بسم الله الرحمن الرحیم
تهذيب الوصول الى علم الأصول، ص: 50
الفصل الثاني: في الحكم الشرعي
الحكم: خطاب الشرع «1» المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
و الاقتضاء «2»: قد يكون للوجود مع المنع من «3» النقيض «4»، فيكون وجوبا.
و لا معه، فيكون ندبا.
و قد يكون للعدم مع المنع من النقيض، فيكون حراما.
و لا معه، فيكون مكروها.
و التخيير: الإباحة «5».
و الوضع: الحكم «6» على الوصف بكونه شرطا، أو سببا، أو مانعا. و ربّما رجع «7» بنوع من الاعتبار إلى الأوّل.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج1، ص: 39
قاعدة- 8 الحكم: خطاب الشرع المتعلق بأفعال «1» المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
و زاد بعضهم «2»: أو الوضع.
و الوضع: هو الحكم على الشيء بكونه سببا، أو شرطا، أو مانعا.
فلنذكر أحكام هذه الثلاثة في قواعد
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 63
قاعدة- 165 لا ريب أن الطهارة، و الاستقبال، و الستر، معدودة من الواجبات في الصلاة،
مع الاتفاق على جواز فعلها قبل الوقت «1»، و الاتفاق في الأصول: أن غير الواجب لا يجزئ عن الواجب. فاتجه هنا سؤال:
و هو أن يقال: أحد الأمرين لازم، و هو إما أن يقال: بوجوب هذه الأمور على الإطلاق، و لم يقل به أحد، أو يقال: باجزاء غير الواجب عن الواجب، و هو باطل؛ لأن الفعل إنما يجزئ عن غيره مع تساويهما في المصلحة المطلقة، و محال تساوي الواجب و غير الواجب في المصلحة.
و جوابه: إنا قد بينا أن الخطاب ينقسم إلى: خطاب التكليف،
__________________________________________________
(1) انظر: القرافي- الفروق: 1- 165.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 64
و خطاب الوضع «1»، أعني الخطاب بنصب الأسباب، و لا يشترط فيه العلم، و لا القدرة، و لا عدمهما، و لا التكليف، لأن معناه قول الشارع: اعلموا أنه متى وجد كذا فقد وجب كذا، أو حرم كذا، أو أبيح كذا، أو ندب كذا «2». و من ثمَّ حكم بضمان الصبي و المجنون ما أتلفاه، مع عدم تكليفهما. و قد يكون خطاب الوضع بالمانع أيضا، كما يقول: عدم كذا، عند وجود المانع، أو عند عدم الشرط.
إذا تقرر ذلك: فالطهارة من باب خطاب الوضع، إذ هي شرط في صحة الصلاة، و كذلك الاستقبال، و الستر. و ذلك لا يشترط فيه شروط التكليف، من إيقاعه على الوجه المخصوص، فان دخل الوقت على المكلف و هو موصوف بهذه الأوصاف، تمَّ الغرض، و صحت الصلاة، و إن لم يتصف بها أو ببعضها، توجه إليه «3» حينئذ خطاب التكليف و خطاب الوضع، و صارت حينئذ واجبة. و لا استبعاد في وجوب الطهارة في حالة دون حالة، لأن شأن الشرع تخصيص الوجوب ببعض الحالات دون البعض، و ببعض الأزمنة دون البعض «4».
فان قلت: أ ليس ينوي في الطهارة قبل دخول الوقت الاستحباب، و ذلك خطاب التكليف فكيف جعلتها من خطاب الوضع؟! قلت: ذلك و إن احتيج إليه في الطهارة فهو غير محتاج إليه في الاستقبال و الستر، و لهذا لو اتفق كونه قائما إلى القبلة، و قد ليس
__________________________________________________
(1) لم يرد منه سابقا هذا التقسيم، و إنما ورد فيما مضى ما يدل عليه. راجع: 1- 39، 70.
(2) زيادة من (ك).
(3) في (أ) و (م): عليه.
(4) انظر: القرافي- الفروق: 1- 168- 169.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 65
ساتر العورة حياء من الناس، أو ألبسه غيره كرها، أجزأ ذلك في الصلاة. و أما وقوع الطهارة بنية الاستحباب، فهو باعتبار أنها في نفسها مستحبة؛ لاستحباب الدوام على الطهارة. و لا امتناع في كون الشيء من خطاب الوضع باعتبار، و من خطاب التكليف باعتبار، فإذا وجد سبب الوجوب، كدخول الوقت- مثلا- على متطهر ندبا، فقد خوطب بالصلاة حينئذ من غير أمر بتجديد طهارة؛ لامتناع تحصيل الحاصل. و إن كان محدثا، اجتمع عليه خطاب التكليف، بفعل الطهارة وجوبا، و خطاب الوضع، و من قبله كان عليه خطاب التكليف باستحباب الطهارة، فلا امتناع في ذلك.
و هذا الإشكال اليسير «1» هو الّذي ألجأ بعض العلماء إلى اعتقاد وجوب الوضوء و غيره من الطهارات لنفسه، غير أنه يجب وجوبا موسعا قبل الوقت، و في الوقت وجوبا مضيقا عند آخر الوقت.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر بن العنبري «2»، و الجمهور «3»
__________________________________________________
(1) عبّر القرافي عن هذا الإشكال بقوله: (هو من المشكلات التي يقل تحريرها و الجواب عنها من الفضلاء). الفروق: 1- 169.
(2) في (أ) و (م): أبو بكر العنبري. و لم أعثر على مصدر ينسب هذا القول لهذا القائل على كلا النسختين و هناك شخص ذكره بعض أصحاب التراجم باسم (أبو بكر محمد بن عمر العنبري) إلا انه أديب شاعر توفي سنة 412 ه، و من آثاره ديوان شعر. (كحالة- معجم المؤلفين: 11- 88). و لعل المقصود: القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543 ه، فقد نقل القرافي عنه هذا الرّأي في- الفروق: 1- 166، و جاء التصحيف من النساخ.
(3) لم أعثر على ما يصحح هذه النسبة، بل يبدو من القرافي خلافها. انظر: الفروق: 1- 166- 169.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 66
و حكاه الرازي [1] في التفسير «1» عن جماعة. و صار بعض الأصحاب «2» إلى وجوب الغسل أيضا بهذه المثابة
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 133
قاعدة- 197 الملك: حكم شرعي مقدر في العين، أو المنفعة، يؤثر تمكين المضاف إليه من الانتفاع به،
و العوض عنه من حيث هو كذلك «1».
و إنما كان حكما شرعيا، لأنه يتبع الأسباب الشرعية. و أما أنه مقدر، فلأنه يرجع إلى تعلق خطاب الشرع، و التعلق «2» أمر اعتباري، بل يقدر في العين و المنفعة، عند حصول الأسباب المحصلة له. و التقييد بالانتفاع، ليخرج تصرف الوصي، و الوكيل، و الحاكم، مع عدم تحقق الملك. و التقييد بالعوض، لتخرج الإباحة، كما في الضيف، و المار على الشجرة المثمرة، على خلاف «3». و يخرج الاختصاص في المسجد و الرباط و الطرق و مقاعد الأسواق، فإن هذه لا تملك فيها، مع التمكن الشرعي من التصرف. و التقييد بالحيثية، ليخرج عنه ما يعرض من مانع الحجر على المالك، فان الملك يقتضي ذلك من حيث
__________________________________________________
(1) انظر: المصدر السابق: 3- 208- 209. و السيوطي- الأشباه و النّظائر: 342 (نقله عن ابن السبكي).
(2) في (ح) زيادة: هو.
(3) انظر: العلامة الحلي- مختلف الشيعة: 5- 135- 136.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 134
هو هو، و إنما التخلف لمانع، و لا تنافي بين الإمكان الذاتي و الامتناع الغيري.
و لا يرد النقض: بملك الملك «1»، لأنه لا يسمى ملكا حقيقيا.
و كذا الضيافة، إذ الأصح أنه لا تملك و لا بالمضغ «2». و لا بالوقف «3»، عند من قال بملك الموقوف عليه «4»، لأن الانتفاع حاصل به في الجملة، و الاعتياض قد يحصل في صورة بيع الوقف.
و لا مالك الانتفاع دون المنفعة «5»، كالمسكن، لأن ذلك لا يعد ملكا حقيقيا.
و على هذا: الملك من الأحكام الخمسة، أعني الإباحة. (و له اعتبار) «6» يلحقه بالوضع، إذ هو سبب في الانتفاع، إلا أنه غير المصطلح عليه، إذ الضابط في خطاب الوضع: ما كان متعلقا بأفعال
__________________________________________________
(1) في (ح) و (م): اليمين. و الصواب ما أثبتناه، لمطابقته لما في الفروق: 3- 212، الّذي اعتمد عليه المصنف في هذه القاعدة.
(2) أي حتى بالمضغ، لأن الضيافة إباحة لا تمليك، خلافا للشافعية.
انظر: السيوطي- الأشباه و النّظائر: 243.
(3) أي لا يرد النقض بالوقف بناء على إنه ملك الموقوف عليه، كما بينه القرافي في- الفروق: 3- 212.
(4) انظر: الشيرازي- المهذب: 1- 442- 443، و ابن رجب- القواعد: 426، و المحقق الحلي- شرائع الإسلام: 2- 218.
(5) أي لا يرد النقض على ما ذكره تعريفا للملك بمالك الانتفاع دون المنفعة.
(6) في (ح): و الاعتبار.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 135
المكلفين لا على وجه الاقتضاء و التخيير. و لو صلحت السببية هنا لجعله من خطاب الوضع لكان أكثر الأحكام منه، إذ النكاح- مثلا- سبب في الحل، و الحل سبب في وجوب حقوق الزوجية، التي هي سبب في أمور أخر. و الدلوك سبب في وجوب الصلاة، و الوجوب سبب لاستحقاق «1» الثواب بالفعل و العقاب بالترك، و سبب تقديمه على غيره من المندوبات «2».
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 135
المكلفين لا على وجه الاقتضاء و التخيير. و لو صلحت السببية هنا لجعله من خطاب الوضع لكان أكثر الأحكام منه، إذ النكاح- مثلا- سبب في الحل، و الحل سبب في وجوب حقوق الزوجية، التي هي سبب في أمور أخر. و الدلوك سبب في وجوب الصلاة، و الوجوب سبب لاستحقاق «1» الثواب بالفعل و العقاب بالترك، و سبب تقديمه على غيره من المندوبات «2»
قاعدة- 198 الذّمّة: معنى مقدر في المكلف قابل للالتزام و الإلزام «3».
فلا ذمة للصبي و السفيه، إلا عند إتلاف مال الغير، أو جناية السفيه مطلقا. و للعبد ذمة.
و يسلب الصبي و السفيه ذمة الإلزام و الالتزام «4» بنحو: البيع، و الضمان، و الحوالة، و الصداق، إلا أن يكون عقد السفيه عن إذن الولي، أو يكون للصبي مال حال عقد النكاح، إن قلنا يتعلق بذمته، و إن قلنا يتعلق بماله، و كذا ما أتلف، فلا ذمة له أصلا.
و لكن يشكل الإتلاف من الصبي حال عدم ماله، فإنه يؤخذ «5»
__________________________________________________
(1) في (ح): في استحقاق.
(2) للتوسع في هذه القاعدة انظر: القرافي- الفروق:
3- 208- 218.
(3) انظر: المصدر السابق: 3- 230- 231.
(4) في (ح) زيادة: تستحق.
(5) في (ك): يوجد.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 136
منه متى صار له مال، فلا بد من متعلق في حال الصغر.
و يمكن أن يقال: التعليق هنا مقدر، بمعنى أنه إذا بلغ وجب عليه العزم، أو وليه قبل بلوغه.
و أما أهلية التصرف فمغايرة للذمة، لأن المعني بها: قبول يقدره الشارع في المحل، و لا يشترط فيه سوى البلوغ. و من جعل للمميز تصرفا «1»، اكتفى بالتمييز.
و لا يشترط في الأهلية: ملك المتصرف فيه، لأن عقد الفضولي صادر من أهله، غاية ما في الباب أن ذلك شرط في اللزوم.
و الحاصل: أنه لا يشترط في الأهلية: التذمم، فان الوصي، و الوكيل، و الحاكم، و أمينه، لهم الأهلية، و لا يتعلق بذممهم «2» شيء. و كذلك ولي النكاح، له أهلية العقد على المولى عليه، و النكاح لا يتصور ثبوته في الذّمّة.
و الظاهر: أن الذّمّة، و أهلية التصرف، من خطاب الوضع، من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود، و ذلك لأنه لا شيء قائم بالمحل من الصفات الموجودة- كاللون و الطعم- و إنما هو نسبة مخصوصة يقدرها صاحب الشرع موجودة عند سببها، كما يقدر الملك في العتق عن الغير، و لذلك تذهب هذه التقادير بذهاب أسبابها، و تثبت بثبوتها.
و يجوز أن يقدرا من خطاب التكليف، لأن معناهما إباحة التصرف بالإلزام و الالتزام «3».
تمهيد القواعد، ص: 29
المقصد الأول: في الحكم
و فيه بابان
الباب الأول: في الحكم الشرعي و أقسامه
مقدمة: الحكم الشرعي: خطاب اللَّه تعالى؛ أو مدلول خطابه، المتعلّق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
و زاد بعضهم: أو الوضع «1» ليدخل جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا، كجعل اللَّه تعالى زوال الشمس موجبا للظهر، و جعله الطهارة شرطا لصحة الصلاة، و النجاسة مانعة من صحتها؛ فإن الجعل المذكور حكم شرعي، لاستفادته من الشارع، و لا طلب فيه و لا تخيير، إذ ليس من أفعالنا حتى يطلب منّا أو نخيّر فيه.
و تكلّف المقتصر على الأول بمنع كونها أحكاما، بل هي أعلام له؛ أو
__________________________________________________
(1) منتهى الوصول: 23، الإحكام للآمدي 1: 136، و حكاه عن الأصوليين في سلم الوصول: 29، و عن بعضهم في مسلم الثبوت راجع فواتح الرحموت 1: 54.
تمهيد القواعد، ص: 30
بعودها إليها، إذ لا معنى للسببية إلا إيجاب اللَّه تعالى الفعل عنده، و للشرطية كذلك و نحوه عنده [1] و المانعية إلا التحريم، و هكذا.
و هو تكلّف بعيد، و مع ذلك فيتخلف «1» كثيرا في أفعال غير المكلفين، كما ستقف عليه [2].
نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، النص، ص: 9
فالأول إما لجلب النفع، و هو ما يدرك «1» بالحواس الخمس، فإن كل حاسة لها حظ من الأحكام الشرعية، فللسمع الوجوب كما في القراءة الجهرية و التحريم كما في سماع الغناء و آلات اللهو، و للبصر الوجود كما في الاطلاع على العيوب و إرادة التقويم «2»، و التحريم كما في تحريم النظر إلى المحرمات، و للمس «3» أحكام الوطء و مقدماته بل المناكحات كلها الغرض الأهم منها اللمس، و يتعلق باللمس أيضا اللباس و الأواني و إزالة النجاسات و تحصيل الطهارات، و يتعلق بالذوق أحكام الأطعمة و الأشربة و الصيد و الذبائح. و إما لدفع الضرر، و هو حفظ المقاصد الخمس. و الثاني و هو الذي يكون مقصودا بالتبع، فهو كل وسيلة إلى المدرك بالحواس أو إلى حفظ المقاصد، و يجيء مفصلا.
[القاعدة] الرابعة:
الحكم خطاب الشرع المتعلق بالأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. فالاقتضاء هو الطلب، إما للوجود مع المنع من النقيض و هو الوجوب أو لا معه هو الندب و إما للعدم مع المنع من النقيض و هو التحريم أو لا معه و هو الكراهة. و التخيير الإباحة، و الوضع هو الحكم على الشيء بكونه سببا أو شرطا
__________________________________________________
(1) أي هو حكم يتعلق بما يدرك بالحواس الخمس، و إلا فالحكم لا يدرك بالحواس الخمس.
(2) أي تقويم المبيع، فإن تقويمه موقوف على الرؤية فتجب.
(3) أي يجري في اللمس الذي هو أحد الحواس أحكام الوطء و المناكحات من الوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام الخمسة. و في بعض النسخ: إذ الغرض الأهم منها اللمس.
نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، النص، ص: 10
أو مانعا. و أضاف بعضهم الصحة و البطلان و العزيمة و الرخصة و التقدير و الحجة. و الأربعة الأول ظاهرة المثال، و أما التقدير فإما بجعل الموجود معدوما كالماء بالنسبة إلى مريض يتضرر باستعماله أو إلى عاجز عن ثمنه يقدر «1» معدوما، أو بجعل المعدوم موجودا، و له أمثلة:
(الأول) الدية، تقدر داخلة في ملك المقتول قبل موته بآن يتورث عنه و يقضى منها ديونه، فإنه يقدر الملك المعدوم موجودا للضرورة.
(الثاني) تجديد النية في الصوم قبل الزوال، فتنعطف هذه النية تقديرا إلى الفجر، مع أن الواقع عدم النية.
(الثالث) تقدير الملك قبل العتق في قوله" أعتق عبدك عني"، و ليس ذلك كله من باب الكشف، للقطع بعدم هذه المقدرات. و أما الحجة فهي مستند قضاء الحاكم، كالإقرار و البينة و اليمين و النكول. و الحق أن هذه يمكن ردها إلى أقسام الوضع الثلاثة «2».
هداية: ظهر أن الخطاب إما تكليفي أو وضعي،
و ليس بينهما منع جمع «3»، بل ينقسمان أقساما:
" أ" ما اجتمعا فيه:
كالطهارة عن الحدث و الخبث و أسباب الحدث التي من فعل العبد، و الصلاة فإنها واجبة و سبب لعصمة الدم، و غسل الميت واجب
__________________________________________________
(1) في ص: فقدر.
(2) و هي السبب و الشرط و المانع.
(3) بل بينهما عموم و خصوص من وجه
نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، النص، ص: 11
و شرط في صحة الصلاة عليه، و باقي أحكامه واجبة و سبب في سقوط الفرض عن الباقين، و الاعتكاف ندب و سبب في تحريم محرماته، و النكاح ندب و سبب في أشياء تأتي، و الطلاق مكروه أو واجب و سبب في التحريم، و الرضاع مستحب أو واجب و سبب للتحريم، و الزنا و أمثاله محرمة و سبب في الحد و التعزير و القصاص، و العتق ندب و سبب للحرية.
" ب" وضعي لا غير،
كأسباب الحدث، و ليست من فعل العبد كالنوم و الحلم «1» و الحيض و أوقات الصلاة و رؤية الهلال، فإنها أسباب محضة، و حول الحول شرط لوجوب الزكاة «2»، و الحيض مانع من الصلاة و الصوم. و جعل بعضهم ضابط هذا ما لا فعل فيه للمكلف، و منه الإرث فإنه تملك محض بعد وقوع السبب.
" ج" تكليفي لا غير،
كالتطوعات فإنها تكليف و ليس فيها سببية و لا شرطية و لا مانعية، و كذا الزكاة و الصوم و الحج و الالتقاط بنية الحفظ «3». هذا إذا لم تلحظ اعتبار براءة الذمة أو سقوط الخطاب أو استحقاق الثواب أما مع ملاحظتها فإنه يزول هذا القسم «4»، لأن السببية حاصلة بالنسبة إلى ما ذكرناه.
" د" مبدأه تكليفي و عقباه وضعي،
فإن وجوب النفقة سبب لملك الزوجة و الحضانة سبب للحفظ، و استيفاء الحد و التعزير سبب للزجر عن المعصية، و القضاء سبب في تسلط المقضي له.
__________________________________________________
(1) الحلم بضمتين و إسكان الثاني من باب قتل، و احتلم: رأى في منامه رؤيا.
(2) في ك: شرط أداء الزكاة.
(3) لأن الالتقاط بنية التملك سبب في التملك فيكون من خطاب الوضع.
(4) أي مع ملاحظة هذه الأشياء يزول قسم خطاب التكليف.
نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، النص، ص: 12
و من هذا القسم البيع و الرهن و الحوالة و الضمان و الشركة و الوكالة و الشفعة و الإجارة و المزارعة و المساقاة و القراض و الجعالة و الوصية و الهبة و المسابقة و العارية و الوديعة إذا فرط، فإن ذلك كله مباح. و قد يستحب أو يجب، و يترتب عليه بعد وقوعه أحكامه
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 85
و إن كان موضوعا في الصغرى، محمولا في الكبرى، فهو الرابع، و شرطه اتّفاق مقدّمتيه في الإيجاب مع كليّة الصغرى، أو اختلافهما بالكيف مع كليّة إحداهما.
فهذه طرق اكتساب التّصديقات.
و أمّا اكتساب التصوّرات فإنّما يكون بالحدّ و الرسم.
و الحدّ منه تامّ يشتمل على مجموع المقدّمات من الأجناس و الفصول، و منه ناقص يشتمل على بعضها.
و الرّسم منه تامّ يفيد الامتياز عن كلّ شيء، و منه ناقص يفيد الامتياز عن البعض و شرطه الثلاثة الأول الاطّراد و الانعكاس.
و بيان هذه المناهج ذكرناها في كتبنا المنطقيّة.
المبحث السادس: في الحكم
اختلف الناس هنا، فالمعتزلة القائلون بحسن الأشياء و قبحها عقلا ذهبوا إلى أنّ الحكم صفة للفعل في نفسه.
و الأشاعرة منعوا من ذلك، و جعلوه أمرا شرعيّا لا صفة حقيقيّة للفعل.
و اختلفوا في تعريفه، فقال الغزالي: إنّه خطاب الشرع المتعلّق بأفعال المكلّفين. «1»
__________________________________________________
(1). المستصفى من علم الأصول: 1/ 112.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 86
و يدخل فيه قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ «1» فإنّه خطاب الشرع متعلّق بأفعال المكلّفين و ليس حكما إجماعا.
و قال آخرون «2» زيادة على ذلك بالاقتضاء، أو التخيير «3».
و الخطاب قيل: إنّه الكلام الّذي يفهم السامع منه شيئا «4».
و ليس بجيّد، لدخول ما لم يقصد المتكلّم إفهام السّامع.
و قيل: «اللفظ المفيد الّذي يقصد به إفهام من هو متهيّئ لفهمه، فخرجت الحركات و الإشارات المفهمة و المهملة و ما لم يقصد به الافهام، و قولنا «لمن هو متهيّئ له» احتراز به عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم و المغمى عليه و نحوه» «5».
و قال السيّد المرتضى: الخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه، و يفتقر الخطاب في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له، لمشاركة ما ليس بخطاب له في جميع صفاته من وجود و حدوث و صيغة و ترتيب.
و لا بدّ من زائد به يحصل مسمّى الخطاب، و هو قصد المخاطب، و لهذا قد يسمع الكلام جماعة و الخطاب لبعضهم دون بعض لأجل القصد، و لهذا جاز أن
__________________________________________________
(1). الصافات: 96.
(2). و منهم محمد بن عمر المعروف بالرازي المتوفّى 606 ه في كتابه «المحصول في علم الأصول»: 1/ 15.
(3). ما فيه الاقتضاء عبارة عن الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة. و «التخيير» هو الإباحة.
(4). نقله الشيخ عليّ بن أبي علي المعروف بالآمدي عن بعض الأصوليّين. لاحظ الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 71.
(5). الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 71. نقله المصنّف ملخّصا.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 87
يتكلّم النائم و لم يجز أن يخاطب كما لم يجز أن يأمر و ينهى «1».
ثمّ قسّم الخطاب إلى مهمل و مستعمل.
فالأوّل ما لم يوضع في اللغة الّتي أضيف أنّه مهمل بالنّسبة إليها لشيء من المعاني و الفوائد.
و الثاني هو الموضوع لمعنى و فائدة «2»، و هو إمّا أن يكون له معنى و إن كان لا يفيد فيما سمّي به كالألقاب، مثل زيد و عمرو، فانّه بدل من الإشارة، و لهذا لا يستعمل في اللّه تعالى.
و الفرق بينه و بين المفيد أنّ اللّقب يجوز تغييره، و اللغة على ما هي عليه، و لا يجوز في المفيد ذلك، و لهذا كان الحقّ أنّ لفظة شيء ليست لقبا، بل هي من قسم مفيد الكلام، إذ لا يجوز تبديلها، و اللغة على ما هي عليه.
و إنّما لم تفد لفظة شيء، لاشتراك جميع المعلومات في معناها، فتتعذّر فيها طريقة الإبانة و التمييز، فعدم إفادتها لأمر يرجع إلى غيرها، و اللّقب لا يفيد لأمر و يرجع إليه.
و أمّا المفيد فهو المقتضي للإبانة فإمّا أن يبيّن نوعا من نوع كلون، و كون، و اعتقاد، و إرادة، أو جنسا من جنس كجوهر، و سواد، أو عينا من عين كعالم و قادر و أسود و أبيض. «3»
فالسيد المرتضى لم يشترط في الخطاب الفهم، و لا تهيّؤ السامع له، و لا
__________________________________________________
(1). الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 8.
(2). في المصدر: «أو فائدة».
(3). لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 9- 10. نقله المصنّف ملخّصا.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 88
بأس به، و لهذا ذمّ العقلاء من خاطب بغير المفيد أو للجماد «1» و سمّوه خطابا، أو أنّه استعمل في مورد القسمة الخطاب في معنى الكلام مجازا.
و قولنا: «الشارع» احتراز عن غيره.
و قولنا: «المتعلّق بأفعال المكلّفين» يخرج عنه ما عداه.
و قولنا: «بالاقتضاء [أ] و التخيير» يريد به الأحكام الخمسة، فإنّ الاقتضاء، قد يكون للوجود و للعدم إمّا مع الجزم أو بدونه، فيتناول الواجب، و الحرام، و المندوب، و المكروه.
أمّا التخيير فهو الإباحة.
و قد اعترض عليه من وجوه: «2»
الأوّل: إذا كان الحكم هو خطابه تعالى، و خطابه كلامه، و كلامه عند الأشاعرة قديم، فيكون حكم اللّه تعالى بالحلّ و الحرمة قديما، و هو باطل.
أمّا أوّلا: فلأنّ حلّ وطء الزوجة و حرمة الأجنبيّة صفة فعل العبد، فإنّه يقال: وطء حلال و حرام، و فعل العبد محدث فيستحيل أن يكون وصفه قديما.
و أمّا ثانيا فلأنّه يقال: حلّت المرأة بعد أن لم تكن كذلك، و هذا اعتراف بحدوث الحكم.
و أمّا ثالثا فلأنّ المقتضي هو العقد أو ملك اليمين، و معلول الحادث حادث.
__________________________________________________
(1). في «ج»: الجماد.
(2). هذه الوجوه أوردها المعتزلة على الأشاعرة القائلين بأن الحكم الشرعي قديم. لاحظ الكاشف عن المحصول: 1/ 225.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 89
الثاني: يخرج عن هذا الحدّ كون الشيء سببا، و شرطا، و مانعا، و صحيحا، و فاسدا.
الثالث: الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلّف، كما يجعل إتلاف الصّبيّ سببا لوجوب الضمان، و الدلوك سببا لوجوب الصلاة.
الرابع: إدخال كلمة «أو» في الحدّ خطأ، لأنّها للترديد و التشكيك، و الحدّ للإيضاح.
أجابوا عن الأوّل بالمنع من كون الحلّ و الحرمة و صفين للفعل، فإنّ معنى كون الفعل حلالا كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فعله، و كونه حراما كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك، فحكم اللّه تعالى هو كلامه، و الفعل هو متعلّق الكلام، و ليس لمتعلّق القول من القول صفة و إلّا لحصل للمعدوم باعتبار كونه مذكورا أو مخبرا عنه، و مسمّى بالاسم المخصوص وصف ثبوتيّ، و هو محال.
و قوله: «حلّت لزيد بعد أن لم تكن».
قلنا: حكم اللّه تعالى هو قوله في الأزل «سوّغت له حين وجوده في كذا» فحكمه قديم و متعلّق حكمه محدث.
و قوله: «الحكم يعلّل بالأسباب».
قلنا: المراد من السبب المعرّف لا الموجب.
و عن الثاني المراد من كون الدلوك سببا: أنّا متى علمنا أنّه تعالى أمر بالصّلاة فلا معنى للسببيّة إلّا الإيجاب.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 90
و قولنا: «العقد صحيح» معناه أنّ الشرع «1» أذن في الانتفاع به، و هو معنى الإباحة.
و قيل: يزاد في الحدّ أو الوضع.
و عن الثالث: أنّ معنى كون إتلاف الصّبي سببا لوجوب الضمان تكليف الولي بإخراج الضّمان من ماله.
و معنى كون الدلوك سببا تكليف الرجل بأداء الصلاة عنده.
و عن الرابع: أنّ المراد أنّ كلّ ما وقع عليه أحد هذه الوجوه كان حكما.
و قيل: إنّ السببيّة و الشرطيّة ليست حكما.
و قال بعضهم: الحكم خطاب الشارع المفيد فائدة شرعيّة تختص به أي لا يفهم إلّا منه، لأنّه إنشاء فلا خارج له.
و هذه الحدود «2» كلّها باطلة عندنا لما عرفت من أنّ كلامه تعالى عبارة عن الحروف و الأصوات و هي حادثة، و قد بيّناه في علم الكلام.
و لأنّ الحكم ليس هو الخطاب بل المستفاد منه، فإنّ الحكم ليس قول الشارع: أوجبت عليك «3» بل نفس الوجوب المستفاد من ذلك الخطاب
زبدة الأصول، المتن، ص: 105
فصل [في حدّ الحكم]
«الغزّاليّ»: الحكم: خطاب اللّه المتعلّق بافعال المكلّفين «1».
و قد ينقض عكسه بالخواصّ من جهتين. و طرده، بقوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «2»؛ بل، انطباق الحدّ عليها اظهر؛ لمشاركتها له في الاشعار الظاهريّ بالعمومين؛ و لذلك استدلّوا بها على خلق الاعمال.
و قد يذبّ عن العكس: ب: انّ التعلّق بالغير في التخصيص ملحوظ؛ و الجنسيّة من الجمعين مقصودة. و عن الطرد: ب: انّ حيثيّة التكليف معتبرة.
و يخدشه التعدّد، و التجوّز، و اعتبارها في الآية، لتضمّنها الانكار عليهم في عبادة ما ينحتون.
ثمّ، سوقها ظاهر في ارادة خلقه- سبحانه- جوهر الصنم «3»- و هو المعمول- فلا
__________________________________________________
(1). المستصفى 1/ 55.
(2). الصافّات/ 96.
(3). م 2:+ نحو: الحجر و الخشب.
زبدة الأصول، المتن، ص: 106
يتمّ استدلالهم بها على خلق العمل.
و دعوى «البيضاويّ» «1» الاولويّة، غير مسموعة. و التوقّف لا يوجبها؛ كما في القدرة و المقدور.
خطاب اللّه: الخطاب- لغة- توجيه الكلام نحو الغير للافهام. و قد صرّح «الآمديّ» «2» و غيره «3» من علماء الاصول بنقله الى: الكلام الموجّه. فقول «الأبهريّ» «4»: «لا حاجة الى النقل» «5»، لا وجه له. و انتحال بعض المتأخّرين كلامه- مع فساده- و الردّ به على «المحقّق الشريف»، عجيب.
و قد ينقض عكسه بالخواصّ من جهتين: ك: وجوب قيام الليل عليه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- «6» و الجهتان: وحدة الفعل، و وحدة المكلّف. بل، بغير الخواصّ- ايضا- ك: الصلاة، و الصوم، و الحجّ؛ اذ لم يتعلّق الخطاب فيها بكلّ الافعال؛ كما هو مدلول الجمع المضاف؛ لكنّ النقض- هنا- من جهة واحدة؛ لا من جهتين.
بقوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «7»: لنا في هذه الآية كلام طويل
__________________________________________________
(1). تفسير البيضاويّ 3/ 464.
(2). الاحكام في الاصول الاحكام 1/ 136.
(3). البحر المحيط في اصول الفقه 1/ 126، مناهج العقول 1/ 41، شرح مختصر المنتهى 1/ 79.
(4). سيف الدين احمد الأبهريّ؛ من اعلام القرن الثامن الهجريّ. من مصنفاته: حاشية على شرح مختصر المنتهى.
(5). حاشية الابهريّ على شرح مختصر المنتهى/ الورقة 107/ الف.
(6). د، و:- و سلم.
(7). الصافّات/ 96.
زبدة الأصول، المتن، ص: 107
اوردناه في حواشي شرح «العضديّ»؛ فليطلب هناك «1».
في الاشعار الظاهريّ: انّما قال: «الظاهريّ»؛ لانّ اشعار ضمير الجمع بالعموم، انّما هو بحسب الظاهر.
بالعمومين: اي: عموم المخاطبين و عموم الموصول.
و قد يذبّ: الذبّ عن العكس من خواصّنا؛ و كذا خدشه. و الذبّ عن الطرد من خواصّ «العضديّ» «2»، و خدشه من خواصّنا.
ب: انّ التعلّق بالغير في التخصيص: اي: تخصيص النبي صلّى اللّه عليه و آله ملحوظ؛ فيكون الخطاب معلّقا بكلّ المكلّفين؛ لكن بالنسبة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله اثباتا، و بالنسبة الى الغير نفيا؛ لكن انّما يدفع النقض من جهة عموم المكلّفين؛ و بقي النقض من جهة عموم الافعال؛ فيدفع بقصد الجنسيّة.
ملحوظ: اذ ملاحظة الاغيار في الخاصّة مأخوذة؛ فصحّ التعلّق بالمكلّفين.
و اندفع النقض بها من احدى الجهتين «3».
و الجنسيّة من الجمعين مقصودة: كما قالوه في نحو: «زيد يركب الخيل»؛ و في قوله- تعالى-: «وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ!» «4»؛ و المراد: «جبرئيل» عليه السّلام «5»؛ فاندفع النقض بالخاصّة من الجهة الاخرى.
و يخدشه: اي: يخدش الذبّ عن العكس و الطرد.
__________________________________________________
(1). مع بذل جهدي- الى الآن- لم نعثر على نسخة منها.
(2). شرح مختصر المنتهى 1/ 80- 79.
(3). و: الحيثيّتين.
(4). آل عمران/ 45.
(5). د:- عليه السّلام.
زبدة الأصول، المتن، ص: 108
التعدّد: اي: تعدّد الحكم في الخواصّ. ففي اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله «1» بالزيادة على الاربع حكمان: اباحة بالنسبة اليه، و تحريم بالنسبة الى الامّة؛ فعاد نقض العكس بها.
التجوّز: اذ تعريف الجمع للاستغراق؛ و حمله على الجنس، تجوّز.
و اعتبارها في الآية: هذا خدش الذبّ عن الطرد. و الاوّلان خدشة عن العكس.
في عبادة ما ينحتون: و الآية حكاية عن قول «ابراهيم» عليه السّلام «2» لقومه بعد كسره «3» اصنامهم. و هي كذا: «قالَ: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «4».
سوقها ظاهر: هذا الكلام مذكور بالعرض.
و دعوى «البيضاويّ»: قال في تفسير قوله- تعالى-: «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «5»: «اي: و ما تعملونه. فانّ جوهرها بخلقه، و شكلها؛ و ان كان بفعلهم.
و لذلك جعل «6» من افعالهم. فباقداره ايّاهم عليه و خلقه ما يتوقّف عليه فعلهم من الدواعي و العدد «7». او عملكم؛ بمعنى: معمولكم، ليطابق و ما تنحتون؛ أو أنّه بمعنى:
الحدث. فانّ فعلهم اذا كان بخلق اللّه- [تعالى]- فيهم، كان مفعولهم المتوقّف على فعلهم اولى بذلك. و بهذا المعنى تمسّك اصحابنا على خلق الاعمال. و لهم ان
__________________________________________________
(1). م 2: عليه السّلام.
(2). و: على نبيّنا و آله و عليه السلام.
(3). م 1، م 2: كسر.
(4). الصافّات/ 96- 95.
(5). الصافّات/ 96.
(6). م 2:+ اللّه.
(7). د، م 1، م 2: القدر عليه.
زبدة الأصول، المتن، ص: 109
يرجّحوه على الاوّلين، لما «1» فيهما من حذف او مجاز» «2»؛ انتهى كلامه. و من تدبّره، ظهر عليه ما فيه.
و التوقّف: و هو انّه اذا كان فعلهم مخلوقا له- تعالى- يكون ما يتوقّف على قولهم مخلوقا بالطريق الاولى؛ فيكون «ابراهيم»- على نبيّنا [و آله] و عليه السلام- اراد ان يبيّن لقومه مخلوقيّة الصنم للّه- تعالى- بطريق اولى. و قد طوّل «صاحب الكشف» التشنيع على الاشاعرة في استدلالهم بهذه الآية على خلق الاعمال «3». و غرض «البيضاويّ»، الردّ عليه؛ بل، و على «الفخريّ»- ايضا- حيث قال: «الاولى ترك الاستدلال بهذه الآية على ذلك المطلب «4»» «5».
كما في القدرة و المقدور: فانّ القدرة بخلق اللّه. و المقدور الموقوف عليها يمكن ان يكون بعلمنا؛ ك: الاحراق؛ فانّه موقوف على الالقاء في النار، مع انّ فاعل الاحراق هو النار.
__________________________________________________
(1). م 1، م 2: بما.
(2). تفسير البيضاويّ 3/ 464.
(3). الكشّاف 4/ 52- 51.
(4). في المصدر: «الاولى ترك الاستدلال بهذه الآية؛ و اللّه اعلم».
(5). التفسير الكبير 26/ 150.
زبدة الأصول، المتن، ص: 110
تتمّة
لو نقض طرد الحدّ بعد تحييثه باخيرتي «الزلزال»، لكان اظهر؛ لصراحة الوعد و الوعيد، و ارادة المكلّفين بذلك الخطاب. ان اصلحت الطرد، افسدت العكس بالاباحة؛ كزيادة الاقتضاء و التخيير.
ان حكم بحكميّة الوضعيّ، فيضاف: «او الوضع».
و من ارجعه اليهما، اسقطه، و لم يخصّ الاوّل بالصريح؛ بل، عمّم بما يشمل الضمنيّ؛ فيرد عليه النقض بكثير من الآيات؛ كما يرد على المخصّص، النقض بآية:
«وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً» «1»؛ لصراحتها في التحريم.
و الحقّ ادراجها في الحكم. و الإجماع على خلافه لم يثبت.
باخيرتي الزلزال: اي «2» الآيتين الاخيرتين من سورة «الزلزال»؛ و هما قوله- تعالى- «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً، يَرَهُ. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا، يَرَهُ» «3»؛ الآية.
__________________________________________________
(1). النساء/ 93.
(2). م 1، م 2:- اي.
(3). الزلزلة/ 8- 7.
زبدة الأصول، المتن، ص: 111
بذلك الخطاب: لاخراج تلك الآيتين، و أشباههما.
ان اصلحت الطرد، افسدت العكس: اي: فتخرج الآيتان. و انّما عبّر بلفظة «ان»؛ لانّه يمكن ان يقال: انّ فيهما تكليفا بعمل الخير و اجتناب الشرّ؛ فلم يخرجا.
بالاباحة: اذ «1» لا تكليف بخطابها.
كزيادة الاقتضاء و التخيير: اي: كما انّ زيادة الاقتضاء و التخيير في التعريف يفسده؛ بعكسه بخروج الحكم الوضعيّ، فيحتاج الى قولنا: «او الوضع».
فيضاف: ليستقيم العكس.
و من ارجعه اليهما: اي: الى الاباحة و التخيير.
اسقطه: اي اسقط لفظ: «او الوضع».
و لم يخصّ الاوّل: اي: الاقتضاء.
فيرد عليه النقض: اي: على من زعم.
كما يرد على المخصّص، النقض: الّذي خصّص الاقتضاء بالصريح.
بآية: «و من يقتل مؤمنا»: الآية هكذا: «و من يقتل مؤمنا متعمّدا، فجزاؤه جهنّم خالدا فيها» «2»؛ الآية.
و الحقّ ادراجها: اي: الآية الدالّة على الاقتضاء؛ سواء كان صريحا، او ضمنيّا؛ فاندفع النقض.
و الاجماع على خلافه: اي: على خلاف الادراج.
لم يثبت: اي: عدم كون هذه الآيات حكما.
__________________________________________________
(1). م 1، م 2: و.
(2). النساء/ 93.
فرائد الأصول، ج3، ص: 122
[كلام الفاضل التوني:]
فنقول: الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام:
الأوّل و الثاني: الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل، و هي الواجب و المندوب.
و الثالث و الرابع: الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الترك، و هي الحرام و المكروه.
و الخامس: الأحكام التخييريّة الدالّة على الإباحة.
و السادس: الأحكام الوضعيّة، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر أو شرط له أو مانع له. و المضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعيّ، ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا، فإذا ورد أمر بطلب شيء، فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا.
و على الأوّل، يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر، فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا، و هو ظاهر.
و على الثاني، أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار، و إلّا فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان. و نسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.
و التوهّم: بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق، اشتباه غير خفيّ على المتأمّل.
فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.
فرائد الأصول، ج3، ص: 123
و لا يمكن أن يقال: إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب؛ فإنّ هذا لم يقل به أحد، و لا يجوز إجماعا.
و كذا الكلام في النهي، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه؛ لأنّ مطلقه يفيد التكرار.
و التخييري أيضا كذلك.
فالأحكام التكليفيّة الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب.
و أمّا الأحكام الوضعيّة، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة- كالدلوك لوجوب الظهر، و الكسوف لوجوب صلاته، و الزلزلة لصلاتها، و الإيجاب و القبول لإباحة التصرّفات و الاستمتاعات في الملك و النكاح، و فيه لتحريم أمّ الزوجة، و الحيض و النفاس لتحريم الصوم و الصلاة، إلى غير ذلك- فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب: هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب و القبول؛ فإنّ سببيّته على نحو خاصّ، و هو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل، و كذا الزلزلة، أو في وقت معيّن؟ كالدلوك و نحوه ممّا لم يكن السبب وقتا، و كالكسوف و الحيض و نحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة.
و جميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء؛ فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة. و كذا الكلام في الشرط و المانع.
فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في
فرائد الأصول، ج3، ص: 124
الأحكام الوضعيّة- أعني، الأسباب و الشرائط و الموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك- و وقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه، بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة؛ لوجوبه قبل زوال تغيّره، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره، فكذلك تكون بعده.
و يقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده- أي: كان مكلّفا و مأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله، فكذا بعده- فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده. و الطهارة من الشروط.
فالحقّ- مع قطع النظر عن الروايات-: عدم حجّية الاستصحاب؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل و لا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى. فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!
فالذي يقتضيه النظر- بدون ملاحظة الروايات-: أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف، و إذا زال ذلك العلم بطروّ الشكّ- بل الظنّ أيضا- يتوقّف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أوّلا، إلّا أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء، فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله «1». انتهى كلامه، رفع مقامه.
و في كلامه أنظار يتوقّف بيانها على ذكر كلّ فقرة هي مورد للنظر، ثمّ توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر، فنقول:
__________________________________________________
(1) الوافية: 200- 203.
فرائد الأصول، ج3، ص: 125
قوله أوّلا: «و المضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعيّ داخل في الحكم الشرعيّ، لا يضرّ فيما نحن بصدده».
فيه: أنّ المنع المذكور لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره- و هو اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعيّة، أعني نفس السبب و الشرط و المانع- و إنّما يضرّ «1» في التفصيل بين الأحكام الوضعيّة- أعني سببيّة السبب و شرطيّة الشرط- و الأحكام التكليفيّة.
و كيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعيّ حكما مستقلا، و تسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف، تابع له حدوثا و بقاء؟! و هل يعقل التفصيل مع هذا المنع؟!
[الكلام في الأحكام الوضعيّة] «2»
[هل الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول، أو لا؟:]
ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعيّ حكم مستقلّ مجعول- كما اشتهر في ألسنة جماعة «3»- أو لا، و إنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول:
__________________________________________________
(1) كذا في (ص)، و في غيرها بدل «و إنّما يضر»: «لا».
(2) العنوان منّا.
(3) منهم: العلّامة في النهاية (مخطوط): 9، و الشهيد الثاني في تمهيد القواعد:
37، و الشيخ البهائي في الزبدة: 30، و الفاضل التوني في الوافية: 202، و الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة: 95، و السيد بحر العلوم في فوائده: 3، و كذا يظهر من القوانين 2: 54 و 1: 100، و هداية المسترشدين: 3، و اشارات الاصول: 6، و الفصول: 2.
فرائد الأصول، ج3، ص: 126
المشهور «1»- كما في شرح الزبدة «2»- بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين- كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين «3»-: أنّ الخطاب الوضعيّ مرجعه إلى الخطاب الشرعيّ، و أنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء، فمعنى قولنا:
«إتلاف الصبيّ سبب لضمانه»، أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ و العقل و اليسار و غيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «اغرم ما أتلفته في حال صغرك»، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان، و يقال: إنّه ضامن، بمعنى أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف.
و لم يدّع أحد إرجاع الحكم الوضعيّ إلى التكليف «4» الفعليّ المنجّز حال استناد الحكم الوضعيّ إلى الشخص، حتّى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين «5»: من أنّه قد يتحقّق الحكم الوضعيّ في مورد غير قابل للحكم التكليفي، كالصبيّ و النائم و شبههما.
__________________________________________________
(1) من جملة المشهور: الشهيد الأوّل في الذكرى 1: 40، و القواعد و الفوائد 1:
30، و المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 و ستأتي عبارته، و شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الاصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة و الوافية كما اشير إليهما، و غيرهم.
(2) غاية المأمول في شرح زبدة الاصول؛ للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 350.
(4) في (ت) و (ظ): «التكليفي».
(5) هو المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول: 7.
فرائد الأصول، ج3، ص: 127
و كذا الكلام في غير السبب؛ فإنّ شرطيّة الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، و كذا مانعيّة النجاسة ليست إلّا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، و كذا الجزئيّة منتزعة من الأمر بالمركّب.
و العجب ممّن ادّعى «1» بداهة بطلان ما ذكرنا، مع ما عرفت من أنّه المشهور و الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين. فقال قدّس سرّه في شرحه على الوافية- تعريضا على السيّد الصدر-:
[كلام السيد الكاظمي:]
و أمّا من زعم أنّ الحكم الوضعيّ عين الحكم التكليفي- على ما هو ظاهر قولهم: «إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء»- فبطلانه غنيّ عن البيان؛ إذ الفرق بين الوضع و التكليف ممّا لا يخفى على من له أدنى مسكة، و التكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع، و الكلام إنّما هو في نفس الوضع و الجعل و التقرير.
و بالجملة: فقول الشارع: «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» و «الحيض مانع منها»، خطاب وضعيّ و إن استتبع تكليفا و هو إيجاب الصلاة عند الزوال و تحريمها عند الحيض، كما أنّ قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «2»، و قوله: «دعي الصلاة أيّام أقرائك» «3»، خطاب تكليفيّ و إن استتبع وضعا، و هو كون الدلوك سببا و الإقراء مانعا.
__________________________________________________
(1) و هو المحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي.
(2) الإسراء: 78.
(3) الوسائل 2: 546، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.
فرائد الأصول، ج3، ص: 128
و الحاصل: أنّ هناك أمرين متباينين، كلّ منهما فرد للحكم، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته و احتسابه في عداد الأحكام. انتهى كلامه، رفع مقامه «1».
[مناقشة كلام السيد الكاظمي:]
أقول: لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفيّ و وضعيّ بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا؛ فإنّه إذا قال لعبده: «أكرم زيدا إن جاءك»، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشاءين و جعل أمرين:
أحدهما: وجوب إكرام زيد عند مجيئه، و الآخر: كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه؟ أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله «2» و لا إلى بيان مخالف لبيانه؛ و لهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء «سببيّة الدلوك» و «مانعيّة الحيض»، و لم يرد من الشارع إلّا إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل، و طلب تركها عند الثاني؟
فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى، كيف! و هما محمولان مختلفا الموضوع.
و إن أراد كونهما مجعولين بجعلين، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.
و كذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد؛ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببيّة و المانعيّة في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببيّة و المشروطيّة و الممنوعيّة، مع أنّ قول الشارع: «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» ليس جعلا للإيجاب استتباعا- كما ذكره- بل هو
__________________________________________________
(1) الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 243.
(2) في (ص) زيادة: «الأوّلي».
فرائد الأصول، ج3، ص: 129
إخبار عن تحقّق الوجوب عند الدلوك.
هذا كلّه، مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببيّة مجعولة فيما نحن فيه حتّى يتكلّم أنّه بجعل مستقلّ أو لا؛ فإنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب- خصوصا عند من لا يرى (كالأشاعرة) الأحكام منوطة بالمصالح و المفاسد الموجودة في الأفعال- إلّا إنشاء الوجوب عند الدلوك، و إلّا فالسببيّة القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته، بأن «1» يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله، و لو كانت لم تكن مجعولة من الشارع، و لا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة و لا «2» الخصوصيّات المصنّفة و المشخّصة.
هذا كلّه في السبب و الشرط و المانع و الجزء.
[الكلام في الصحّة و الفساد:]
و أمّا الصحّة و الفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به و مخالفته له، و من المعلوم أنّ هاتين- الموافقة و المخالفة- ليستا بجعل جاعل.
و أمّا في المعاملات، فهما: ترتّب الأثر عليها و عدمه، فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة لأثرها و عدم سببيّة تلك «3».
فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفيّ- كالبيع لإباحة التصرّفات، و النكاح لإباحة الاستمتاعات- فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببيّة و أخواتها.
__________________________________________________
(1) في (ه) بدل «بأن»: «بل».
(2) في (ص) شطب على «لا».
(3) في (ت) و (ه) زيادة: «له».
فرائد الأصول، ج3، ص: 130
و إن لوحظت سببا لأمر آخر- كسببيّة البيع للملكيّة، و النكاح للزوجيّة، و العتق للحريّة، و سببيّة الغسل للطهارة- فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعيّة. نعم، الحكم بثبوتها شرعيّ. و حقائقها إمّا امور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفيّة- كما يقال: الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به و بعوضه، و الطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل و الشرب و الصلاة، نقيض النجاسة- و إمّا امور واقعيّة كشف عنها الشارع.
فأسبابها على الأوّل- في الحقيقة- أسباب للتكاليف، فتصير سببيّة تلك الأسباب «1» كمسبّباتها امورا انتزاعيّة.
و على الثاني، يكون أسبابها كنفس المسبّبات امورا واقعيّة مكشوفا عنها ببيان الشارع.
و على التقديرين فلا جعل في سببيّة هذه الأسباب.
و ممّا ذكرنا تعرف الحال في غير المعاملات من أسباب هذه الامور، كسببيّة الغليان في العصير للنجاسة، و كالملاقاة لها، و السبي للرقّية، و التنكيل للحريّة، و الرضاع لانفساخ الزوجيّة، و غير ذلك. فافهم و تأمّل في المقام؛ فإنّه من مزالّ الأقدام.
و أنه حكم مستقل بالجعل كالتكليف أو منتزع عنه و تابع له في الجعل أو فيه تفصيل حتى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف و الوضع من التفصيل.
فنقول و بالله الاستعانة.
لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف و الوضع مفهوما و اختلافهما في الجملة موردا لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية و مفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة و المباينة.
كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي و الوضعي بداهة أن الحكم و إن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه و لم يكد يصح إطلاقه على الوضع إلا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما و صحة إطلاقه عليه بهذا المعنى مما «2» لا يكاد ينكر كما لا يخفى و يشهد به كثرة
__________________________________________________
(1) التهذيب 1/ 285، الباب 12 الحديث 119.
(2) في «أ»: كان مما لا يكاد ينكر.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 400
إطلاق الحكم عليه في كلماتهم و الالتزام بالتجوز فيه كما ترى.
و كذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة كالشرطية و السببية و المانعية كما هو المحكي عن العلامة أو مع زيادة العلية و العلامية أو مع زيادة الصحة و البطلان و العزيمة و الرخصة أو زيادة غير ذلك كما هو المحكي عن غيره «1» أو ليس بمحصور بل كلما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه و موضوعه أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك و إنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه أو غير مجعول كذلك بل إنما هو منتزع عن التكليف و مجعول بتبعه و بجعله.
و التحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء
. منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا لا استقلالا و لا تبعا و إن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.
و منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف.
و منها ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه و تبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه و إن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه و جعله و كون التكليف من آثاره و أحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.
أما النحو الأول [ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل إطلاقا]
فهو كالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية لما هو
__________________________________________________
(1) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام/ 85، في حقيقة الحكم الشرعي و أقسامه.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 401
سبب التكليف و شرطه و مانعه و رافعه حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا حدوثا أو ارتفاعا كما أن اتصافها بها ليس إلا لأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا للزوم أن يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص به كانت مؤثرة «1» في معلولها لا في غيره و لا غيرها فيه و إلا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء و تلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين و بمثل قول دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها و أن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها و معه تكون واجبة لا محالة و إن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.
و منه انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.
نعم لا بأس باتصافه بها عناية و إطلاق السبب عليه مجازا كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده.
فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية و سائر ما لأجزاء العلة للتكليف إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر فتدبر جيدا.
و أما النحو الثاني [ما لا يكاد يترق إليه الجعل الاستقلالي دون التبعي]
فهو كالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية لما هو جزء المكلف به و شرطه و مانعه و قاطعه حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي و لا يكاد يتصف شيء بذلك أي كونه جزءا أو شرطا
__________________________________________________
(1) في «أ»: كان مؤثرا، و في «ب»: كانت مؤثرا.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 402
للمأمور به إلا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر و ما لم يتعلق بها الأمر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية و إن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية و جعل الماهية و اختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها فتصورها بأجزائها و قيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له و بدون الأمر به لا اتصاف بها أصلا و إن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة كما لا يخفى.
و أما النحو الثالث [ما يصح جعله استقلالا و تبعا للتكليف]
فهو ك الحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية و الزوجية و الملكية إلى غير ذلك حيث إنها و إن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها كما قيل و من جعلها بإنشاء أنفسها إلا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى أو من بيده الأمر من قبله جل و علا لها بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها كما يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية و الزوجية و الطلاق و العتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف و الآثار و لو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلا بملاحظتها و للزم أن لا يقع ما قصد و وقع ما لم يقصد.
كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات و لا الزوجية من جواز الوطء و هكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود و الإيقاعات.
فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف لا مجعولة بتبعه و منتزعة عنه.
وهم و دفع أما الوهم «1» فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات
__________________________________________________
(1) انظر شرح التجريد 216، المسألة الثامنة في الملك.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 403
الحاصلة بمجرد الجعل و الإنشاء التي تكون من خارج المحمول حيث ليس بحذائها في الخارج شيء و هي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون بهذا السبب بل بأسباب أخر كالتعمم و التقمص و التنعل فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك و أين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه.
و أما الدفع فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك و يسمى بالجدة أيضا و على اختصاص شيء بشيء خاص و هو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه ككون العالم ملكا للباري جل ذكره أو من جهة الاستعمال و التصرف فيه ككون الفرس لزيد ب ركوبه له و سائر تصرفاته فيه أو من جهة إنشائه و العقد مع من اختياره بيده كملك الأراضي و العقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا و عرفا.
فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا غير الملك الذي هو اختصاص خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد أو غير اختياري كالإرث و نحوهما من الأسباب الاختيارية و غيرها ف التوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا و الغفلة عن أنه بالاشتراك بينه و بين الاختصاص الخاص و الإضافة الخاصة الإشراقية كملكه تعالى للعالم أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف و استعمال أو إرث أو عقد أو غيرها «1» من الأعمال فيكون شيء ملكا لأحد بمعنى و لآخر بالمعنى الآخر فتدبر.
إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه من الدخل لعدم كونه حكما شرعيا و لا يترتب عليه أثر شرعي و التكليف و إن كان مترتبا عليه إلا أنه ليس بترتب شرعي فافهم.
__________________________________________________
(1) في «أ»: غيرهما.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 404
و أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل حيث إنه كالتكليف و كذا ما كان مجعولا بالتبع فإن أمر وضعه و رفعه بيد الشارع و لو بتبع منشإ انتزاعه و عدم تسميته حكما شرعيا لو سلم غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا نعم لا مجال لاستصحابه لا ستصحاب سببه و منشإ انتزاعه فافهم.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 104
التفصيل بين الحكم الوضعي و الحكم التكليفي
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق روايات الباب حجية الاستصحاب في الوجودي و العدمي و الموضوع و الحكم و الكلي و الجزئي و غير ذلك من التفاصيل، فلا يليق التعرض للأقوال و التفاصيل في حجية الاستصحاب، و إنّما تعرض الشيخ قدّس سرّه لكثير منها فمن أراد الاطلاع فليراجع الفرائد.
نعم لمّا كان التفصيل بين الشك في المقتضي و غيره، و كذا بين الأحكام التكليفية و الوضعية حاويا لمطالب علمية فقد تعرض المتأخرون عن الشيخ قدّس سرّه لهما تبعا للشيخ قدّس سرّه.
أمّا الأوّل: فقد تقدم.
[ما أفاده الفاضل التوني قدّس سرّه في وجه هذا التفصيل]
و أمّا الثاني: فعمدة ما دعا الشيخ قدّس سرّه «1» و غيره للتعرض له هو بيان الحكم الوضعي، فنقول: إنّه قد نسب إلى الفاضل التوني رحمه اللّه «2» حجية الاستصحاب في الحكم الوضعي دون التكليفي، و محصل ما أفاده بطوله في ذلك هو أنّ الأحكام الشرعية ستة، خمسة منها تكليفية و واحد منها وضعي، أمّا التكليفية: فأربعة منها اقتضائية، و واحدة منها تخييري، أمّا الاقتضائية: فإثنان منها راجعان إلى الفعل و هما الوجوب و الندب، و اثنان راجعان إلى الترك و هما الحرمة و الكراهة، و تسميتها بالاقتضائية واضحة لما فيها من المصلحة و المفسدة المقتضيتين للفعل بقسميه و الترك كذلك، و أمّا التخييري فهو الإباحة بالمعنى الأخص.
و أمّا الحكم الوضعي فهو السببية و الشرطية و المانعية و الجزئية كجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة و الوضوء شرط لها، و السورة جزء لها و النجاسة و الحرير
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 350.
(2) الوافية/ 200.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 105
و غيرهما مانعة للصلاة.
أمّا الأحكام التكليفية فدليلها إمّا يدل على التوقيت و إمّا يدل على الدوام و الاستمرار، و على كلا التقديرين لا مجال للاستصحاب لوجود الدليل الاجتهادي، و أمّا الحكم الوضعي فإن دلّ الدليل على كون وجود السبب آناً ما علة لوجود المسبب دائما كعقد البيع و النكاح أو دلّ على دوران المسبب وجودا و عدما مدار السبب، فلا إشكال، و أمّا إذا لم يدلّ إلّا على السببية في الجملة و شك في الزمان الثاني في بقاء سببيته، فلا مانع من جريان الاستصحاب الثابت اعتباره بالروايات فيه.
[اعتراض الشيخ على الفاضل التوني]
ثمّ اعترض الشيخ قدّس سرّه «1» على أكثر ما أفاده الفاضل التوني رحمه اللّه إلى أن انتهى إلى أنّ المنشأ بخطاب واحد كقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) هل هو حكم واحد و هو وجوب الإكرام عند المجيء، أم حكمان و هو الوجوب و سببية المجىء له، لا ينبغي الارتياب في كون الوجدان حاكما بأنّ المنشأ ليس إلّا نفس الوجوب، و أمّا سببية المجيء له فهي منتزعة عن إنشاء الوجوب للإكرام عند المجيء إذ لو كانت مجعولة يلزم أن يكون الوجوب رشحا للسببية من دون أن يكون مجعولا بالاستقلال.
و قد ينسب إلى الفاضل التوني رحمه اللّه القول بجريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعية، عكس التفصيل السابق المنسوب إليه، نظرا إلى عدم كون الوضعيات أحكاما شرعية و من المعلوم كون الاستصحاب أصلا عمليا غير جار إلّا في ظرف ترتب الأثر الشرعي عليه.
و جوابه حينئذ؛ كفاية مطلق الأثر الشرعي و لو بترتبه على المستصحب فيما إذا لم يكن المستصحب بنفسه أثرا شرعيا، فإنّ الاستصحاب يجري في الموضوع الخارجي كالحياة مع عدم كونها بنفسها أثرا شرعيا كما لا يخفى.
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 106
[ماهية الأحكام الوضعية]
و لا يخفى أنّ عمدة ما دعا الميرزا النائيني قدّس سرّه و غيره إلى تعرض التفصيل بين الأحكام التكليفية و الوضعية هي بيان ماهية الأحكام الوضعية و عددها،
و الميرزا النائيني قدّس سرّه قبل الخوض فيها مهّد امورا:
[الأمر الأول: توقف مجعولية الحكم الوضعي على إنشائية الأحكام التكليفية]
الأمر الأوّل: أنّ النزاع في مجعولية الأحكام الوضعية مبني على الالتزام بالجعل و الإنشاء في الأحكام التكليفية، و إلّا- كما عن بعض- فلا يبقى مجال لهذا النزاع.
لكن الحق عدم توقف مجعولية الحكم الوضعي على إنشائية الأحكام التكليفية، لأنّ بعض من ينكر الجعل في التكليفيات كالفقيه اليزدي على ما في درره يلتزم بالإنشاء في الزوجية و الملكية، و لذا يشترط في صيغتي النكاح و البيع قصد الإنشاء و صيغة خاصة، فإنكار الإنشاء في الأحكام التكليفية لا يلازم إنكاره في الوضعيات، فالجعل في الوضعيات ليس مبنيّا على الجعل في التكليفيات، فهذا الأمر الذي ذكره الميرزا النائيني قدّس سرّه ليس مما يتوقف عليه الجعل و الإنشاء في الوضعيات، نعم هو مطلب علمي لا بأس بالبحث عنه إجمالا.
[أدلة منكري الجعل و الإنشاء في التكليفيات و الإشكال عليها]
فنقول: إنّه قد ذهب بعض إلى إنكار الجعل و الإنشاء في التكليفيات، و جعل الخطابات الشرعية مخبرة عن الصلاح و الفساد و الحب و البغض نظير الإخبار عن الامور الخارجية كعلم زيد و شجاعة عمرو و فقر بكر و غير ذلك.
و استدل بعض المنكرين بعدم إمكان انقداح الإرادة و مباديها في المبدأ الأعلى، لاستلزام ذلك كونه تعالى محلا للحوادث- تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا- فلا بد من كون الخطابات كاشفة عن كون الفعل الكذائي ذا صلاح أو فساد، و استدل بعض آخر منهم بعدم علّية الألفاظ للإيجاد لعدم تأثيرها في وجود شيء، إذ لا سنخية بين الألفاظ و بين وجود شيء بها حيث إنّ الألفاظ تستعمل في معانيها دون أن يوجد بها شيء.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 107
و بالجملة فلا بأس بإنكار الإنشاء و الجعل في الأحكام الشرعية إن اريد جعله سبحانه و تعالى لها إذ ليس هناك إلّا العلم بالصلاح، و ليس ذلك حكما إن اريد بالحكم الجعل و الإنشاء، لأنّ العلم بالصلاح ليس إنشاء، و إن استتبع العلم بالصلاح الحالة النفسانية البعثية التي هي عبارة عن الميل الشديد إلى الفعل، و كان اللفظ مبرزا لذلك الميل، فعدم مجعوليته أيضا واضح، لأنّ تلك الحالة البعثية العارضة للنفس النبوية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحصل قهرا عقيب العلم بالصلاح، و ليس فعلا اختياريا و الألفاظ ليست إلّا إخبارا عمّا في النفس من الحالة البعثية، كالإخبار عن مجيء زيد و علمه و شجاعته و غير ذلك من الاخبار، و ليست إنشاء أصلا.
و الحاصل أنّ شيئا من المراحل الثلاث أعني العلم بالصلاح، و الحالة البعثية، و الألفاظ المبرزة ليس إنشاء، بل الحكم هو نفس الحالة البعثية، و من المعلوم عدم كونها إنشاء، و من هنا قيل بعدم الجعل و الإنشاء في الأحكام.
و الحق أنّ الإنشاء لا بد منه في الحكم و هو مترتب على العلم بالصلاح و الإرادة و هي الشوق و مباديها من الخطور بالبال و تصور صلاحه و ميل النفس إليه و غير ذلك إلى أن يصل إلى الحب الشديد المسمى بالإرادة، فعلى القول بأنّه بعد الإرادة لا واسطة بين الفعل و بين المراد لعلية الإرادة يلزم الجبر، و على القول بالواسطة و هو مرحلة فعالية النفس، فلا بد من تحقق الإنشاء حيث إنّ الشخص بعد تحقق الإرادة إمّا يختار الفعل مباشرة و تكوينا كأخذ الإناء بيده و شرب الماء منه نظير الإعطاء و الأخذ في المعاطاة، و إمّا يأمر عبده بمناولته إياه، فالإرادة إمّا توجب اختيار النفس للفعل تكوينا أو تشريعا بإيجاد النسبة بين الفعل و عبده أو إنشاء الطلب بناء على كون الصيغة حقيقة في إنشاء الطلب.
نعم قد يقال بأنّ الإرادة التي تكون في الممكن المنوطة بالمبادئ المذكورة مما يتوقف عليها الإنشاء، و ذلك لا يتصور في المبدأ الأعلى لاستلزام الإرادة و مباديها
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 108
تغيرا في ذاته تبارك و تعالى، و صريح النصوص ينفي التغير عنه سبحانه و تعالى، بل انتفاء التغير عنه عزّ و جلّ هو مقتضى كونه غنيا بالذات.
[عدم استلزام مجعولية الأحكام لكون ذات الباري سبحانه و تعالى محلا للحوادث]
فإن اريد من الإنشاء و جعل الأحكام العلم بالصلاح فهو ليس حكما مجعولا، و إن اريد الحالة البعثية العارضة على نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد العلم بالصلاح فذلك في غاية الضعف، إذ لازمه الجبر لعدم كون تلك الحالة اختيارية بل تعرض النفس قهرا.
و لكن لا يخفى أنّ تعليل عدم مجعولية الأحكام باستلزام جعلها كون ذات الباري تعالى شأنه محلّا للحوادث عليل، لما فيه؛
أوّلا: من عدم لزوم ذلك لأنّه إنّما يتصور في علوم المخلوق التي لا بد فيها من عالم و معلوم، و إضافة الصور المتصورة في النفس إلى الخارجيات، دون علم واجب الوجود الغني بالذات الذي هو عين ذاته جل و علا، فكما يكون ذاته قبل كل شيء و بعده و معه، زمانا كان أو زمانيا، و لا يكون إيجاد شيء تكوينا مغيّرا لعلمه، فكذلك يكون علمه الذي هو عين ذاته باقيا على حاله قبل خلق الخلق بل يقع علمه على الكائنات من دون تغير في علمه، و لا فرق في عدم تغير علمه بالموجودات بين التكوينيات و التشريعيات، نعم إرادته تعالى غير إرادة الممكن لتوقفها على المبادئ المزبورة التي لا تتمشى في الباري عزّ و جلّ، فالحق أنّ الأحكام مجعولة له تعالى، و يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرون مبلغين و حافظين لها.
و ثانيا: أنّه على تقدير كون الجعل مستلزما لتغير العلم يكون ذلك محذورا في المبدأ الأعلى دون المبادئ العالية، فيمكن ان تكون الإرادة قائمة بالنفس المقدسة النبوية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنكار الجعل لأجل كونه موجبا لوقوع ذات الباري تعالى محلا للحوادث لا وجه له.
و كيف كان فالحكم سواء كان مجعولا أم غيره ينقسم إلى التكليفي و الوضعي، و صحة هذا التقسيم لا تناط بمجعولية الأحكام التكليفية، بل على جميع المباني يصح
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 109
التقسيم المزبور، هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.
[الأمر الثاني: تقسيم الموجود إلى العيني و الاعتباري و الانتزاعي]
الأمر الثاني: أنّ الموجود تارة: يكون عينيا كالأعيان الخارجية التي يكون الخارج ظرفا لوجودها و هذا القسم من الموجودات يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة.
و اخرى: يكون اعتباريا كالموجودات الاعتبارية التي يكون وعاء الاعتبار ظرفا لوجودها، و يكون تكوينها بنفس اعتبارها، و الشاهد على وجود هذا القسم من الموجودات هو ظهور الآثار المترتبة عليها، لعدم تعقل ترتب الآثار الوجودية على العدم، و ذلك نظير من يكون وجيها عند الناس بحيث إذا أراد أن يستقرض منهم أعطوه كل ما يريده من الأموال دون غيره، فإنّ هذه الوجاهة تكشف عن وجود شيء يكون هذه الوجاهة من آثاره، و نظير رواج الكاغذ و غيره بإمضاء السلطان أو غيره ممن بيده الاعتبار، فإنّهما بعد إمضائهما يعتبر لهما المالية بلا إشكال مع أنّه لم يكن لهما مالية قبل الإمضاء أصلا كما هو واضح.
و ثالثة: يكون انتزاعيا بمعنى عدم تقرره في شيء من وعائي العين و الاعتبار بل قوامه بالتصور و الانتزاع، و مع الذهول عنه ينعدم فلا وجود له أصلا، بل الوجود يكون لمنشا انتزاعه فقط سواء كان المنشأ من الموجودات العينية كانتزاع العلية للنار و غيرها من العلل التكوينية الخارجية، أم من الموجودات الاعتبارية كانتزاع السببية عن العقد الموجب للملكية و الزوجية في وعاء الاعتبار، فإنّ العقد من الموجودات الاعتبارية كالمسبب الذي يترتب عليه أعني الملكية و نحوها.
[الفرق بين الاعتباري و الانتزاعي]
و الحاصل أنّ الامور الانتزاعية تكون من خارج المحمول و ليس لها ما يحاذيها في الخارج سواء انتزعت عن نفس الذات كعلية العلة و معلولية المعلول، و إمكان الممكن و وجوب الواجب و غير ذلك، أم انتزعت عن قيام عرض بالمحل كانتزاع الأسودية عن الجسم الذي عرض عليه السواد، فإنّ الأسودية ليس لها ما بحذاء في
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 110
الخارج كما لا يخفى.
و هذا بخلاف الامور الاعتبارية كالملكية و الزوجية، فإنّه يستكشف وجودهما من آثارهما، فإنّ الكاغذ المسمى بالنوط «1» مما يتنافس عليه العقلاء، و هذا التنافس أثر وجودي يكشف عن وجود مؤثر، و ذلك المؤثر لا يكون موجودا عينيا بالبداهة و لا أمرا انتزاعيا لتقوم الأمر الانتزاعي بالتصور، و مع الذهول عنه ينعدم و من المعلوم عدم انعدام الملكية و الزوجية بانعدام تصورهما، و عليه ففرق واضح بين الامور الاعتبارية و بين الامور الانتزاعية، و إن وقع فيها الخلط في جملة من كلمات بعض الأساطين كالشيخ قدّس سرّه «2» فإنّه عبّر عن الامور الاعتبارية بالانتزاعية و بالعكس، و لا نبغي خلط أحدهما بالآخر، إذ الوجودات الذهنية و هي الصور المخلوقة للنفس غير الوجودات الاعتبارية كالملكية، إذ وعاء تلك الصور هو الذهن و لا وجود لها عينا، و الاعتبار بل الوجود بأحد هذين القسمين يكون لمنشا الانتزاع.
[كلام الميرزا قدّس سرّه من أنّ الملكية الاعتبارية من سنخ الملكية الحقيقية]
ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدّس سرّه ذكر أنّه يمكن أن يقال: إنّ الملكية الاعتبارية تكون من سنخ الملكية الحقيقية التي تكون إحدى المقولات التسع المعبر عنها بالجدة، بتقريب: أنّ حقيقة الملكية هي الواجدية و الإحاطة و هي ذات مراتب أقواها ملكية السماوات و الأرضين و ما فوقهما و ما بينهما و ما تحتهما للّه تعالى، و أيّ واجدية تكون أقوى من واجدية العلة لمعلولها الذي يكون من مراتب وجودها، نظير واجدية النفس للصور المخلوقة لها و دون هذه الواجدية واجدية اولي الأمر صلوات اللّه عليهم أجمعين، لأنّها تكون من مراتب واجديته جلّ و علا، و دون هذه الواجدية واجدية الشخص لما يملكه و إن لم يكن تحت يده بل كان بعيدا عنه، و دون ذلك الواجدية
__________________________________________________
(1) و هو من أسماء النقد المصرفي سابقا.
(2) راجع: فرائد الاصول/ 350 و 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 111
الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالقميص و العمامة المحيطين بالبدن عند التقمص و التعمم، انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
و لا يخفى ما فيه، أمّا أوّلا: فلأنّه لا وجه لجعل الملكية الاعتبارية التي هي من الامور الاعتبارية- دون الانتزاعية- من الملكية الحقيقية، بعد كون الاعتبارية في مقابل الحقيقية و الانتزاعية، إذ الهيئة الحاصلة في وعاء الخارج تكون حقيقية و ليست اعتبارية، فلا سنخية بين الملكية الحقيقية و بين الملكية الاعتبارية و إن كان لكل منهما مراتب.
و ثانيا: فلأنّه لا وجه لتنظير واجدية اللّه سبحانه و تعالى للسماوات و الأرضين و غيرهما بواجدية النفس للصور و العلة للمعلول، ضرورة عدم كونه سبحانه و تعالى علة للسماوات و الأرضين بل هو عزّ و جلّ فاعل و موجد، و لا سنخية بين الواجب و الممكن حتى يكون المخلوق من مراتب وجوده و تنظيره عظمت كبرياؤه بالعلة التكوينية مما لا يليق به جلت آلاؤه.
و بالجملة فالملكية من الامور الاعتبارية و جعلها من الجدة الاصطلاحية الحقيقية مسامحة.
بل لا ينبغي جعل الملكية الاعتبارية ذات مراتب كجعل ملكية ما بيده من النقود أقوى من ملكية عمله، و هي أقوى من ملكية ما يملكه في مكان بعيد كأرض و غير ذلك، لأنّ الأمر الاعتباري ليس فيه مراتب عند العقلاء بل يرون جميعها في مرتبة واحدة.
و قيل: إنّ الملكية من مقولة الإضافة فكأنّ المملوك مربوط بالشخص نظير ربط مال خارجي بشخص بسبب خيط يكون أحد طرفيه متصلا بالشخص و الطرف الآخر متصلا بالمال، فإذا بيع المال يتبدل طرف الإضافة أعني المال و يتصل ذلك الخيط الموهوم بمال آخر مع عدم تغير فيمن يتصل طرف الآخر به، فالتبدل يكون في
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 112
المالين اللذين هما طرفا الإضافة من دون تغير في المضاف إليه، و لذا عرف البيع بمبادلة مال بمال، و في الإرث يكون التبدل في المضاف إليه و هو المالك و في الهبة إيجاد إضافة للمتهب و إعدامها عن الواهب، و كما تكون الملكية قائمة بالشخص كذلك تكون قائمة بالعنوان كالإمام و السلطان و السادة و الفقراء و المتولي و الموقوف عليهم.
[منافاة ما يستفاد من الأدلة من دخل الأمر الانتزاعي مع كونهما مما لا وجود له]
إيقاظ: لا يخفى أنّ جعل الامور الانتزاعية- كالفوقية و القبلية و الاجتماع و السبق و اللحوق و غيرها مما لا وجود لها أصلا لا خارجا و لا اعتبارا- ينافي ما يستفاد من الأدلة في بعض المقامات من دخل الأمر الانتزاعي كإدراك المأموم ركوع الإمام قبل رفع رأسه، و إسلام الوارث قبل القسمة و غيرهما في الحكم الشرعي، و حاصل الإشكال: أنّه إن لم يكن للعناوين الانتزاعية حظّ من الوجود فلا يمكن دخله في الحكم الشرعي.
و من هنا يشكل الأمر في إحراز الموضوعات المركبة كلّا أو جزء بالأصل كاستصحاب عدم إذن المالك و رضاه مع استيلاء الغير على ماله المثبت لموضوع الضمان، فإنّ إشكال جريان هذا الأصل من جهتين:
أحدهما: أنّه لا يثبت عنوان الاجتماع، إذ لاجتماع عدم الإذن مع الاستيلاء في الزمان دخل في الحكم، و لا يثبت عنوان الاجتماع بهذا الأصل إلّا على القول بالأصل المثبت.
ثانيتهما: أنّه كيف يمكن دخل الأمر الانتزاعي الذي لا وجود له في الخارج و لا في الاعتبار في الحكم الشرعي، و كيف تقوم المصلحة أو المفسدة بأمر عدمي.
[الأمر الثالث: تقسيم المجعولات الشرعية إلى الأحكام التكليفية و الوضعية و المناصب]
الأمر الثالث: المجعولات الشرعية بأسرها من تأسيسياتها و إمضائياتها تكون من الامور الاعتبارية و هي تنقسم إلى أقسام:
أحدها: الأحكام التكليفية و هي ما يتعلق بأفعال العباد، سواء كانت بعثية أم
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 113
زجرية، فإنّ الأحكام الخمسة التكليفية من الاقتضائية و التخييرية متعلقة بالأفعال.
ثانيها: الأحكام الوضعية، سواء كانت تأسيسية كالحرية و الرقية أم إمضائية كجميع الامور الاعتبارية العقلائية كالملكية و الزوجية و غيرهما، فإنّ الملكية و نحوها من الامور الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء و أمضاها الشارع، غاية الأمر أنّه زاد فيها قيودا و شرائط لم يطلع عليها العقلاء، بل الملكية و هي الاختصاص تكون فطريا للحيوانات في بعض المقامات، فإنّ فريسة حيوان مختصة به و لا ينازعه غيره من الحيوانات لما يرى سائر الحيوانات من نحو اختصاص لكل حيوان بفريسته.
ثالثها: المناصب، كولاية النبي و الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين و ولاية الفقيه و ولاية الأب و الجد و متولي الأوقاف و غير ذلك من الولايات، فإنّ الولاية أمر اعتباري شرعي لكنه ليس حكما تكليفيا و لا وضعيا، فسنخ الولايات غير سنخ الأحكام، فحصر المجعولات الشرعية في قسمين و هما التكليفي و الوضعي مما لا ينبغي، بل الحق انقسامها إلى ثلاثة أقسام.
ثمّ إنّ الوكالة غير الولاية، فإنّ الاولى تبطل بموت الموكل بخلاف الثانية، فإنّها لا تبطل بموت معطي الولاية، فالمتولي للوقف لا ينعزل بموت الواقف المعطي للولاية، و كذا ولاية الفقيه فإنّها لا تبطل بموت الإمام عليه السّلام، و لذا لم ينقل في التواريخ تحصيل الولاية من الإمام اللاحق لمن كان وليا من قبل الإمام السابق، و في ولاية الفقيه عموما أو في خصوص القضاء و الإفتاء كلام طويل مذكور في محله، و الذي يمكن استفادة الولاية المطلقة للفقيه منه هو رواية تحف العقول «1» التي فيها «مجاري الامور بيد العلماء» الظاهرة بقرائن في إرادة الفقهاء من العلماء لا الأئمة عليهم السّلام، و قوله عليه السّلام في تلك الرواية «الامناء على أحكامه» لا يكون قرينة على إرادة ولاية العلماء في
__________________________________________________
(1) مستدرك الوسائل 17/ 315، الحديث 21454، باختلاف يسير.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 114
خصوص الأحكام الشرعية و هي ولاية الإفتاء و القضاء كما لا يخفى.
[الأمر الرابع: كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية دون الخارجية]
الأمر الرابع: أنّ المقرر في محله كون الأحكام الشرعية مطلقا من القضايا الحقيقية دون القضايا الخارجية، و على الثاني تكون العناوين المأخوذة في حيّز الخطابات كالفقير و الغنيّ و السيد و المجتهد و غير ذلك من الجهات التعليلية دون التقييدية، لكون الموضوع هو الشخص الذي هو أمر تكويني و لا يبقى مجال للحكم الوضعي، فلا يقال: إنّ الدلوك سبب لوجوب الصلاة، لأنّ الدلوك حينئذ يكون من الجهات التعليلية فلا يتصف بالسببية التي هي حكم وضعي على ما قيل، لعدم قابلية الملاكات للجعل حيث إنّها من الامور التكوينية كما لا يخفى.
[الأمر الخامس: أنّ العلل على قسمين: علل الجعل و علل المجعول]
الأمر الخامس: أنّ العلل على قسمين: أحدهما علل الجعل و التشريع، و المراد بها ملاكات الأحكام.
و الآخر علل المجعول و المراد بها موضوعات الأحكام، و قد وقع الخلط فيها في جملة من الكلمات كما في الكفاية «1» حيث دفع إشكال الشرط المتأخر بأنّ الشرط هو لحاظه و وجوده العلمي الذي هو مقارن لوجود المشروط.
و توضيح الخلط هو: أنّ الشرط كالإجازة في الفضولي هو وجودها الخارجي لا العلمي، ضرورة ترتب الملكية على وجود الإجازة خارجا لا تصور الإجازة، فإنّ الإجازة قيد لموضوع الملكية و سببها أعني العقد، نعم ما يكون بوجوده التصوري دخيلا في الحكم فهو الملاك أعني علة الجعل، ففرق واضح بين علة الجعل التي تكون بوجودها التصوري علة له، و بين علة المجعول و هي الموضوع للحكم الذي يكون بوجوده الخارجي دخيلا في الحكم.
__________________________________________________
(1) كفاية الاصول/ 93- 34.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 115
[وجود الحكم الوضعي و عدمه]
إذا عرفت هذه الامور فاعلم أنّه وقع الخلاف في وجود الحكم الوضعي و عدمه على أقوال:
[الأقوال في وجود الحكم الوضعي و عدمه]
منها: أنّ الأحكام الوضعية مجعولة.
و منها: كونها منتزعة من الأحكام التكليفية فإنّها هي المجعولة شرعا.
و منها: أنّ بعض الأحكام الوضعية مجعول و بعضها منتزع، و الأوّل على قسمين:
أحدهما: ما يكون مجعولا عقلائيا مع إمضاء الشارع بمعنى موافقة نظره لنظر العقلاء من حيث كونه عاقلا لا من حيث كونه شارعا، و الآخر: ما يكون تأسيسيا للشارع.
[القسم الأوّل: الأحكام الوضعية التي اعتبرها العقلاء]
أمّا القسم الأوّل: فكالملكية التي يعتبرها العقلاء عند الحيازة و إحياء الموات و عقد البيع مثلا، فإنّ الملكية تكون مما يعتبرها العقلاء عند وجود هذه الأسباب و الشارع أمضاها، غاية الأمر أنّه زاد عليها شروطا لم يكن يراها العقلاء دخيلة في ذلك كقصد التملك في الحيازة و إحياء الموات، فإنّ العقلاء يرون هذين الأمرين سببين لاختصاص المحاز و المحيى بالحائز و المحيي، لكن الشارع اعتبر القصد فيهما، فالشارع أمضى الملكية العقلائية و زاد في بعض الموارد شروطا في أسبابها.
لكن الحق أنّ الملكية المترتبة على أسبابها العقلائية ليست مجعولة للعقلاء، بل الملكية أمر واقعي يدركه العقلاء عند الحيازة و نحوها، و ذلك لأنّ العقلاء لا يبنون على شيء بالتعبد و التنزيل، و لم يجتمعوا في محل و لا في زمان ليجعلوا الملكية عند الحيازة و نحوها بل يدركون الملكية عند أسبابها، و على هذا فالملكية أمر واقعي، غاية الأمر أنّها أمر اعتباري لا عيني و ليست من المجعولات العقلائية التي أمضاها الشارع، و كذا الحال في سائر الامور العقلائية، فإنّها امور واقعية أدركها العقلاء عند تحقق بعض الأشياء، و ليست مما اعتبرها العقلاء حتى تكون مما أمضاها الشارع.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 116
[القسم الثاني: الأحكام الوضعية التي تكون تأسيسيا للشارع]
و أمّا القسم الثاني: و هو المجعول التأسيسي فهو كملكية السادة و الفقراء للخمس و الزكاة.
و أمّا ما يكون منتزعا، فكالسببية و الجزئية و الشرطية و المانعية، و هي تارة:
تكون راجعة إلى متعلق الخطاب، و اخرى: إلى نفس الخطاب.
فهنا مقامان: الأوّل: فيما يتعلق بمتعلقات التكاليف من السبب و أخواته، و الثاني: فيما يتعلق من السبب و أخواته بموضوعات التكاليف.
[المقام الأوّل: الأحكام الوضعية المنتزعة عن متعلق التكليف]
أمّا المقام الأوّل: فيقال: إنّها منتزعة و ليست مجعولة غاية الأمر قد يقال: إنّ الجزئية و الشرطية و المانعية منتزعة عن الخطاب، و السببية منتزعة عن ربط تكويني، فهي تختلف من جهة منشأ الانتزاع و إلّا فلا فرق بين هذه الأربع من حيث الانتزاعية.
فالجزئية و الشرطية و المانعية تنتزع عن الخطاب المنبسط على عدة امور متباينة الحقائق كالقيام و الركوع و السجود و غيرها لكونها مقولات مختلفة، فإنّها مع شتاتها و اختلافها هوية تصير ببركة وحدة الأمر المتعلق بها واحدا اعتباريا، و تنتزع الجزئية عن ذلك الأمر لكل واحد من تلك الامور المتباينة الحقائق، لأنّ الموجب للوحدة و التركب هو الأمر، فلولاه لم يكن مركب حتى يكون له أجزاء، و الشرطية و المانعية تنتزعان عما دلّ على تقيد تلك الامور المتصفة بالجزئية بأمر وجودي يسمى بالقيد الوجودي كالطهارة و الستر و الاستقبال و غيرها، أو بأمر عدمي يسمّى بالمانع كعدم لبس ما لا يؤكل و الحرير و عدم التقدم على قبر المعصوم عليه السّلام.
و لكن لا يخفى أنّ الوحدة الاعتبارية ناشئة عن وحدة الملاك القائم بالامور المتباينة الحقيقية، فكل واحد من تلك الامور جزء لما هو المؤثر و الأمر ناشئ عن وحدة الملاك، فمنشأ انتزاع الجزئية هو الدخل التكويني لكل من تلك الامور فيكون و زان الجزئية و الشرطية و المانعية و زان السببية في كون منشأ الانتزاع هو الربط
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 117
الثبوتي التكويني.
فالمتحصل أنّ السببية و أخواتها أمر انتزاعي و منشأ انتزاعها هو الأمر الثبوتي التكويني.
[المقام الثاني: الأحكام الوضعية المنتزعة عن نفس التكليف]
و أمّا المقام الثاني: و هو السببية لنفس التكليف و الموضوع، و كذا أجزاء السبب و شرائطه و موانعه، فنقول: إنّ فيه أقوالا:
[الأقوال في السببية لنفس التكليف]
أحدها: كون السببية مجعولة بالاستقلال كنفس الحكم المترتب على السبب، فللشارع جعلان؛ أحدهما: متعلق بموضوع التكليف، كواجدية أربعين غنما بالنسبة إلى وجوب الزكاة، و العقد الذي يترتب عليه الملكية أو الزوجية أو الحرية أو الطلاق أو غيرها، فإنّ الشارع جعل الموضوعية لموضوعات التكاليف و السببية كالعقد و الحيازة و غيرهما لما يترتب عليه من الوضعيات. و الآخر: متعلق بالمسبب و هو التكليف أو الوضع، و هذا القول في غاية الوهن و السقوط، للغوية أحد الجعلين إذ يغني أحدهما عن الآخر كما هو واضح.
ثانيها: كون المجعول بالاستقلال هو السببية أما الوضع أو الحكم فهو مجعول تبعا نظير وجوب ذي المقدمة المستتبع لوجوب المقدمة.
ثالثها: كون المجعول بالاستقلال هو التكليف أو الوضع، و أنّ السببية لا جعل لها أصلا لا أصالة و لا تبعا، بل السببية منتزعة عن ترتب الحكم التكليفي أو الوضعي عليه، فالمستطيع و مالك النصاب و الفقراء و العقد و الحيازة مثلا تتصف بالموضوعية أو السببية بعد ترتب الحكم التكليفي أو الوضعي من وجوب الحج و الزكاة و الملكية عليها، و عليه فتكون السببية انتزاعية و تصير حينئذ من المحمول بالضميمة، إذ لا تنتزع عن نفس ما جعل موضوعا للتكليف أو سببا للوضع بل بعدّ ضم الحكم الشرعي من التكليف أو الوضع إليه نظير الأبيضية المنتزعة عن الجسم بعد عروض البياض عليه.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 118
و بالجملة فالسببية لموضوعات التكاليف و الوضعيات لا جعل لها لا أصالة و لا تبعا، و إنّما المجعول- تأسيسا كما في جميع الأحكام التكليفية و بعض الوضعيات، أو إمضاء كما في جميع الامور العقلائية التي أمضاها الشارع و زاد فيها امورا- هو التكليف أو الوضع، و السببية لموضوعات التكاليف و الوضعيات تنتزع عن التكليف أو الوضع المترتب عليه كما أنّ السببية التكوينية تنتزع عن ذات العلة التكوينية، فالسببية المنتزعة لموضوعات التكاليف و أسباب الوضع تكون من المحمول بالضميمة و السببية المنتزعة للعلل التكوينية تكون من خارج المحمول.
[اختيار الميرزا النائيني قدّس سرّه القول بعدم جعل السببية]
ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدّس سرّه اختار هذا القول أعني كون السببية لموضوعات التكاليف و أسباب الوضع منتزعة عن الحكم الشرعي المترتب عليهما، و أنّ المجعول أصالة هو ما يترتب عليهما من التكليف أو الوضع و أنّه لا حظّ لموضوعات التكاليف و الوضعيات من الجعل أصلا حتى تبعا.
و محصل ما استند إليه في هذه الدعوى وجهان:
أحدهما: أنّه يلزم من جعل السببية عدم كون الحكم المترتب على السبب فعلا اختياريا للشارع، حيث إنّ المسبب من آثار السبب و يكون رشحا له، فالمؤثر في المسبب هو السبب لا جعل الشارع، و هذا من البطلان بمكان من الوضوح، لكون الوجوب و الملكية و غيرهما من التكليف و الوضع من مجعولات الشارع من دون أن تحصل قهرا و بدون إرادته و اختياره.
ثانيهما: أنّ السببية غير قابلة للجعل لا تكوينا و لا تشريعا، و لا أصالة و لا تبعا، لأنّ السببية عبارة عن الرشح القائم بذات السبب و هذا الرشح من لوازم ذات السبب كسائر لوازم الماهية التي لا تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن التشريعي، فجعل السببية حينئذ عبارة عن إيجاد السبب و تكوينه.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 119
[كلام صاحب الكفاية قدّس سرّه في أنّ السببية أمر تكويني]
ثمّ إنّ لصاحب الكفاية قدّس سرّه «1» كلاما لا بأس بنقله، و حاصله: منع إمكان انتزاع السببية عن التكليف أو الوضع لتأخرهما عن وجود السبب و لا يعقل انتزاع المتقدم عن المتأخر، فسببية العقد للملكية و الدلوك للوجوب منتزعة عن خصوصية تكوينية تكون في ذات العقد و الدلوك، إذ لولاها يلزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء، و عليه فلا تكون السببية من المجعولات الشرعية و لا منتزعة عن المجعول الشرعي بل هي أمر تكويني كسائر الامور التكوينية، و كذا الحال في جزء السبب و شرطه و مانعة لتبعيتها لنفس المركب، نعم تنتزع الجزئية و الشرطية و المانعية لمتعلقات التكاليف من الخطاب المتعلق بعدة امور متباينة الحقيقة يقوم بها غرض واحد، ففرق واضح بين الجزئية و الشرطية و المانعية في باب متعلقات التكاليف و بينها في باب الأسباب، بعد اشتراك الكل في عدم جعلها أصالة، لكنها في الأوّل تنتزع عن تشريع التكليف بالمركب و في الثاني تنتزع عن الخصوصية التكوينية الثابتة في ذات السبب، هذا محصل كلامه زيد في علو مقامه.
[اعتراض الميرزا النائيني على صاحب الكفاية قدّس سرّهما]
و قد اعترض عليه الميرزا النائيني قدّس سرّه بأنّ ما أفاده من كون السببية هي الخصوصية الذاتية غير القابلة للجعل أصلا مما لا إشكال فيه و لا غبار عليه، لكنه غير مرتبط بالمقام أعني موضوعات التكاليف.
توضيحه: أنّ الملاكات الداعية إلى الجعل المسماة بعلل التشريع متأخرة وجودا عن المجعول و متقدمة عليه لحاظا بخلاف موضوعات التكاليف فإنّها متقدمة وجودا على الحكم تقدم العلة على المعلول، و السببية التكوينية غير القابلة للجعل أصلا هي علة التشريع و ليست هي مورد البحث. و المبحوث عنه فعلا هو سببية موضوعات التكاليف التي فيها الملاكات لا سببية الملاكات للأحكام، و قد عرفت أنّ سببية الموضوعات لأحكامها منتزعة عن الأحكام المترتبة عليها، فهذا خلط من صاحب
__________________________________________________
(1) كفاية الاصول/ 401.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 120
الكفاية قدّس سرّه بين علل الجعل و بين علل المجعول «1» أعني موضوعات الأحكام.
فإن قلت: إنّ مورد كلام الكفاية أيضا هو موضوعات التكاليف بقرينة تمثيله له بالدلوك و العقد اللذين هما موضوعان للوجوب و الملكية، فلم يخلط صاحب الكفاية قدّس سرّه بين علل التشريع أعني الملاكات الداعية إلى الجعل و بين علل المجعول، بل يقول: إنّ سببية موضوعات التكاليف و الوضعيات لا تكون مجعولة و لا منتزعة عن الحكم المترتب عليها.
قلت: لا يكون التمثيل بالدلوك و العقد في كلام الكفاية قرينة على إرادة موضوعات التكاليف، لتصريحه بأنّ سببيتهما ناشئة من خصوصية ذاتية فيهما أوجبت انتزاع سببيتهما، فغرضه انتزاع السببية عن تلك الخصوصية التكوينية لا عن ترتب الحكم الشرعي عليهما، فما أفاده الميرزا النائيني قدّس سرّه- من عدم ارتباط كلام الكفاية بالمقام و هو موضوعات التكاليف و الوضعيات، لكون محل كلامه الملاكات الداعية إلى التشريع- في محله.
فتلخص أنّ السببية في الموضوعات منتزعة عن الأحكام المترتبة عليها، و لا يمكن جعلها أصلا لا أصالة و لا تبعا و إنّما هي منتزعة عن التكليف أو الوضع المترتب عليه.
و توهم لزوم الدور ببيان: أنّ موضوعية الموضوع متقدمة على الحكم، فكيف يمكن أن تنتزع عن الحكم المتأخر عنه واضح الفساد، إذ: ما يتوقف عليه الحكم هو ذات الموضوع لا وصف موضوعيته، فلا يلزم من انتزاع موضوعية الموضوع عن الحكم دور أصلا.
[بيان أنّ الحق هو عدم إمكان جعل السببية]
و كيف كان فالحق أنّ السببية غير قابلة للجعل أصلا، و إنّما هي منتزعة عن الحكم المترتب على الموضوع، فالمجعول في عقد البيع تأسيسا أو إمضاء هو الملكية،
__________________________________________________
(1) كما سبق توضيحه في الصفحة 114.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 121
و أما سببية العقد للملكية و الفقر لملكية الصدقات و الاستطاعة لوجوب الحج، فهي منتزعة عن الحكم، فالملكية و نحوها كالزوجية من الأحكام الشرعية التأسيسية أو الإمضائية، لا أنّها منتزعة عن الأحكام التكليفية كجواز التصرف للمالك، و حرمة التصرف لغيره بدون إذنه في الملكية، و جواز الوطء للزوج و وجوب الإنفاق عليه و وجوب التمكين عليها للزوج في النكاح، و غير ذلك من الأحكام التكليفية كما نسب إلى الشيخ قدّس سرّه «1» و إن لم تكن النسبة خالية عن الإشكال لتصريحه في بعض المقامات بخلافه.
و على كل حال فالحق عدم انتزاعية الملكية و نحوها عن الأحكام التكليفية، بل هي بنفسها مجعولة تأسيسا أو إمضاء، و كيف يصح الالتزام بانتزاعيتها عن الأحكام التكليفية مع ترتب الأحكام عليها و كونها موضوعا لتلك الأحكام الموجب لتقدمها على الأحكام كتقدم سائر الموضوعات على أحكامها.
فتلخص من جميع ما ذكرنا عدم إمكان جعل السببية لموضوعات الأحكام تكليفية كانت أم وضعية، بل هي كما عرفت منتزعة عن الحكم المترتب عليها، و أمّا السببية بمعنى الخصوصية التكوينية التي يكون وجودها العلمي دخيلا فهي أمر تكويني و هي ملاك الجعل و التشريع و أجنبية عن موضوع الحكم الذي هو محل الكلام، و أمّا الجزئية و الشرطية و المانعية فهي منتزعة عن التكليف المتعلق بعدة امور يقوم بها غرض واحد، فإنّه من انبساط الخطاب الواحد عليها ينتزع الجزئية لكل منها، و من تقيد الأجزاء وجودا أو عدما ببعض الامور تنتزع الشرطية و المانعية.
إيقاظ: لا يخفى أنّ الامور العقلائية على قسمين:
أحدهما: ما يعتبرونه من دون أن يكون له واقعية كما إذا جعلوا شخصا سلطانا أو رئيس دائرة مثلا فإنّهم بعد اجتماعهم و توافق أنظارهم يجعلون الرئاسة لواحد، فإنّ
__________________________________________________
(1) راجع: فرائد الاصول/ 350 و 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 122
هذا الأمر الاعتباري مما أسسوه باجتماع الآراء و تبادل الأفكار، لا أنّهم رأوه حتى يكون ذلك أمرا واقعيا من الواقعيات التي أدركوها كالزوجية و الملكية و نحوهما، مما يرون ترتبها على أسبابها العقلائية التي أمضاها الشارع مع زيادة امور و شرائط عليها.
ثانيهما: الامور الاعتبارية الواقعية التي يدركها العقلاء عند تحقق بعض الأشياء كالزوجية و الملكية و غيرهما مما يراه العقلاء عند تحقق عقد النكاح و نحوه،- و لذا قيل: إنّ لكل قوم نكاحا- و عند تحقق الحيازة و احياء الموات مثلا فإنّ الملكية التي يراها العقلاء عند هذه الأسباب لا تكون مما يعتبرها العقلاء كاعتبارهم السلطة و الرئاسة لشخص، فإنّ اعتبار السلطنة و نحوها يكون باقتراحهم المسمى بالتعبد العقلائي، و إن كان هذا الاعتبار لمصلحة يرونها في شخص خاص دون غيره، و لذا يعتبرونها له لا لغيره، فإنّ الصلاحية و القابلية مما لا بد منهما في اعتبار الرئاسة كما هو واضح.
[هل أنّ الصحة و الفساد من الأحكام الوضعية]
بقى الكلام في جملة من الامور الآخر التي اختلف فيها.
الأول: الصحة و الفساد، فقيل: بكونهما من الأحكام الوضعية.
و قيل: بكونهما من الامور الواقعية.
و قيل: بكونهما من الامور الانتزاعية.
[الصحة بمعنى الخصوصية المترتبة على الشيء بحسب طبعه]
و الحق عدم كونهما من الأحكام الوضعية مطلقا، توضيحه: أنّ الصحة إن كانت عبارة عن الخصوصية المترتبة على الشيء بحسب طبعه كصحة البطيخ و الرقي و الخل و بيض الدجاج و غيرها و يقابلها الفساد، فلا إشكال في كون الصحة حينئذ أمرا تكوينيا غير قابل للجعل التشريعي بل الصحة بهذا المعني تكون من دواعي الجعل و علله، فلا تكون منتزعة عن الحكم الشرعي فضلا عن تعلق الجعل أصالة بها.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 123
[الصحة بمعنى التمامية]
و إن كانت الصحة عبارة عن التمامية- كما هو المقصود في مبحث الصحيح و الأعم إذ المراد بالصحيح هناك هو التام في مقابل الفاسد المراد به الناقص- فكذلك أيضا لأنّ المراد بكون المأتي به تاما هو واجديته لجميع ما يعتبر فيه شطرا و شرطا، و فاسدا هو عدم واجديته لجميع ذلك، ف (الصلاة صحيحة) معناها واجديتها لكل ما له دخل فيها و (فاسدة) معناها عدم واجديتها له، و من المعلوم أنّ الصحة و الفساد بهذا المعنى أيضا من الامور التكوينية غير القابلة للجعل أصلا، و لا مساس لهما بالحكم الوضعي الذي هو أمر اعتباري، فموافقة المأتي به للمأمور به الأولي عبارة عن كونه تاما و واجدا لجميع ما يعتبر في المأمور به و مخالفته عبارة عما يقابلها، و الصحة و الفساد ليسا إلّا الموافقة و المخالفة اللتين هما أجنبيتان عن الحكم الوضعي.
[الصحة بمعنى كون المأتي به موافقا للحكم الظاهري]
و إن كانت الصحة عبارة عن كون المأتي به موافقا للحكم الظاهري كما إذا شك في إتيان الركوع بعد تجاوز محله فإنّه يبنى على فعله و يقال: إنّ الصلاة صحيحة، و كذا إذا شك في شرط من شروط العقد فإنّه يبنى على صحته بمقتضى أصالة الصحة- الحاكمة على الاصول حتى الموضوعية منها المقتضية للفساد، كاستصحاب عدم بلوغ المتعاقدين أو أحدهما على ما هو الحق كما سيأتي في مباحث أصالة الصحة إن شاء اللّه تعالى- و كذا إذا عمل العامي عملا بلا تقليد، فإنّه يقال بصحته إن كان مطابقا لرأي من يختاره بعد ذلك من الفقهاء للتقليد، فقيل: إنّ الصحة في الأحكام الظاهرية لما كانت بمعنى الإجزاء و الكفاية، تكون متأصلة في الجعل، و يقابلها الفساد و الذي هو بمعنى عدم الإجزاء بخلاف الصحة و الفساد في الأحكام الواقعية، فإنّ الصحة و الفساد فيها من الامور التكوينية كما عرفت، فيفصل بين الصحة و الفساد في الأحكام الأولية، فيقال: إنّهما منتزعان عن موافقة الأمر الواقعي و مخالفته له، و بينهما في الأحكام الظاهرية فيقال: إنّهما مجعولان بالأصالة.
كما قيل بأنّ الصحة و الفساد في المعاملات مجعولان شرعيان، و في العبادات
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 124
انتزاعيان.
و وجه القول بكونهما مجعولين بالأصالة في الأحكام الظاهرية هو توهم أنّ إجزاء الأمر الظاهري الذي حكم به الشارع و كذا عدم الإجزاء عبارة عن الصحة و الفساد، كما أنّ وجه كونهما مجعولين في المعاملات هو توهم كون إمضاء الشارع للمعاملات عبارة عن الصحة و عدم إمضائها عن الفساد.
لكن الحق عدم كون الصحة و الفساد من المجعولات الشرعية، بل و لا منتزعين عنها، و ذلك لأنّهما في جميع الموارد عبارة عن المطابقة و عدمها، غاية الأمر أنّ الاختلاف يكون في موضوع الانطباق، فقد يكون المأمور به ثابتا بالحكم الأولي، فالصحة حينئذ هي انطباق ذلك المأمور به على المأتي به، و قد يكون ثابتا بالحكم الثانوي الاضطراري كسقوط السورة مثلا في ضيق الوقت، و قد يكون ثابتا بالحكم الظاهري كموارد جريان الاصول كقاعدتي التجاوز و الفراغ و غيرهما، فإنّ الصحة في جميع هذه الموارد تنتزع عن مطابقة المأمور به كالصلاة أو موضوع الحكم الوضعي كالبيع مع المأتي به، ففي موارد الحكم الظاهري يكون التصرف الشرعي الظاهري في موضوع الإجزاء، و هذا التصرف إمّا يرجع إلى تقييد الواقع و إمّا إلى جعل البدل، و على كل حال لا يكون الصحة و الفساد مجعولين شرعا بل هما منتزعان عن المطابقة المزبورة.
[محصل البحث]
فتحصل من البحث امور؛ الاول: أنّ الصحة و الفساد ليسا من الأحكام الوضعية لأنّهما عبارتان عن التمام و النقصان، سواء كانا في الأشياء الخارجية كالبطيخ و الرقي و نحوهما، أم في الأفعال كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها مما يقال إنّ الصحة فيها عبارة عن مطابقتها مع المأمور به، فإنّ الخصوصية المطلوبة من كل شيء عينا كان أم فعلا إن كانت مترتبة عليه يكون صحيحا و إلّا فهو فاسد، و من المعلوم
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 125
اختلاف الأنظار في الخصوصيات، فإنّ نظر بعض إلى خصوصية بملاحظة تكوينها كما في البطيخ و نحوه فإنّ الخصوصية المرغوبة منها أمر تكويني، و نظر آخر إلى خصوصيته بملاحظة تشريعها كما في بيض الدجاج، فإنّ البيض الذي فيه نقطة دم يكون فاسدا حيث إنّ الخصوصية المرغوبة فيه جعلت شرعا في حال خلوه عن الدم، و إلّا فمع قطع النظر عن حكم الشارع بحرمة أكله إذا كان فيه دم كما إذا كان من غير أهل الأديان يكون البيض الكذائي صحيحا في نظره، لإمكان الانتفاع بأكله، و نظر ثالث إلى الإجزاء و عدم وجوب الإعادة، فالفساد حينئذ ما يقابله من عدم الإجزاء، فالصحة في جميع الموارد بمعنى واحد و هو التمامية، و الاختلافات المزبورة ليست اختلافا في معناها بل اختلاف الأنظار في الخصوصيات المطلوبة من الشيء أوجب اختلاف التعبير عن الصحة و الفساد، و قد ظهر مما ذكرنا في تفسير الصحة و الفساد أنّ التقابل بينهما تقابل الإيجاب و السلب، إذ المفروض أنّ الصحة هي التمامية و الفساد هي النقصان، و إن شئت فعبّر عن الصحة بوجود الخصوصية المطلوبة، و عن الفساد بعدمها.
[كلام الشيخ في أنّ الطهارة و النجاسة من الامور الواقعية]
الثاني: ذكر الشيخ الأنصاري قدّس سرّه «1» أنّ الطهارة و النجاسة من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع، فإن كان مراده بذلك في النجاسة أنّ أمر الشارع بالاجتناب عن النجس كاشف عن ملاك أوجب تشريع وجوب الاجتناب عنه، ففيه: أنّ لازمه كون جميع الأحكام الشرعية التكليفية كاشفة عن الامور الواقعية، لأنّها كاشفة بناء على مذهب العدلية عن ملاكات و مصالح، و إن كان مراده بذلك أنّ النجاسة هي القذارة الموجودة في الأشياء القذرة التي يدركها العرف تارة كالقذارات الصورية التي يتنفر عنها الطباع، و لا يدركها اخرى، فالشارع يكشف عن القذارة الواقعية غير
__________________________________________________
(1) فرائد الاصول/ 351.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 126
المحسوسة للعرف بأمره بالاجتناب، فالنجاسة حينئذ من الامور التكوينية لا التشريعية، غاية الأمر أنّه في صورة عدم إدراك العرف لبعض مصاديقها يبيّن الشارع أنّ الشيء الفلاني من القذارات، و إن كان العرف لا يدركها فيكون بيان الشارع حينئذ من باب تمييز المصداق الذي يكون غير معلوم للعرف، و هذا في الفقه كثير.
فلا بأس بما أفاده الشيخ قدّس سرّه، و لا يرد عليه ما ذكره الميرزا النائيني قدّس سرّه من أنّه يا ليت بيّن مراده.
و بالجملة فالاحتمال الثاني يمكن أن يكون مرادا للشيخ قدّس سرّه و لا يرد عليه شيء إلّا الاستبعاد، و أنّه كيف تكون النجاسة أمرا واقعيا و لا تكون أمرا اعتباريا كسائر الأحكام الشرعية، و كذا الحال في الطهارة التي هي النظافة، فإنّ ما قيل في النجاسة آت في الطهارة، غاية الأمر أنّ الأولى هي القذارة و الثانية هي النظافة.
[عدم كون الرخصة و العزيمة من الأحكام الوضعية]
الثالث: أنّه قد يعد الرخصة و العزيمة من الأحكام الوضعية، لكن لم يظهر له وجه، لأنّهما إن كانا بمعنى السقوط على وجه التسهيل و على نحو الحكم و الإلزام كسقوط الإقامة في بعض الموارد، كما يظهر من قوله عليه السّلام في بعض الروايات «1» «أمنعه أشد المنع»، فهما عبارتان عن الحكم التكليفي لأنّهما بمنزلة أن يقال: «لا تفعل» في السقوط على وجه الإلزام، «و لا بأس بأن لا تفعل» في السقوط على وجه الرخصة.
و إن كانا بمعنى المشروعية و عدمها كصلاة الحائض فإنّها غير مشروعة في حقها، إذ لا أمر بها فالإتيان بها تشريع محرم، فكذلك لأنّ العزيمة حينئذ عبارة عن حرمة الفعل كما أنّ الترخيص يقابلها و هو الجواز، فعلى كل حال لا أساس للحكم الوضعي بالصحة و الفساد.
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 8/ 415، الحديث 11052.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 127
الرابع: أنّه قد يعدّ الطريقية من الأحكام الوضعية، فيقال بكونها حكما وضعيا كالملكية و الزوجية و الحرية و نحوها.
لكن فيه: ما لا يخفى، فإنّ جعل الطريقية إن كان بمعنى إعطاء الكشف و الطريقية التكوينية للظن أو الشك ففيه: أنّ التشريع أجنبي عن التكوين و لا توجد الطريقية التكوينية بجعلها تشريعا، و إن كان بمعنى جعل الأثر الشرعي و ترتيبه فهو أجنبي عن جعل الطريقية، فلا جعل للطريقية حتّى يقال بكونها حكما وضعيا.
[محصل البحث في أقسام الأحكام الوضعية]
فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّ القسم الأوّل الذي عدّ من الأحكام الوضعية كالسببية و الجزئية و الشرطية و المانعية لا يكون حكما وضعيا بل من الامور الانتزاعية.
و القسم الثاني: كالصحة و الفساد و الطهارة و النجاسة قد عرفت أيضا عدم كونه من الأحكام الوضعية.
و لا بأس بمزيد توضيح للنجاسة و الطهارة، فنقول: إنّ عمدة ما استفيد منه نجاسة بعض الأشياء هو النصوص الآمرة بالغسل نظير الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و إلّا فلفظ النجاسة لم يذكر في غالب الروايات- نعم ورد في تنجيس النبيذ أنّ ما على الميل من الخمر ينجّس حبّا من الماء «1»، و كذا في تنجس الماء الكرّ بالتغير- و يستكشف من الأمر بالغسل عن كون النجاسة خصوصية كامنة في الشيء لا ترتفع إلّا بالماء أو المسح على الأرض أو الشمس، و تلك الخصوصية دعت الشارع إلى جعل أحكام للشيء المتصف بالنجاسة، فالنجاسة أعني تلك الخصوصية تكون نظير الملاكات في الأحكام التكليفية، فلو كانت النجاسة أمرا
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 3/ 470، الحديث 4202: «عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث النبيذ، قال: ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء، يقولها ثلاثا».
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 128
اعتباريا لم يكن معنى لغسلها بالماء مثلا، فإنّ الأمر بالغسل كاشف عن كون النجاسة المجهولة ماهيتها أمرا تكوينيا خارجيا، فالنجاسة تكون كغير المأكول المحكوم بأحكام، فكما أنّ ما لا يؤكل من الامور الخارجية، فكذلك النجاسة، و يقابل النجاسة الطهارة فإنّها عبارة عن النظافة التي رتب عليها أحكام شرعية، و من هنا يصح أن يقال: إنّ النجاسة أمر وجودي و الطهارة أمر عدمي.
و تظهر الثمرة بين وجوديتهما، و وجودية أحدهما و عدمية الآخر في جريان الاصول، فإنّه بناء على كونهما وجوديين يجري الأصل فيهما و يسقط بالتعارض كما في تعاقب الحالتين، و بناء على وجودية أحدهما و عدمية الآخر بأن يقال: إنّ النجاسة أمر وجودي حيث إنّها خصوصية خارجية و الطهارة عدم تلك الخصوصية، فمع الشك في النجاسة يجري الأصل فيها فقط، و لا يجري في الطهارة.
القسم الثالث: كالملكية و الزوجية و الحرية و الرقية، فقد يقال بكونهما من الامور الانتزاعية، لكن فيه: أنّ الملكية مثلا التي تكون موضوعا لأحكام شرعية كحرمة التصرف في ملك الغير لا يمكن أن تنتزع عن الحكم المترتب عليها لتأخر الحكم عن الموضوع، و المفروض أنّ المأخوذ في الأدلة موضوعا للحكم هو الملك، فكيف يمكن أن تنتزع عن الحكم المتأخر عنه، و كذا الزوجية و نحوها فكون هذه الامور من الانتزاعيات لا وجه له أصلا.
نعم يدور الأمر بين كونها من الامور الاعتبارية العقلائية الإمضائية أو التأسيسية، و بين كونها من الامور الواقعية كالنجاسة على ما عرفت. توضيح ذلك:
أنّ العقلاء يرون و يدركون اختصاصا لمن حاز بقصد التملك شيئا من المباحات الأصلية، و الشارع يرى أيضا ذلك، و ليس للعقلاء تعبد حتى يقال إنّهم بنوا تعبدا على هذا الحق بسبب الحيازة، بل يرون وجود هذا الاختصاص عند تحقق الحيازة،
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 129
و عليه فتكون الملكية أمرا واقعيا، و كذا الزوجية.
و ربما يدل عليها قولهم عليهم السّلام «1» «لكل قوم نكاح» يعني أنّ العقلاء يرون عند تحقق ما هو سبب لديهم خصوصية تسمى بالزوجية المجهولة الماهية، فلا تكون حكما وضعيا، بل تكون كالنجاسة التي عرفت كونها أمرا واقعيا.
و يحتمل أن تكون الملكية و نظائرها من الامور الاعتبارية التي يعتبرها الشارع أو العقلاء، بأن يقال: إنّ الشارع يحكم بالملكية عند تحقق عقد البيع مثلا الجامع للشرائط المعتبرة فيه كحكمه بوجوب الصلاة عند الدلوك، فتكون الملكية مجعولا شرعيا كالوجوب، أو يقال: إنّ الملكية من الامور التي اعتبرها العقلاء عند تحقق أشياء كالحيازة و البيع و الإجازة و الصلح و غيرها من المعاملات الدائرة بينهم.
و لا يخفى أنّ المجعول الشرعي ليس منحصرا فيما ذكروه من التكليف و الوضع، لأنّ هناك امورا مجعولة أيضا كالولايات و المناصب كالقضاوة و تولي الأوقاف، و باب الضمانات كضمان المال الذي أتلفه من الغير سواء كان بالقصد أم لا، كإتلاف مال الغير سهوا و غفلة أو في حال النوم، فإنّ الشارع حكم بالضمان تأسيسا أو إمضاء حيث إنّ الضمان في بعض الموارد يكون من الامور العقلائية التي أمضاها الشارع، و على كل حال لو لم يكن الضمان مجعولا شرعيا لم يكن وجه في إجراء البراءة في الشك في الضمان كما هو واضح، و كذا باب الحقوق كالخيارات المجعولة شرعا كخياري المجلس و الحيوان، فإنّ الخيار و هو الاستيلاء على فسخ العقد مجعول شرعي، و كذا الحال في حكم الشارع بالشركة في مال كقوله: الخمس للسادة و الصدقة للفقراء، فإنّ الحكم باشتراك مال بين شخصين أو أزيد أو بين أشخاص وجهة كالسيد و الفقير مجعول شرعي.
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة 21/ 199، الحديث 26892.
نتائج الأفكار في الأصول، ج6، ص: 130
و بالجملة فلا ينبغي الإشكال في كون الضمانات و الخيارات و الولايات طرا من المجعولات الشرعية، فلا وجه لإنكار الحكم الوضعي و حصر المجعول الشرعي في التكليف كما لا وجه لعدّ كثير مما لا تناله يد الجعل الشرعي من الحكم الوضعي كالسببية و الجزئية و نحوهما، و كذا الطهارة و النجاسة و غيرهما مما تقدم.
فالحق أنّ غالب ما عدّوه من الأحكام الوضعية أجنبي عن الحكم الوضعي، و غالب ما لم يذكر منه كالضمانات و المناصب و الحقوق يكون من الحكم الوضعي كما لا يخفى.
[عدم خلو الحكم التكليفي عن الوضعي و بالعكس]
ثم إنّه يمكن لنا دعوى عدم خلو الحكم التكليفي عن الوضعي، و أنّ التكليف يستلزم الوضع، فإنّ وجوب الزكاة و الوفاء بالنذر يستلزم الوضع و هو شغل الذمة، بل و كذا في مثل وجوب الصلاة و نحوها من العبادات، فإنّ وجوب الصلاة لو لم يستلزم الوضع أعني شغل الذمة بالفعل الذي تعلق به الحكم، لم يكن وجه لوجوب قضائه عنه بعد موته مع وضوح سقوط الخطاب بالموت، فوجوب القضاء كاشف عن اشتغال ذمة الميت بالفعل، و لذا يؤدّى عنه بعد موته.
كما أنّه يمكن دعوى لغوية الوضع المجرد عن التكليف كاشتغال الذمة بمال أو عمل مع عدم وجوب أدائه، إذ لو لم يكن أداؤه واجبا لزم لغوية هذا الاشتغال.
هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعية.
ومنها: أن الأحكام الوضعية أمور تمهيدية وموضوعات جعلية جعلها الشارع وسيطاً بين الموضوعات الخارجية وبين الأحكام التكليفية، وذلك لأجل تنظيم الأمور.
وهذا أمر اخترعه العقلاء بإلهام من الله تعالى علمه البيان، وهذا ما يقتضيه قانون انتخاب الأسهل، فمن باب المثال : النجاسات التي هي مشتركة في كثير من الأحكام لا يصح فتح باب لكل واحد منها وأنه يحرم شربه ويجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه إلى غير ذلك، بل نجعله موضوعاً وسيطاً ونعبر عنه بالنجس، ويكون هذا رمزاً للأحكام المتشتتة، فيحمل علی النجاسات والمتنجسات المتعددة، وقانون انتخاب الأسهل في مرحلة البيان يقتضي ذلك، أي: جعل الأحكام الوضعية.