يذكر منه كالضمانات و المناصب و الحقوق يكون من الحكم الوضعي كما لا يخفى.
[عدم خلو الحكم التكليفي عن الوضعي و بالعكس]
ثم إنّه يمكن لنا دعوى عدم خلو الحكم التكليفي عن الوضعي، و أنّ التكليف يستلزم الوضع، فإنّ وجوب الزكاة و الوفاء بالنذر يستلزم الوضع و هو شغل الذمة، بل و كذا في مثل وجوب الصلاة و نحوها من العبادات، فإنّ وجوب الصلاة لو لم يستلزم الوضع أعني شغل الذمة بالفعل الذي تعلق به الحكم، لم يكن وجه لوجوب قضائه عنه بعد موته مع وضوح سقوط الخطاب بالموت، فوجوب القضاء كاشف عن اشتغال ذمة الميت بالفعل، و لذا يؤدّى عنه بعد موته.
كما أنّه يمكن دعوى لغوية الوضع المجرد عن التكليف كاشتغال الذمة بمال أو عمل مع عدم وجوب أدائه، إذ لو لم يكن أداؤه واجبا لزم لغوية هذا الاشتغال.
هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعية.
تهذيب الأصول، ج2، ص: 72
الأمر السادس: في مجعولية الصحة و الفساد
هل الصحة و الفساد مجعولتان مطلقا أو لا مطلقا، أو مجعولتان في المعاملات دون العبادات، أو الصحة الظاهرية مجعولة دون الواقعية؟ أقوال.
تهذيب الأصول، ج2، ص: 73
التحقيق: امتناع مجعوليتهما مطلقا؛ لما تقدم في مبحث الصحيح و الأعم أن الصحة و الفساد من أوصاف الفرد الموجود من الماهية المخترعة، منتزعتان من مطابقة الخارج مع المخترع المأمور به، لا من أوصاف الماهية. و عليه فهو أمر عقلي لا ينالها الجعل تأسيسا و لا إمضاء.
و ما يرجع إلى الشارع إنما هو تعيين الماهية بحدودها، و أما كون هذا مطابقا أو لا فأمر عقلي؛ فإن أتى بها بما لها من الأجزاء و الشرائط يتصف بالصحة، و لا يحتاج إلى جعل صحة من الشارع.
و ما عن المحقق الخراساني: من كون الصحة مجعولا في المعاملات؛ لأن ترتب الأثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع- و لو إمضاء- ضرورة أنه لو لا جعله لما كان يترتب عليه الأثر؛ لأصالة فساده «1».
غير مفيد؛ إذ فيه أولا: أن الماهيات المخترعة لا تتصف بالصحة و الفساد، بل المتصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيات عليه و لا انطباقها، و هما عقليان لا يتطرق الجعل إليهما.
و ثانيا: أن ما ذكره يرجع إما إلى جعل السببية لألفاظ أو أفعال مخصوصة، كما هو المختار في الأحكام الوضعية «2» أو إلى جعل الأثر و المسبب عقيب الألفاظ، و هما غير جعل الصحة؛ إذ جعل السببية أو ترتب الأثر على موضوع و إن حصلا بفعل الشارع إلا أن كون شيء مصداقا للسبب أو لما رتب عليه الأثر بجعله، أمر عقلي من خواص الفرد الموجود.
__________________________________________________
(1)- كفاية الاصول: 222.
(2)- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 71- 72.
تهذيب الأصول، ج2، ص: 74
و أما الصحة الظاهرية فهي أيضا مثل الواقعية منها؛ لأن جعل الصحة للصلاة المأتي بها بلا سورة لا يعقل بلا تصرف في منشأ الانتزاع؛ إذ كيف يعقل القول بأن الصلاة بلا سورة صحيحة مع حفظ جزئية السورة في جميع الحالات؛ حتى عند الجهل بوجوبها؟
و ما يقال من أن هذا إذا علم الانطباق، و أما إذا شك في الانطباق فللشارع الحكم بجواز ترتب أثر الصحة أو وجوبه، و هما قابلان للجعل «1»، غير وجيهة؛ لأن ما ذكر غير جعل الصحة بنفسها، بل الظاهر أن جواز ذلك أو إيجابه بدون رفع اليد عن الشرط و الجزء غير ممكن، و معه يكون الانطباق قهريا. و لعل القائل بالجعل هاهنا خلط بين الأمرين.
الاستصحاب، النص، ص: 65
فصل الأحكام الوضعية و تحقيق ماهيتها
لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حال الوضع تبعا للمحقق الخراساني «1»، و تحقيق المقام يتم برسم امور:
الأمر الأول تقسيم الحكم إلى تكليفي و وضعي
إنه لا إشكال في تقسيم الحكم إلى التكليفي و الوضعي، و الظاهر أنه ينقسم إليهما بالاشتراك المعنوي، فلا بد من جامع بينهما، و الظاهر أن الجامع هو كونهما من المقررات الشرعية؛ لأن كل مقرر و قانون من مقنن نافذ في المجتمع يطلق عليه الحكم، فيقال: حكم الله تعالى بحرمة شرب الخمر، و وجوب صلاة الجمعة، و حكم بضمان اليد و الإتلاف، و حكم بنجاسة الكلب و الخنزير، و حكم بأن المواقيت خمسة
__________________________________________________
(1)- كفاية الاصول: 454 و ما بعدها.
الاستصحاب، النص، ص: 66
أو ستة، و كذا يقال: حكم السلطان بأن جزاء السارق كذا، و سعر الأجناس كذا و كذا.
و بالجملة: كل مقرر و قانون عرفي أو شرعي- ممن له أهلية التقرير و التقنين- حكم، تكليفا كان أو وضعا، و لا تخرج المقررات الشرعية أو العرفية عن واحد منهما، و لا ثالث لهما، فمثل الرسالة و الخلافة و الإمامة و الحكومة و الإمارة و القضاء من الأحكام الوضعية.
قال تعالى: «و كلا جعلنا نبيا» «1».
و قال تعالى: «إني جاعل في الأرض خليفة» «2».
و قال تعالى: «إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» «3».
فقد نصب رسول الله صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين عليه السلام إماما و أميرا على الناس يوم الغدير «4»، و جعل القضاة من ناحية السلطان- كجعل الأمير و الحاكم- معروف و معلوم.
و بالجملة: لا إشكال في كون النبوة و الإمامة و الخلافة من المناصب الإلهية التي جعلها الله و قررها، فهي من الأحكام الوضعية أو من الوضعيات و إن لم يصدق عليها الأحكام.
فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمه الله من كون أمثال ذلك من الأحكام الوضعية «5» في غير محله، إلا أن يرجع إلى بحث لغوي و هو عدم صدق الحكم عليها،
__________________________________________________
(1)- سورة مريم 19: 49.
(2)- سورة البقرة 2: 30.
(3)- سورة البقرة 2: 124.
(4)- انظر كتاب الغدير للعلامة الأميني رحمه الله 1: 11.
(5)- فوائد الاصول 4: 385.
الاستصحاب، النص، ص: 67
و هو كما ترى، كاستيحاشه من كون الماهية المخترعة- كالصلاة و الصوم- منها «1»؛ فإنها قبل تعلق الأمر بها و إن لم تكن من الأحكام الوضعية، لكنها لم تكن قبله من الماهيات المخترعة أيضا؛ لعدم كونها حينئذ من المقررات الشرعية، و إنما تصير مخترعات شرعية بعد ما قررها الشارع في شريعته بجعلها متعلقة للأوامر، و حينئذ تصير كالجزئية و الشرطية و المانعية للمأمور به من الأحكام الوضعية.
و لا فرق بين الجزئية و الكلية في كونهما أمرين منتزعين عن تعلق الأمر بالطبيعة، فيكون نحو تقررهما في الشريعة بكونهما منتزعين من الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة، فمن جعل الجزئية للمأمور به من الأحكام الوضعية مع اعترافه بكونها انتزاعية فليجعل الكلية أيضا كذلك.
و على هذا: فلا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية؛ أي من المقررات الشرعية و الوضعيات الإلهية، و لكن إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من الوضعيات يحتاج إلى تأويل.
نعم: نفس الصلاة و الصوم كنفس الفاتحة و الركوع و السجود مع قطع النظر عن تعلق الأمر بهما و صيرورتهما من المقررات الشرعية، لا تعدان من الأحكام الوضعية، و لا من الماهيات المخترعة.
فالتحقيق: ان جميع المقررات الشرعية تنقسم إلى الوضع و التكليف و لا ثالث لهما.
نعم: صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الآخر، بل في بعضها غير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم و عدمه، بل في مطلق الوضعيات، صدق عليها أو لا.
الاستصحاب، النص، ص: 68
الأمر الثاني بعض موارد الخلط بين التكوين و التشريع
إنه كثيرا ما يقع الخلط بين الامور التكوينية و التشريعية، فيسري الغافل الحكم من التكوين إلى التشريع، فمن ذلك: أنه لما قرع بعض الأسماع أن الامور الانتزاعية يكون جعلها و رفعها بمناشئ انتزاعها، فلا يمكن جعل الفوقية و التحتية للجسمين إلا بجعلهما بوضع خاص، يكون أحدهما أقرب إلى المركز و الآخر إلى المحيط، فبعد ذلك تنتزع الفوقية و التحتية منهما قهرا، و لا يمكن جعلهما و رفعهما استقلالا، فجعل هذا الحكم التكويني مقياسا للامور التشريعية، فقايس الامور التشريعية بالأمور التكوينية، فذهب إلى امتناع جعل الجزئية و الشرطية و المانعية للمأمور به و رفعها عنه استقلالا، و زعم أن جعلها بجعل منشأ انتزاعها كالأمور التكوينية «1»، مع أن القياس مع الفارق.
و توضيح ذلك: أن الامور الاعتبارية تابعة لكيفية اعتبارها و جعلها، فقد يتعلق الأمر القانوني بطبيعة أولا على نحو الإطلاق لاقتضاء في ذلك، ثم تحدث مصلحة في أن يجعل لها شرط، أو يجعل لها قاطع و مانع بلا رفع الأمر القانوني الأول، فلو قال المولى:
«أقيموا الصلاة»* «2» ثم قال: «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق» «3» أو قال: «يشترط في الصلاة الوضوء أو القبلة» أو قال: «لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه» أو «لا تصل في الثوب النجس» ينتزع منها الشرطية و المانعية، فهل ترى أنه يلزم أن يرفع الأمر الأول و ينسخه، ثم يأمر بالصلاة مع التقيد بالشرط أو عدم المانع؟! و أي مانع من جعل الوجوب للطبيعة المطلقة بحسب الجعل الأولي، ثم يجعلها
__________________________________________________
(1)- كفاية الاصول: 456 و 457.
(2)- سورة البقرة 2: 43.
(3)- سورة المائدة 5: 6.
الاستصحاب، النص، ص: 69
مشروطة بشيء بجعل مستقل، أو يجعل شيئا مانعا لها بنحو الاستقلال لاقتضاء حادث، كما غير الله قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام؟! فهل كان قوله: «قد نرى تقلب وجهك في السماء» إلى قوله: «فول وجهك شطر المسجد الحرام» «1» من قبيل نسخ حكم الصلاة رأسا و إبداء حكم آخر، أو كان الجعل متعلقا بالقبلة فقط؟! و مجرد كون المنتزعات التكوينية تابعة لمناشئ انتزاعها لا يوجب أن تكون الشرائط و الموانع التشريعية كذلك، و كذا الكلام في إسقاط شرط أو مانع.
و بالجملة: تلك الامور الاعتبارية و الجعلية كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها، يمكن جعلها مستقلا بلا إشكال و ريب، كما يمكن إسقاطها كذلك.
نعم: إن الإرادة الواقعية إذا تعلقت بطبيعة لا يمكن أن تنقلب عما هي عليه من زيادة جزء أو شرط أو مانع، أو إسقاطها مع بقائها على ما هي عليه؛ لأن تشخصها بتشخص المراد، فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغير المراد، بخلاف الامور القانونية فإنها تابعة لكيفية تعلق الجعل بها هذا حال الشروط و الموانع.
و كذا حال إسقاط الجزئية، فلو قال المولى: «أسقطت جزئية الحمد للصلاة» تصير ساقطة مع بقاء الأمر القانوني.
و أما حال جعل الجزئية فتوضيحه: أن الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة إنما تتعلق بها في حال لحاظ الوحدة، و لا يكون الأمر بها متعلقا بالأجزاء، بحيث ينحل الأمر إلى الأوامر، و لا الأمر الذي هو بسيط مبسوطا على الأجزاء، بل لا يكون في البين إلا أمر واحد متعلق بنفس الطبيعة في حال الوحدة، و هذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الأجزاء في لحاظ التفصيل، فإذا أمر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلا نفس طبيعتها، و تكون الأجزاء مغفولا عنها.
__________________________________________________
(1)- سورة البقرة 2: 144.
الاستصحاب، النص، ص: 70
فحينئذ نقول: إن الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات، و إلى الأجزاء بعين دعوته إلى الطبيعة، فإذا جعل المولى جزءا للطبيعة فقال:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)
«1» أو «اقرأ في الصلاة» أو «جعلت الفاتحة جزءا لها» يدعو الأمر المتعلق بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة، كما إذا أسقط جزءا منها تكون دعوة الأمر إلى الطبيعة دعوة إلى بقية الأجزاء.
و بالجملة: لا أرى وجها لامتناع تعلق الجعل الاستقلالي- على ما ذكر- إلا توهم كون التشريع كالتكوين، و إلا فلو لم يرد من المولى إلا الأمر بطبيعة، ثم صدر منه أمر آخر يدل على اشتراطها بشيء، أو جعل شيء جزءا منها، فهل يجوز للعبد ترك الشرط أو الجزء قائلا: بأنه لا بد من صدور أمر آخر متعلق بالطبيعة المتقيدة أو المركبة من هذا الجزء، و لم يصدر منه على القطع إلا الأمر بالطبيعة و الدليل الدال على الاشتراط أو الجزئية، و ذلك لا يكفي في الدعوة و البعث، و هل هذا إلا كلام شعري مخالف للحجة القطعية؟!
توهم عدم قبول السببية للجعل و دفعه
و من موارد الخلط بين التكوين و التشريع ما يقال: إن السببية مما لا تقبل الجعل لا تكوينا و لا تشريعا، لا أصالة و لا تبعا، بل الذي يقبله هو ذات السبب و وجوده العيني، و أما السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة؛ فإن السببية عبارة عن الرشح و الإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب، و هذا الرشح و الإفاضة من لوازم الذات، لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني، فضلا عن التشريعي، بل هي كسائر
__________________________________________________
(1)- عوالي اللآلي 1: 196/ 2، مستدرك الوسائل 1: 774/ 5 و 8- باب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، تفسير أبي الفتوح الرازي 1: 15.
الاستصحاب، النص، ص: 71
لوازم الماهية تكوينها إنما يكون بتكوين الماهية، فعلية العلة و سببية السبب كوجوب الواجب و إمكان الممكن إنما تكون من خارج المحمول، تنتزع عن مقام الذات، ليس لها ما بحذاء، لا في وعاء العين، و لا في وعاء الاعتبار، فالعلية لا تقبل الإيجاد التكويني فضلا عن الإنشاء التشريعي «1»، هذا ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله في وجه عدم إمكان جعل السببية.
و فيه: مضافا إلى خلطه بين لوازم الماهية و لوازم الوجود، و خلطه بين المحمول بالضميمة و خارج المحمول، و خلطه بين السببية؛ أي الخصوصية التي يصير المبدأ بها مبدأ فعليا للمسبب، و بين الرشح و الإفاضة أي المسبب بما أنه مسبب أنه خلط بين الأسباب التكوينية و الأسباب التشريعية، و قاس التشريع بالتكوين بلا وجه؛ فإن نحو السببية التكوينية سواء كانت بمعنى مبدئية الإفاضة، أو نفس الرشح و الإفاضة لا يكون في التشريعيات مطلقا، فلا يكون العقد مترشحا منه الملكية أو الزوجية، و التحرير مترشحا منه الحرية، كما لا تكون في العقود و الإيقاعات خصوصيات بها تصير منشأ لحقائق المسببات:
أما عدم المنشئية لأمر حقيقي تكويني فواضح.
و أما عدم صيرورتها منشأ حقيقيا للاعتبار؛ فلأن الاعتبارات القائمة بنفس المنشئ أو العقلاء أو الشارع، لها مناشئ تكوينية، لا تكون العقود و الإيقاعات أسبابا لتكونها فيها، فالسببية للامور التشريعية و الاعتبارات العقلائية إنما هي بمعنى آخر غير السببية التكوينية، بل هي عبارة عن جعل شيء موضوعا للاعتبار.
فالمقنن المشرع إذا جعل قول الزوج: «هي طالق»- مع الشرائط المقررة في قانونه- سببا لرفع علقة الزوجية يرجع جعله و تشريعه إلى صيرورة هذا الكلام مع الشرائط
__________________________________________________
(1)- فوائد الاصول 4: 394 و 395.
الاستصحاب، النص، ص: 72
موضوعا لاعتبار فسخ العقد و رفع علقة الزوجية، و لأجل نفوذه في الامة يصير نافذا، فقبل جعل قول الزوج سببا لحل العقد لا يكون قوله: «أنت طالق» سببا له و موضوعا لإنفاذ الشارع المقنن، و بعد جعل السببية له يصير سببا و موضوعا لاعتباره القانوني المتبع في امته و قومه، من غير تحقق رشح و إفاضة و خصوصية، فالسببية من المجعولات التشريعية
نعم: للشارع و المقنن أن يجعل المسببات عقيب الأسباب، و أن يجعل نفس سببية الأسباب للمسببات، و الثاني أقرب إلى الاعتبار في المجعولات القانونية فتدبر.
الأمر الثالث إن الملكية ليست من المقولات حقيقة
إن تلك الامور التشريعية في القانون الشرعي أو القوانين العرفية لا يكون لها نحو تحقق إلا في عالم الاعتبار، و ليس لما يعتبر من الملكية و الزوجية و الحرية و الرقية و أمثالها إلا وجود اعتباري، فلا يندرج واحد منها تحت مقولة من المقولات اندراجا حقيقيا، فلا تكون الملكية من مقولة الجدة، و لا من مقولة الإضافة.
نعم: نفس مفهوم الملكية مفهوم إضافي، لكن لا يوجب ذلك اندراج الملكية الاعتبارية تحت مقولة الإضافة، كما هو المعلوم عند أهله «1»، فقول بعضهم: إن مقولة الجدة لها مراتب: أحدها الملكية الاعتبارية، حتى عد مالكية الله تعالى أيضا من مراتبها «2» لا ينبغي أن يصغى إليه.
نعم: الملكية تشبه بمقولة الإضافة من وجه، و بمقولة الجدة من وجه
__________________________________________________
(1)- منظومة السبزواري- قسم الحكمة: 145، الأسفار 4: 6.
(2)- فوائد الاصول 4: 383 و 384.
الاستصحاب، النص، ص: 73
آخر «1»، لكن البحث في شباهتها بهما و عن وجهها مما لا يرجع إلى محصل.
أقسام الوضعيات
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن الأحكام الوضعية عبارة عن كافة المقررات الشرعية ما عدا الأحكام التكليفية، حتى أن الإباحة الواقعية لو كان لها جعل تكون من الوضعيات و الأحكام الوضعية، بعد اشتراكها كلها في إمكان جعلها استقلالا، و ليس حكم وضعي إلا و يمكن أن يتطرق إليه الجعل الاستقلالي.
[فمنها ما يكون مجعولا بالتبع، و هو] على أنحاء:
منها: ما يكون مجعولا بتبع التكليف؛ بمعنى انتزاعه منه، كالجزئية للمكلف به غالبا، و الشرطية و المانعية له.
و منها: ما يكون مجعولا بتبع اشتراط التكليف به؛ أي ينتزع من اشتراطه به، كقوله تعالى: «لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» «2» فإن الاستطاعة لم تكن قبل هذا الجعل شرطا للتكليف، و بعد تقييد التكليف بها انتزع منه الشرطية، و يمكن أن يكون دلوك الشمس من هذا القبيل، كما يمكن أن يكون من قيود المكلف به كما هو الأظهر؛ فإن الصلاة كما أنها مشروطة بالستر، مشروطة بوقوعها من دلوك الشمس إلى غسق الليل.
و منها: ما يكون مجعولا أصالة و هو على أنحاء:
منها: ما يكون متعلق الجعل ابتداء من غير تخلل واسطة تكوينية أو تشريعية، كالخلافة و النبوة و الإمامة و القضاوة، و السببية و الشرطية و المانعية و القاطعية أحيانا، و من
__________________________________________________
(1)- انظر نهاية الدراية 3: 61 و 62.
(2)- سورة آل عمران 3: 97.
الاستصحاب، النص، ص: 74
ذلك جعل المواقيت و الموقفين، و جعل الصفا و المروة و المسعى من شعائر الله، و أمثال ذلك، و إن أمكن أن يقال بانتزاع بعضها من الحكم التكليفي.
و منها: ما يكون مجعولا عقيب شيء اعتباري أو تكويني، كضمان اليد و الإتلاف، و كحق السبق و التحجير، و كحق الرهان في باب السبق و الرماية، و كالملكية عقيب الإحياء و الحيازة، و من قبيله جميع الحدود الشرعية، و أحكام القصاص و الديات.
و منها: ما يكون مجعولا عقيب أمر تشريعي قانوني، كالعهدة عقيب عقد الضمان، و من ذلك مفاد العقود و الإيقاعات، فإن كل ذلك من التشريعيات و الجعليات الشرعية و العرفية التي أنفذها الشارع، و المراد من الأحكام التشريعية [ما هو] أعم من العرفيات التي أنفذها الشارع، أو لم يردع عنها.
ثم اعلم: أن في العقود و الايقاعات و سائر الوضعيات ذوات الأسباب يمكن أن يلتزم بجعل السببية، فيقال: بأن الشارع جعل الحيازة سببا للملكية، و اليد سببا للضمان، و عقد البيع و النكاح سببين لمسببهما، و يمكن أن يلتزم بجعل المسبب عقيب السبب، و الأول هو الأقرب بالاعتبار و الأسلم من الإشكال، لكن في كل مورد لا بد من ملاحظة مقتضى دليله.
فقد اتضح مما ذكرنا: النظر في كثير مما أفاده المحقق الخراساني «1» و غيره «2» في المقام، منه ما أفاده رحمه الله في النحو الأول من الوضع، فإنه مع تسليم عدم تطرق الجعل التشريعي مطلقا إلى شيء لا وجه لعده من الأحكام الوضعية «3» فإن الأحكام الوضعية هي الأحكام الجعلية و المقررات الشرعية، فلا معنى لعد ما لا يتطرق إليه الجعل منها.
__________________________________________________
(1)- كفاية الاصول: 454 و ما بعدها.
(2)- فوائد الاصول 3: 17، 105 و 4: 392.
(3)- كفاية الاصول: 455.
الاستصحاب، النص، ص: 75
مع أنك قد عرفت النظر «1» في عد السببية للتكليف مما لا يتطرق إليه الجعل؛ فإن السببية كالمانعية و الشرطية و الرافعية لأصل التكليف أيضا من الوضعيات المتطرق إليها الجعل، فإن نفس دلوك الشمس إلى غسق الليل أو سببيته للجعل و إن لم يكن مجعولا، لكن سببيته للوجوب يمكن أن تكون مجعولة و مقررة شرعا، كما أن الاضطرار و إن لم يكن مجعولا، لكن يمكن جعل السببية لرفع التكليف له، كما يمكن رفع التكليف عقيبه، كما هو ظاهر قوله:
(رفع ... و ما اضطروا إليه)
«2» الرافع لحرمة الخمر في صورة الاضطرار العرفي.
هذا، كما أن عد بعضهم الكاشفية و الطريقية و الحجية و أمثال ذلك من الوضعيات «3» في غير محله؛ فإن الحجية سواء كانت بمعنى منجزية التكليف، أو بمعنى قاطعية العذر ليست من المجعولات، كما أن الطريقية و الكاشفية للكاشف و الطريق ليستا بمجعولتين، كما مر ذكره في محله «4».
__________________________________________________
(1)- انظر صفحة 70 و 71.
(2)- انظر التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، الوسائل 11: 295/ 1- باب 56 من أبواب جهاد النفس.
(3)- تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(4)- ذكر في أنوار الهداية 1: 206.
الاستصحاب، بتقریر السید محمدعلی الربانی | ۱۹۱
والفرق بين الأمور الاعتبارية الأدبية وبين الاعتبارات القانونية في مرحلة الأثر هو أن الاعتبارات الأدبية ليست مجاري الأصول، بخلاف الاعتبارات القانونية؛ فإنها تقع مجرى للأصول ويمكن استصحابها؛ ولذا لا بد من تمييز كل منهما.
المقدمة الثالثة: أن الاعتبارات القانونية - كما هو المشهور - منقسمة إلى قسمين، إلا أنه يمكن تقسيمها إلى أقسام ثلاثة باعتبار آخر.
القسم الأول: الأحكام التكليفية.
القسم الثاني: الأحكام الوضعية.
القسم الثالث: الماهيات الاعتبارية.
والأحكام التكليفية عبارة عن اعتباريات قانونية منشأة بداعي الزجر أو بداعي البعث إلزاماً أو غير إلزام.
وقد يقال بأن الإباحة أيضاً من الأحكام التكليفية، ولكن قد تقدم الكلام في أنها ليست من الأحكام، فما ينشأ بداعي توجيه المكلف نحو الفعل أو بداعي الزجر عن الفعل هو الحكم التكليفي، وله ربط مباشر مع عمل المكلف، يعني: افعل أو لا تفعل.
والأحكام الوضعية عبارة عن الأحكام القانونية التي ليس لها ربط مباشر مع عمل المكلف، بمعنى أنها لا تدعو المكلف إلى العمل ولا تزجره عنه، بل تكون موضوعاً أو متعلقاً للحكم التكليفي، وهذا من قبيل الملكية والزوجية وأمثال ذلك.
فحين ينشأ الملكية لا ربط له بفعل المكلف، إلا أن الملكية موضوع الحرمة تصرف الغير بلا إذن مالكه أو أنه يملك منافعه بتبع العين
وكذلك الزوجية، فإنها موضوع لعدم جواز استمتاع الغير.
وهنا قسم آخر وهو غالباً يكون متعلق الأحكام أو متعلق المتعلق، ونحن نعبر عن هذا القسم تبعاً للشهيد الأول بالماهيات الجعلية، وهذا من قبيل البيع والصلاة والدرهم والدينار وأشباه ذلك وإن لم يصدق به الشيخ وغيره عند نقل هذا القول عن
| ۱۹۲
الشهيد الأول، إلا أن هذا القسم قابل للتصديق ومن سنخ الأحكام الوضعية، ومن الماهيات الاعتبارية. وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في البحث عن الحقيقة الشرعية حينما اخترنا أن الصلاة ماهية اعتبارية كالدرهم والدينار وأشباه ذلك. والماهيات الاعتبارية أيضاً نوع من المفردات القانونية تشبه الأحكام الوضعية، غاية الأمر أن الفرق بينهما - مضافاً إلى ما ذكرنا من أن الأحكام الوضعية هي موضوعات للأحكام، والماهيات الاعتبارية هي متعلقات الأحكام - هو أن الأحكام الوضعية تحمل بحمل ذو هو، فيقال: هذا مملوك وهذا زوج فلانة. وأما الماهيات الاعتبارية فتحمل بحمل هو هو، فيقال هذه صلاة، وهذا دينار، وهذا درهم.
والسر فيه: أن الماهيات الاعتبارية عبارة عن إعطاء حد شيء لشيء، ثم تأصل فيه ذلك الحد، وهذا كثير في جميع الملل والنحل، ومحتاج إلى متمم الجعل التطبيقي، كما سيأتي توضيحه في هذا البحث إن شاء الله.
فإن الصلاة عبارة عن العطف والخضوع الاعتباري، والصلاة اعتبرت على الحركات والسكنات الخاصة التي يأتي بها الإنسان خاضعاً الله فاعتبرت صلاة، وشكلت ماهية اعتبارية، وقابلة للتطبيق على مصاديق خاصة بحسب الملل والنحل بل قد تكون مصاديقها مختلفة في ملة واحدة.
فصلاة اليهود صلاة وكذا صلاة النصارى وصلاتنا، ومن المعلوم اختلاف مصاديق الصلاة عندنا أيضاً، مضافاً إلى اختلاف الصلاة في كل أمة، وفي صحيحة زرارة: «فرض الله الصلاة وسن رسول الله مسلم عشرة أوجه الحديث، نظير إطلاق الدينار في زماننا على الأوراق النقدية، فإنّ الدينار كان اسماً لمثقال من الذهب المسكوك، ثم أطلق الدينار مع العناية على هذه الأوراق، ثم نسي الأصل بحيث لو
(۱) الكافي ٣: ۲۷۲
الاستصحاب | ۱۹۳
أطلق لا نصرف الذهن إلى هذه الأوراق، وتشكلت ماهية أُخرى، وهذا يختلف بمتمم الجعل التطبيقي، فالدينار العراقي دينار وكذا الدينار الكويتي وكذلك الدنانير الأخر.وقد يشتبه ويختلط بعض هذه الأقسام ببعض آخر، كما توهم صاحب الرسائل الجديدة أن الإباحة من الأحكام الوضعية مع أنها أمر متأصل قانوني. وكما أرجع بعض الأكابر عدة من الحقوق التي من الأمور المتأصلة إلى الحكم التكليفي، بمعنى الجواز والإباحة، أو إلى الحكم الوضعي بمعنى نفوذ الإباحة، فذهب إلى أن حق القصاص عين جواز القتل. ومن المعلوم أن بين جواز القتل وحق القصاص فرق؛ إذ يمكن الحلف على عدم القصاص، ومع ذلك يكون حق القصاص ثابتاً، والجواز التكليفي غير قابل للانتقال بالإرث وحق القصاص قابل للانتقال بالإرث.
المقدمة الرابعة: أن الاعتبارات القانونية مرتبطة مع الاعتبارات الأدبية، بمعنى مرور الاعتبارات القانونية على الاعتبارات الأدبية، فالأحكام القانونية بأنواعها الثلاثة في جميع اللغات لا بد وأن تمر على الاعتبارات الأدبية، والأحكام التكليفية التي منها الوجوب والحرمة روحها الوعيد على الترك، أو الوعد على الفعل، ثم تحول من الوعيد على الترك أو الوعد على الفعل، ثم تأصل، ويعبر عنه بالوجوب والحرمة.
وكذا الأحكام الوضعية، فإن الملكية بمعنى السلطنة والسيطرة الخارجية وممنوعية الآخرين من التصرف فيما له السلطنة، ثم تحول إلى معنى آخر، فيقال لصبي إنه مالك، مع أنه ليس له السيطرة الخارجية، وهكذا الدرهم والدينار.
والمقصود وجود الترابط بهذا المعنى بين الاعتبارات القانونية والاعتبارات الأدبية.
المقدمة الخامسة: أنه كما يكون ارتباط بين الاعتبارات القانونية والاعتبارات الأدبية، وتكون الأحكام التكليفية مستبطنة للاعتبارات الأدبية، نظير الوعيد على الفعل أو على الترك وممنوعية الآخرين من التصرف وأمثال ذلك، كذلك يكون ارتباط
| ١٩٤
بين عدة من الأحكام القانونية - وأصل هذه الفكرة مأخوذة من عبارة الشيخ في باب الشروط وهو أن عدة من الأحكام القانونية مستبطنة فيها عدة من الأحكام القانونية الأخر - فمثلاً الأحكام الوضعية في عدة منها تستبطن عدة من الأحكام التكليفية، وهذه الأحكام التكليفية كالمقوم للأحكام الوضعية. ولا إشكال في ترابط بعضها مع بعض في الجملة، فإنه قد يقع بعضها موضوعاً لبعض آخر ويترتب بعضها على بعض، مثل النجس يجب الاجتناب عنه، أو لا يجوز التصرف في ملك الغير بدون إذنه، وأمثال ذلك مما يترتب الحكم التكليفي على الحكم الوضعي إلا أن الكلام في أن ارتباط الأحكام القانونية بعضها مع بعض أعمق من ارتباط الحكم القانوني بالموضوعات الخارجية التكوينية؛ فإنه عندما يريد الشارع الحكم على شيء يلاحظ ذلك الشيء، ثم يحكم عليه بأنه حرام أو واجب أو مكروه أو مستحب، فيمكنه إيجاد الارتباط بين الحكم القانوني وذلك الشيء بأحد الأحكام.
وهذا الارتباط خاضع للجعل مائة في المائة، والجعل تابع للمصلحة، فارتباط الحكم القانوني مع الموضوع الخارجي ارتباط خاضع للجعل والمواضعة، والجعل تابع للمصلحة.
وأما ارتباط الأحكام القانونية بعضها مع بعض فهي أعمق من الارتباط بين الحكم القانوني والموضوع الخارجي؛ لأن ارتباط الأحكام القانونية بعضها مع بعض وإن كان خاضعاً للجعل، إلا أن هذا الجعل بسبب الترابط الذاتي بينها.
وقد صرح في بعض الكتب الفلسفية أن كلا الارتباطين من سنخ واحد، وأن الحكم الاعتباري لا يرتبط مع شيء آخر سواء أكان تكوينياً أم اعتبارياً، إلا مع الجعل.
إلا أن الحق أن ارتباط حكم قانوني مع حكم قانوني آخر بنحو يكون أحدهما موضوعاً والآخر محمولاً أعمق ارتباطاً من الحكم القانوني والموضوع الخارجي التكويني.
الاستصحاب | ١٩٥
وأساس هذا الارتباط موجود في ماهية الموضوع، وهو ما نعبر عنه بالاستبطان والاندماج. توضيح ذلك : أن الملكية - مثلاً - إذا أراد الشارع أن يجعلها موضوعاً للأحكام القانونية التكليفية، فلا يمكن للشارع جعلها موضوعاً لأي حكم أراد نظير الموضوعات الخارجية، فإن الموضوعات الخارجية لا اقتضاء لها بالنسبة إلى الأحكام التكليفية، وقابلة لأن يكون محمولها حراماً أو واجباً أو مكروهاً أو مستحباً، إلا أن المصالح والمفاسد تعينه.
والملكية معينة في الجملة للحكم التكليفي، فلا يمكن الحكم بأن ملك الغير يجب أو يستحب أو يكره التصرف فيه بدون إذنه؛ إذ الملكية مندمج فيها عدم تصرف الغير بغير إذن المالك وأن هذا مختص به.
فالملكية تجر نوعاً خاصاً من الأحكام التكليفية، وكذا الزوجية والعقود بالنسبة إلى ما يترتب عليها، فإنه لا يمكن بيع الشيء بشرط أن لا يملك الثمن، فهذا شرط يتنافى مع مقتضى العقد، فالعقد يظهر منه أنه يقتضي نوعاً خاصاً من الحكم وأن ملكية الثمن من الأمور المترتبة على البيع؛ ولذا ذكر الشيخ في مبحث أن الشرط لا بد وأن لا يكون منافياً لمقتضى العقد، يعني: الآثار التي هي كالمقوم العرفي ( وإنما الإشكال في تشخيص آثار العقد التي لا تتخلف عن مطلق العقد في نظر العرف أو الشرع، وتميزها عما يقبل التخلف الخصوصية تعتري العقد وإن اتضح ذلك في بعض الموارد لكون الأثر كالمقوم العرفي للبيع ) .
ولمزيد التوضيح يمكن تصوير مراحل أربع للأحكام القانونية:
(1) المكاسب ٦: ٤٥ .
| ١٩٦
المرحلة الأولى مرحلة الوعد والوعيد على فعل أو ترك، وهذه المرحلة مرحلة بسيطة وساذجة، فيقال للمكلف: إن فعلت ذلك تعاقب بعقوبة كذا، أو تئاب بشواب كذائي. وهذه المرحلة أول مرحلة من مراحل الأعمال المولوية.
المرحلة الثانية: مرحلة الأحكام التكليفية، وهي الوجوب والحرمة. وواضح عند الكل أن الوجوب هو البعث نحو الفعل والحرمة هي الزجر عن الفعل.
المرحلة الثالثة: مرحلة الأحكام الوضعية. وهذه المرحلة أيضاً واضحة عند الكل، وهي من قبيل الملكية والزوجية.
المرحلة الرابعة مرحلة الماهيات الجعلية، وأوضح مصاديقها العقود والإيقاعات، كالبيع والإجارة والصلح والإبراء والطلاق وأشباه ذلك. فإذا اتضح ذلك نقول: إن كل مرحلة من المراحل المتقدمة هي كالمقوم العرفي بالنسبة إلى المرحلة المتأخرة بوجوه عديدة نذكر اثنين منها :
الوجه الأول: أن كل مرحلة متأخرة مع عدم فرض المرحلة المتقدمة تكون لغواً ولا عكس، فإذا فرضنا الوجوب والحرمة ولم يكن وعد ووعيد يكون الوجوب أو الحرمة لغواً؛ إذ حقيقة الوجوب والحرمة جعل الملازمة بين الفعل والترك وبين المثوبة والعقوبة. كما أنه إذا فرضت الأحكام الوضعية كالملكية - مثلاً - ولم يترتب عليها وجوب أو حرمة تكون الملكية لغواً، وكذا إذا كان وجوب وحرمة ولم يكن حكم جزائي، وكما إذا فرضت ماهية جعلية كالعقد، فإن لم يترتب عليها حكم وضعي تكون الماهية الجعلية ملغاة، فإنه إن تحقق عقد الزواج أو الملكية ولم يترتب عليه ملكية أو
زوجية تكون هذه الماهية الجعلية بلا أثر ولغواً محضاً.
ومن هنا نستكشف أن كل مرحلة متقدمة مندمجة في المرحلة المتأخرة.
الوجه الثاني: أنه لو جعل الشارع ما لا يناسب المرحلة المتأخرة من المرحلة السابقة يرى العرف ذلك تضاداً في مرحلة الاعتبار، فإن قال: (يجب عليك فعل هذا وإن تركته لا تعاقب أو تئاب يكون هذا الجعل مضاداً مع الوجوب بنظر العقلاء،
الاستصحاب | ۱۹۷
وكذا في ناحية الحرمة، وكذا إذا قال : هذا ملك زيد ويجوز لكل أحد التصرف فيه بغير إذنه).
ومن هذا أيضاً نستكشف - كما ذكر الشيخ - أن بعضها مع بعض كالمقوم العرفي وليس كما ذكر من أن الترابط ترابط في حدود الجعل فقط.
ويترتب على هذا البحث آثار ونتائج متعددة:
منها : أن ما ذكره الشيخ في الرسائل من أن المشهور - كما في شرح الزبدة - بل الذي استقر عليه رأي المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين - : أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ) إلى آخره، هو صحيح بالمعنى الذي ذكرنا، وهو أنه ليس للخطاب الوضعي محتوى، إلا إذا كان هنا خطاب تكليفي.
نعم، إن كان مرادهم من ذلك أن الأحكام الوضعية غير مستقلة في الجعل، فهذا غير صحيح، وبهذا يمكن التصالح بين الشيخ والمحقق الخراساني.
ولسنا فعلاً بصدد التصالح بينهما، وسيأتي البحث عن ذلك فيما بعد إن شاء الله .
ومنها: أن الأحكام الوضعية أمور تمهيدية وموضوعات جعلية جعلها الشارع وسيطاً بين الموضوعات الخارجية وبين الأحكام التكليفية، وذلك لأجل تنظيم الأمور. وهذا أمر اخترعه العقلاء بإلهام من الله تعالى علمه البيان، وهذا ما يقتضيه قانون انتخاب الأسهل، فمن باب المثال : النجاسات التي هي مشتركة في كثير من الأحكام لا يصح فتح باب لكل واحد منها وأنه يحرم شربه ويجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه إلى غير ذلك، بل نجعله موضوعاً وسيطاً ونعبر عنه بالنجس، ويكون هذا رمزاً للأحكام المتشتتة، فيحمل على النجاسات والمتنجسات المتعددة، وقانون انتخاب الأسهل في مرحلة البيان يقتضي ذلك، أي: جعل الأحكام الوضعية.
(۱) فرائد الأصول ٣: ١٢٦
| ۱۹۸
ومنها: أنه كما ليس للأحكام التكليفية تضاد من حيث نفسها كذلك ليس للأحكام الوضعية تضاد وتماثل من حيث نفسها ، بل التضاد والتماثل إنما يكون بلحاظ المصالح والمفاسد والآثار المترتبة على الأحكام التكليفية المترتبة عليها، بمعنى أنه إذا كان كتاب واحد بتمامه ملكاً لزيد وملكاً لعمرو فلا مانع منه ولا يلزم منه أي محذور، إلا أن التنافي في الحكم التكليفي المترتب عليه، فإنّه إن كان هذا مالكاً فليس للآخر أن يتصرف فيه بدون إذنه، وبالعكس.
وقد ذكرنا في بحث العروة بمناسبة أنه يمكن إطلاق النجس والطاهر على شخص واحد بمعنيين: إذا كان جنباً فإنه نجس لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، وطاهر بما أنه طاهر من الخبث، فهو طاهر ونجس، طاهر بما أنه يترتب عليه سنخ من الأحكام، ونجس بما أنه يترتب عليه سنخ من أحكام أُخر .
ومنها: أن الأحكام الوضعية تابعة للمصالح والمفاسد التي هي في متعلقات الأحكام التكليفية، لا أن تكون تابعة للمصالح والمفاسد التي هي في نفس الأحكام الوضعية - كما ذكر بعض - إذ الأحكام الوضعية في الحقيقة موضوعات مرآتية وملاكها تابع لملاك الأحكام التكليفية.
المقدمة السادسة في بيان كيفية حدوث الماهيات التي يستبطن فيها حكم آخر كالأحكام الوضعية والعقود والإيقاعات والصلاة والدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الماهيات المتقومة بأحكام أخر، وهذه الأحكام كالمقوم العرفي بالنسبة إليها.
وهذا متوقف على بيان حقيقة الوضع التعيني، فنقول: إن الوضع - بحسب اعتقادنا - عبارة عن العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، وهذه العلقة عبارة عن العلقة الهوهوية، ومرجعه إلى اكتساب اللفظ ماهية بحيث يعتبر هو المعنى وأنه حيثما ذكر اللفظ تنتقل إلى الذهن الماهية المكتسبة.
(1) سورة المائدة الآية : ٦.
الاستصحاب | ۱۹۹
واكتساب الماهية في الوضع التعيني - الذي هو تدريجي - يتحقق باستعمال لفظ اكتسب ماهية ذات تأثير إحساسي في ماهية أُخرى كثيراً بداعي الاستفادة من التأثير الإحساسي، فكثرة الإطلاق على ماهية أُخرى يوجب تحقق الوضع التعيني؛ إذ طريق علقة اللفظ بالمعنى حصول التلازم في مرحلة التصور بين اللفظ والمعنى الذي يعبر عنه بتداعي المعاني، وهذا يحصل من جهة كثرة التقارن في الإحساس، إذ تداعي المعاني كما هو مذكور في علم النفس - له مناشئ من التضاد والتماثل، ومنها كثرة التقارن في الإحساس، ومن كثرة حمل لفظ على موضوع خاص وكثرة التقارن في الإحساس يحصل تداعي المعاني، وهذا طريق إلى العلقة الوضعية التي هي الهوهوية. وفي مرحلة التطبيقات المتكررة تكون العلقة على نحوين
فإنه تارة يحصل للفظ معنى جديد بحيث يكون المعنى الأول الذي كان ذا أثر إحساسي مغفولاً عنه ولم يكن له ذلك الأثر الذي كان له، فمن باب المثال تارة يستعمل الأسد كثيراً في الرجل الشجاع، إلا أنه بمرور الأزمان حيثية الشجاعة تكون مغفولاً عنها، وكلمة الأسد ترتبط مع الرجل الشجاع، وله معنى جديد، أي: تحصل له العلقة مع حقيقة أخرى، وهذا القسم لسنا بصدد بيانه وتوضيحه.
وأخرى يستعمل في معنى آخر كثيراً إلا أن كثرة التطبيق بلحاظ تلك الآثار، لا بلحاظ الماهية التي هي ذات أثر، كما إذا استعملنا الأسد في الرجل الشجاع كثيراً بلحاظ مجموعة الصفات التي فيه من الشجاعة ومما يخاف منه الناس وأمثال ذلك، وفي هذه الحالة يفرغ لفظ الأسد من المعنى الأصلي الذي هو مجعول له، ويمتلئ من الصفات والآثار التي له، والارتباط يحصل مع هذه الصفات والآثار، ففي هذا القسم الثاني تحقق أمران:
أحدهما: ماهية اعتبارية.
وثانيهما: علقة اللفظ مع هذه الماهية الاعتبارية.
| ۲۰۰
وبعبارة أخرى في هذا القسم الثاني كما يحصل للفظ معنى لم يكن سابقاً؛ إذ لم يكن الأسد بمعنى الصفات والآثار الموجودة فيه، وهذه الماهية ماهية اعتبارية، يحصل له ربط مع هذه الماهية الاعتبارية. و من باب المثال الدينار كان يطلق على مثقال من الذهب المسكوك، وله خاصيتان
قانونیتان إحداهما : أنه كان وسيطاً لمبادلة الأمتعة والعروض، فيما أن تبديل العين بالعين أمر صعب لذا جعل الدينار وسيطاً وأنه يشتري بالثمن ويبيع بالمثمن.
ثانيتهما : أنه مقياس للمالية، يعني يتميز مقدار مالية المال به، ومقياس المالية الأشياء، وهاتان الخاصيتان من الخواص الأصلية للنقود. ثم بعد ذلك لدواع مختلفة مثل قلة الذهب أو الحفاظ على الذهب قرروا أن يجعلوا له بديلاً وجعلوا يختمون على الجلد، أو على الأوراق، واعتبر الجلد المختوم أو الورقة المختومة ديناراً، بنحو الاعتبار الأدبي.
وإنما فعلوا ذلك بلحاظ الخاصتين اللتين في الدينار الذهبي المسكوك.
ثم بسبب كثرة إطلاق الدينار على الجلد المختوم أو الأوراق المختومة تمحض الدينار في معنى يكون له هاتان الخاصتان ونسي أصله الذي كان عبارة عن مثقال ذهب مسكوك، وهذا كما ذكرنا محتاج إلى متمم الجعل التطبيقي، وبه ينطبق على كثير من الأوراق النقدية فيقال: دينار عراقي أو كويتي أو أردني وغير ذلك.
والمقصود أنه فرق بين الوضع التعيني للماهيات التكوينية، والوضع التعيني للماهيات الاعتبارية، والستر فيه ما ذكرنا من أن كثرة الاستعمال على نحوين: تارة يستعمل في الماهية الجديدة بلحاظ الأحكام والخصوصيات فينسلخ عن المعنى الأول ويكون قالباً وظرفاً للأحكام، وتارة يستعمل في المعنى الثاني وينسلخ عن المعنى الأول وما يترتب عليه، ويحصل له الارتباط الوضعي مع ما كان مجازاً فيه في السابق.
الاستصحاب | ۲۰۱
وعليه فالماهية الاعتبارية مرتبطة مع الأحكام القانونية؛ ولذا إذا سئلنا بأنه ما هو الدينار؟ نجيب بأنه واحد نقد له هاتان الخصوصيتان. وما ذكرناه جار في الميتة، فإن الميتة اسم لما مات حتف أنفه، وبما أن لها أثر قانوني من لزوم الاجتناب عنها أكلاً واستعمالاً وغير ذلك، أطلقت الميتة شيئاً فشيئاً على ما ذبح لا على وجه القانون المعتبر في هذه الملة والنحلة. فإنه تختلف طريقة ذبح الحيوانات باختلاف الملل والنحل، ونتيجة لكثرة الإطلاق وغض النظر عن المفهوم الأول إلا بلحاظ آثاره القانونية من قبيل يحرم أكله أو يجب الاجتناب عنه وأمثال ذلك، صارت الميتة ماهية اعتبارية قانونية، وتختلف باختلاف الملل والنحل، فمن الممكن أن يكون ما ذبح عندنا بالطريقة الشرعية ميتة عند ملة أخرى وبالعكس. وهكذا الكلام في الملكية، فإن الملكية كانت عبارة عن السيطرة والاستيلاء الخارجي ومنع الآخرين من التصرف فيه، ثم تحولت وتمحضت في أثرها، فيطلق على من ليس له سيطرة على أمواله كالطفل، وهكذا الزوجية وغيرها.
ولا بد من الإشارة إلى كيفية انشعاب هذه الماهيات الاعتبارية وكيفية تطورها، فنقول: إن واقع الزوجية - مثلاً - موجود عند جميع الملل والنحل، والزوجية كالملكية ماهية اعتبارية ذات ألوان مختلفة، فعند بعض الملل نوع من الاسترقاق، وعند بعض آخر نوع من الاشتراك في الحياة مع الاستمتاع الجنسي.
وفي الإسلام يمكن القول بأنه نحو من الاشتراك، إلا أنه مع قيمومية الرجل على المرأة، وفي بعض المجتمعات المتخلفة بالعكس.
وهذه الألوان المختلفة إنما تكون بلحاظ الأحكام، واختلاف الأحكام يوجب التغيير في الموضوع، بمعنى أنه لو حمل محمول على موضوع مكرراً فبسبب تكرار حمل المحمول على الموضوع فيكون محتوى الموضوع نفس الأحكام التي حملت عليه، ثم بعد ذلك تطورت أحكام الزوجية عند كل ملة ونحلة.
هذا تمام الكلام في المقدمات التي كنا بصدد بيانها. والآن تصل النوبة الى ذكر كلمات القوم. إن الشيخ ذكر نقلاً عن المحققين أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، وهذا هو مختاره أيضاً، إلا أن المتأخرين عن الشيخ لم يرضوا بمقالته وخالفوه، ومن المخالفين المحقق الخراساني في الكفاية حيث قال: (والتحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء:
منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك .
ومنها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعاً للتكليف . ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه ، وتبعاً للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، على ما يأتي الإشارة إليه.
أما النحو الأول: فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه ....
وأما النحو الثاني: فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية، لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه..
وأما النحو الثالث: فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك ) .
ونحن نتابع المحقق الخراساني، فكما أنه جعل المحور هذه الأقسام الثلاثة فنحن أيضاً نجعل المحور هذه الأقسام الثلاثة، إلا أنه تقدم القسم الثالث فنقول :
(1) كفاية الأصول : ٤٠٠-٤٠١.
الاستصحاب | ٢٠٣
إنه ذهب الشيخ الأنصاري إلى أن مثل الزوجية والملكية منتزعة من الأحكام التكليفية ومرجعها إلى الأحكام التكليفية، ونقل ذلك عن المحققين أيضاً.
وذهب صاحب الكفاية إلى أنها مستقلة في الجعل. أما ما ذهب إليه الشيخ ونسبه إلى المحققين فلا يوجد ما يكون واضحاً لتقريبه إلا ما ذكره في الرسائل عن المحققين من أن مرجع الأحكام الوضعية إلى الأحكام التكليفية، وما ذكره في باب الشروط من أن بعض آثار العقود هو كالمقوم العرفي لها.
ونحن نجعل هاتين الكلمتين أساس التقريب.
والظاهر أن القدماء والشيخ كان في ذهنهم ما ذكرنا من أن الملكية والزوجية وأمثال ذلك في مرحلة حدوثها حادثة من الأحكام التكليفية ومن مشتقاتها، يعني: أن مجموعة من الأحكام التكليفية المرتبطة مع موضوع واقعي تتحول وتتمحض في الماهية الثانية بسبب كثرة الإطلاق على شيء آخر بلحاظ تلك الأحكام.
وبعبارة أخرى : لكل من المفردات القانونية في مرحلة تطور الفكر البشري تاریخ ورود، فبعضها كانت من أول الأمر كالوعد والوعيد، ثم بعد ذلك ورد الإيجاب والتحريم. وبعضها متأخرة، وهي أنواع الاختصاصات مثل بعض أنحاء السلطة كالحقوق؛ فإن للحقوق أنواعاً متعددة وصل إليها الفقهاء تدريجاً كحق الرهانة و حق الجناية وبقية أنواع الحقوق.
وكذا كثير من أنواع العقود والإيقاعات، فإن المجتمع البشري نتيجة الحصول أنواع خاصة من الارتباطات بينهم احتاجوا إلى أنواع جديدة من العقود والإيقاعات ومفردات قانونية أخرى لم يكونوا محتاجين إليها في السابق، فإن البيع في زمان لم تكن فيه نقود ليس له معنى البيع والشراء بالمعنى الموجود من البيع والشراء عندنا، بل كان مبادلة مال بمال ولم يكن بيع في مقابل الشراء.
| ٢٠٤
والمقصود أنه نتيجة الحضارة البشر وتطوره يحتاج إلى مفردات قانونية أعقد من المفردات القانونية السابقة، فمن باب المثال أن التأمين ليس له أي أثر في فقهنا ورواياتنا. والغرض أن المفردات اللغوية والقانونية في المجتمع الإنساني بحسب تاريخه الطويل، بعضها مقدمة على بعض، وبعضها مأخوذة من بعض، والثانية في الحقيقة إجمال لذاك.
فإن قالوا: إن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية لا يعني ذلك أنه ليس لأحد حق الإنشاء ولا يمكن أن ينشأ الزوجية والملكية، بل مرادهم أن مفهوم الزوجية الذي حدث في المجتمع البشري مأخوذ من مجموعة أحكام تكليفية، وهكذا الملكية وغيرها، ولذا ترى أنه في بعض الموارد كالنجاسة كثيراً ما يكون الأمر بالغسل أو الأمر بالاجتناب، وأمثال ذلك من الأحكام التكليفية، وقليلاً ما ورد أنه نجس أو رجس، والوجه فيه أن هذا الحكم الوضعي الذي هو عبارة عن النجس معقد وليس بذلك الوضوح كالحكم التكليفي، وكل مرحلة من المراحل الأربعة المتقدمة تكون
المرحلة المتأخرة معقدة بالنسبة إلى المرحلة المتقدمة.
فظهر أنه ليس مرادهم من الانتزاع الانتزاع الفلسفي، بل المراد أن هذا من مشتقات الأحكام التكليفية، والأحكام التكليفية كالمقوم بالنسبة إلى الأحكام الوضعية.
فإن كان الذي ذكرناه هو مرادهم، فهذا صحيح، إلا أن المتأخرين لم يجعلوا ذلك مورداً للنفي والإثبات.
كما أن ما ذكره المتأخرون من أنها قابلة للإنشاء أيضاً صحيح، وليس كلام القدماء ناظراً إلى عدم قابليتها للإنشاء.
الاستصحاب | ٢٠٥
ولعل مقصود القدماء أن الأحكام الوضعية في مرحلة حدوثها في تاريخ المفردات القانونية متأخرة عن الأحكام التكليفية، كما أنه مأخوذ من حقيقة الأحكام الوضعية عدة من الأحكام التكليفية.
فما ذكره كلا الطرفين صحيح.
إلا أن المتأخرين حملوا كلامهم على الانتزاع بالمعنى الفلسفي؛ ولذا أشكلوا عليهم بعدة إشكالات:
الإشكال الأول: أن في جميع القوانين ومنها القانون الإسلامي تجعل الأحكام الوضعية موضوعاً لعدة من الأحكام التكليفية؛ فإنّه تعرف الزوجية أولاً - مثلاً ، ثم تبين وسائل تحقق الزوجية وشرائطها، ثم أحكامها وأنه ما هو وظيفة كل من الزوجين بالنسبة إلى الآخر. ومن المعلوم أن الموضوع متقدم على الحكم؛ إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فكيف يعقل أن يكون المتفرع على الأحكام التكليفية موضوعاً لها ؟
الإشكال الثاني: أنه ليس لنا حكم تكليفي يمكن انتزاع الحكم الوضعي منه، فإنه إن قيل : إن الملكية منتزعة من جواز تصرف المالك نفسه في ماله أو إن الزوجية منتزعة من جواز استمتاع الزوج منها - أي من الزوجة - فهذا غير صحيح؛ إذ نرى موارد لا يمكن للمالك بل لا يجوز له أن يتصرف في ماله الحجر وأشباهه، وربما لا يكون مالكاً لشيء ومع ذلك يجوز له التصرف كالولي والوكيل وغير ذلك، فبين جواز التصرف والملكية عموم من وجه.
وكذا الزوجية، فإنه قد لا يجوز الوطء لكون الزوجة صغيرة، وقد يجوز الوطء لكن الزوجية غير متحققة، كما إذا كانت مملوكة له. وهكذا في سائر الأحكام الوضعية.
وإن قيل: إن الملكية والزوجية وغيرهما منتزعة من مجموعة أحكام، لا من حكم واحد، فهذا أيضاً غير صحيح؛ إذ ليس لنا مجموعة مشخصة من الأحكام يمكن انتزاع
| ٢٠٦
الحكم الوضعي منها؛ إذ غالباً ما ينتفي كثير من أحكام هذه المجموعة لعارض من العوارض ومع ذلك تكون الملكية موجودة، وهكذا في الزوجية وغيرها.
وإن قيل: إن الملكية - مثلاً - منتزعة من جواز التصرف لا الحجر - مثلاً ، فهذا أيضاً غير صحيح؛ إذ الأمر الانتزاعي مساو في القوة والفعل مع منشأ انتزاعه، فإن كان منشأ انتزاعه فعلياً فهو أيضاً فعلي، وإن كان بالقوة فهو أيضاً بالقوة، ولا يمكن أن يكون أحدهما بالفعل والآخر بالقوة. هذا مضافاً إلى وجود عدة من الأحكام الوضعية كالحجية ولزوم العقد التي لا ارتباط لها مع الحكم التكليفي.
وأضاف المحقق النائيني في فوائد الأصول بأنه كيف يمكن أن تكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية والحال أن الأحكام الوضعية من الأمور العقلائية العرفية وموجودة في جميع الملل والنحل، والأحكام التلكيفية مختصة بالإسلام؟
وهذا الكلام الذي هو موجود في فوائد الأصول لغرابته لا بد من حمله على أنه لعله وقع سهواً من الناسخ، وإلا كيف يمكن صدور مثل هذا الكلام منه مع وجود الأحكام التكليفية في جميع الملل والنحل، بل عند الأطفال والمجانين؟! وهذا أمر واضح.
نعم، الأحكام التكليفية الخمسة ليست موجودة في سائر القوانين، فإنه ليس عندهم استحباب ولا كراهة، وأما الوجوب والحرمة فموجودان في جميع القوانين حتى عند الدهري والطبيعي.
الإشكال الثالث: ما هو مذكور في الكفاية وأنه كيف يمكن الالتزام بذلك، مع أن المباشرين للعقود والإيقاعات ينشئون هذه المفاهيم كالزوجية والملكية والحرية وأمثال ذلك. ومن المعلوم أن المنشئ لا يقصد بإنشائه ذلك إنشاء أحكام تكليفية، بل الأحكام التكليفية تتفرع على إنشائه، وإن كانت منتزعة من الأحكام التكليفية فمنشئ الحكم
الاستصحاب | ۲۰۷
الوضعي يعمل ما هو وظيفة المقنن وينشئ الأحكام المترتبة على الزوجية - مثلاً - والحال أن هذا خلاف الوجدان و لزوم أن لا يقع ما قصد ووقوع ما لم يقصد).
وبعبارة أخرى: إن المنشئ إنما ينشئ الزوجية لا وجوب النفقة على الزوج ووجوب التمكين على الزوجة، وأمثال ذلك، فالقول بأنها منتزعة من الأحكام التكليفية غير صحيح.
الإشكال الرابع: أنه لو كانت الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية فجعل الأحكام التكليفية بعد جعل الأحكام الوضعية يكون لغواً؛ إذ المفروض أن الأحكام التكليفية موجودة فيها.
وما ذكره المتأخرون صحيح في الجملة، إلا أن هذا غير ما ذكره المتقدمون.
والمتقدمون بما أن أذهانهم كانت غير مشوبة بالأصول المتشعبة من الكلام فهموا وعلموا أنه لا يمكن جعل الأحكام الوضعية ما لم يكن وجوب أو حرمة، وأن كل مرتبة سابقة كالمقوم العرفي بالنسبة إلى المرحلة اللاحقة، ومستبطن ومندرج فيه على نحو الإبهام، نظير ما يقال في الفلسفة في باب الأجناس : (وهي على إبهامها معتبرة).
وعليه فلا ترد هذه الإشكالات عليهم.
أما الإشكال الأول: فهو كلام متين، إلا أن هذا لا ينافي ما ذهب إليه المتقدمون؛ إذ إنهم يقولون بأن الحكم الوضعي متأخر عن الحكم التكليفي، إلا أن بعد حدوث الحكم الوضعي يكون موضوعاً وسيطاً بين الأمور التكوينية والأحكام التكليفية؛ وذلك لقانون انتخاب الأسهل الذي أشرنا إليه، فإنّه يقال: إن النجس لا تجوز الصلاة فيه ولا يجوز أكله وشربه ويجب الاجتناب عنه، ثم يقال: هذا نجس، وانتزاع الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية لا يتنافى . جعلها موضوعاً، فإن الملكية - مثلاً - منتزعة من جواز تصرف المالك وعدم جواز تصرف الغير بدون إذنه على إبهامه، فهذا
سنخ من الأحكام ينتزع منها الملكية ثم يجعل موضوعاً لآلاف من الأحكام التكليفية
٢٠٨
من أنه يملك مع الشرائط ويجوز له التصرف مع شروط خاصة ويجب عليه الخمس والزكاة وأمثال ذلك.
وأما الإشكال الثاني: فلو كان المراد من الانتزاع: الانتزاع الفلسفي وأن وجود الأمر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه وهما متساويان في القوة والفعل، فهذا شيء لا يقول به القدماء، بل يقولون بأنّ هذه الماهية مشتقة من الأحكام التكليفية الخاصة على نحو الإبهام والإجمال، فإذا قال: طاهر ، فهذا مشتق من سنخ من الأحكام الترخيصية، وهكذا إذا قال: هذا نجس أو قذر، فإنّه يعرف من قوله ( قذر ) أن الاجتناب عنه حسن واستصحابه في الأماكن المتبركة غير مستحسن. وأما وصوله إلى حد اللزوم فهذا شيء آخر لا بد وأن يبين من قبل الشارع والمقنن.
وملخص الكلام: أن مرادهم من الانتزاع هو الاشتقاق من سنخ من الأحكام التكليفية، وليس مرادهم أن هنا أحكاماً تكليفية خاصة انتزع الحكم الوضعي منها بالانتزاع الفلسفي حتى يقال بوجود الحكم الوضعي بتبع الأحكام التكليفية الخاصة.
ومن هنا يظهر أن منشئ الزوجية والملكية عالم بالأحكام التكليفية التي هي كالمقوم العرفي بالنسبة إليها في الجملة، وغير لازم العلم بها تفصيلاً.
وليس لنا كلام في أن هذه المفاهيم تحولت وتأصلت فيما بعد وصارت مفاهيم مستقلة، كما ظهر أنها غير مغنية عن الأحكام التكليفية؛ إذ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية بوجودها الإجمالي.
فظهر مما ذكرنا أنه يمكن التصالح بين الشيخ والمحقق الخراساني وبين القدماء والمتأخرين بما ذكرناه، فإن رضي الطرفان به فهو، وإلا فنقول لكل طرف أن الحق غير منحصر بما ذكرت، وأما نحن فنأخذ بكلا القولين وكلا القولين صحيح، وكل واحد متمم للآخر.
الاستصحاب | ۲۰۹
وأما القسم الأول الذي ذكره المحقق الخراساني بقوله: (منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك ... كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف و شرطه ومانعه ورافعه حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها إلى آخره.
ففي هذا القسم - كما في حقائق الأصول - أقوال ثلاثة: القول الأول: إنها من الأمور الانتزاعية من التكليف ومجعولة بالعرض، فإذا قال:
إذا زالت الشمس وجبت الصلاة) فما هو المجعول أولاً هو الصلاة، وسببية الزوال لوجوب الصلاة مجعولة بالعرض.
وقد ذهب الشيخ الأنصاري إليه، وكذلك المحقق النائيني وعدة أخر.
القول الثاني: إنها مجعولة بالاستقلال ويمكن للشارع القول بـ: (أني جعلت الزوال سبباً أو شرطاً في الصلاة، أو مانعاً أو رافعاً للصلاة)، وهذا ما نسبه في حقائق الأصول إلى المشهور، وهذا ما ذهب إليه صاحب تهذيب الأصول.
القول الثالث: إنها لا مجعولة استقلالاً ولا تبعاً، بل مجعولة تكويناً، وفي ذات الموضوع خصوصية تستتبع جعل الحكم التكليفي فيه.وفي المقام لتمييز الصحيح من السقيم من هذه الأقوال لا بد من تقديم مقدمة - وهي ما بيناه في مبادئ علم الأصول - وهي: إن القدماء من الأصوليين من الشيعة والسنة أغلبهم من المتكلمين كيونس بن عبد الرحمن، وابن أبي عمير، وبني النوبخت والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، ومن المعلوم أن لهم اصطلاحات خاصة تعكس ارتباطات الأمور التكوينية بعضها مع بعض، كسببية شيء لشيء وعلية شيء لشيء وما نعيته وشرطيته ورافعيته لشيء، وقد استعملوا هذه الاصطلاحات لتعكس روابط الأحكام مع موضوعاتها، فإنهم يذكرون أن النار سبب للإحراق والمماسة شرط الإحراق، والرطوبة مانعة من الإحراق.
٢١٠
ولم يكن لديهم من الألفاظ ما يعكس روابط الأحكام مع موضوعاتها، فاستعاروا السببية للربط بين الحكم والموضوع، والشرط لشيء آخر، وهكذا المانع. وارتباط الأحكام مع موضوعاتها ليس من قبيل ارتباط الأمر التكويني مع علته إلا أنه مشابه له، وهذه الاستعارة قد أوجدت مشاكل، خصوصاً بالنسبة إلى المبتدئين ومن ليس لهم علم بتاريخ تطور علم الأصول وتدوينه، وتخيلوا أن استعمال هذه المفاهيم في الأصول بمعناها الحقيقي والفلسفي؛ ولذا أجروا الأحكام المرتبطة بالشرطية والمانعية والسببية في الأحكام القانونية، ومن هذا القبيل مباحث الشرط المتأخر.
والغرض أنه لا بد وأن نرى أن السببية في علم الأصول بأي معنى حينما نقول: ( إن الدلوك سبب لوجوب الصلاة أو الاستطاعة سبب لوجوب الحج)؟
والمحتملات في هذا المقام أربع :
الاحتمال الأول: هو المعنى الفلسفي الذي هو عبارة عن ربط واقعي تكويني بين السبب والمسبب.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من السبب المعنى المستعار، يعني الربط الناشئ من تقييد التكليف بوجود شيء أو بعدمه.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد هو المعنى الثاني، إلا أنه وصل إلى حد الحقيقة وليس بمجاز.
الاحتمال الرابع: أن يكون المراد من السبب: ماهية قانونية بسبب التحولات التي أشرنا إليها فيما قبل، ويمكن للمقنن بما أنه مقنن تشريعه وجعله جعلاً استقلالياً.
والمحقق الخراساني قد ذكر احتمالين من هذه الاحتمالات، وهما الاحتمالان الأولان، إلا أن مورد كل منهما غير مورد الآخر، فإنه ذكر أن مورد الاحتمال الأول هو الحكم الاقتضائي، يعني أن الدلوك فيه خصوصية بالنسبة إلى الحكم الاقتضائي الذي
الاستصحاب | ۲۱۱
هو المصلحة أو المفسدة، وأشار إلى الثاني بأن الحكم يرتبط مع موضوعه، وهذا الارتباط ناشئ من تقيد الحكم الإنشائي بهذا الموضوع، وهذا على نحو الاستعارة. وعلى هذا ترتفع إيرادات القوم عليه إلى حد ما ؛ إذ المحقق النائيني ومن تبعه قد اعترضوا عليه بأن المراد من السببية هو الاحتمال الثاني، يعني ارتباط الحكم جعلاً بموضوعه، وهذا ليس ارتباطاً تكوينياً.
وعلى ما ذكرنا فالمحقق الخراساني لا ينكر هذا القسم بل يدعي الارتباط التكويني بين السبب والحكم الاقتضائي، فهما متحدان في ارتباط الحكم بالموضوع ارتباطاً جعلياً، إلا أن المحقق الخراساني قد أضاف الارتباط التكويني بين السبب والحكم الاقتضائي.
وذهب الشيخ والمحققون إلى أن السببية والمانعية والشرطية بالنسبة إلى الحكم من الأمور الانتزاعية، ومصب كلماتهم هو الحكم الإنشائي، إلا أن المحقق الخراساني - كما تقدم - قد أدخل شيئاً آخر في النزاع، بل جعله مصباً للخلاف والنزاع، وهو الحكم الاقتضائي، فهو قد عنون الحكم الإنشائي ولم يخالف القوم في أن السببية منتزعة من الحكم الإنشائي، وأن منشأ إطلاق السببية أو المانعية عبارة عن التقيد، أي: تقيد الحكم
به، غاية الأمر أنه يقول بالاستعارة والمجاز وأما بالنسبة إلى الحكم الاقتضائي فالسببية ناشئة من خصوصية تكوينية، فقد قال: (نعم، لا بأس باتصافه بها عناية، وإطلاق السبب عليه مجازاً كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلاً بأنه سبب لوجوبها ) .
ويرد عليه :
أولاً: أنه لا وجه لمصب النزاع في الحكم الاقتضائي، وتحويل محل البحث الذي هو الحكم الإنشائي إلى الحكم الاقتضائي أمر غير مستحسن، لا سيما في الحكم
(1) كفاية الأصول : ٤٠١.
| ۲۱۲
الاقتضائي الذي لا يخلو إطلاق الحكم عليه من مسامحة، فإنه ليس من درجات الحكم حقيقة.
وثانياً: أن الموضوع هو منشأ اتصاف المتعلق بكونه ذا مصلحة، لا أن يكون علة للمصلحة؛ إذ المتعلق علة للمصلحة الخارجية التكوينية، وكلامه هنا موهم أن الموضوع علة للمصلحة.
وثالثاً: أنه قد يكون الموضوع هو الأحكام الوضعية، ومن المعلوم أن الأحكام الوضعية ليس لها ربط تكويني بالنسبة إلى الحكم الاقتضائي والمصلحة والمفسدة. ورابعاً: أن المصالح والمفاسد قد لا تكون من الأمور التكوينية، بل تكون من قبيل الأمور الاعتبارية، مثل الاعتراف بزعامة شخص. وعلى كل، فما ذهب إليه المحقق الخراساني غير واضح ولا يمكن الالتزام به، فيدور الأمر بين أن تكون السببية والشرطية وغيرهما منتزعة وبين أن تكون مستقلة في الجعل.
أما القول باستقلالها في الجعل فهو مخدوش
والوجه فيه: أن السببية وإن كانت قابلة للجعل والإنشاء، إلا أنه ينحو الإنشاء الأدبي، لا بنحو الإنشاء القانوني، فإن قوله : ( جعلت الدلوك سبباً لوجوب الصلاة) اعتبار أدبي، والسر فيه : أن جاعل وجوب الصلاة هو المنشئ، وجعله الدلوك سبباً ليس معناه توليد الوجوب منه وأن السبب الخارجي الذي هو الدلوك ينشئ الوجوب، بل معناه جعل الوجوب عند حصول الدلوك.
مضافاً إلى أنه لا يمكن أن يكونا كلاهما اعتبارين قانونيين؛ فإن الاعتبار القانوني للوجوب لا يتلائم مع الاعتبار القانوني للسبب؛ إذ معنى سببيته أنه المنشئ للوجوب، ومعنى الاعتبار القانوني للوجوب أن المنشئ هو الجاعل للوجوب.
الاستصحاب | ۲۱۲
مضافاً إلى أن هذه التعبيرات - أي التعبير بالسببية وأني جعلته سبباً - في لسان الشارع المقدس نادر جداً، ولعله لم يوجد مثل هذه التعابير في التكاليف، وقد ذكرنا سابقاً أن كثرة الإطلاق تجعله حكماً قانونياً، وندرة استعماله مما لا يجعله حكماً قانونياً. فقد ظهر مما ذكرنا أن الصحيح أن السببية والشرطية والمانعية والرافعية من الأمور الانتزاعية. وهذا تمام الكلام في القسم الأول. وأما القسم الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية - وهو الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه - فالمشهور بينهم أنه منتزع من الأمر بالشيء، فإنه لو أمر بشيء مقيداً بوجود بعض الأمور كالطهور، أو مقيداً بعدم بعض الأمور، كاستصحاب ما لا يؤكل لحمه، ينتزع منه الشرطية والمانعية، كما أنه إذا أمر بشيء مركب ينتزع منه الجزئية.
توضيح ذلك : أنه إذا تعلق الأمر بماهية، فتارة تكون الماهية في جميع الحالات وعند عروض الأعراض والطوارئ ذات حد واحد بمعنى دخالة ما هو دخيل في المأمور به دخالة مطلقة؛ ففي هذا السنخ من الموارد الأمر الوحداني يتعلق بمجموع المتكثرات. وتارة تكون الماهية التي تعلّق الحكم بها مختلفة بحسب الحالات وعروض الأعراض، فقد يكون هذا العمل صحيحاً من شخص مع تسعة أجزاء ومن شخص آخر مع عشرة أجزاء ومن شخص آخر مع ثمانية أجزاء، بمعنى أن بعض الأجزاء أو الشروط ليس دخالتها دخالة مطلقة.
أما الشق الأول - الذي هو محط أنظار القوم في المقام - فهو ما إذا تعلق الأمر بهذه الكثرات، فالأمر الوحداني يكسب الكثرة من المتكثرات، وبلحاظ الكثرة المكتسبة يقال بالنسبة إلى كل من المتكثرات إنها جزء أو شرط أو مانع.
فالجزئية والشرطية غير مجعولة استقلالاً بل عرضاً؛ إذ الأمور الانتزاعية موجودة بوجود منشأ انتزاعها بالعرض في قبال الموجود بالتبع الذي ذهب إليه بعض في وجوب المقدمة.
| ٢١٤
فإن الوجود بالتبع وجود غير الوجود الأول، إلا أنه تابع له، وأما الوجود بالعرض فهو عين وجود منشأ الانتزاع. ولا يفرق في هذا القسم بين الأمور الاعتبارية والتكوينية، وهو من القوانين التي يسري في الاعتباريات كما تسري في التكوينيات. وأما الشق الثاني الذي لم يتعرض له القوم في هذا المقام، وهو الجزئية أو الشرطية غير المطلقة - يعني في حال دون حال - فالجزئية أو الشرطية أو المانعية في هذا القسم من أي شيء تنتزع ؟ فإن العمل إذا كان مركباً من الأركان وغير الأركان، فجزئية الأركان من الشق الأول، وأما جزئية غير الأركان فلا يعقل انتزاعها من الأمر الوحداني؛ إذ لو كان الأمر أمراً وحدانياً لا يعقل أن يكون متعلقه تارة ذا أجزاء عشرة وأخرى تسعة، فمنشأ انتزاعها أمر آخر غير الأمر بأصل المركب، مثل الأمر بالأركان بشرط لا عن العصيان بالسنن، وكان هناك أوامر متوجهة إلى السنن، ومرجع هذا إلى جعل المانعية لباً؛ إذ الشارع أمر بالأركان مشروطاً بشرط واحد، وهو أن لا يكون الإخلال بالسنن عن عصيان، فإن أخل بالأوامر السننية عن عصيان فقد تحقق المانع، ومن هذا تنتزع الجزئية.
ومثل وجود أوامر متعددة إلى السنن وجود أمر متوجه إلى الأركان، وهو لا بشرط عن إتيان السنن وعدم إتيانها، إلا أنه في مرحلة الحكم الجزائي يحكم الشارع بأن من لم يأت بالأركان أو أخل بواجب من الواجبات يجب عليه الإعادة في الوقت وإلا يعاقب بعقاب كذا، وهذا ينتج أيضاً نتيجة الجزئية.
والغرض أن انتزاع الجزئية في الشق الأول واضح وفي الثاني نحتاج فيه إلى أمر آخر مضافاً إلى الأمر بالأركان.
وظهر مما ذكرنا أن الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية أمور انتزاعية ومجعولة بالعرض لا مستقلاً.
الاستصحاب | ٢١٥
إلا أنا قد ذكرنا أن الجزئية وأخواتها قد تنتزع من التكليف الواحد، وقد تنتزع من التكليف والمتمم.
وذهب صاحب تهذيب الأصول في قبال هذا القول إلى أن الجزئية وغيرها قابلة للجعل الاستقلالي، فللشارع أن يقول: إني جعلت الأمر الكذائي جزءاً أو شرطاً أو مانعاً.
وذكر أن أساس كلام المحققين إسراء أحكام التكوينيات إلى الاعتباريات والجزئية والشرطية والمانعية في التكوينيات من الأمور المنتزعة من المركب وموجودة بوجود المركب بالعرض، وهذا لا يمكن إسراؤه إلى الأمور الاعتبارية وأنها غير قابلة للجعل استقلالاً؛ إذ لا مانع في مثل الصلاة - التي هي من الأمور الاعتبارية - من جعل شيء جزءاً للصلاة أو شرطاً أو مانعاً مستقلاً.
ومن المعلوم أن جعل شيء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً لأمر اعتباري تابع للمصالح والمفاسد بخلاف التكوينيات، فإنها غير تابعة للمصالح والمفاسد، فقياس الاعتباريات بالتكوينيات قياس مع الفارق، وإلا لزم إما لغوية مثل هذه الخطابات: (إني جعلت السورة مثلاً جزءاً للصلاة وأمثاله، ولا يجب اتباعها، وهذا واضح الفساد، ولا يتفوه به أحد.
وإما النسخ وأن الحكم الأول قد نسخ وجعل مكانه حكماً آخر، فهذا أيضاً واضح الفساد، إذ إضافة شيء خاص إلى المأمور به أو حذف شيء عن المأمور به لا يوجب صدق نسخ الحكم الأول.
والجواب عن ذلك: أنه ليس منشأ ذهاب المحققين إلى أنها من الأمور الانتزاعية اسراء أحكام التكوينيات إلى الاعتباريات كما توهم، بل منشأ ذلك أن الأمر الاعتباري له ضابط .
(1) الاستصحاب: ٦٨.
| ٢١٦
وقوله: (جعلت هذا جزءاً أو شرطاً أو مانعاً)، هو أمر ممكن، إلا أنه ليس هذا من الاعتبارات القانونية، بل اعتبار أدبي وكناية عن جعل الأمر الأول بحيث يشمل هذا الجزء، فمنشأ كلمات القوم تمييز حقيقة الأمور الاعتبارية عن غيرها. توضيح ذلك : أن الاعتبار الأدبي عبارة عن الكناية والاستعارة، والاعتبار القانوني في قبال الأمور الانتزاعية، وقد ذكرنا سابقاً أن المفردات القانونية ظواهر اجتماعية، بمعنى أنه نتيجة لتطور الحضارة البشرية تتولد مفاهيم من مفاهيم أخر، ولا يمكن جعل المفاهيم التي تتولد من مفاهيم أخر إلا بعد طي مراحله، فمن باب المثال إذا فرضنا مجتمعاً ليس عندهم نقود أو ما يشبه النقود فلا يمكن فرض البائع والمشتري، ونتيجة للحضارة البشرية احتاجوا إلى ما يكون وسيطاً لمبادلة الأمتعة ويكون مقياساً للمالية، فحصل مفهوم البيع في قبال مبادلة عروض بعروض.
فبعد تولّد الوسيط يمكن قول: بعتك هذا الكتاب، مثلاً.
والمقصود أن المفاهيم القانونية ليست من قبيل الأسماء للمسميات حتى يمكن جعلها ارتجالاً، فإن المسميات تكوينية في ذهن البشر، فتوضع ألفاظ سمة لها بنحو قد أوضحناه في مبحث الوضع والتبادر.
وأما المفاهيم القانونية فهي اختراع المفهوم، واختراع المفهوم له سير خاص وشواهد خاصة، وإنكار جعلها استقلالاً منشؤه أن هذا ليس من سنخ سائر المفردات القانونية كالزوجية والملكية والرقية والحرية وأمثالها، ولم يصل في لسان الشارع والمتشرعة إلى حد الاعتبار القانوني بحيث يكون موضوعاً لأحكام أو منشأ لأفراد كالمتعاقدين مثلاً.
وقوله: (جعلت هذا جزءاً أو شرطاً ليس إلا اعتباراً أدبياً، ومرجعه إلى أن الصلاة من الآن لا بد وأن يؤتى بها مع هذا الجزء.
وقد ذكر صاحب تهذيب الأصول في ضمن كلامه أنه لا يمكن الحكم بالنسخ بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
الاستصحاب | ۲۱۷
ونقول: إن جعل الجزئية تارة يكون في جميع الحالات وتارة في بعض الحالات. فإن كان في جميع الحالات فالحكم الأول ينعدم؛ إذ الحكم الأول كان لا بشرط والآن بشرط شيء، ومن الواضح أن وجوب ماهية بشرط شيء غير وجوب ماهية لا بشرط أو بشرط لا، إلا أن هنا لا يطلق النسخ؛ إذ النسخ مفهوم عرفي ومرجعه إلى إنهاء أمد الحكم، ولا يطلق النسخ في موارد يكون الاختلاف في متعلق الحكم جزئياً بحيث يكون في نظر العرف واحداً، والإطلاق وعدم الإطلاق ليس بمهم، ولا يترتب عليه أثر. وأما جعل الجزئية في بعض الحالات دون بعض فلا معنى للنسخ فيه؛ إذ السنن
التي جعلها النبي الله لا تكون ناسخة للحكم الإنهي، بل متممة ومكملة له. مضافاً إلى أنا قد ذكرنا أن السنن لا تنتزع منها الجزئية، بل تنتزع الجزئية من السنن ومتمم الجعل، وسيأتي إن شاء الله أن إطلاق الجزئية قد يكون إطلاقاً أدبياً.
بقي شيء من المناسب التعرض له وهو :
أنا قد ذكرنا في المسائل السابقة كثيراً أن الصلاة . من الماهيات الاعتبارية وقد طبقت بمتمم الجعل التطبيقي على أنواع الصلاة، ويشهد عليه صحيحة زرارة: «فرض الله الصلاة وسن رسول الله له عشرة أوجه إلى آخره.
وقد ذكرنا في مبحث الصحيح والأعم أن متمم الجعل التطبيقي يمكن فرضه على نحوین
الأول: أن تكون الماهية الاعتبارية مأخوذة على نحو المرآتية بالنسبة إلى الأجزاء والتقيد بالشرائط وعدم المانع، فإن كانت مأخوذة على نحو المرآتية فقد ذكرنا هناك أن مرآتية الماهية الاعتبارية للأمور المتكثرة التكوينية أمر معقول؛ إذ مرآتية ماهية الماهية أخرى في نفسها غير معقولة، فلا بد من وجود أمر آخر حتى يمكن أن تكون ماهيته
(۱) الكافي ٣: ۲۷۲
| ۲۱۸
مرآة لماهية أُخرى، ومرآتية الماهية الاعتبارية للأمور المتكثرة التكوينية في الصلاة من قبيل مرآتية الأمر الانتزاعي، مثل (الأحد) لمنشأ انتزاعه. وعليه فالأجزاء والشرائط - التي تكون منطبقة عليه - لهذه الماهية الاعتبارية تكون بنفسها مأموراً بها؛ فإنه إذا قال: (تجب الصلاة) فيقال: أيها المسافر صلاتك ركعتان، وأيها الحاضر صلاتك أربع ركعات. والمقصود أنه إذا لوحظت مرآة، فحكمه حكم ما إذا توجه الأمر إلى ذات الأمور المتكثرة.
الثاني: أن تكون الماهية الاعتبارية مأخوذة على نحو الموضوعية، يعني أن المأمور به واقعاً هو الصلاة، إلا أنه تختلف الصلاة باختلاف المكلفين، فهذا ينطبق على المتكثرات، لكن الأجزاء والشرائط وعدم الموانع دخيلة في انطباق الماهية الاعتبارية على المنطبقة عليها، لا أن تكون جزءاً للمأمور به أو شرطاً أو مانعاً؛ إذ على هذا يكون المأمور به هو الماهية البسيطة، فعليه إطلاق الجزء والشرط والمانع عليها إنما هو مع الواسطة في العروض.
وعلى هذا الاحتمال لا يبقى مجال للقول بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين ولا بد من إجراء الاشتغال؛ إذ يكون من قبيل المحصل والمحصل.
وبما ذكرنا ينتهي الكلام في جميع الأقسام المذكورة في كلام المحقق الخراساني.
بقي الكلام في أمرين:
الأمر الأول: في الطهارة والنجاسة حيث ذكر الشيخ أنهما من الأمور التكوينية، وقد وقع هذا مورد الاعتراض.
الأمر الثاني: في فذلكة البحث.
أما الأمر الأول:
فقد اختلفوا في أن الطهارة والنجاسة هل إنهما من الأحكام الوضعية أو لا؟
الاستصحاب | ۲۱۹
والكلام تارة يكون في الطهارة الواقعية، وأخرى فيما يعبرون عنه بالطهارة الظاهرية. أما في الطهارة الواقعية التي هي محل كلام الجميع فقد احتمل فيها أن تكون من الأمور التكوينية الواقعية، وكذلك النجاسة، وهو المسلك الأول. كما احتمل فيهما أن تكونا من الأحكام ومن الاعتبارات القانونية، وهو المسلك الثاني. واحتمل فيهما أيضاً أن بعض أقسامهما من الأمور الواقعية التكوينية وبعض أقسامهما من الأمور الاعتبارية الأدبية، كما يستفاد ذلك من كلمات المحقق العراقي، وهو المسلك الثالث. أما المختار، فإنهما من الأحكام القانونية، بل الماهيات الاعتبارية الذي هو المسلك الثاني.
ومنشأ هذا القول أن النجاسة لها أفراد تكون قذرة عند العقلاء جميعاً كالميتة والقاذورات، وحكمها عندهم لزوم الاجتناب عنها أو حسن الاجتناب عنها، ولها أفراد تكون طاهرة عندهم.
والقذارة والطهارة بهذا المعنى من الأمور التكوينية بلا إشكال، إلا أنه تحولت الطهارة والقذارة من هذا المعنى التكويني إلى ماهية اعتبارية قانونية تختلف مصاديقها بحسب الملل والنحل.
فمثلاً في الشريعة الإسلامية المقدسة انطبق عنوان القذر على الكفار أو على الخمر أو على الكلب، والحال أن هذه الأمور ليست من الأشياء التي يستقذرها الجميع فإطلاق الشارع عنوان النجس عليها بعين إطلاقه على القذارات الواقعية يستظهر منه أن النجاسة كالميتة لها معنى أصلي، ثم تحولت عن هذا المعنى الأصلي إلى ماهية اعتبارية بالتوضيح الذي تقدم قريباً من أنه يتولد من الماهيات الأصلية ماهيات اعتبارية،
والماهيات الاعتبارية متمحضة في الجانب التأثيري، أي الأثر الإحساسي الذي كان
| ۲۲۰
مترتباً على الماهية التكوينية من لزوم الاجتناب أو حسنه وعدم استصحابها وأمثال ذلك.
وبعد أن تحققت هذه الماهية الاعتبارية اطلقت بمعناها الوسيع على ما هو مصداق للقذر تكويناً وعلى غيره على حد سواء؛ ولذا لا يفرّق الفقهاء عند تعداد النجاسات بين ما هو قذر واقعاً، وما هو قذر شرعاً، إلا أنه طاهر عند العقلاء. وقد لا يطلق على بعض القذارات العرفية عنوان النجس في مذهبنا، كالقيح أو الماء المتغير بالميتة التي ليس لها دم سائل، فمن إطلاق الشارع (النجس) على بعض أفراد القذر العرفي وما ليس قذراً عرفاً وعدم إطلاقه على بعض أفراد القذر العرفي نفهم أن النجس له مفهوم قانوني؛ إذ بين القذر الشرعي والقذر العرفي عموم من وجه.
وبالطبع يكون بين الطاهر فيهما عموم من وجه.
وبملاحظة ما ذكرنا يمكن القول بأن كلاً من الطهارة والنجاسة مفهوم قانوني يختلف في التطبيق بحسب الملل والنحل.
وأما الطهارة فهي عبارة عن النظافة في قبال القذر، فإن كان للنجاسة مفهومان تكويني وقانوني فالطهارة تكون كذلك، وهل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة أو تقابل التضاد ؟
وهذا مما وقع الاختلاف فيه في الفلسفة في كثير من الأمور، كتقابل العلم والجهل والحركة والسكون والقدرة والعجز والإطلاق والتقييد، ولم يذكروا ضابطاً للوجودية والعدمية، إلا أن الطهارة في العرف أمر وجودي، فكأنهم يرون للنظيف نورانية حسية في الطهارة الخبئية، ومعنوية في الطهارة المعنوية.
الاستصحاب | ۲۲۱
ومن المناسب التذكير بأن انقسام الطهارة إلى الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث ليس من مختصات الإسلام، فإن غسل الجنابة كان عند العرب قبل الإسلام بخلاف المجوس على ما في بعض الروايات.
وأما المسلك الأول وهو : ما سلكه الشيخ من أنها من الأمور التكوينية، إلا أنه في موارد الاختلاف بين الشارع والعرف نحن نخطئ العرف، بمعنى أنه مستور على العرف قذارة بعض الأشياء وكشف عنها الشارع كما كشف الشارع عما تخيل العرف أنه قذر بأنه ليس بقدر. ولعل وجه هذا المسلك أن القذارة مستعملة في لسان الشارع بمعنى واحد، فهي مستعملة إما في القذارة التكوينية أو الاعتبارية، فإن كانت مستعملة في القذارة التكوينية، فهذا هو مسلك الشيخ، وإن كانت مستعملة في القذارة الاعتبارية فيلزم أن يكون الاعتبار على وفق التكوين في الموارد التي تكون مصداقاً للقذر التكويني. ومن الواضح أنه يجب في الاعتبار أن يكون على خلاف التكوين، فلا يمكن القول في إطلاق الأسد على الحيوان المفترس بأنه إطلاق اعتباري؛ إذ الاعتبار إعطاء حد شيء لشيء آخر .
وما سلكه الشيخ محل نظر من جهتين:
الجهة الأولى: أنه لا ريب في أن النجاسات - عددها ومطهرها وشرائط التطهير و خصوصيات المطهر - مختلفة بحسب الملل والنحل، ولو كانت من الأمور التكوينية لم تكن قابلة للنسخ.
نعم، لو كانت من الأحكام كانت قابلة للنسخ والتطور بما هو أدق وأحسن.
الجهة الثانية: أنه كما ذكر بعض الأكابر أن الالتزام بحصول تغيير في ولد الكافر - لا سيما إذا كان بعيداً عن الكافر - بعد إسلام الأب أمر مشكل.
(1) وسائل الشيعة ۲: ۱۷۷ أبواب الجنابة، باب ١ ، ح ١٤.
| ۲۲۲
المسلك الثالث: في الطهارة والنجاسة وهو أن بعض أقسامها من الأمور التكوينية وبعض أقسامهما من الأمور الاعتبارية الأدبية، وحكم الشارع بأن الخمر أو الكافر نجس معناه أنه محكوم بالنجاسة وأنا اعتبره نجساً من قبيل إطلاق الأسد على الرجل الشجاع. وهذا ظاهر كلمات المحقق العراقي، والالتزام به خلاف لسان الروايات والفقهاء؛ إذ النجس مستعمل في لسان الروايات والفقهاء في معنى واحد. وأما ما ذكرناه في وجه كلام الشيخ فلا وجه له؛ إذ يمكن اعتبار ما هو قذر تكويناً قذراً قانوناً؛ إذ قد لا يعتبر القانون ما هو قذر تكويناً قذراً قانوناً، فالاعتبار القانوني يمكن أن يكون على وفق القذر التكويني.
وأما الطهارة الظاهرية، فقد ذهب بعض الأكابر إلى أن هذه الطهارة أيضاً من الأحكام الوضعية.
والظاهر أن هذه الطهارة ليست من الأحكام، بل هي طهارة تنزيلية، وما ذكر في مباني الاستنباط في ردّ هذا القول - من أنه لو كانت الطهارة طهارة تنزيلية فلو غسلنا شيئاً بماء مشكوك الطهارة ومحكوم بالطهارة تنزيلاً، ثم انكشف نجاسته، لم يكن الشيء المغسول نجساً، والحال أنه لا يمكن الالتزام به، وهذا دليل على أنه لا تنزيل في المقام - غير صحيح؛ إذ يقال في الجواب - كما تقدم مراراً - إن التنزيل لا يوجب رفع الآثار التي توجب زوال الماهية؛ إذ لازم النجاسة الواقعية تنجيس ملاقيها وعدم مطهريتها للغير.
فالحق أن الطهارة الظاهرية طهارة أدبية، بمعنى اعتباره طاهراً.
هذا تمام الكلام في الطهارة والنجاسة.
(1) قال في المباني: بداهة أنه لا معنى للتنزيل إلا الحكم بترتب آثار الواقع على المشكوك فيه بأن يحكم بطهارة الثوب مثلاً أو صحة الوضوء فيما إذا غسل أو توضأ بماء حكم بطهارته ظاهراً وإن انكشفت نجاسته بعد ذلك، وهذا مما لا يمكن الالتزام به كما لا يخفى مباني الاستنباط ٤ : ٨٧]
الاستصحاب | ٢٢٣
وأما الأمر الثاني: فهو في فذلكة البحث
قد ظهر مما تقدم أن الأحكام الوضعية على ثلاثة أقسام: قسم يستحق أن يطلق عليه الحكم الوضعي، وهذا عبارة عن الأمور المستقلة في الجعل من قبيل الملكية والزوجية والنجاسة والطهارة وأمثال ذلك مما يكون من الموضوعات التمهيدية لأحكام أخر. وهذه الأمور من الأمور المنتزعة بالمعنى المتقدم، يعني تندرج فيها أحكام تكليفية في الجملة.
وقسم آخر من الأمور المنتزعة من الاعتبار القانوني من قبيل الجزئية والشرطية والمانعية والسببية لنفس الحكم، فإن السببية والشرطية تنتزع من تقيد الحكم، سواء كان تكليفياً أم وضعياً بوجوده أو بعدمه، ويعبر عنه بالمانع.
وقسم آخر إطلاق الحكم الوضعي عليه يكون من الإطلاق والاستعمال الأدبي وهذا من قبيل الطهارة التي يعبر عنها بالطهارة الظاهرية، وكذلك الجزئية المنتزعة من وحدة الحكم الجزائي، وكذلك الشرطية المستفادة من الحكم الجزائي، كما إذا قال: لو صلیت بدون هذا الجزء تعاقب بعقوبة ترك الصلاة، فإن هذا ليس جزءاً واقعاً ولا شرطاً، وإنما تترتب العقوبة على تركه كما تترتب على ترك أصل الصلاة.