بسم الله الرحمن الرحیم
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 660):
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» ():
«شرح مختصر المنتهى الأصولي
تأليف
الإمام أبي عمرو عثمان ابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646 هـ
شرحه
العلامة القاضي عضد الدين عبد الرحمن الإيجي المتوفى سنة 756 هـ
وعلى المختصر والشرح
حاشية العلامة سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة 791 هـ
وحاشية السيد الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816 هـ
وعلى حاشية الجرجاني
حاشية المحقق الشيخ حسن الهروي الفناري المتوفى سنة 886 هـ
وعلى المختصر وشرحه وحاشية السعد والجرجاني
حاشية الشيخ محمد أبو الفضل الوراقي الجيزاوي المتوفى سنة 1346 هـ
تحقيق
محمد حسن محمد حسن إسماعيل
«[العضد]
وإن كنت تريد حقيقة الحال فى ذلك فاعلم أولا مقدمة: وهى أن اللفظ قد يوضع وضعا عاما لأمور مخصوصة كسائر صيغ المشتقات والمبهمات فإن الواضع لما قال صيغة فاعل من كل مصدر لمن قام به مدلوله وصيغة مفعول منه لمن وقع عليه علم منه حال نحو: ضارب ومضروب، من غير تعرض لخصوصهما.
وكذلك إذا قال: هذا: لكل مشار إليه مخصوص، وأنا: لكل متكلم، والذى: لكل معين بجملة. وليس وضع هذا كوضع رجل فإن الموضوع له فيه عام وهذه وضعت باعتبار المعنى العام للخصوصيات التى تحته حتى إذا استعمل رجل فى زيد بخصوصه كان مجازا وإذا أريد به العام المطابق له كان حقيقة بخلاف هذا وأنا والذى فإنه إذا أريد بها الخصوصيات كانت حقائق ولا يراد بها العموم أصلا فلا يقال هذا والمراد أحد مما يشار إليه ولا أنا ويراد به متكلم ما وإذ قد تحقق ذلك فنقول: الحرف وضع باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة كالابتداء والانتهاء لكل ابتداء وانتهاء معين بخصوصه والنسبة لا تتعين إلا بالمنسوب إليه فالابتداء الذى للبصرة بتعين بالبصرة والانتهاء الذى للكوفة يتعين بالكوفة فما لم يذكر متعلقه لا يتحصل فرد من ذلك النوع هو مدلول الحرف لا فى العقل ولا فى الخارج وإنما يتحصل بالمنسوب إليه فيتعقل بتعقله بخلاف ما وضع للنوع نفسه كالابتداء والانتهاء وبخلاف ما وضع لذات ما باعتبار نسبة نحو ذو وفوق وعلى وعن والكاف إذا أريد به علو وتجاوز وشبه مطلقا فهو كالابتداء والانتهاء.
[التفتازاني]
قوله: (الحرف لا يستقل بالمفهومية) عبارة النحاة أن الحرف ما يدل على معنى فى غيره أى لا فى نفسه، وضمير فى "غيره" إما عائد إلى اللفظ بمعنى أنه لا يدل بنفسه بل بانضمام لفظ آخر إليه، وإما إلى المعنى بمعنى أنه غير تام فى نفسه أى لا يحصل من اللفظ إلا بانضمام شئ آخر إليه فصار الحاصل أنه لا يستقل بالمفهومية أى بمفهومية المعنى منه والمعنى قد يكون إفراديا هو مدلول اللفظ بانفراده، وقد يكون تركيبيا يحصل منه عند التركيب فيضاف أيضا إلى اللفظ وإن كان معنى اللفظ عند الإطلاق هو الإفرادى ويشترك الاسم والفعل والحرف فى أن معانيها التركيبية لا تحصل إلا بذكر ما تتعلق به من أجزاء الكلام، ويختص الحرف بأن معناه الإفرادى أيضا لا يحصل بدون ذكر المتعلق لكن لا بحسب اتفاق الاستعمال كما»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 661):
«[التفتازاني]
فى بعض الأسماء؛ بل بحسب الوضع واشتراط الواضع ذلك تنصيصا أو دلالة على ما يشهد به الاستقراء؛ فمعنى عدم استقلال الحرف بالمفهومية أنه مشروط بحسب الوضع فى دلالتها على معناها الإفرادى ذكر متعلقها، وفى عبارة الشارح قلق لا يخفى لأن قوله: دالة لم يقع موقعا صالحا.
قوله: (لما علم من أن وضع ذو بمعنى صاحب) تعليل لقوله: غير مشروط فيها ذلك على ما قرره الشارح المحقق، وليس بدلا من قوله: لأمر ما على ما توهمه الشارح العلامة.
قوله: (ولا يخفى ما فى هذا الكلام) أى كلام المنتهى (من التمحل والتحكم) أما التمحل فلظهور أن معنى الكاف فى زيد كعمرو وجاءنى الذى كعمرو واحد فيكون الحكم بأن الأول اسم مستقل بالمفهومية، والثانى حرف غير مستقل غير مستقيم، وأما التحكم فلأنا قاطعون بأن ذكر المتعلق مشروط فيهما بحسب الاستعمال ولا دليل على أن ذلك فى أحدهما بحسب الوضع ليكون حرفا وفى الآخر لا بحسب الوضع ليكون اسما، وأما التقصى عن ذلك على ما ذكره الشارح المحقق فهو أن نظر الواضع فى وضعه قد يكون إلى خصوص اللفظ لخصوص المعنى كما فى الإعلام، وقد يكون إلى خصوص اللفظ لعموم المعنى أى للمعنى الكلى المحتمل للمقولية على الكثرة كوضع رجل حتى يصح أن يقال أكرم رجلا والمراد رجل ما ولو أريد زيد بخصوصه لم يصح حقيقة وقد يكون إلى عموم اللفظ لخصوص المعنى بأن لا يلاحظ لفظ بعينه بل أمرا كليا يندرج فيه كثير من الألفاظ وذلك فى وضع الهيئات بأن يقول صيغة فاعل مع كل مصدر فإنها لمن قام به مدلول ذلك المصدر فيعلم منه أن ضاربا لمن قام به الضرب وقاعد لمن قام به القعود إلى غير ذلك من الخصوصيات مع أنه لم يعتبرها ولم يلاحظها على التفصيل، وقد يكون إلى اللفظ بخصوصه فيضعه بملاحظة أمر عام لأفراد ذلك الأمر ولخصوصياتها حتى لا يكون الموضوع له هذا الأمر العام بل خصوصياته على التفصيل إلا أن نظر الواضع عند الوضع يكون إلى ذلك الأمر لا إلى الخصوصيات بمعنى أنه عين اللفظ لتلك الخصوصيات لكن بملاحظة ذلك الأمر كما فى تعيين لفظ هذا لهذا الرجل وهذا الفرس إلى غير ذلك مما لا يتناهى بملاحظة أمر كلى هو مفهوم المشار إليه بالخصوص وإلى القسمين الأخيرين أشار الشارح بقوله: اللفظ»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 662):
«[التفتازاني]
قد يوضع وضعا عاما لأمور مخصوصة، وأشار بقوله وضعا عاما إلى أنه لا يلاحظ إلا ذلك الأمر العام وبقوله لأمور مخصوصة إلى أن تعيين اللفظ لا يكون إلا للدلالة على الخصوصيات حتى لا يصح أن يقال: ضارب والمراد من قام به مدلول مصدر ما بل مدلول الضرب بخصوصه، أو يقال: هذا والمراد شخص ما مشار إليه بل هذا المشار إليه بعينه ففى هذا القسم الأخير خصوص المعنى شخصى لا يحتمل الكثرة واعتبار خصوص اللفظ فى نظر الواضع ضرورى بخلاف ما قيل فإن خصوصيات المعانى كليات وملاحظة الألفاظ عند الوضع ليست باعتبار خصوصياتها بل باعتبار اندراجها تحت أمر كلى، وإنما اقتصر الشارح على التعرض لهذين القسمين لأن وضع الحروف من هذا القبيل لأنها وضعت باعتبار أمر عام هو نوع من النسبة لكل فرد من أفرادها معين بخصوصه ومعلوم أنه لا يحصل خصوص النسبة وتعينها لا فى العاقل ولا فى الخارج إلا بتعيين المنسوب إليه فلم يكن بد فى دلالة الحروف على معانيها من ذكر متعلق به تتعين تلك النسبة، بخلاف الاسم والفعل فإنهما ليسا للنسبة بخصوصها بل الاسم قد يكون لنفس الذات كرجل، وقد يكون لذات باعتبار نسبة كذو وفوق، وقد يكون لنسبة لا بخصوصها كالابتداء والانتهاء وكذا الفعل فإنه لنسبة الحديث إلى موضوع ما فعلى وعن والكاف إذا أريد بها علو وتجاوز وشبه مطلقا من غير نظر إلى الخصوصيات كانت أسماء، وإذا أريد بها علو وتجاوز وشبه بخصوصها كانت حروفا فلا تمحل ويعرف بالعلامات والقرائن كما فى سائر الألفاظ المشتركة فلا تحكم فقوله: نحو ذو وفوق مثال لما وضع لذات باعتبار نسبة وقوله وعلى وعن والكاف مبتدأ خبره الجملة الشرطية بعده ومما يوضح الفرق بين الكاف الاسمية والحرفية التأمل فى قولنا زيد ما نند أسداست وزيد همجو أسداست.
[الجرجاني]
قوله: (على معناها الإفرادى) قيل: احترز بقيد الإفرادى عن الاسم والفعل؛ فإن دلالتهما على معناهما التركيبى كالفاعلية وكونه مسندا مثلا مشروطة بذكر متعلقه لا على معناهما الإفرادى بخلاف الحرف إذ قد اشترط فى وضعه دالا على معناه الإفرادى ذلك، وأما العلم بهذا الاشتراط فإما من نص الواضع عليه كما قيل وفيه بعد، وإما من استقراء عدم استعمال الحروف بدون المتعلق فلولا»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 663):
«[الجرجاني]
الاشتراط لاستعملت فى الجملة بدونه وهذا أقرب؛ وحينئذ يظهر الإشكال بالأسماء المذكورة لاشتراكهما فى عدم الاستعمال بدون المتعلقات فكما دل هناك على الاشتراط وعدم تجويز الاستعمال بدونها دل عليه ههنا أيضا، وإنما مثل من الأسماء بالابتداء والانتهاء ومن الأفعال بابتدأ وانتهى لأنهما أقرب إلى حرفى من وإلى مما عداهما للاشتراك فى المعنى فيعلم أن الاختلاف بحسب الاشتراط وعدمه ويتضح ما ذكره من المدعى وقيد رمح وقيس رمح بمعنى قدر رمح وقاب القوس ما بين المقبض والسية فلكل قوس قابان وقوله تعالى: {فكان قاب قوسين} [النجم: 9]، يقال: أراد قابى قوس فقلبه كذا فى الصحاح.
قوله: (إلى الوصف بأسماء الأجناس) لم يرد به النعت بل ما هو أعم؛ ومحصل الحل: أن ذكر المتعلق فى الحروف لتتميم الدلالة وفى هذه الأسماء لتحصيل الغاية فإن قيل: إذا سمع لفظ من مفردة يفهم منها معنى الابتداء فلا تكون دلالتها عليه بحسب الوضع مشروطة بذكر المتعلق، أجيب بأن فهمه منها ليس لكونها دالة عليه عند الانفراد وضعا، بل لكونه مفهوما منها عند التركيب فيسبق الذهن إليه دونه.
قوله: (وأشكل منه) أى مما ذكر من الأسماء، وإنما كانت أشكل إذ معناها أسماء وحروفا واحد وكذا لفظها فالفرق أشكل ودعوى الاشتراط فى لفظ واحد بالقياس إلى معنى واحد فى حالة دون أخرى أبعد منها فى لفظين بالنسبة إلى معنى واحد ومعنيين فلذلك قال: وإن لم يقو هذا التقرير فيه.
قوله: (ولا يخفى ما فى هذا الكلام من التمحل والتحكم) أما التمحل أى الاحتيال فهو الاشتراط المذكور؛ لأن الحكم بأن الواضع وضع من والابتداء لمعنى واحد لكنه اشترط فى دلالة الأول ذكر المتعلق دون الثانى مع عدم ظهور فائدة لهذا الاشتراط تمحل محض لتوجيه قولهم: الحرف لا يستقل بالمفهومية، وأما التحكم فهو أن الدليل على الاشتراط ليس إلا عدم الاستعمال بدون المتعلق على ما هو الحق وهذا مشترك بين الحروف والأسماء المذكورة فالحكم بأن التزام الذكر فى أحدهما للدلالة وفى الآخر للغاية دون العكس ترجيح من غير مرجح.
قوله: (فاعلم أولا مقدمة) لا بد للواضع فى الوضع من تصور المعنى فإن تصور معنى جزئيا وعين بإزائه لفظا مخصوصا أو ألفاظا مخصوصة: متصورة تفصيلا أو»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 664):
«[الجرجاني]
إجمالا كان الوضع خاصا لخصوص التصور المعتبر فيه أى تصور المعنى والموضوع له أيضا خاصا، وإن تصور معنى علما يندرج تحته جزئيات إضافية أو حقيقية فله أن يعين لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة على أحد الوجهين بإزاء ذلك المعنى العام فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه والموضوع له أيضا عاما، وله أن يعين اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيات الجزئيات المندرجة تحته؛ لأنها معلومة إجمالا إذا توجه العقل بذلك المفهوم العام نحوها والعلم الإجمالى كاف فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه والموضوع له خاصا، وأما عكس هذا أعنى: أن يكون الوضع خاصا لخصوص التصور المعتبر فيه والموضوع له عاما فلا يتصور لأن الجزئى ليس وجها من وجوه الكلى ليتوجه العقل به إليه فيتصوره إجمالا إنما الأمر بالعكس وإذا تحققت هذا يصح عندك معنى قوله: إن اللفظ قد يوضع وضعا عاما لأمور مخصوصة كسائر صيغ المشتقات والمبهمات إلخ وبينهما على الوجه الذى أورده فوق من وجهين أحدهما: أن الخصوصيات التى وضعت بإزائها المشتقات جزئيات إضافية كل واحد منها كلى فى نفسه حتى لو فرض أن الواضع تصور مفهوم الضارب وعين بإزائه لفظه بيان الوضع والموضوع له عامين وخصوصيات ما وضعت المبهمات بإزائها جزئيات حقيقية وثانيهما: أن تصور اللفظ والمعنى فى المشتقات بوجه عام، وأما فى المبهمات فعموم التصور فى المعنى لكن الوضع فى كليهما عام؛ لأن المعتبر فى ذلك هو المعنى إذ لا يترتب على اعتباره فى اللفظ فائدة.
قوله: (وكذلك إذا قال: هذا لكل مشار إليه مخصوص) فإن الواضع تصور كل مشار إليه مفرد مذكر باعتبار هذا المفهوم العام ولم يضع اللفظ لهذا المعنى الكلى بل لتلك الجزئيات المندرجة تحته فصار الوضع عاما والموضوع له خاصا، وإنما حكمنا بذلك؛ لأن لفظ هذا لا يطلق إلا على الخصوصيات ولا يجوز إطلاقه على غيرها إذ لا يقال: هذا والمراد أحد مما يشار إليه بل لا بد فى إطلاقه من القصد إلى خصوصية معينة فلو كان موضوعا للمعنى العام كرجل لجاز فيه ذلك ولكان استعماله فى الخصوصيات مجازا، والقول بأنه موضوع للمفهوم الكلى لكن الواضع قد اشترط أن لا يستعمل إلا فى الجزئيات بخلاف نحو رجل تمحل ظاهر، فإن قلت: إذا كان هذا موضوعا للخصوصيات المتعددة كان مشتركا لفظيا، قلت:»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 665):
«[الجرجاني]
إنما يلزم ما ذكرتم أن لو كان موضوعا لها بأوضاع متعددة وليس كذلك بل موضوع لها وضعا واحدا، واعلم أن وضعه للخصوصيات من حيث إنها مندرجة تحت المفهوم الكلى فزيد من حيث تعلق به إشارة مخصوصة معنى لهذا فله اعتبار فى الوضع وفى الموضوع له أيضا، ومن ههنا ظهر أن المبهمات والمضمرات بحسب معانيها جزئيات حقيقية ولا يقدح فى ذلك أن "هذا" يشار به إلى أمر كلى مذكور وأن ضمير الغائب قد يرجع إليه أيضا؛ أما الأول فلأن هذا يقتضى بحسب أصل الوضع مشاهدا مشارا إليه إشارة حسية فلا يكون إلا جزئيا حقيقيا وإذا استعمل فى غيره فقد نزل منزلته والكلى المذكور من حيث إنه مذكور بهذا الذكر الجزئى جزئى لا يحتمل الشركة وإطلاقه من هذه الحيثية، وأما الثانى فلاقتضاء الغائب ذكرا جزئيا للمرجوع إليه إما لفظا أو معنى أو حكما وقد عرفته أن الكلى من حيث هو مذكور ذكرا جزئيا جزئى.
قوله: (وليس وضع هذا) أى لفظ هذا وما ذكر معه أو هذا المذكور (وهذه) أى المذكورات من المبهيات والمضمرات (وضعت باعتبار المعنى العام) وقد تحقق اعتباره من وجهين.
قوله: (وإذ قد عرفت ذلك) اعلم أن الابتداء إن أخذ مطلقا كان معنى مستقلا ملحوظا للعقل بالذات يمكنه أن يحكم عليه وبه، وإن أخذ معينا متعلقا بشئ مخصوص فله اعتباران أحدهما: أن يلاحظه العقل من حيث إنه مفهوم من المفهومات ويتوجه إليه بالقصد فيكون مفهوما مستقلا أيضا يصلح أن يكون محكوما عليه وبه، وثانيهما: أن يلاحظه العقل من حيث هو حالة لذلك الشئ ويجعله آلة لتعرف حاله ويكون المتوجه إليه بالقصد هو ذلك الشئ وبهذا الاعتبار هو مفهوم لا يستقل بالتعقل والملاحظة إنما يلاحظه العقل باعتبار ملاحظة ذلك الشئ؛ فالعقل فى الأول يتوجه إلى مطلق مفهومه ويلزمه إدراك متعلقه إجمالا لكنه ليس مقصودا بالذات، وفى الثانى يتوجه إلى مطلق المفهوم أيضا لكنه يضيفه إلى متعلق مخصوص وهو المفهوم من قولك: ابتداء البصرة، وفى الثالث يتوجه بالقصد إلى المتعلق ثم إنه فى تعرف حاله يلاحظه للابتداء المتعلق به إذا تمهد هذا فنقول: معنى من ليس هو الابتداء المطلق ولا المخصوص المأخوذ بالاعتبار الأول وإلا لصح أن يقع محكوما عليه وبه قطعا، لكنا لا نشك أن المفهوم المستفاد منه»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 666):
«[الجرجاني]
فى قولك: سىرت من البصرة على الوجه الذى استفيد منه لا يصلح لشئ منهما فتعين أن يكون معناه الابتداء الخاص بالاعتبار الثانى؛ وهو معنى لا يستقل بالمفهومية ولا يتحصل ذهنا ولا خارجا إلا بمتعلق ثم إنه يستعمل فى كل ابتداء خاص حقيقة بلا اشتراك فهو موضوع لذلك وضعا عاما على معنى أن الواضع تصور مفهوم الابتداء ولاحظ به جزئيات فعين لفظ "من" بإزائها، وأما "ابتدأ" فالواضع تصور معنى الابتداء المطلق ولاحظ معه النسبة من حيث هى حالة بينه وبين شئ معين فى زمان ماض وعين لفظه بإزاء هذا المجموع، فالنسبة ههنا مفهوم غير مستقل كمفهوم الحرف لا تعقل إلا بطرفيها فلذلك لا يتحصل معنى ابتدأ ذهنا ولا خارجا إلا بذكر الفاعل، وإنما حكمنا بذلك لأن النسبة المطلقة والمخصوصة الملحوظة بالذات من حيث هى كذلك لا تكون حكمية بل تقع محكوما عليها أو بها كما يظهر بأدنى تأمل، وإنما اعتبرنا فى الفاعل التعيين أى تعيين كان سواء كان جزئيا أو مفهوما عاما فإن المفهومات العامة من حيث هى أمور متعينة وباعتبار ما صدقت هى عليه غير متعينة؛ لأن النسبة الحكمية التى يتضمنها ابتدأ لو كانت متعلقة بفاعل لا بعينه ولا شك أنه مفهوم عند إطلاقه لكان ابتدأ وحده كلاما تاما محتملا للصدق والكذب وأنه باطل اتفاقا مع استلزامه محذورين على ما بين فى علم آخر، وأما معنى الابتداء فإنه وإن كان صالحا فى نفسه للحكم عليه وبه لكنه بانضمام هذه النسبة إليه صار مأخوذا فيه من حيث إنه محكوم به وانسلخ عنه صلاحية الحكم عليه؛ لأنا نعلم قطعا أن الابتداء المستفاد من ابتدأ على الوجه الذى استفيد منه لا يصلح أن يكون محكوما عليه وبه، وما يقال من أن الفعل صالح للحكم به فإنما هو باعتبار جزء معناه لا مجموعة، وما حققناه من الوضع العام فى الحروف يجرى فى الأفعال باعتبار النسب المعتبرة فيها وامتازت الأفعال بالاشتمال على معنى هو محكوم به، وأما نحو ذو وفوق فهو موضوع لذات ما باعتبار نسبة مطلقة كالصحبة والفوقية لها نسبة تقييد به إليها فليس فى مفهومه ما لا يتحصل إلا بذكر متعلقه بل هو مستقل بالتعقل والتزام الإضافة لا يقتضى عدم الاستقلال فلذلك يقع محكوما عليه وبه، وعلى وعن والكاف فى الحرفية معناها الاستعلاء والتجاوز والشبه المخصوصة على قياس من فتكون غير مستقلة بالمفهومية، وفى الاسمية معناها إما الفوق والجانب والمثل كما هو المشهور»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 667):
«[الجرجاني]
وهى معان مستقلة، وإما العلو والتجاوز والشبه مطلقا كما فى الشرح وهى أيضا مستقلة، ولعلك إذا استوضحت ما تلونا عليك اطلعت على مقاصد الكتاب منضمة إلى فوائد لا بد منها فى تحقيق الصواب وانكشف عندك معنى قولهم: الحرف؛ ما يوجد معناه فى غيره وأنه لا يدل على معنى باعتباره فى نفسه بل باعتباره فى متعلقه.
[الهروي]
قوله: (على معناهما التركيبى) الإضافة بأدنى ملابسة قد تعتبر لغاية الاحتياط فى التعريف فإن الفاعلية ليست معنى زيد فى ضرب زيد، لكن يمكن أن تجعل معنى تركيبيا له باعتبار تعلقه به وكونه ناشئا من التركيب.
قوله: (دالا على معناه الإفرادى) قد يقال فى توضيح تلك العبارة: إن المراد بالوضع هنا مطلق التخصيص فإن الوضع عبارة عن التخصيص المقيد بقيود مذكورة فى تعريفه من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام والتخصيص المطلق شامل للتخصيص الصادر من المستعمل أيضا فإنه قد عين اللفظ بإزاء المعنى باعتبار إطلاقه عليه، وعلى هذا صار تقدير الكلام مشروطا فى تخصيصها وإطلاقها حال كونها دالة على معناها ذكر متعلقها، وهذا التوضيح راجع إلى ما ذكروه من أن لفظة من مشروط فى دلالتها على معناها ذكر متعلقها، ولا بأس بالتكلف فى العبارة مع وضوح المعنى.
قوله: (للاشتراك فى المعنى) لا يعتبر ذلك القائل بتفاوتهما فى العموم والخصوص فإن معنى "من" ابتداء مخصوص، ومعنى لفظ الابتداء: الابتداء المطلق.
قوله: (دلالتها عليه بحسب الوضع مشروطة) يفهم من هذا الكلام أن المراد من قول الشارح: مشروط فى وضعها دالة على معناها، أن الدلالة مشروطة بحسب الوضع.
قوله: (بل لكونه مفهوما منها عند التركيب) يمكن أن يقال: إن المجيب يجب عليه أن يقول فى دفع هذا الاعتراض: إن ما فهم من لفظة "من" مفردة وهو الابتداء المطلق منها ليس كلمة "من" معناها ابتداء مخصوص لا يفهم إلا مع ذكر
_________
(1) إن ما فهم. . . إلخ. هكذا فى النسخة السقيمة وهى عبارة غير مستقيمة فحررها. كتبه مصحح طبعة بولاق.»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 668):
«[الهروي]
المتعلق كما ذكر الشارح المحقق فى التحقيق وفهم الابتداء المطلق منها عند الانفراد بماء على فهم الابتداء المخصوص منها عند التركيب واعتبار الواضع فى وضعها للخصوصيات عنه وأن الابتداء المطلق، وأما إذا سلم أن معناها مطلق الابتداء فلا يصح أن يقال: فهمه منها ليس لكونها دالة عليه عند الانفراد وضعا لأن لفظة "من" لو كانت موضوعة لمطلق الابتداء، فإذا علم ذلك الوضع فهم منها ذلك المعنى عند ذكرها سواء ذكر معها شئ آخر أو لا كالأسماء التى لزمت إضافتها وهذا الفهم منها لكونها دالة عليه عند الانفراد وضعا وخلاف ذلك تحكم لا يفيد شيئا.
قوله: (لعموم التصور المعتبر فيه والموضوع له خاصا) أى: ما هو أعم من أن يكون جزئيا حقيقيا أو إضافيا؛ الأول كالمبهمات والثانى كالمشتقات فإن الواضع تصور الألفاظ المشتقة إجمالا فى ضمن أمر شامل كما إذا قال صيغة فاعل من كل مصدر وتصور المفهومات الكلية التى بخصوصيات الألفاظ المشتقة فى ضمن أمر شامل كما إذا قال لمن قام به مدلوله فالألفاظ المشتقة موضوعة بإزاء المفهومات الكلية التى هى جزئيات إضافية للأمر الشامل الذى تصوره الواضع عند الوضع فالوضع عام والموضوع له خاص فى ذلك الفعل، إذ قد لوحظ ههنا من حيث إنه يندرج تحت شئ ولو تصور الواضع خصوص لفظ ضارب وخصوص معناه ووضع اللفظ بإزائه لا يقال: إن الوضع ههنا عام والموضوع له خاص؛ إذ لا يتصور ههنا هذا المفهوم العام من حيث إنه مندرج تحت شئ بل يقال: إن الموضوع له ههنا عام أيضا.
قوله: (ألا يذكر الفاعل) أى: بوجوده ففى العبارة مسامحة لا يلتبس بها المقصود.
[الجيزاوي]
المصنف: (مسألة الحروف) قيل: إن ذكرها فى الأصول لاحتياج الفقيه إليها لوقوعها فى الأدلة وإلا فمحلها علم العربية.
الشارح: (فما لم يذكر متعلقه) الأولى فما لم يلاحظ متعلقه.
التفتازانى: (إما عائد إلى اللفظ بمعنى. . . إلخ) فقوله فى غيره حال من ضمير يدل والمعنى ما يدل حال كونه فى غيره أى ليس منظور إليه فى ذاته ومستقلا بذلك
_________
(1) وأن الابتداء المطلق كذا فى الأصل وفى الكلام سقط ظاهر. كتبه مصحح طبعة بولاق.»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 669):
«[الجيزاوي]
بل لا بد من النظر فى دلالته على المعنى إلى لفظ آخر فيضم إليه وقوله: وإما إلى المعنى وعليه فقوله فى غيره صفة للمعنى ومعنى كون المعنى فى غير نفسه أنه ليس معنى بالنظر إلى ذاته كما يقال الدار فى نفسها حكمها كذا وإنما هو معنى بالنظر إلى غيره فلا يتحقق المعنى إلا بذلك الغير وحينئذ فليس الحرف دالا عليه إلا بذكر دال ذلك الغير فلذا قال أى لا يحصل من اللفظ إلا بانضمام شئ آخر إليه.
التفتازانى: (فيضاف أيضا إلى اللفظ) أى لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وحينئذ يحتاج لإخراج الاسم والفعل باعتبار معناهما التركيبى فيقيد معنى الحرف بالإفرادى فيخرج معنى الاسم والفعل الإفرادى فإنه ليس كمعنى الحرف الإفرادى.
التفتازانى: (لم يقع موقعا صالحا) أى لأن ذكر المتعلق شرط فى دلالتها بحسب الوضع عند الاستعمال لا شرط فى وضعها مقترنة بالدلالة إذ الدلالة إنما تتحقق بعد الوضع حين الاستعمال وعبارة الشارح مؤولة بأن معنى قوله فى وضعها دال فى تخصيصها بالمعنى من المستعمل أى ذكرها وهو يقارن الدلالة أو أن معنى قوله فى وضعها بحسب وضعها وقوله دالة حال منتظرة ومحط الشرط هو الدلالة.
التفتازانى: (وليس بدلا. . . إلخ) أى لأنه عليه لا يحسن قوله اقتضى ذكر المضاف إليه بناء على ذلك فيحتاج إلى التأويل وقد درج على أنه يدل الأصفهانى أيضا وقدر ما يلائم قوله اقتضى فقال ولأجل ذلك اقتضى ذكر متعلقه.
التفتازانى: (فلظهور أن معنى الكاف. . . إلخ) قد يكتال: إن معنى الكاف حال كونها اسما غير معناها حال كونها حرفا باعتبار الاستقلال فى الأول وأنه ليس آلة لتعرف حال غيره وعدم الاستقلال وأنه آلة لتعرف حال غيره فى الثانى يدل على ذلك الوقوع محكوما عليه وبه فى الأول دون الثانى وليس بلازم أن يجعل الوضع عاما لموضوع له خاص كما درج عليه الشارح المحقق والسيد لما قاله عبد الحكيم: إنه لا دليل على ذلك إلا الاستعمال فى الجزئيات والاستعمال بلا قرينة دليل الوضع فتكون موضوعة لها ولا شك أن الوضع لو كان لكل واحد منها بخصوصه يلزم الاشتراك بين المعانى غير المحصورة فاعتبر الوضع العام وهو التزام أمر لا شاهد عليه ولذا اختار السعد فى تصانيفه ما ذهب إليه الأوائل من أنها موضوعة للمعانى الكلية غير الملحوظة لذاتها فلذلك يشترط الواضع فى دلالتها ذكر متعلقها وما قيل: إنه يلزم على هذا أن يكون استعمالها فى خصوصيات تلك المعانى مجازا»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 670):
«[الجيزاوي]
لا حقيقة له لعدم استعمالها فى المعانى الأصلية أصلا مع إنهم ترددوا فى أن المجاز يلزمه الحقيقة أولا فمدفوع بأنه إنما يكون مجازا لو كان استعمالها فيها من حيث خصوصياتها أما إذا كان من حيث إنها أفراد المعانى الكلية فلا. اهـ.
التفتازانى: (ولا دليل على أن ذلك فى أحدهما بحسب الوضع) رد ذلك عبد الحكيم على المطول بأنه كما لا دليل على هذا الاشتراط لا دليل على وضعه للمعنى الجزئى مع احتياجه إلى اعتبار الوضع العام الذى لا دليل عليه، وأما الاستعمال فى الجزئيات فقد عرفت أنه لا يصير دليلا على الوضع. اهـ. ثم إن الدليل على أن ذلك فى أحدهما بحسب الوضع عدم صحة كونه محكوما عليه أو به.
التفتازانى: (ليسا للنسبة بخصوصها) أى ليسا للنسبة الخاصة بأن لم يكونا للنسبة أصلا أو يكونا للنسبة المطلقة، والمراد بالخاصة الملحوظة لتعرف حال الغير فلا ينافى أن النسبة الخاصة إذا لم تلاحظ لتعرف حال الغير بل لوحظت وقصدت لذاتها فلا يكون الدال عليها حرفا ويصح الحكم عليها وبها وعبارة السيد صريحة فى ذلك.
قوله: (فكما دل هناك على الاشتراط وعدم الاستعمال) الأولى حذف عدم الاستعمال لأن الذى دل هو عدم الاستعمال والمدلول هو الاشتراط وعدم فهم المعنى بدون المتعلق.
قوله: (ما بين المقبض والسية) فى القاموس سية القوس بالكسر مخففة ما عطف من طرفيها، الجمع سيات.
قوله: (لكونه مفهوما منها عند التركيب) هذا ظاهر فى أن "من" معناها عند التركيب الابتداء الكلى إلا أنه لتعرف حال الغير فكانت من حرفا.
قوله: (مع عدم ظهور فائدة لهذا الاشتراط) فى عبد الحكيم أن الفائدة هى الإشارة إلى أن معناه مفهوم الابتداء من حيث إنه آلة لتعرف حال متعلقه فلذا وجب ذكر متعلقه وحينئذ لا حاجة إلى القول بالوضع العام والموضوع له الخاص فإنه التزام أمر لا شاهد عليه. اهـ.
قوله: (فالحكم بأن التزام. . . إلخ) فى عبد الحكيم على المطول التزام ذكر المتعلق لأجل كونه آلة لتعرف حاله يورث الفرق بينه وبين الأسماء اللازمة الإضافة فإنها»
«شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني» (1/ 671):
«[الجيزاوي]
ملحوظة فى أنفسها والإضافة تبع لها يشهد بذلك وقوعها محكوما عليها وبها دون الحرف وهذا مراد من قال: إن ذكر المتعلق فى الحرف لتتميم الدلالة لكون معناه متعقلا بالقياس إلى الغير وفى الأسماء اللازمة لتحصيل الغاية فإن ذو مثلا معناه متعقل فى نفسه لا يحتاج فى الدلالة إلى ذكر المتعلق إلا أن المقصود من وضعه هو التوصل إلى الوصف بأسماء الأجناس ولا يحصل بدون ذكر ما يضاف إليه. اهـ. ببعض تغيير.
قوله: (وعين بإزائه لفظا مخصوصا) أى كزيد وقوله: أو ألفاظا مخصوصة متصورة تفصيلا أى كوضع الألفاظ المترادفة لذلك المعنى الجزئى وقوله: أو إجمالا أى بأن يلاحظ الألفاظ بمفهوم كلى والمعنى بخصوصه ويوضع كل لفظ من هذه الألفاظ المندرجة تحت المفهوم الكلى لهذا المعنى مرة واحدة وهو ليس بواقع وإن كان ممكنا.
قوله: (يندرج تحته جزئيات إضافية) أى كالحيوان وقوله أو حقيقية أى كالإنسان فله أن يعين لفظا معلوما كالحيوان والإنسان أو ألفاظا معلومة على أحد الوجهين الوجه الأول وهو تصورها بنفسها تفصيلا يتحقق فى المترادفات والثانى ليس بواقع وإن أمكن.
قوله: (فله اعتبار فى الوضع وفى الموضوع له) أى أن المفهوم الكلى له اعتبار فى الوضع حيث يلاحظ به الجزئيات المندرجة تحته وله اعتبار فى الموضوع له حيث يعتبر تحققه فى الجزئى الموضوع له فـ "زيد" مثلا إنما وضع له لفظ "هذا" باعتبار أنه مشار إليه إشارة مخصوصة.
قوله: (وقد تحقق اعتباره من وجهين) هما اعتباره آلة فى الوضع للجزئيات واعتباره فى الموضوع له.
قوله: (فتعين أن يكون معناه الابتداء الخاص) فيه أنه لو جعل معنى من الابتداء المطلق الملحوظ لتعرف حال الغير لم يصح الحكم عليه ولا به فلا يلزم من صحة عدم الحكم عليه وبه أن يكون المعنى جزئيا كما ذكره عبد الحكيم.
قوله: (إلا بذكر الفاعل) الأولى: بملاحظة الفاعل.»
معالم الدين و ملاذ المجتهدين، ص: 121
الفصل الثالث في ما يتعلق بالمخصص
أصل
إذا تعقب المخصص متعددا سواء كان جملا أو غيرها و صح عوده إلى كل واحد كان الأخير مخصوصا قطعا و هل يخص معه الباقي أو يختص هو به أقوال و قد جرت عادتهم بفرض الخلاف و الاحتجاج في تعقب الاستثناء ثم يشيرون في باقي أنواع المخصصات إلى أن الحال فيها كما في الاستثناء و نحن نجري على منهجهم حذرا من فوات بعض الخصوصيات بالخروج عنه لاحتياجه إلى تغيير أوضاع الاحتجاجات. فنقول ذهب قوم إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة ظاهر في رجوعه إلى الجميع و فسره بعضهم بكل واحدة و يحكى هذا القول عن الشيخ رحمه الله و قال آخرون إنه ظاهر في العود إلى الأخيرة و قيل بالوقف بمعنى لا ندري أنه حقيقة في أي الأمرين (و قال السيد المرتضى رضي الله عنه إنه مشترك بينهما فيتوقف إلى ظهور القرينة) و هذان القولان موافقان للقول الثاني في الحكم لأن الأخيرة مخصوصة على كل حال نعم تظهر ثمرة الخلاف في
معالم الدين و ملاذ المجتهدين، ص: 122
استعمال الاستثناء في الإخراج من الجميع فإنه مجاز على ذلك القول محتمل عند أول هذين حقيقة عند ثانيهما. و فصل بعضهم تفصيلا طويلا يرجع حاصله إلى اعتماد القرينة على الأمرين و اختاره العلامة في التهذيب و ليس بجيد لأن فرض وجود القرينة يخرج عن محل النزاع إذ هو فيما عرى عنها. و الذي يقوى في نفسي أن اللفظ محتمل لكل من الأمرين لا يتعين لأحدهما إلا بالقرينة و ليس ذلك لعدم العلم بما هو حقيقة فيه كمذهب الوقف و لا لكونه مشتركا بينهما مطلقا كما يقوله المرتضى رضي الله عنه و إن كنا في المعنى موافقين له و لو لا تصريحه رحمه الله بلفظ الاشتراك في أثناء الاحتجاج لم يأب كلامه الحمل على ما اخترناه فإنه قال (و الذي أذهب إليه أن الاستثناء إذا تعقب جملا و صح رجوعه إلى كل واحدة منها لو انفردت فالواجب تجويز رجوعه إلى جميع الجمل كما قال الشافعي و تجويز رجوعه إلى ما يليه على ما قال أبو حنيفة و أن لا يقطع على ذلك إلا بدليل منفصل أو عادة أو أمارة و في الجملة لا يجوز القطع على ذلك بشيء يرجع إلى اللفظ). هذا و الحال فيما صرنا إليه نظير ما عرفت في مذهبي الوقف و الاشتراك من الموافقة بحسب الحكم للقول بتخصيص الأخيرة لكونها متيقنة التخصيص على كل تقدير غاية ما هناك أنه لا يعلم كونها مرادة بخصوصها أو في جملة الجميع و هذا لا أثر له في الحكم المطلوب كما هو ظاهر فالمحتاج إلى القرينة في الحقيقة إنما هو تخصيص ما سواها. و لنقدم على توجيه المختار مقدمة يسهل بتدبرها كشف الحجاب عن وجه
معالم الدين و ملاذ المجتهدين، ص: 123
المرام و تزداد بتذكرها بصيرة في تحقيق المقام و هي أن الواضع لا بد له من تصور المعنى في الوضع فإن تصور معنى جزئيا و عين بإزائه لفظا مخصوصا أو ألفاظا مخصوصة متصورة تفصيلا أو إجمالا كان الوضع خاصا لخصوص التصور المعتبر فيه أعني تصور المعنى و الموضوع له خاصا أيضا و هو ظاهر لا لبس فيه و إن تصور معنى عاما يندرج تحته جزئيات إضافية أو حقيقية فله أن يعين لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء ذلك المعنى العام فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه و الموضوع له أيضا عاما و له أن يعين اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيات الجزئيات المندرجة تحته لأنها معلومة إجمالا إذا توجه العقل بذلك المفهوم العام نحوها و العلم الإجمالي كاف في الوضع فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه و الموضوع له خاصا. فمن القسم الأول من هذين المشتقات فإن الواضع وضع صيغة فاعل مثلا من كل مصدر لمن قام به مدلوله و صيغة مفعول منه لمن وقع عليه و عموم الوضع و الموضوع له في ذلك بين. و من القسم الثاني المبهمات كاسم الإشارة فلفظ هذا مثلا موضوع لخصوص كل فرد مما يشار به إليه لكن باعتبار تصور الواضع للمفهوم العام و هو كل مشار إليه مفرد مذكر و لم يضع اللفظ لهذا المعنى الكلي بل لخصوصيات تلك الجزئيات المندرجة تحته و إنما حكموا بذلك لأن لفظ هذا لا يطلق إلا على الخصوصيات فلا يقال هذا و يراد واحد مما يشار إليه بل لا بد في إطلاقه من القصد إلى خصوصية معينة فلو كان موضوعا للمعنى العام
معالم الدين و ملاذ المجتهدين، ص: 124
كرجل لجاز فيه ذلك و هكذا الكلام في الباقي. و من هذا القبيل أيضا وضع الحروف فإنها موضوعة باعتبار معنى عام و هو نوع من النسبة لكل واحدة من خصوصياته فمن و إلى و على مثلا موضوعات باعتبار الابتداء و الانتهاء و الاستعلاء لكل ابتداء و انتهاء و استعلاء معين بخصوصه و في معناها الأفعال الناقصة و أما التامة فلها جهتان وضعها من إحداهما عام و من الأخرى خاص فالعام بالقياس إلى ما اعتبر فيها من النسب الجزئية فإنها في حكم المعاني الحرفية فكما أن لفظة من موضوعة وضعا عاما لكل ابتداء معين بخصوصه كذلك لفظة ضرب مثلا موضوعة وضعا عاما لكل نسبة للحدث الذي دلت عليه إلى فاعل بخصوصها و أما الخاص فبالنسبة إلى الحدث و هو واضح إذا تمهد هذا قلنا إن أدوات الاستثناء كلها موضوعة بالوضع العام لخصوصيات الإخراج أما الحرف منها فظاهر و أما الفعل فلأن الإخراج به إنما هو باعتبار النسبة و قد علمت أن الوضع بالإضافة إليها عام و أما الاسم فلأنه من قبيل المشتق و الوضع فيه عام كما عرفت. ثم إن فرض إمكان عود الاستثناء إلى كل واحد يقتضي صلاحية المستثنى لذلك و هي تحصل بأمور. منها كونه موضوعا وضع الأداة أعني بالوضع العام و هو الأغلب كأن يكون مشتقا أو اسما مبهما أو نحوهما مما هو موضوع كذلك. و على هذا فأي الأمرين أريد من الاستثناء كان استعماله فيه حقيقة و احتيج في فهم المراد منه إلى القرينة كما في نظائره فإن إفادة المعنى المراد من الموضوع بالوضع العام إنما هي بالقرينة و ليس ذلك من الاشتراك في شيء لاتحاد الوضع فيه و تعدده في المشترك لكنه في حكمه باعتبار الاحتياج إلى
معالم الدين و ملاذ المجتهدين، ص: 125
القرينة. على أن بينهما فرقا من هذا الوجه أيضا فإن احتياج اللفظ المشترك إلى القرينة إنما هو لتعيين المراد لكونه موضوعا لمسميات متناهية فحيث يطلق يدل على تلك المسميات إذا كان العلم بالوضع حاصلا و يحتاج تعيين المراد منها إلى القرينة بخلاف الموضوع بالوضع العام فإن مسمياته غير متناهية فلا يمكن حصول جميعها في الذهن و لا البعض دون البعض لاستواء نسبة البعض إليها فاحتياجه إلى القرينة إنما هو لأصل الإفادة لا للتعيين. و منها كونه من الألفاظ المشتركة بحيث يكون صلاحيته للعود إلى الأخيرة باعتبار معنى و إلى الجميع باعتبار آخر و حينئذ فحكمه حكم المشترك و قد اتضح بهذا بطلان القول بالاشتراك مطلقا فإنه لا تعدد في وضع المفردات غالبا كما عرفت و لا دليل على كون الهيئة التركيبية موضوعة وضعا متعددا لكل من الأمرين كما ظهر فساد القولين بالعود إلى الجميع مطلقا و إلى الأخيرة مطلقا مع كون الوضع في الأصل للأعم و عدم ثبوت خلافه.
[الفائدة الخامسة: أقسام الوضع باعتبار الموضوع له]
الخامسة ينقسم الوضع باعتبار الموضوع له و المعنى المتصوّر حال الوضع إلى أقسام أربعة:
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 171
و تفصيل القول في ذلك: أنّ من البيّن توقّف الوضع على ملاحظة المعنى و تصوّره، و حينئذ فإمّا أن يكون المعنى الذي يتصوّره حين الوضع أمرا جزئيا غير قابل الصدق على كثيرين، أو كلّيا شاملا للجزئيات. و على التقديرين فإمّا أن يضع اللفظ لعين ذلك المعنى الذي تصوّره، أو لغيره ممّا يعمّه أو يندرج تحته بأن يجعل ذلك المعنى عنوانا له و مرآة لملاحظته ليصحّ له بذلك وضع اللفظ بإزائه.
فهذه وجوه أربعة لا سبيل إلى الثاني منها، ضرورة أنّ الخاصّ لا يمكن أن يكون عنوانا للعامّ و مرآة لملاحظته إلّا أن يجعل مقياسا لتصوّره، كأن يتصوّر جزئيا من الجزئيّات و يضع اللفظ بإزاء نوعه، و هو خروج عن المفروض؛ لتصوّر ذلك الأمر العام حينئذ بنفسه و إن كان ذلك بعد تصوّر الخاص، فبقي هناك وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يتصوّر معنى جزئيّا غير قابل الصدق على كثيرين و يضع اللفظ بإزائه، فيكون الوضع خاصا و الموضوع [له] «1» أيضا خاصّا، و لا خلاف في وقوعه كما هو الحال في الأعلام الشخصيّة، و في معناه ما إذا تصوّر مفهوما جزئيّا و جعله مرآة لملاحظة مفهوم آخر يتصادقان، فيضع اللفظ بإزاء ذلك الآخر كما إذا تصوّر زيدا بعنوان هذا الكاتب و وضع اللفظ بإزائه.
ثانيها: أن يتصوّر مفهوما عامّا قابل الصدق على كثيرين و يضع اللفظ بإزائه، فيكون كلّ من الوضع و الموضوع له عامّا، و هو أيضا ممّا لا كلام في تحقّقه كما هو الحال في معظم الألفاظ.
و مناقشة بعض الأفاضل- في جعل هذه الصورة من قبيل الوضع العامّ نظرا إلى أنّه لا عموم في الوضع لتعلّقه إذن بمفهوم واحد- ليس في محلّها؛ بعد كون المقصود من عموم الوضع- كما نصّوا عليه و نبّه عليه ذلك الفاضل- عموم المعنى الملحوظ حال الوضع لا نفس الوضع، فلا مشاحة في الاصطلاح.
و مع الغضّ عن ذلك فعموم الموضوع له و شموله لأفراده يقضي بعموم الوضع
__________________________________________________
(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 172
أيضا؛ لسريانه إلى جميع المصاديق المندرجة في ذلك الأمر العام، فيصحّ إطلاق ذلك اللفظ عليها على سبيل الحقيقة من حيث انطباقها على تلك الطبيعة المتّحدة معها.
و حيث إنّ العامّ الملحوظ في المقام هو العام المنطقي فلا يندرج فيه العام الاصولي؛ لعدم صدقه على كلّ من جزئياته، فعلى هذا قد يتوهّم كون الوضع فيه من قبيل القسم الأوّل و ليس كذلك، فإنّ معنى العموم أيضا كلّي منطقي بالنسبة إلى موارده و إن لم يكن كذلك بالنظر إلى الجزئيّات المندرجة فيه، فإنّ العموم الحاصل في كلّ رجل غير الحاصل في كلّ امرأة و هكذا، و الملحوظ في وضع «كلّ» للعموم هو المعنى الشامل للجميع، و هكذا الكلام في نظائره، فهي مندرجة في هذا القسم قطعا، نعم لا يندرج فيه نحو «كلّ إنسان» إلّا أنّه لم يتعلّق هناك وضع بمجموع اللفظين، و الوضع عام بالنسبة إلى كلّ منهما.
و من هذا القبيل الوضع المتعلّق بأسماء الأجناس و أعلامها و إن اخذ في الأخير اعتبار التعيّن و الحضور في الذهن، فإنّ ذلك أيضا أمر كلّي ملحوظ في وضعها على جهة الإجمال، فتعريفها من الجهة المذكورة مع اختلاف حضورها باختلاف الأذهان و الأشخاص لا يقضي بتعلّق الوضع بالخصوصيّات، على أنّه لو فرض أخذ كلّ من تلك الخصوصيات في وضعها فهو لا يقضي بتعدّد المعنى، إذ المفروض أنّ الموضوع له نفس الطبيعة الكلّية و تلك الخصوصيات خارجة عن الموضوع له. و من ذلك أيضا أوضاع النكرات و المشتقات.
و قد يشكل الحال في المشتقات نظرا إلى أنّ الملحوظ في أوضاعها هو المعنى العامّ الشامل لخصوص كلّ من المعاني الخاصّة الثابتة «1» لكلّ ما يندرج في الصيغة المفروضة دون خصوص كلّ واحد واحد منها، مع أنّ الموضوع له هو تلك الخصوصيات، فيكون مرآة الوضع هناك عامّا و الموضوع له خصوص جزئيّاته؛ و لذا اختار العضدي فيها ذلك و جعلها كالمبهمات، و كون كلّ من تلك المعاني
__________________________________________________
(1) في المطبوع (1): الشاملة.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 173
الخاصّة أيضا عامّة شاملة لما تحتها من الأفراد لا ينافي ذلك، إذ لا يعتبر في القسم الثالث أن يكون الموضوع له خصوص الجزئيّات الحقيقية.
و يمكن دفعه: بأنّه لمّا كان كلّ من تلك الألفاظ الخاصّة متصوّرا إجمالا في ضمن الأمر العامّ الملحوظ للواضع حين وضعه النوعي كان كلّ من معانيها متصوّرة على سبيل الإجمال أيضا، لكن الوضع المتعلّق بتلك الجزئيّات إنّما تعلّق بكلّ منها بالنظر إلى معناه المختصّ به حسب ما مرّ في بيان الوضع النوعي، فلفظة «ضارب» إنّما وضعت في ضمن ذلك الوضع لخصوص من قام به الضرب، و لفظة «عالم» لخصوص من قام به العلم ... و هكذا، فينحلّ الوضع المذكور إلى أوضاع شتّى متعلّقة بألفاظ متعدّدة لمعان مختلفة، فالوضع المتعلّق بكلّ لفظ من تلك الألفاظ إنّما هو لما يقابله من المعنى، فالمعنى الملحوظ في وضع كلّ منها عامّ و الموضوع له أيضا ذلك المعنى لا خصوص جزئيّاته، فملاحظة ما يعمّ خصوص كلّ من تلك المعاني حين الوضع إنّما هي من جهة ملاحظة ما يعمّ مخصوص كل واحد من تلك الألفاظ المتعيّنة بإزاء كلّ منها، فحيث لم يلحظ لفظا مخصوصا لم يلحظ هناك معنى خاصّا. و أمّا إذا لوحظ كلّ لفظ منها بإزاء ما يخصّه من المعنى كان كلّ من الوضع و الموضوع له بالنسبة إليه عامّا بتلك الملاحظة التي هي المناط في وضع كلّ من تلك الألفاظ بحسب الحقيقة.
فإن قلت: إنّ شيئا من تلك المعاني الخاصّة لم يلحظ حين الوضع بخصوصه، و إنّما الملحوظ هو مفهوم من قام به مبدؤه، و هو أمر عامّ شامل للجميع فكيف يتصوّر القول بكون كلّ من المعاني الخاصّة ملحوظة للواضع؟
قلت: إنّ كلّا من تلك المعاني و إن لم يكن ملحوظا بنفسه لكنّه ملحوظ بما يساويه و يساوقه، فإنّ مفهوم من قام به مبدؤه إذا لوحظ بالنظر إلى خصوص كلّ واحد من الألفاظ المختلفة في المبادئ كقائم و قاعد و نائم و نحوها انطبق على المفهوم المراد من كلّ واحد منها من غير أن يكون أعمّ منه، فلا يكون المعنى الملحوظ في وضع كلّ من تلك الألفاظ لمعناه ما يعمّ ذلك المعنى و غيره و إن لم
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 174
يكن كلّ من تلك المفاهيم الخاصّة ملحوظة بخصوصها، إذ لا يعتبر فيما يكون كلّ من الوضع و الموضوع له فيه عامّا أن يكون الموضوع له متصوّرا على سبيل التفصيل، بل لو جعل بعض وجوهه عنوانا لتصوّره فوضع اللفظ بإزائه كان جائزا- كما مرّ نظيره- فيما يكون فيه كلّ من الوضع و الموضوع له خاصّا.
و الحاصل: أنّ مفهوم من قام به المبدأ ليس ممّا تعلّق الوضع به على إطلاقه و لا لجزئيّاته من حيث انطباقها على ذلك المفهوم كما هو الحال في أسماء الإشارة و نحوها، بل جعل المفهوم المذكور عنوانا لإحضار تلك المفاهيم المختلفة المندرجة تحته على حسب ملاحظة الألفاظ الموضوعة في ضمن الأمر العامّ المفروض، فوضع كلّ من تلك الألفاظ المختلفة الملحوظة على سبيل الإجمال لكلّ من تلك المفاهيم المختلفة المساوية للمفهوم المذكور بعد ملاحظة المادّة الخاصّة المعتبرة في كلّ لفظ من تلك الألفاظ المخصوصة، فملاحظة تلك المعاني على سبيل الإجمال إنّما هي لكون الألفاظ الموضوعة بإزائها ملحوظة كذلك، و تلك الملاحظة الإجمالية منزّلة منزلة التفصيل في وضع كلّ لفظ منها لمعناه الخاصّ به، كما إذا ذكر ألفاظ مخصوصة و معان خاصّة و قال: وضعت كلّا من الألفاظ المذكورة لكلّ من تلك المعاني المفروضة، فإنّه و إن أخذ الألفاظ و المعاني حال الوضع على نحو إجمالي إلّا أنّه منزّل منزلة التفصيل كما مرّت الإشارة إليه.
فالفرق بين المشتقّات و أسماء الإشارة و نحوها ظاهر لا سترة فيه، فإن اريد بكون الوضع فيها عاما و الموضوع له خاصّا جعلهما من قبيل واحد فهو واضح الفساد، و إن اريد به كون تلك المفاهيم المختلفة ملحوظة في الوضع النوعي المتعلّق بها بلحاظ واحد فهو ممّا لا ريب فيه و إن انحلّ ذلك في الحقيقة إلى أوضاع عديدة و تعيّن بسببه ألفاظ متعدّدة لمعان كلّية مختلفة، فيشبه أن يكون الاختلاف في ذلك لفظيا؛ نظرا إلى اختلاف الاعتبارين المذكورين.
و قد ظهر بما قرّرناه أنّه لو قلنا بكون الموضوع في المقام هو ما تصوّره الواضع من المفهوم الكلّي- أعني مفهوم ما كان على هيئة فاعل مثلا- دون
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 175
خصوصيّات الألفاظ المندرجة تحت المفهوم المذكور و الموضوع له هو الجزئيّات المندرجة تحت مفهوم ما قام به مبدؤه كان الوضع هناك عامّا و الموضوع له خاصّا من غير إشكال، كما أنّا إذا قلنا بكون الموضوع له أيضا ذلك المفهوم مطلقا كان كلّ من الوضع و الموضوع له عامّا قطعا.
و إنّما يجري الوجهان المذكوران إذا قلنا بكون الموضوع خصوص جزئيات المفهوم المذكور لخصوص جزئيات المفهوم الآخر؛ لما عرفت حينئذ من حصول الاعتبارين، و إن كان الأظهر حينئذ هو ما عليه جماعة من المحقّقين من كون كلّ من الوضع و الموضوع له في كلّ من تلك الألفاظ المندرجة في ذلك العنوان عامّا، كما ظهر ممّا ذكرناه.
ثالثها: أن يتصوّر معنى عامّا و يضع اللفظ بإزاء جزئيّاته، فيكون الوضع عامّا و الموضوع له خاصا، سواء كان الموضوع له هناك جزئيّات حقيقيّة أو إضافيّة، و ما يظهر من كلام بعضهم من اختصاصه بالأوّل غير متّجه، كيف و لا يجري ذلك في كثير ممّا جعلوه من هذا القسم كالحروف، فإنّها و إن وضعت عندهم لخصوص المعاني المتعيّنة بمتعلّقاتها إلّا أنّها مع ذلك قد تكون مطلقة قابلة للصدق على كثيرين، كما في قولك: «كن على السطح» و «كن في البلد» و نحوهما، فإنّ كلّا من الاستعلاء و الظرفيّة المتعيّنين بمتعلّقاتهما في المثالين قد استعمل فيهما لفظة «على» و «في» لكنّهما مع ذلك صادقان على أفراد كثيرة لا تحصى.
و بالجملة: أنّ مفاد «على» و «في» في المثالين المذكورين قد جعل مرآة لملاحظة حال الكون الكلّي بالنسبة إلى السطح و البلد، فهو تابع له في الكلّية و إن كان ذلك جزئيا إضافيّا بالنسبة إلى مطلق الاستعلاء و الظرفيّة، و كذا الحال في أسماء الإشارة إن قلنا بوضعها للأعمّ من الإشارة الحسّية و غيرها، فإنّ الكلّيات يشار إليها بعد ذكرها.
و ما قيل من أنّ الكلّي المذكور من حيث إنّه مذكور بهذا الذكر الجزئي صار في حكم الجزئي، فاستعملت لفظة «هذا» فيه من تلك الحيثية، فهو جزئي بتلك الملاحظة.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 176
مدفوع: بأنّ تلك الحيثية إنّما تصحّح الإشارة إليه، و أمّا المشار إليه فهو نفس الماهيّة من حيث هي، ألا ترى أنّك لو قلت: وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق و ذلك المعنى عامّ لم ترد بذلك إلّا الإشارة إلى ذلك المفهوم من حيث هو، لتحكم عليه بالعموم لا إلى خصوص ذلك المفهوم الخاصّ من حيث تقيّده بالحضور في ذهنك أو ذهن السامع و إن كان ذلك الحضور مصحّحا للإشارة إليه كما هو الحال في المعهود، ينبّهك على ذلك ملاحظة الاسم المعرّف الواقع بعد ذلك في المثال المذكور، إذ لا ينبغي التأمّل في كونه كلّيا مع أنّه إشارة إلى المذكور أوّلا، و هو عين ما اريد بذلك، و إن قلنا بوضعها لخصوص الإشارة الحسّية تعيّن وضعها للجزئيّات الحقيقيّة، فتكون الإستعمالات المذكورة مجازية.
و أمّا الضمائر فلا ينبغي التأمّل في إطلاقها على المفاهيم العامّة فيما إذا كان مرجعها كلّيا، غاية الأمر أن لا يراد به الطبيعة المرسلة بل بملاحظة تقدّمها في الذكر، و ذلك لا يقضي بصيرورتها جزئيا حقيقيّا كما عرفت، فما في كلام بعضهم- من الحكم بوضع الضمائر و أسماء الإشارة لخصوص الجزئيّات الحقيقية لكون التعيّن فيهما بأمر حسّي يفيد الجزئية- ليس على ما ينبغي، كما عرفت الوجه فيه.
و أمّا الموصولات فوضعها- بناء على القول المذكور- للأعمّ من الوجهين أمر ظاهر لا سترة فيه، فإنّ غاية ما اخذ فيها من الخصوصية هي التعيّنات الحاصلة بصلاتها، و من البيّن أنّ التعيّن الحاصل بها كثيرا ما يكون أمرا كلّيا، كما في قولك:
«أكرم الذي أكرمك» و «أعط من جاءك» و نحو ذلك، و ممّا يوضّح الحال فيها ملاحظة الموصولات المأخوذة في الحدود، فإنّها إنّما اوتيت بها لبيان المفاهيم الكلّية، فلا يراد هناك من الموصول إلّا أمرا كلّيا.
و من الغريب ما يوجد في كلام بعض الأفاضل و حكي التصريح به عن العضدي في رسالته الوضعيّة من كون الموضوع له في كلّ من المبهمات الثلاثة جزئيا حقيقيّا.
و أجاب عمّا ذكره بعضهم- من كون الصلة في نفسها أمرا كلّيا و ضمّ الكلّي
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 177
إلى الكلّي لا يفيده تشخّصا- بأنّ التشخّص الحاصل في المقام ليس بمجرّد ضمّ ذلك الكلّي إليه، بل من جهة الإشارة به إلى ذاته المخصوصة، كما في قولك: «الذي كان معنا أمس» قال: و ذلك نظير إضافة النكرة إلى المعرفة الباعثة على تعريفها، كما في قولك: «غلام زيد» فإنّه و إن كان ذلك المفهوم كلّيا أيضا إلّا أنّ المقصود بالإضافة هو الإشارة إلى غلام شخصيّ.
و فيه: أنّ ما ذكره لو تمّ فإنّما يتم فيما فرضه من المثال و نظائره لا في سائر المواضع حسب ما أشرنا إليه، و البناء على اختصاص وضع الموصولات بما ذكره و كون استعمالها فيما ذكرناه من المجاز مجازفة بيّنة.
نعم قد اعتبرت خصوصية في المفاهيم التي وضعت بإزائها الألفاظ المذكورة تكون تلك الخصوصية جزئيّا حقيقيّا بالنسبة إلى كلّيها الملحوظ حال وضعها، فإنّ الحروف مثلا إنّما وضعت لخصوص المفاهيم الواقعة مرآة لملاحظة حال غيرها، فتلك المفاهيم الخاصّة و إن كانت كلّية في نفسها في كثير من الصور لكن خصوصيّة وقوعها مرآة لملاحظة الحال في غيرها جزئي حقيقي من جزئيات كونها مرآة لملاحظة الغير، فلفظة «على» مثلا إنّما وضعت لخصوصيات الاستعلاء الواقع مرآة لتعرّف حال الغير، و حينئذ فمفهوم الاستعلاء الواقع مرآة لحال متعلّقه و إن كان كليّا في نفسه لكن في كونه مرآة لملاحظة حال الكون و السطح في قولك:
«كن على السطح» جزئيّ حقيقيّ من جزئيّات الاعتبار المذكور.
و الحاصل: أنّ نفس المعنى الجزئي المأخوذ مرآة لحال الغير و إن كانت كليّة في نفسها إلّا أنّ كونها مرآة لخصوص كلّ من متعلّقاتها جزئي حقيقيّ بالنسبة إلى ما اعتبر فيها حال وضعها من كونها مرآة لحال غيرها، و يجري ذلك في جميع المبهمات و معاني الأفعال، ألا ترى أنّ الموصول إنّما وضع للشيء المتعيّن بصلته، و تعيّنه بصلته الخاصّة جزئي حقيقي من جزئيّات التعيّن بالصلة و إن كان نفس المفهوم التعيّن بها كلّيا أيضا.
و أنت خبير بأنّ تلك الخصوصيّات لا يجعل نفس ما وضع له تلك الألفاظ
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 178
جزئيّات حقيقيّة، و إنّما يكون الاعتبار المأخوذ في كلّ منها جزئيا حقيقيّا لمطلقه حسب ما بيّناه، فإن عنى القائل بوضعها للجزئيّات الحقيقية إفادة ذلك فلا كلام، لكن لا يساعده العبارة و إن أراد به كون نفس المفهوم الذي وضعت بإزائه جزئيّا حقيقيّا، ففساده ظاهر ممّا قرّرنا.
هذا، و قد اختلفوا في تحقّق الوضع على الوجه المذكور على قولين، فقد ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين و قالوا به في أوضاع المبهمات الثلاثة و الحروف بأجمعها و الأفعال الناقصة و كذا الأفعال التامّة بالقياس إلى معانيها النسبيّة، و الضابط فيه كلّ لفظ استعمل في أمر غير منحصر لمعنى مشترك لا يستعمل فيه على إطلاقه، فإنّ الملحوظ عندهم حين وضع تلك الألفاظ هو ذلك الأمر الجامع المشترك بين تلك المستعملات و الموضوع له هو خصوص تلك الجزئيات، فجعل ذلك الأمر العامّ مرآة لملاحظتها حتى يصحّ وضع اللفظ بإزائها، و هذا القول هو المعزى إلى أكثر المتأخّرين، بل الظاهر إطباقهم عليه من زمن السيّد الشريف إلى يومنا هذا.
و المحكي عن قدماء أهل العربية و الاصول القول بكون الوضع و الموضوع له في جميع ذلك عامّا، فيكون الحال في المذكورات من قبيل القسم الثاني عندهم، و هذا هو الذي اختاره التفتازاني لكنّه ذكر أنّ المعارف ما عدا العلم إنّما وضعت لتستعمل في معيّن، و ظاهر كلامه أنّ الواضع اشترط في وضعها لمفهومها الكلّي أن لا تستعمل إلّا في جزئياته.
و في الحواشي الشريفيّة أنّ جماعة توهّموا وضعها لمفهوم كلّي شامل للجزئيّات، و الغرض من وضعها له استعمالها في أفرادها المعيّنة دونه، و الظاهر أنّ هذا الاعتبار إنّما وقع في كلام جماعة من المتأخّرين تفصّيا من المنافاة بين وضعها للمفهوم الكلّي و عدم صحة استعمالها إلّا في الجزئيات، و إلّا فالقدماء لم ينبّهوا على ذلك فيما عثرنا عليه من كلامهم.
حجّة القول الأوّل وجوه:
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 179
أحدها: أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الكلّية لصحّ استعمالها فيها بلا ريبة، ضرورة قضاء الوضع بصحّة الاستعمال، فإنّه أقوى السببين في جواز استعمال اللفظ لاندراج الاستعمال معه في الحقيقة، فعلى هذا ينبغي أن يصحّ استعمال «هذا» في مفهوم المفرد المذكّر المشار إليه على سبيل الإطلاق، و إستعمال «أنا» في مفهوم المتكلّم على الإطلاق، و استعمال «الذي» في مطلق الشيء المتعيّن بصلته، و التالي باطل، ضرورة عدم جواز الاستعمالات المذكورة بحسب اللغة و العرف، فإنّه لا يقصد بتلك الألفاظ إلّا بيان المعاني الجزئية دون المفاهيم الكلّية، و الفرق بينها و بين الألفاظ الدالّة على تلك الكلّيات واضح جليّ بعد ملاحظة العرف.
و اورد عليه بقلب الدليل، بأنّها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيات لجاز استعمالها في المطلقات على سبيل المجاز؛ لوجود العلاقة المصحّحة للاستعمال، فكما أنّ وضعها للمفاهيم الكلّية قاض بجواز استعمالها فيها كذا وضعها للجزئيات قاض بجواز استعمالها في المفاهيم الكلّية، غاية الأمر أن يكون المصحّح لاستعمالها في تلك الكلّيات بناء على الأوّل هو الوضع الحقيقي، و بناء على الثاني هو الوضع المجازي، مع أنّه لا يجوز استعمالها فيها و لو على سبيل المجاز، فما يجاب به بناء على الثاني يجاب به بناء على الأوّل أيضا.
و الجواب عنه ظاهر بعد ملاحظة ما سنقرّره إن شاء اللّه تعالى من بيان الحال في المجاز، فإنّ مجرّد وجود نوع العلاقة المعروفة غير كاف عندنا في صحّة التجوّز، و إنّما المناط فيه العلاقة المعتبرة في العرف بحيث لا يكون الاستعمال معها مستهجنا عرفا، فعلى هذا يدور جواز استعمال المجاز مدار عدم الاستقباح في العرف بخلاف الحال في الحقيقة؛ لدوران جواز الاستعمال هناك مدار الوضع، فالفرق بين الصورتين واضح.
و أمّا على ظاهر كلام القوم من الاكتفاء في صحّة التجوّز بوجود نوع العلاقة المنقولة فبأنّ وجود واحد من تلك العلائق من المقتضيات لصحّة الاستعمال،
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 180
و قد يجامع حصول المقتضي وجود المانع فلا يعمل عمله، فالترخيص العامّ الحاصل من الواضع في استعمال اللفظ في غير الموضوع له مع حصول واحد من تلك العلائق لا يقضي بجواز الاستعمال مع تحقّق المنع منه في خصوص بعض المقامات؛ لقيام الدليل عليه كما في المقام؛ لوضوح تقديم الخاصّ على العامّ.
و الحاصل: أنّ الترخيص المذكور كسائر القواعد المقرّرة إنّما يؤخذ بها في الجزئيّات مع عدم ظهور خلافها في خصوص المقام، و هذا بخلاف الوضع لكونه علّة تامّة لجواز الاستعمال في الجملة، و لا يعقل هناك المنع من الاستعمال بالمرّة مع تحقّق الوضع له.
و اورد عليه: بأنّا قد نرى المنع من الاستعمال مع تحقّق الوضع كما في لفظ «الرحمن» و الأفعال المنسلخة عن الزمان.
و الجواب عنه ظاهر، أمّا عن لفظ «الرحمن» فبعد تسليم صدق مفهومه الحقيقي على غيره تعالى بأنّه لا مانع من الاستعمال بحسب اللغة و إنّما المانع هناك شرعيّ فلا ربط له بالمقام، و أمّا عن الأفعال المنسلخة عن الزمان إن سلّم أوّلا وضعها للزمان فلنقلها عن ذلك بحسب العرف فالمنع في استعمالها في الزمان إنّما طرأها في العرف بعد حصول النقل، و لا مانع من إستعمالها فيه بملاحظة وضع اللغة، و التزام مثله في المقام غير متّجه؛ لظهور المنع من استعمالها في ذلك بحسب اللغة أيضا، و مع الغضّ عنه فلا داعي إلى التزام النقل من غير باعث عليه، فإنّه- بعد ثبوت كون الموضوع له لتلك الألفاظ عرفا هو الجزئيّات- يثبت بضميمة أصالة عدم النقل كونها كذلك بحسب اللغة أيضا، على أنّ المقصود في المقام تحقّق الوضع العامّ مع كون الموضوع له هو خصوص الجزئيات، و وجود ذلك في الأوضاع العرفية كاف في ثبوت المرام، فتأمّل.
أقول: و يمكن الجواب عن الحجّة المذكورة بأنّ المعاني الكلّية المأخوذة في وضع الألفاظ المفروضة إنّما اخذت على وجه لا يمكن إرادتها من اللفظ إلّا حال وجودها في ضمن الجزئيّات، من غير أن يكون خصوص شيء من تلك الجزئيّات ممّا وضع اللفظ له.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 181
بيان ذلك: أنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ المعاني المرادة من الألفاظ قد تكون امورا واقعية مع قطع النظر عن إرادتها من اللفظ، فإنّما يراد من اللفظ إحضارها ببال السامع، و قد لا تكون كذلك بأن تكون إرادة تلك المعاني من الألفاظ هو عين إيجادها في الخارج، فالمعاني التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها إنّما يتحقّق في الخارج بإرادتها من اللفظ، سواء كانت معاني تركيبيّة كما في الإنشاءات، أو إفراديّة كما في أسماء الإشارة، فإنّها إنّما وضعت للمشار إليه من حيث تعلّق الإشارة به لا لمفهوم المشار إليه من حيث هو ليحصل إحضار ذلك المفهوم عند أداء اللفظ، بل لما تعلّق به فعل الإشارة و أداتها فيحصل معنى الإشارة في الخارج باستعمال لفظة «هذا» في معناه بخلاف استعمال لفظ «الإشارة» و «المشار إليه» فيما وضع له، فإنّه لا يتحقّق به الإشارة و لا يكون الشيء مشارا إليه بذلك، بل إنّما يحصل به إحضار ذلك المفهوم بالبال و تصويره في ذهن السامع لا غير، فنظير لفظة «هذا» في ذلك لفظة «اشير» إذا اريد بها إنشاء الإشارة و إن كان الفرق بينهما واضحا من جهات اخرى؛ و لهذا قد ينزّل «هذا» منزلة «اشير» في الاستعمالات، فيجري عليه بعض أحكامه كما اشير إليه في محلّه.
فحينئذ نقول: إنّ إرادة معنى المشار إليه على الوجه المذكور من لفظة «هذا» و نظائرها غير ممكن الحصول إلّا في ضمن متعلّق خاصّ؛ لوضوح عدم إمكان تعلق الإشارة إلّا بمتعلّق مخصوص و عدم تحقّقها في الخارج إلّا في ضمن فرد خاصّ من الإشارة و جزئي حقيقيّ من جزئياتها، ضرورة عدم إمكان حصول الكلّيات إلّا في ضمن الأفراد، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ إلّا في معاني خاصّة و إشارات مخصوصة و إن لم تكن تلك الخصوصيات مرادة من نفس اللفظ، بل هي لازمة لما هو المراد منها؛ لوضوح عدم حصول مطلق الإشارة في الخارج إلّا في ضمن إشارة خاصّة و عدم تعلّقها إلّا بمتعلّق مخصوص.
و بذلك يظهر الوجه في بناء تلك الألفاظ و إعراب لفظ «الإشارة» و «المشار إليه» فإنّ المأخوذ فيهما مفهوم الإشارة، و هو معنى تام إسميّ بخلاف ما وضع له
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 182
«هذا» لاشتماله على نفس الإشارة التي هي معنى ناقص حرفي قد جعل آلة و مرآة لملاحظة الذات التي اشير إليها، و هو مفتقر إلى متعلّقها افتقارا ذاتيّا كغيره من المعاني الحرفيّة.
إذا تقرّر ذلك ظهر اندفاع ما ذكر في الاحتجاج من أنّها لو كانت موضوعة للمفهوم العامّ لزم جواز استعمال «هذا» في مطلق المشار إليه المفرد المذكّر على ما هو الحال في لفظ المشار إليه؛ لما عرفت من وضوح الفرق بين الأمرين و عدم إمكان إرادة المشار إليه على الوجه المأخوذ في معنى «هذا» إلّا في ضمن خصوص الأفراد، فهذا هو السرّ في عدم إطلاقه إلّا على الخصوصيات و عدم جواز استعماله في الأمر العامّ على إطلاقه و عمومه، فلا دلالة في ذلك على وضعه؛ لخصوص تلك الجزئيّات و عدم وضعه للقدر الجامع بينهما كما زعموه، بل لا بعد أصلا في القول بوضعها للقدر الجامع بين تلك الخصوصيات، و يشير إليه أنّه لا يفهم من لفظة «هذا» في العرف إلّا معنى واحد يختلف متعلّقه بحسب الموارد، و لا يكون إرادته إلّا في ضمن جزئي معيّن بحسب الواقع، فلا يكون إطلاقها على الجزئيّات بإرادة الخصوصيّة من نفس اللفظ، بل لحصول الموضوع له في ضمنها و توقّف إرادته على ذلك، فالموضوع له للفظة «هذا» هو المشار إليه المفرد المذكّر من حيث تعلّق الإشارة به و جعل الإشارة مرآة لملاحظته، و هو مفهوم كلّي في نفسه، إلّا أنّه لا يمكن إرادته إلّا في ضمن الفرد، ضرورة كون الإشارة الواقعة من جزئيّات مطلق الإشارة و اقتضاء الاشارة في نفسها تعيّن الأمر المشار إليه لكون ذلك من اللوازم الظاهرة لحصولها، ضرورة استحالة الإشارة إلى المبهم من حيث أنّه مبهم فتعيّن المشار إليه، و خصوصية الإشارة إنّما يعتبر في مستعملات تلك الأسماء من الجهة المذكورة لا لوضعها لخصوص تلك الجزئيات، و يجري نظير ما قلناه في سائر ما جعلوه من هذا القبيل.
أمّا الضمائر فلأنّها إنّما وضعت للتعبير عن المتكلّم أو المخاطب أو الغائب المذكور و ما بحكمه، لا بأن تكون تلك المفاهيم مأخوذة في وضعها على سبيل
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 183
الاستقلال حتى يكون الموضوع له للفظة «أنا» مثلا هو المفهوم من لفظ المتكلّم ليصحّ إطلاقه كلفظ المتكلّم على مطلق المتكلّم، بل يأخذ تلك المفاهيم من حيث حصولها و صدورها قيدا في وضع اللفظ للذوات التي تجري عليها المفاهيم المذكورة و حيثية معتبرة فيها، فتلك الذوات بملاحظة الجهات المفروضة قد وضعت لها الألفاظ المذكورة، فالمراد بكون «أنا» موضوعا للمتكلّم أنّه موضوع لذات جعل صدور الكلام حيثيّة معتبرة في وضع اللفظ له، و كذا الحال في لفظ «أنت» و «هو» و غيرهما، فالموضوع له للفظ «أنا» هو من صدر منه الكلام، و للفظ «أنت» من القي إليه الكلام، و للفظ «من» هو من سبق ذكره صريحا أو ضمنا بجعل حصول تلك الصلات قيودا معتبرة في وضع اللفظ لها، فتلك المعاني امور كلّية في نفسها، فإنّ من صدر منه الكلام أو تعلّق الخطاب به مثلا مفهوم صادق على ما لا يتناهى [من مصاديقه، إلّا أنّ إرادة ذلك المفهوم ملحوظا على الوجه المذكور لا يتحقّق إلّا في ضمن مصداق من مصاديقه.
فإن قلت: إن كان المراد بمن صدر عنه الكلام أو تعلّق الخطاب به مثلا نفس المفهوم المذكور كان من الألفاظ المذكورة كلفظ المتكلّم و المخاطب، و لزم جواز إرادة المفهوم المذكور منها على وجه العموم و إن جعل المفهوم المذكور عنوانا لمصاديقه الخاصّة و كان الموضوع له هو خصوص مصاديقه كان ذلك عين ما ذكره الجماعة من كون الوضع فيها عامّا و الموضوع له خاصّا، و يجري ذلك بالنسبة إلى أسماء الإشارة و غيرها، فلا يصحّ القول بكون الموضوع له فيها أيضا عاما كما هو المدّعى.
قلت: فرق بيّن بين جعل الموضوع له خصوص كلّ من الجزئيات المندرجة تحت المفهوم المذكور من غير أن يتعلق الوضع بنفس المفهوم المتصوّر حين الوضع و بين أن يجعل الموضوع له نفس ذلك المفهوم، لكن توجد فيه حيثية لا يمكن حصولها إلّا في ضمن الفرد، فيتوقف إرادة ذلك المفهوم من اللفظ على إطلاقه على خصوص الحصّة المقيّدة بإحدى تلك الخصوصيّات. فتأمّل] «1».
__________________________________________________
(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في الأصل، أورده في المطبوع (1) و كتب في آخره: نسخة.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 184
و أمّا الموصول فلأنّه موضوع للشيء المتعيّن بصلته لا بضمّ مفهوم التعيّن إلى مفهوم الشيء ليكون مفاده هو المفهوم المركّب من المفهومين، بل المراد به الشيء المتحقّق تعيّنه بصلته، و هذا المعنى ممّا لا يمكن حصوله بدون ذكر الصلة، فهو و إن كان أمرا كلّيا صادقا على كثيرين إلّا أنّه لا يمكن استعمال اللفظ فيه بدون ذكر الصلة التي يتحقّق بها التعيين المذكور و يتمّ بحصولها ذلك المفهوم، فذكر الصلة يتوقّف عليه حصول المفهوم المذكور و يفتقر إليه افتقارا ذاتيا، حيث إنّ التقييد بها مأخوذ في وضع تلك الألفاظ و إن كان القيد خارجا، فلا يعقل إرادة ذلك المفهوم بدون وجود الصلة؛ و لأجل ذلك لحقها البناء، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ في معانيها إلّا مع ذكر صلاتها و إن أمكن تصوّر ذلك المعنى و وضع اللفظ بإزائه من دون ضمّ صلة خاصّة أو خصوصية الصلات على جهة الإجمال، لكن يتوقّف على ملاحظة تقييده بالصلة و لو كان على وجه كلّي حسب ما أشرنا إليه.
فما اورد عليه من لزوم جواز استعمال «الذي» في مطلق الشيء المتعيّن بصلته مبنيّ على الخلط بين الاعتبارين، مضافا الى أنّ المفهوم من «الذي» في جميع استعمالاته هو نفس الشيء، و إنّما الاختلاف في الخصوصيات المأخوذة معه، فالقول بكون الوضع في الموصولات عامّا و الموضوع له خاصّا كما ترى و لو مع الغضّ عمّا ذكرنا، فلا تغفل.
و أمّا الحروف فلأنّها موضوعة للمعاني الرابطيّة المتقوّمة بمتعلّقاتها الملحوظة مرآة لحال غيرها حسب ما فصّل في محلّه، و ذلك المعنى الرابطي و إن اخذ في الوضع على وجه كلّي إلّا أنّه لا يمكن إرادته من اللفظ إلّا بذكر ما يرتبط به، فلا يمكن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الكلّي إلّا في ضمن الخصوصيات الحاصلة من ضمّ ما جعل مرآة لملاحظته لتقوّم المعنى الرابطي به، فالحصول في ضمن الجزئي هنا أيضا من لوازم الاستعمال فيما وضعت له بالنظر إلى الاعتبار المأخوذ في وضعها له، لا لتعلّق الوضع بتلك الخصوصيات بأنفسها، فعدم استعمالها في
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 185
المعنى العامّ على إطلاقه إنّما هو لعدم إمكان إرادته كذلك لا لعدم تعلّق الوضع به كما زعموه، فكون المستعمل فيه دائما هو الطبيعة المقترنة بشرط شيء لا ينافي وضعها للطبيعة اللابشرط إذا كان إستعمالها فيها مستلزما لحصول الخصوصيّة، و استعمالها في تلك المفاهيم على جهة استقلالها في الملاحظة ليس استعمالا لها فيما وضعت له، لما عرفت من عدم تعلّق الوضع بها من تلك الجهة، فلا وجه لإلزام القائل بعموم الموضوع له بجواز استعمالها كذلك، و كذا الحال في الأفعال بالنسبة الى معانيها النسبيّة فإنّها في الحقيقة معان حرفيّة لا يمكن حصولها إلّا بذكر متعلّقاتها حسبما ذكرناه في الحروف.
و أنت بعد التأمّل فيما قرّرناه تعرف ضعف ما ذكر في هذه الحجّة و سائر حججهم الآتية، كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.
و قد ظهر بما بيّناه و هن ما ذكره المحقّق الشريف في شرح المفتاح عند بيان القول المذكور من أنّ الموضوع له عندهم هو الأمر الكلّي بشرط إستعماله في جزئيّاته المعيّنة، و قال في حاشية له هناك: إنّ لفظة «أنا» مثلا موضوعة على [هذا] «1» الرأي لأمر كلّي هو المتكلّم المفرد، لكنّه اشترط في وضعها أن لا يستعمل إلّا في جزئياته، ثمّ حكم بركاكة القول المذكور و استصوب القول الآخر، إذ ليس في كلام الذاهبين إلى القول المذكور إشارة إلى ذلك عدا شذوذ من المتأخّرين كالتفتازاني في ظاهر كلامه كما أشرنا إليه، و كأنّه ألجأه الى ذلك ما يتراءى من توقّف تصحيح كلام القائل به على ذلك؛ نظرا إلى ما ذكر في هذه الحجّة و غيرها، كما يظهر من التفتازاني في إلتزامه به.
و قد عرفت ممّا قرّرناه في بيان القول المذكور أنّه لا حاجة إلى اعتبار الشرط المذكور أصلا و لا إلى التزام التجوّز في استعمالاتها المتداولة كما ادّعاه جماعة من الأجلّة.
ثمّ إنّه لا ريب في أنّ القول المذكور على ما قرّره في كمال الوهن و الركاكة،
__________________________________________________
(1) لم يرد في الأصل.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 186
و في اعتبار الشرط المذكور في أوضاع تلك الألفاظ من السماجة ما لا يخفى، بل مرجع ذلك بمقتضى ما ذكروه- من كون الاستعمال في الجزئيّات بخصوصها لا من حيث انطباق الكلّي عليها- إلى كون تلك الألفاظ بمقتضى الاشتراط المذكور متعيّنة في الحقيقة بإزاء تلك الجزئيّات، فيكون مرجعه على أقبح الوجوه إلى القول الآخر.
نعم، لو قيل بأنّ استعمالها في الجزئيّات لا من حيث الخصوصيّة بل من حيث انطباق الكلّيات التي وضعت بإزائها عليها فيجعل ثمرة الاشتراط المذكور عدم جواز استعمالها في تلك الكلّيات على الوجه الآخر نظرا إلى كون الوضع توقيفيا فلا يجوز التعدّي فيه عمّا اعتبره الواضع أمكن أن يوجّه به القول المذكور، إلّا أنّ فيه خروجا عن الطريقة المعروفة في الأوضاع؛ لا أنّ فيه تفكيكا بين الوضع و لازمه كما ادّعي في الاحتجاج المذكور.
ثانيها: أنّها لو كانت موضوعة للمعاني الكلّية لكانت الألفاظ المذكورة مجازات لا حقائق لها؛ نظرا إلى عدم استعمالها في المعاني الكلّية أصلا، و هو مع ما فيه من البعد لا وجه للالتزام به من دون قيام دليل ظاهر عليه، إذ لا داعي لحمل الإستعمالات المعروفة على المجاز و القول بوضع تلك الألفاظ المتداولة لمعنى لم تستعمل فيه أصلا، كيف و من المقرر كون الأصل في الاستعمال الحقيقة حتّى يتبيّن المخرج، مضافا إلى أنّه لو كان الحال فيها على ما ذكر لما احتاجوا في التمثيل للمجازات التي لا حقائق لها إلى التمسك بالأمثلة النادرة كلفظ «الرحمن» و الأفعال المنسلخة عن الزمان مع ما فيها من المناقشة، و كان التمثيل بالألفاظ المذكورة هو المتعيّن في المقام، ففي العدول عن ذكرها إلى التمثيل بتلك الأمثلة الخفيّة دلالة ظاهرة على فساد القول المذكور.
و الجواب عنه ظاهر ممّا بيّناه، إذ لا داعي إلى التزام التجوّز في تلك الألفاظ بالنظر إلى إطلاقها على تلك المعاني الخاصّة، إذ ليس ذلك إلّا من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد، و من البيّن أنّه إنّما يكون على وجه الحقيقة إذا لم يؤخذ في
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 187
المفهوم المراد من اللفظ ما يزيد على معناه الموضوع له كما هو الحال في المقام، إذ ليس المراد من لفظة «هذا» مثلا في سائر الموارد إلّا أمرا واحدا و إن انطبق ذلك على امور مختلفة، و قد عرفت أنّ إطلاقها على خصوص الأفراد من اللوازم الظاهرة لاستعمالها في معناه الموضوع له، حيث إنّه لا يمكن إرادتها من اللفظ إلّا في ضمن الفرد، فليست تلك الخصوصيات مرادة من اللفظ منضمّة إلى معناه الموضوع له في الاستعمال، بل إنّما تكون إرادة تلك الخصوصيات باستعمال تلك الألفاظ فيما وضعت له.
فما عزاه المدقّق الشيرواني رحمه اللّه إلى القائلين بعموم الموضوع له لتلك الألفاظ من التزام التجوّز في استعمالاتها الشائعة مبنيّ على توهم لزوم ذلك للقول المذكور لا على نصّهم عليه، و قد عرفت أنّه توهّم فاسد لا وجه لالتزامهم به، كيف و لو قالوا بذلك لكانت المجازات التي لا حقيقة لها أمرا شائعا عندهم لا وجه لاختلافهم فيها، و لا لتمسّكهم لها بتلك الأمثلة النادرة حسبما ذكر، ففي ذلك دلالة ظاهرة على كون الاستعمالات الشائعة واقعة عندهم على وجه الحقيقة، مع ذهابهم إلى كون الموضوع له هناك هو المفاهيم المطلقة دون كلّ من تلك الامور الخاصّة.
ثالثها: أنّ المتبادر من تلك الألفاظ عند الإطلاق إنّما هو المعاني الخاصّة دون المفاهيم الكلّية، و هو دليل على كونها موضوعة لذلك دون ما ذكر من المعاني المطلقة؛ نظرا إلى قيام أمارة الحقيقة بالنسبة إلى الاولى و أمارة المجاز بالنظر إلى الثانية.
و الجواب عنه ظاهر ممّا مرّ؛ لمنع استناد التبادر المذكور إلى نفس اللفظ، إذ مع عدم إنفكاك إرادة المعاني المذكورة من تلك الألفاظ عن ذلك و الدلالة على إرادة تلك الجزئيات بمجرّد الدلالة عليها من غير توقّف على أمر آخر غيرها لا يبقى ظهور في استناد التبادر المدّعى إلى نفس اللفظ؛ لينهض دليلا على الوضع، و ممّا ذكرنا يظهر الحال فيما ذكر من عدم تبادر المعاني المطلقة.
رابعها: أنّها لو كانت موضوعة للمعاني الكلّية لكانت تلك المعاني هي
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 188
المفهومة منها أوّلا عند الإطلاق، و كانت المعاني الجزئية مفهومة بواسطة الانتقال الى تلك المعاني بعد قيام القرينة الصارفة عن إرادتها كما هو الشأن في المجاز، و ليس الحال كذلك قطعا، إذ المفهوم من لفظة «هذا» مثلا هو الشخص المشار إليه من غير خطور لمفهوم المشار إليه أصلا.
و جوابه معلوم بعد القول بعدم التجوّز في شيء من تلك الاستعمالات، و أنّ إرادة تلك الخصوصيّات غير ممكنة الانفكاك عن إرادة الموضوع له حتّى يتوقّف فهمها على وجود القرينة، فهي إنّما تكون مفهومة بإرادة الموضوع له.
و دعوى عدم حصول واسطة في فهم الخصوصيّة من اللفظ بالمرّة ممنوعة، بل إنّما هو من جهة استحالة انفكاك إرادتها عن إرادة الموضوع له. نعم لما كانت الملازمة هناك واضحة جدّا يتراءى في بادئ النظر فهمها من اللفظ ابتداء، و ليس ذلك بظاهر عند التأمّل.
و ما ذكر من عدم خطور مفهوم المشار إليه بالبال إن اريد به عدم فهم ذلك المفهوم ملحوظا بالاستقلال كما هو الحال في لفظ المشار إليه فممنوع، و لا قائل بوضع لفظة «هذا» لذلك أصلا، و إن اريد به عدم فهم شيء اشير إليه و جعلت الإشارة مرآة لملاحظته فهو بيّن الفساد، كيف و ليس المفهوم من لفظة «هذا» في العرف إلّا ذلك.
خامسها: أنّه لو كان كما ذكروه لزم اتّحاد معاني الحروف و الأسماء؛ لكون كلّ من «من» و «إلى» و «على» موضوعا على هذا التقدير لمطلق الابتداء و الانتهاء و الاستعلاء التي هي من المعاني الإسميّة المستقلّة بالمفهوميّة؛ و لذا وضع بإزائها لفظ الابتداء و الانتهاء و الاستعلاء التي هي من الأسماء، و هو واضح الفساد، ضرورة اختلاف معاني الأسماء و الحروف بحسب المفهوم حيث إنّ الاولى مستقلّة بالمفهوميّة، و يصحّ الحكم عليها و بها بخلاف الثانية؛ لعدم استقلالها بالمفهوميّة و عدم صحّة الحكم عليها و بها أصلا، و يجري ذلك في الأفعال أيضا بالنسبة إلى معانيها النسبيّة، فإنّها أيضا معان حرفيّة، و مع البناء على الوجه المذكور
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 189
تكون معاني إسميّة مستقلّة بالمفهوميّة.
و الجواب عنه: أنّ الفرق بين المعاني الإسميّة و الحرفية ليس من جهة عموم الموضوع له في الأسماء و عدمه في الحروف حتى تتميّز المعاني الحرفيّة عن المعاني الإسميّة، على القول بوضع الحروف لخصوصيات الجزئيّات دون القول بوضعها للمفاهيم المطلقة، كيف و من البيّن أنّ جزئيّات تلك المفاهيم أيضا امور مستقلّة بالمفهوميّة على نحو مفهومها الكلّي، فكما أنّ مطلق الابتداء مفهوم مستقلّ كذلك الابتداء الخاصّ و إن افتقرت معرفة خصوصيّته إلى ملاحظة متعلّقه، فإنّ ذلك لا تخرجه عن الاستقلال و صحّة الحكم عليه و به، بل الفرق بين الأمرين في كيفيّة الملاحظة حيث إنّ الملحوظ في المعاني الإسميّة هو ذات المفهوم بنفسه، و الملحوظ في المعاني الحرفية كونه آلة و مرآة لملاحظة غيره.
و من البيّن أنّ ما جعل آلة لملاحظة الغير لا يكون ملحوظا بذاته، بل الملحوظ بالذات هناك هو ذلك الغير، فهذه الملاحظة لا يمكن حصولها إلّا بملاحظة الغير؛ و لذا قالوا: إنّها غير مستقلّة بالمفهومية، و إنّه لا يمكن الحكم عليها و بها؛ لتوقّف ذلك على ملاحظة المفهوم بذاته.
فحصول المعاني الحرفيّة في الذهن متقوّم بغيرها، كما أنّ وجود الأعراض في الخارج متقوّم بمعروضاتها، بخلاف المعاني الإسميّة فإنّها امور متحصّلة في الأذهان بأنفسها و إن كان نفس المفهوم في المقامين أمرا واحدا، و حينئذ فكما يمكن اعتبار جزئيّات الابتداء مثلا مرآة لملاحظة الغير فيقال بوضع لفظة «من» لكلّ منها كذا يمكن اعتبار مطلق الابتداء مرآة لحال الغير و يقال بوضع «من» بإزائه، فيكون مفهوم الابتداء ملحوظا بذاته من المعاني الإسميّة، و ملحوظا باعتبار كونه آلة و مرآة لحال الغير من المعاني الحرفيّة، مع كون ذلك المفهوم أمرا كليّا في الصّورتين.
و الحاصل: أنّه لا اختلاف بين المعنى الإسميّ و الحرفيّ بحسب الذات، و إنّما الاختلاف بينهما بحسب الملاحظة و الاعتبار، فيكون المعنى بأحد الاعتبارين
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 190
تامّا إسميّا، و بالاعتبار الآخر ناقصا حرفيّا، و يتفرّع على ذلك إمكان إرادة نفس المفهوم على إطلاقه في الإسماء من غير ضمّه إلى الخصوصيّة بخلاف المعنى الحرفي، إذ لا يمكن إرادته من اللفظ إلّا بضمّه إلى الغير، ضرورة كونه غير مستقلّ بالمفهوميّة في تلك الملاحظة، فلا يمكن إرادته من اللفظ إلّا مع الخصوصيّة حسب ما بيّناه، و ذلك لا يقضي بوضعها لكلّ من تلك الخصوصيّات.
فإن قلت: إنّ الابتداء المأخوذ مرآة لحال الغير لا يكون إلّا جزئيّا من جزئيّات الابتداء متقوّما في الملاحظة بخصوص متعلّقه، فلا يعقل أن يؤخذ مطلق الابتداء مرآة لحال الغير حتّى يكون مفاد لفظة «من» هو الابتداء على إطلاقه.
قلت: توقّف تحقّق الحيثيّة المأخوذة في الوضع على تحقّق المفهوم المذكور في ضمن جزئيّ من جزئيّاته و كون ما اطلق عليه اللفظ دائما خصوص الجزئيّات لا يستلزم أن تكون تلك الخصوصيّات مأخوذة في الوضع، إذ لا مانع من تعلّق الوضع بنفس المفهوم، و تكون تلك الخصوصيّات من لوازم الحيثيّة المعتبرة في المعنى الموضوع له، فلا يمكن استعمال اللفظ فيه إلّا في ضمن جزئيّ من تلك الجزئيّات حسب ما أشرنا إليه.
فاعتبار الابتداء مرآة لحال الغير إنّما يكون في ضمن الخصوصيّة المنضمّة إليه، و المعنى الملحوظ في الوضع هو القدر الجامع بينها، أعني مفهوم الابتداء من حيث كونه مرآة لحال الغير، فذلك المفهوم من تلك الحيثيّة لا يمكن حصوله و لا إرادته إلّا في ضمن الجزئيّات، من غير أن تكون تلك الجزئيّات ملحوظة حين الوضع و لو على سبيل الإجمال حسب ما ذكروه، فليس المقصود من كون مطلق الابتداء موضوعا له للفظة «من» أن يكون ذلك المفهوم بملاحظة حال إطلاقه- كما هو الحال في حال تصوّره- موضوعا له لذلك اللفظ، بل المقصود كون ذلك المفهوم لا خصوص جزئيّاته موضوعا له لذلك و إن اعتبر هناك حيثيّة في الوضع لا يمكن تحقّقها إلّا في ضمن الجزئيّات، فالموضوع له في ضمن تلك الجزئيّات هو القدر الجامع بينها، أعني مفهوم الابتداء من حيث كونه مرآة لملاحظة الغير، و تلك
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 191
الخصوصيّات من لوازم تلك الحيثيّة المعتبرة في الوضع، فذلك المعنى الملحوظ حال الوضع ليس موضوعا له للفظة «من» بتلك الملاحظة، ضرورة أنّه ليس في تلك الملاحظة مرآة لحال الغير، و إنّما هو إحضار لحالها الاخرى و هي حال وقوعها مرآة لحال الغير و عنوان لملاحظتها كذلك، كيف و المعنى الحرفي غير مستقلّ في الملاحظة، و تعلّق الوضع بالمعنى يستلزم استقلالها في اللحاظ، فلا يعقل تعلّق الوضع بالمعنى الحرفي من حيث إنّه معنى حرفي، بل ذلك المفهوم من حيث إنّه معنى اسمي يجعل عنوانا لكونه معنى حرفيّا و يوضع اللفظ بإزائه، فهو في تلك الملاحظة نظير ملاحظة المعدوم المطلق في الحكم عليه بأنّه لا يحكم عليه، كما هو الحال أيضا في الحكم على المعنى الحرفي بأنّه لا يحكم عليه و لا به، فلا تغفل. و يجري ما قلناه بعينه في المعاني النسبية الملحوظة في وضع الأفعال، إذ هي أيضا معان حرفية، و الحال فيهما على نحو سواء.
سادسها: أنّهم صرّحوا بأنّ للحروف و الضمائر و أسماء الإشارة و غيرها من الألفاظ التي وقع النزاع فيها معاني حقيقيّة و معاني مجازيّة، و يرجّحون حملها على معانيها الحقيقيّة مع الدوران بينها و بين غيرها حال الإطلاق، و هو لا يتمّ إلّا على القول بوضعها للمعاني الجزئيّة، إذ لو قيل بوضعها للمفاهيم الكلّية لزم أن يكون جميع تلك الاستعمالات مجازيّة، فلا وجه للتفصيل و لا لترجيح إرادة المعاني الحقيقيّة على غيرها؛ لوضوح اشتراك الجميع في المجازيّة بحسب الاستعمال.
و جوابه ظاهر ممّا ذكرنا فلا حاجة إلى إعادته.
هذا، و يحتجّ للقول بوضعها للمفاهيم الكلّية بوجوه:
أحدها: نصّ أهل اللغة بأنّ «هذا» للمشار إليه و «أنا» للمتكلّم و «أنت» للمخاطب و «من» للابتداء و «إلى» للانتهاء و «على» للاستعلاء إلى غير ذلك، و تلك المفاهيم امور كلّية.
ثانيها: أنّ ظاهر كلماتهم في تقسيم الألفاظ انحصار متعدّد المعنى في المشترك و المنقول و المرتجل و الحقيقة و المجاز، و لو كان الوضع في تلك الألفاظ
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 192
لخصوص الجزئيّات لكانت من متعدّد المعنى قطعا مع عدم اندراجها في شيء من المذكورات، فيكون قسما خامسا، و هو خلاف ما يقتضيه كلام القوم.
ثالثها- و هو أضعفها-: أنّها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيّات لزم استحضار ما لا يتناهى حال تعلّق الوضع بها، ضرورة توقّف الوضع على تصوّر المعنى، و هو واضح البطلان.
و اجيب عن الأوّل بحمل كلامهم على إرادة المصداق دون المفهوم، كيف و مقصودهم من بيان معاني تلك الألفاظ هو معرفة المراد منها في الاستعمالات، و من البيّن أنّ المراد منها في الاستعمال هو ذلك دون نفس المفهوم؛ للاتّفاق على عدم جواز الاستعمال فيه.
و عن الثاني بأنّ تقسيم الألفاظ إلى الأقسام المعروفة لمّا كان من القدماء و هم لمّا لم يثبتوا هذا النوع من الوضع لم يذكروه في الأقسام، و المتأخّرون مع إثباتهم لذلك لم يغيّروا الحال في التقسيم عمّا جرى عليه القوم، بل جروا في ذلك على منوالهم، و أشاروا إلى ما اختاروه في المسألة في مقام آخر.
و عن الثالث بما هو ظاهر من الفرق بين الحضور الإجمالي و التفصيلي، و القدر اللازم في الوضع هو الأوّل، و المستحيل بالنسبة إلى البشر إنّما هو الثاني.
قلت: و أنت بعد التأمّل في جميع ما ذكرناه تعرف تصحيح الوضع في المقام على كلّ من الوجهين المذكورين، و أنّه لا دليل هناك يفيد تعيين إحدى الصورتين و إن كان الأظهر هو ما حكي عن القدماء على الوجه الّذي قرّرناه؛ لما عرفت من تطبيق الاستعمالات عليه، فلا حاجة إلى التزام التغاير بين المعنى المتصوّر حال الوضع و الموضوع له، فإنّه تكلّف مستغنى عنه مخالف لما هو الغالب في الأوضاع، بل و كأنّه الأوفق عند التأمّل بظاهر الاستعمالات، و لو لا أنّ عدّة من الوجوه المذكورة قد ألجأت المتأخّرين إلى اختيار الوجه المذكور لما عدلوا عمّا يقتضيه ظاهر الوضع، و يعاضده ظاهر كلام الجمهور، و يؤيّده أيضا ظاهر ما حكي عن أهل اللغة.
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج1، ص: 193
و حمل كلامهم على الوجه المتقدّم و إن كان ممكنا إلّا أنّه لا داعي إليه مع خروجه عن الظاهر، و ما ذكر من قيام الشاهد عليه مدفوع بما عرفت من تصحيح الاستعمالات على كلّ من الوجهين المذكورين، و عليك بالتأمّل في ما فصّلناه فإنّي لم أر أحدا حام حول ما قرّرناه، فإن وجدته حقيقا بالقبول فهو من اللّه، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.
أمّا القسمة الثانية [تقسيم الوضع الخاص و العام و موضوع له كذلك]
فمحصّل الكلام فيه أن المعنى الملحوظ حين الوضع إمّا أن يكون جزئيا حقيقيا ممتنع الصدق على كثيرين أو كليّا قابلا للصدق عليها و على الأول فإمّا أن يضع اللّفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي من جهة خصوصيّة أو من جهة كونه مرآة لملاحظة عنوان كلّي و على الثّاني فإمّا أن يضع اللّفظ بإزاء ذلك المعنى الكلّي و يجعله مرآة لملاحظة أفراده المندرجة تحته و يضع اللّفظ بإزائها و الوضع في الأول خاصّ من حيث نفسه و من حيث الموضوع له أيضا و مثاله المعروف وضع الأعلام الشخصيّة لأنّها موضوعة لما يمتنع صدقه على متعدّد إذ المراد بالتعدّد هو التعدّد الفردي دون التعدّد الأحوالي فزيد مثلا موضوع لمعنى لا يقبل التعدّد الفردي و هي الذّات المتشخّصة الخارجية و إن كان قابلا للتعدّد من حيث الأحوال مثل الصّحة و المرض و نحوهما من الأحوالات المتخالفة و من هنا ظهر فساد ما توهّم من كون وضع الأعلام أيضا عامّا كوضع الكليات نظرا إلى كون الموضوع له فيها أمرا عامّا جامعا لتلك الأحوالات وجه الفساد أن المراد بالعموم و الخصوص في المقام ليس ما يعمّ العموم
بدائع الأفكار، ص: 40
و الخصوص الأحواليّين بل خصوص العموم و الخصوص الأفراديين و كذا ظهر أنّ وزان تلك الأحوالات المتعاورة على معاني الأعلام وزان الخصوصيات العارضة لمعاني أسماء الأجناس في عدم اعتبارها رأسا في الموضوع له و إنّما الفرق بينهما أنّ أسماء الأجناس موضوعة للمعاني الكلّية لا في حال الخصوصيّة و لا بشرطها بخلاف الأعلام فإنّها موضوعة للذات الخارجيّة في حال اقترانها لبعض الأحوال لا بشرطها فلا يؤثر تبدل الحال الموجودة حين الوضع في الموضوع له فإطلاق زيد عليه في حال كبره كإطلاقه عليه في حال صغره و ليس مبنيا على تعدّد الأوضاع و لا على نحو من التسامح كما في إطلاق المقادير على ما ينقص عن حقائقها الأولية نقصا يتسامح فيه عادة و بعض من لم يتفطن إلى حقيقة الحال من الأفاضل اضطر في التفصّي عن تعدّد الوضع أو كلّيته إلى تعسّف ركيك و هو اعتبار إحدى المشخّصات المميّزة على وجه كلّي في الموضوع له و هو كما ترى مصادمة للبديهة لأنّ من يضع اسما لابنه لا يخطر بباله التشخص العارض فضلا عن اعتباره في الوضع مضافا إلى أن وضع الأعلام يكون حينئذ كوضع النكرة ضرورة اعتبار إحدى المشخصات لا بعينها في مسمّاها فيكون من القسم الثّالث و أمّا الأعلام الجنسيّة فقد توهّم أنّ الوضع و الموضوع له فيها أيضا خاصّان و الظّاهر أنّها من القسم الرّابع لأنّ علميتها كما صرّح به المحقق الشريف تقديرية أي حكمية و إلاّ فمداليلها مفاهيم كلّية كمداليل أسماء الأجناس (و توضيح المقام) أنه لو قلنا بأنّ علم الجنس موضوعة للماهيّة الحاضرة في الذهن بشرط الحضور الذّهني كان الأمر كما ذكره من كون الوضع فيه شخصيّا ضرورة استحالة صدق المهية بالاعتبار المذكور إلاّ على نفسها فلا يصدق على فرد فضلا عن أفراد كثيرة و أمّا لو قلنا بأنّ العلميّة فيه تقديريّة كما صرّح به المحقّق الشّريف وفاقا لبعض الأفاضل كما هو الظّاهر ضرورة صدق أسامة على الفرد كإطلاق أسد عليه كان من قبيل الثاني في عموم الوضع و الموضوع له و أمّا النكرة فإن قيل بوضعها للمهية أو للفرد المنتشر و قيل إنه كلّي كما ذهب إليه بعض الأعاظم فلا إشكال في كونه من القسم الثالث و أمّا لو قيل بأنها جزئي ففي كونه منه نظر لأنّ المناط في عموم الوضع كون المعنى الملحوظ في حال الوضع كلّيا إلا أن يقال إنّ المناط فيه عدم كون المعنى الملحوظ جزئيا معينا كالأعلام لا على كونه كلّيا قابلا للصّدق على كثيرين و هو جيد هذا كله مبني على أن يكون النكرة وضعها وضعا واحدا و أمّا إذا قيل بأنّ الفرد مستفاد من وضع التنوين و الماهيّة من المادّة جرى ما ذكرنا إلى آخره بالنّسبة إلى وضع التنوين و أمّا المدخول فهو من القسم الثالث الآتي و في الثاني أيضا خاصّ و لكن الموضوع له عام و هذا القسم من الوضع غير معهود عند العلماء و لم نجد مصرحا به و إن حكي عن بعض بل صرّح غير واحد أولهم المحقّق الشريف في حاشية شرح العضدي بامتناعه معلّلا له باستحالة كون الفرد وجها من وجود الكلّي و قيل برجوعه إلى القسم الرّابع إذ المعتبر فيه كون الموضوع له عامّا سواء لوحظ في نفسه أو في ضمن فرده و لكن الظّاهر أنه قسم برأسه و هو أمر شائع ذائع و ليس ببديع و يحتمل أن يكون من هذا القبيل المقادير بناء على كونها حقيقة في القدر المشترك بين التام و النّاقص الّذي يساوق التام في الفائدة المقصودة بل من هذا القبيل وضع أكثر المركّبات الخارجيّة فإن إطلاقها على الناقص الّذي لا يعتنى بنقصانه حقيقة في عرف واضعه جدّا مع عدم تعدّد الوضع و لو بالأصل (و توضيح المرام) أنّ الواضع قد يلاحظ معنى و يضع اللّفظ بإزائه من حيث كونه ذلك المعنى كما إذا وضع لفظا للإنسان من حيث إنه إنسان أو لزيد من حيث كونه زيدا و يتبع الوضع حينئذ ذلك المعنى في العموم و الخصوص فإمّا عام مطلق أو خاصّ كذلك و قد يلاحظ معنى و يجد فيه معنى آخر و يضع اللّفظ بإزائه لا من حيث كونه ذلك المعنى بل من حيث اشتماله على ذلك الآخر كما لو اخترع الطّبيب معجونا مركبا من أمور في علاج مرض و وضع لفظا بإزائه لكن لا من حيث كونه ذلك المركب بل من حيث اشتماله على تلك الفائدة و نظيره في الأحكام الشرعية المنصوصة العلّة فالوضع التوقيفي كالحكم التوقيفي قد يكون ثابتا لموضوع لأنّه ذلك الموضوع و قد يكون ثابتا له باعتبار مناط موجود فيه و إن كان هذا بالمال إثباتا للحكم لذلك المناط فقوله كلّ مسكر حرام مساو لقوله حرمت
الخمرة لإسكاره في عموم الموضوع إلا أنّهما متفاوتان في كيفيّة البيان و الجعل فكما أنّ الحكم في مثل قوله حرمت الخمر لإسكاره يسري إلى كلّ مسكر عند الشارع كذلك الوضع لأمر مركب باعتبار اشتماله الفائدة يسري إلى كلّ ما يفيد فائدة الكل من الأجزاء حتى لو فرض أنّ فاقد الجزءين أو الثلاثة مثلا يؤثر النفع المقصود و لو في حال دون حال دخل تحت المسمّى و من هذا القبيل إطلاق السكنجبين مثلا على المركب من الخلّ و السّكر مع كون الموضوع له الأولي هو المركب من الخلّ و العسل و هكذا إطلاق أسامي المعاجين على غير تامة الأجزاء إذا أفاد فائدتها و لو في بعض الأحوال فإنه في تلك الحالة تندرج تحت الاسم حقيقة باعتبار عموم الموضوع له و إن كان الوضع مختصا بالفرد الأوّل التام و من هذا الباب ألفاظ العبادات على المذهب الصّحيحي فإن إطلاقها على العبادات الصحيحة مع ما بها من الاختلافات الفاحشة الواضحة في الحقيقة ليس مبنيا على تعدّد الوضع و لا على الحقيقة و المجاز بل على الوجه الّذي بيّنا من كون الوضع خاصّا و الموضوع له عامّا على أحد الاحتمالين كما سنحققه إن شاء الله تعالى في تلك المسألة و الحاصل أن الوضع إذا تعلّق بالفرد باعتبار وجود صفة فيه سرى إلى كلّ ما تجد فيه تلك الصّفة أمّا على وجه الاشتراك المعنوي بأن يكون غرض الواضع من وضعه للفرد كونه مثالا للكلّي الموجود فيه و جعله مرآة لملاحظة حاله و يكون الموضوع له هو ذلك الكلّي كسائر المشتركات المعنوية و يكون الفرق بينهما مع عموم الموضوع له فيهما في كيفية الوضع و في آلة الملاحظة فإن كان الوجه في عدم
بدائع الأفكار، ص: 41
جعله قسما مستقلا مساواته للمشتركات المعنوية الّتي يكون الوضع و الموضوع له فيها عامين في عموم الموضوع له و إن تفارق عنها في كيفية الوضع و آلة الملاحظة لزم حصر الوضع في قسمين لأنّ القسم الأخير الّذي صرّحوا بأنّ الوضع فيه عام و الموضوع له خاصّ يساوي الأعلام و المشتركات المعنوية في عموم الموضوع له و خصوصه على حسب اختلاف الجزئيات المندرجة تحت العنوان العام الملحوظ في حال الوضع لأن ذلك ينحل إلى أوضاع متعدّدة فيتبع كلّ وضع ما تعلّق به من الجزئيات في العموم و الخصوص و إن كان الوجه عدم الفرق بينهما بوجه فقد عرفت فساده أو على الاشتراك اللّفظي بأن يكون خصوصية الفرد لها مدخليّة في الموضوع له عند الواضع و حصل تعدّد الأوضاع من تصرف تبعة الواضع بأن استعملوه في غير ذلك الفرد الّذي يساويه في الفائدة على وجه المسامحة و الحقيقة الادّعائية دون التجوّز إلى أن صار حقيقة كما هو أحد الوجهين في ألفاظ العبادات على القول بوضعها للصّحيحة فيكون كسائر المشتركات اللّفظية إلا أنّ التعدد في المشتركات جاء من قبل الواضع و هنا جاء من قبل التّبعة فظهر أنّ هذا القسم من الوضع مغاير لبقيّة الأقسام في وجه فلا وجه لإهماله مع ابتناء أصل تقسيم الوضع إلى أقسامها المشار إليها على مراعاة المغايرة في الجملة كما ظهر أنّ مرجعه إلى قسم خاصّ من الاشتراك المعنوي أو اللّفظي و نظير الأوّل المنصوص العلّة على مذهب المشهور و نظير الثاني المنصوص العلّة على مذهب السيد و العلل المسوقة لبيان حكم التشريع كزوال الرّيح في غسل الجمعة و الحاصل أنه لا بدّ من تربيع الأقسام بل تخميسه لأنّ القسم الأوّل ليس على حدّ سائر المشتركات المعنوية و كذا القسم الثاني ليس على حدّ سائر المشتركات اللّفظية لأنّ الاشتراك فيه إنّما حصل من تصرف التبعة و فيها إنّما حصل من تعدّد الوضع من الواضع و كذا ليس على حدّ المنقول لأنّ المنقول قد عرفت كونه مسبوقا بالاستعمالات المجازيّة الّتي لا يرجع إلى المسامحة و الادعاء و منه يظهر أنه لا منافاة بين ما حققنا هنا و بين ما أنكرنا سابقا من عدم وجود الاشتراك الحاصل من الاستعمال المجازي في الأوضاع اللّغوية لأنّ الّذي أنكرنا هو حصول الاشتراك بالتجوز لا بالحقيقة الادعائية فافهم و اللّه الهادي و في الثالث عام من حيث نفسه و من حيث الموضوع له و المناقشة في ذلك بأنّ المعاني الكلية لم توضع لها الألفاظ بملاحظة عمومها على ما هو المختار المحقّق في مسألة المطلق و المقيد بل بملاحظة إهمالها و كونها لا بشرط حتّى من شرط الإهمال ركيكة بعد وضوح المراد و رجوع التّسمية إلى نحو من الاصطلاح مضافا إلى أن عموم الموضوع له لا يستلزم اعتباره فيه و هذا القسم من الوضع لا إشكال فيه و لا خلاف و في الرابع عام من حيث نفسه و خاص من حيث الموضوع له و هذا موضع المشاجرة بين العلماء فذهب أكثر من تأخّر عن العضدي إلى ثبوته و محلّ النّزاع كلّ لفظ لا يستعمل إلاّ في جزئيات مفهوم كلّي باعتبار كونها جزئيات ذلك المفهوم و أمّا ما يستعمل في جزئيات مفهوم واحد لا باعتبار كونها جزئيات له فهو لا يتصوّر إلاّ على وجه الاشتراك اللّفظي و قالوا به في أوضاع المبهمات الثّلاثة و الحروف و الأفعال النّاقصة و التامة بالنّسبة إلى مدلولها النّسبي و من هذا القسم أيضا المركبات الّتي اختلف في ثبوت الوضع لها فإنّها بالنّسبة إلى مداليلها النّسبيّة مثل الأفعال و أمّا المشتقات بالمعنى الأخصّ كاسمي الفاعل و المفعول فصرّح في المعالم بأنها ليست من هذا القسم بل من القسم الثالث و هو الّذي يظهر من إمضاء السّلطان و نقل عن العضدي أنّها من هذا القسم و لعلّه أظهر لأنّ المناط على ما عرفت كلّ لفظ يكون دائم الاستعمال في جزئيات معنى من حيث كونها جزئيات له و هو بعينه موجود في اسم الفاعل أيضا كما يظهر بالتأمل و ربما يفصل في المقام و يقال إنّ وضع هيئة فاعل بالنّسبة إلى جزئياتها الإضافية ممّا نحن فيه و أما وضع تلك الجزئيات الإضافية كضارب بالقياس إلى جزئياتها الحقيقية من قبيل القسم الثالث و هذا التفصيل يمكن استفادته من تعليقة المدقق الشّيرواني على المعالم في مبحث الاستثناء المتعقب للجمل فارجع و لاحظ و هو جيّد لأنّ الضابط الّذي ذكرنا يجري فيها كجريانه في المبهمات فهيئة فاعل مثلا وضعها عام و الموضوع له هي الجزئيات الإضافية من المتلبّس بالمبدإ كالمتلبس بالضّرب و القيام و أمّا تلك الجزئيات الإضافية فالوضع و الموضوع له فيها عامّان و لا غضاضة في أن يتولّد من الوضع العام مع جزئية الموضوع
له بالإضافة أوضاع عامة من حيث نفسها و من حيث الموضوع له و ببالي أن هذا التفصيل قد صرّح به المحقق الشّريف في حاشيته على العضدي و كيف كان فقد اختلف في ثبوت هذا القسم من الوضع و نفيه إلى قولين و ذهب من تقدّم على العضدي على ما نسب إليهم إلى عدمه بل قيل إنه إجماع منهم و هو خيرة التفتازاني و بعض أجلّة المحققين من السّادات قال و لا يعرف علماء العربية متقدّمهم و متأخّرهم و كلّ من يرجع إليهم من أهل الأصول و غيرهم سواهما أي ما كان الوضع و الموضوع له فيه خاصّين كالأعلام أو عامّين كأسماء الأجناس إلى أن جاء المحقق العضدي فأبان من ضرب آخر من الوضع و هو ما يكون الوضع فيه عامّا و الموضوع له خاصّا و ذلك أنه و جد الحروف و الضّمائر و أسماء الإشارة و نحوها خارجة عنهما أمّا عن الأوّل فظاهر و أمّا عن الثّاني فلأنها لو وضعت للعام لاستعملت فيه يوما لكنّها لا تستعمل إلاّ في الخصوصيات إجماعا و ظاهر الاستعمال المستمر الحقيقة بل الإجماع منعقد على أنها ليست بمجازات فلم يبق إلا أن تكون وضعت للجزئيات بملاحظة الكليات و تلاه المحقق الشّريف و من جاء بعده و أهل العربيّة يقولون إن وضعها للكلّيات و إن لم يستعمل إلاّ في الجزئيات و هو قولهم كليات وضعا و جزئيات استعمالا (و الحق) أنّ دعوى الوضع و التعيين لكلّ جزئي جزئي دفعة واحدة
بدائع الأفكار، ص: 42
بملاحظة الكلّي كما يزعم هؤلاء حتّى يكون الوضع عامّا لخاصّ بمكان من البعد عن طرائق الوضع إنّما يعرف الناس في الوضع التعييني و أقصى ما علم من ذلك أنّها لا تستعمل إلاّ في الجزئيات و ذلك كما يحتمل أن يكون الوضع لها ابتداء على ما يقول هؤلاء كذلك يحتمل أن يكون للقدر المشترك بينهما و خصّ بها لداع كما يقول الباقون بل الظّاهر ذلك فإنّ المشتبه يلحق بالأعمّ الأغلب مع أنّ أئمة اللّغة و العربيّة لا يعرفون سواه و هو قولهم أنا للمتكلّم وحده و من الابتداء و لذلك لم يعدّوه في متكثر المعنى فكيف يدعى مع قيام هذا الاحتمال بل ظهوره أنّها موضوعة للجزئيات و هل هذا إلاّ ترجّم على الواضع و كيف يثبت الوضع بمجرّد الاحتمال بل ظهوره و إنّما طريقه النقل و ما يوجب العلم انتهى ما أردنا نقله من كلامه زاد اللّه في إكرامه و إنما لم نقتصر على بعضه لاشتماله على مجموع ما استدلّ به للقول الثاني و زائد مع ما به من البيانات الّتي لا يليق بأحد من أرباب هذا القول سواه و لنقدم على ذكر حجج القولين مقدّمات مشتملة على توضيح مقالة الفريقين و بعض ما يتفرع عليهما ليكون الدخول على بصيرة (الأولى) أنّ ظاهر الفريقين الاتفاق على أنّ هذه الألفاظ دائمة الاستعمال في جزئيات ذلك المعنى العام الملحوظ في حال الوضع فلا يجوز استعمالها في ذلك المعنى العام أبدا و هذا على القول الأوّل لا إشكال فيه لأنّ المعنى إذا لم يكن هو الموضوع له توقف الاستعمال فيه مجازا على الرّخصة الشّخصية و النوعيّة الّتي علم شمولها له و من هنا لم يطرد التجوز في كلّ لفظ بالنّسبة إلى كلّ معنى مجازيّ و أمّا على القول الثّاني ففيه إشكال لأنّ استعمال اللّفظ في المعنى الموضوع له لا يتوقف على رخصة الواضع لأنّ الواضع وظيفته إحداث العلقة الجعلية بين اللّفظ و المعنى و بعد حصول العلاقة الوضعيّة يكون اللّفظ كالعلاقة العقلية في الكشف عن المعنى قهرا و قضية ذلك جواز التعبير به عنه جدّا و قد يوجه ذلك بما ذكره المحقق المتقدّم و نسبه المحقق الشّريف إلى أرباب هذا القول من أنّ عدم الاستعمال إنما جاء من منع الواضع حين الوضع حيث اشترط في وضع الألفاظ المذكورة للمعاني المزبورة الكلية أن لا تستعمل إلا في جزئياتها و خصوصيّاتها الخارجية و مرجع ذلك إلى أن منع الواضع عن الاستعمال في نفس الموضوع له مانع لا أنّ الرخصة شرط حتى يرد ما تقدّم من أن الاستعمال في المعنى الموضوع له ليس بأمر توقيفي مراعى برخصة الواضع في الاستعمال و إلاّ انسد باب التكلّم بالألفاظ الموضوعة خصوصا الألفاظ العربيّة الّتي لم يتعارف استعمالها في العرف لعدم العلم برخصة الواضع في الاستعمال في شيء منها و إنّما المعلوم أو المظنون نفس الوضع فإن قلت إذا كان منع الواضع مانعا كان الرّخصة شرطا لأنّ المراد بالمنع ليس هو المنع الصّوري بل عدم الرّضا الواقعي فإذا كان عدم الرّضا مؤثرا في منع الاستعمال كان نقيضه و هو الرضا و الإذن شرطا فيعود المحذور قلت نعم لكن إذا لم يمنع الواضع فالإذن النوعي معلوم من شاهد حال الوضاع فيستكشف الشّرط و هو الرّخصة حينئذ من شاهد الحال نوعا و هذا مثل عدم توقف التصرف فيما يكون هناك شاهد حال على الإذن مع عدم الجواز في صورة النّهي فتأمّل فإن العلم بالرخصة و الوضع معا يحصلان من تحاور أهل اللّسان لا يقال إذا كان منع الواضع مؤثرا في الاستعمال فلا بدّ من إحراز عدم المنع في جواز الاستعمال و لو بالأصل مع أنّ العلم بالوضع كاف في العرف في جوازه من غير الالتفات إلى منع الواضع فضلا عن إحراز عدمه لأنا نقول يكفي في إحراز عدمه عدم العلم به أو الأصل المركوز في أذهان العقلاء العمل به من حيث لا يشعر و الحاصل أن ما التزم به الفريقان من دوام استعمالها في الجزئيات و عدم استعمالها في المعاني الكلية لا ينافي القول بوضعها لنفس تلك المعاني الكلية لأنّ الوضع شيء و الاستعمال شيء آخر و لا ملازمة بين موردهما في فعل الواضع و جعله فكما أنّ ترخيص الواضع استعمال اللّفظ في المعنى المجازي مشروط عند الواضع بنصب القرينة لئلا يلزم فوت غرض التّرخيص و استعمال الألفاظ اللاّزمة الإضافة في معانيها الحقيقية بذكر متعلّقاتها محافظة لخروج الكلام عن حدّ الإفادة الّتي هو الغرض من وضعها كذلك وضع هذه الألفاظ لمعانيها الكلية مقرون بشرط عدم استعمالها إلاّ في جزئياتها إذ لا فرق بين تعيين اللّفظ للاستعمال و بين تعيينه للمعنى فإذا جاز الاشتراط في الأوّل جاز في الثاني هذه غاية ما يحسن في
توجيه الاشتراط المزبور على القول بوضعها للمعنى العام و هو بعد كلام خال عن التحصيل أما أولا فلأنّ هذا الاشتراط لا يتصوّر له فائدة بخلاف اشتراط القرينة في الدّلالة على المعنى المجازي لتوقف الدلالة عليها و كذا اشتراط ذكر المضاف إليه في الأسماء اللاّزمة للإضافة فإنّه ممّا يتوقف عليه كون الكلام مفيدا مع أن ادّعاء اشتراط الواضع نصب القرينة في المجاز و ذكر المتعلّق و المضاف إليه في الأسماء اللاّزمة الإضافة مجازفة إذ الظاهر أنّهما ثبتا من مساس حاجة المتجوّز و المتكلّم بتلك الأسماء إليها ضرورة أنّ الإخلال بها نقض لغرض المتكلّم لا لغرض الوضع فإن قلت فائدته اختيار أخصر الطّريقين في جعل الكاشف و المعبّر عن المعاني الجزئية إذ لولاه لوقع في طريق آخر أطول و هو تعدّد الوضع قلنا أوّلا إن انفتاح باب المجاز في الألفاظ يوجب انسداد بابهما في ترخيص الواضع في أصل المجاز غنى و كفاية عن اختيار أحد الطّريقين و ثانيا أن تعدّد الوضع على نحو الإجمال ليس بأطول من الاشتراط المزبور فاشتراط الاستعمال في الجزئيات بمنزلة الوضع لها و كلّ منهما قائم بغرض الواضع أعني جعل الكاشف من غير تفاوت في الاختصار و الإطالة و ثالثا أنّ الكلام في إبداء الفائدة لهذا الاشتراط من حيث تضمّنه لمنع الاستعمال في المعنى الموضوع له العام لا من حيث اشتماله على جعل الكاشف للجزئيات و ما ذكر لو تمّ فإنما يصلح فائدة له من الحيثية الأخيرة دون الأولى
بدائع الأفكار، ص: 43
كما لا يخفى للمتأمل فإن قلت فائدته عدم الوقوع في محذور التجوز مثل كلفة ذكر القرينة و نحوها و محذور الوضع أيضا لأنّ هذا الاشتراط من الواضع يجعل اللّفظ ظاهرا في المعنى الجزئي كظهور اللّفظ في المعنى الحقيقي من غير حاجة إلى تكلّف القرينة كما نصّ عليه المحقق المقدّم في طي كلماته ففائدته هي فائدة وضع الألفاظ قلنا تلك المعاني الجزئية لا تنفكّ عن القرائن المعيّنة و هي من لوازم وجودها كيف و الجزئي لا يكون جزئيا إلاّ بالمشخصات فلو كان الواضع قد أهمل الاشتراط المزبور و اكتفي بترخيصه الكلّي في التجوز لم يلزم رعيته أزيد ممّا يلزمهم على تقدير الاستعمال عن شرط الواضع و أمّا ثانيا فلأنّ هذا الاشتراط أمر غير معلوم و نصّ الواضع عليه أمر غير ثابت فينفي بالأصل لا يقال أصالة عدم الوضع تعارضه لأنّ الأمر دائر بين الاشتراط المزبور و بين الوضع للجزئيات لأنا نقول لا إشكال و لا خلاف في ثبوت وضع في الجملة و إنّما الإشكال في تعيين الموضوع له و يترتب على الأصل المذكور بطلان القول المزبور أيضا لأنّه لا ينفكّ عن هذا الاشتراط عند الجماعة لا يقال القدر المسلم إنّما هو وضع واحد لا الأوضاع المتعدّدة لتعدّد المعاني الجزئية فأصالة عدمها تعارضه بل تقدّم عليه لأنّا نقول الوضع الواحد المنحل إلى الأوضاع المتعددة حادث واحد و ليس بحوادث متعدّدة و الحاصل أنّ الوضع لمعنى عامّ أو لجزئياته بجعله آلة لملاحظتها في مرتبة واحدة من حيث التعدّد و الاتّحاد و أصالة عدم الوضع في كلّ منهما معارض بالأصل في جانب الآخر نعم على التّقدير الثّاني فالوضع سبب لحصول أوضاع متعدّدة للفظ واحد لكن الأصل في المسبّب لا يجري مع جريانه في السّبب كما تقرّر في محلّه إلاّ أن يقال أن الأصل السّببي في المقام مبتلى بالمعارض فيلاحظ جريان الأصل حينئذ في المسبّب فإن قلت يعلم الاشتراط من محافظة أهل العرف لدوام الاستعمال في الجزئيات و عدم الاستعمال في المعنى العام رأسا و التزامهم بذلك قلت الالتزام أعمّ من أن يكون مستندا إلى الوضع و الاشتراط و العام لا يدل على الخاصّ نعم لو ثبت الوضع للمفاهيم الكلّية أمكن إثبات شرط الاستعمال في الجزئيات من محافظة أهل اللّسان فهذا الكلام له وجه بعد تمامية ما يأتي من الأدلّة فقد تحقّق أنّ القول المذكور أعني القول بوضعها لذلك المعنى العام مشروطا بعدم استعمالها إلاّ في الجزئيات كلام ظاهريّ لا ينبغي صدوره من المحققين و قد يبنى صحّة القول المزبور على جواز المجاز بلا حقيقة مثل الرحمن و الأفعال المنسلخة عن الزّمان فإنّ استعمال هذه الألفاظ في الجزئيات و إن لم يكن على وجه التجوّز على ما يدّعيه بعض كما سيجيء لكن المصحح للمجاز بلا حقيقة يصحّح كون الموضوع له هي المعاني الكلية مع عدم استعماله الألفاظ المذكورة فيها و فيه مضافا إلى ابتنائه على أصل نظر و شاذ أنه إنما يتم لو كان المراد بالمجاز بلا حقيقة المجاز بلا حقيقة سابقة و لاحقة و أمّا إذا كان المراد المجاز بلا حقيقة سابقة فجوازه لا يستلزم صحّة هذا القول كما لا يخفى لأنّه يستلزم مجازا لم يسبقه حقيقة و لا يلحقه أيضا مع أنّ المجاز بلا حقيقة و لو وصل إلى درجة النقل كما هو المقصود في المقام يجوز استعماله في المعنى الموضوع له مجازا و ليس الحال كذلك فيما نحن فيه و الّذي يمكن أن يقال في رفع الإشكال على القول المزبور هو أنّ تلك المعاني الكلية الملحوظة آلة لتعرف جزئياتها إما معاني إنشائية غير قابلة لاستعمال اللّفظ فيها مع محافظة ما يعتبر فيها من حقيقة الإنشاء سواء كانت هي بأنفسها موضوعا لها أو كان الموضوع لها جزئياتها أو متضمّنة للإنشاء بيانه أنّ المعاني على قسمين أحدهما ما ليس حاصلا من فعل المتكلّم و لا داخلا تحت أفعاله بحيث يكون موجده و مخترعه هو المتكلّم و ذلك كالماهيات الكلّية أو الجزئية الّتي تحكي عنها الألفاظ و الثاني ما كان حاصلا من فعله و داخلا تحت أفعاله الاختيارية نظير سائر أفعاله القائمة بجوارحه مثل الحركة و السّكون و الأكل و الشّرب و نحوهما فكما أن للإنسان أفعال اختياريّة يوجدها بجوارحه كذلك له أفعال اختيارية يوجدها بقلبه و نفسه النّاطقة و هذا معنى ما يقال في معنى النّية إنّها فعل تفعل بالقلب و هذه مثل الطّلب و نحوه من المعاني الإنشائية فإنّها حقيقة أفعال للمنشئ يصدر منه حين صدور اللّفظ و المضايقة عن كون الطّلب من مقولة الفعل لأنّه عين الإرادة الّتي هي عبارة عند المحققين عن التّصديق و الإذعان بالنفع و المصلحة لا يضرّ بما نحن بصدده و كما يجب في الحكمة وضع اللّفظ بإزاء
الطّائفة الأولى كذلك يجب بإزاء الطّائفة الثّانية لأنّ التعبير عنها أيضا من أشدّ حوائج الإنسان كالتعبير عن الطّائفة الأولى من غير فرق لكن التعبيرين مختلفان من حيث الكيفيّة لأن التّعبير عن الأولى باللّفظ عبارة عن تصوّرها و إحضارها في الذّهن عند صدور اللّفظ و عن الثانية عبارة عن إيجادها و خلقتها و اختراعها عنده و من الواضح أنّ الإيجاد و الاختراع لا يتعقلان على كلّيتهما و عمومهما فمتى كان اللّفظ موضوعا بإزاء شيء من المعاني الإنشائية امتنع استعمالها في نفس ذلك المعنى الإنشائي على عمومه بل لا بدّ من استعماله في جزئي من جزئيّاته تحقيقا لحقيقة الاستعمال لأنّ الاستعمال في المعنى الإنشائي عبارة عن إيجاده عند التلفظ باللّفظ الموضوع بإزائه و إيجاد المعنى على كليته بمعنى كون ذلك الموجود كلّيا أمر مستحيل لأنّ الكلّية ممّا لا تتصف بها المعاني الموجودة بالبداهة فعدم استعماله صيغة افعل في الطّلب الكلّي الّذي هو آلة لملاحظة أفراده الخارجيّة ليس لأجل رجوعه إلى شرط وضعي على القول بكونه الموضوع له بل لعدم قابليته للاستعمال بالمعنى الّذي عرفت معناه و استوضح الحال من التأمل في مفهوم الطّلب و حقيقته و إيجاده فإنّ مفهوم الطّلب ليس معنى إنشائيا غير قابل للاستعمال على كلّيته و لذا يستعمل فيه اللّفظ الّذي وضع بإزائه من غير اعتباره في
بدائع الأفكار، ص: 44
فرد خارجي و كذا لفظ الإيجاد بخلاف حقيقة الطّلب فإنّه معنى إنشائي لا يقبل الاستعمال على كلّيته فمتى أريد الإتيان بكاشف عن مفهوم الطّلب أتي بلفظ الطلب و متى قصد التّعبير عن حقيقة الطّلب و استعمال لفظ فيه لزم إيجاد الطّلب مقارنا للكاشف و مثل الطّائفة الأخيرة المعاني المركبة من الطّائفتين كمدلول صيغة افعل و مادته فإنه معنى خارجي غير إنشائي مقرون بمعنى إنشائي أعني الطلب فهذه أيضا لا يتصوّر استعمال لفظ فيها على كلّيتها الملحوظة حال وضع اللّفظ لها إذا تحقق ذلك (فنقول) إنّ المبهمات إنّما وضعت لأمور مقرونة بمعاني إنشائية فلفظة هذا موضوعة لمذكر عاقل مقرونا بإنشاء الإشارة الخارجية إليه لا للمشار إليه المذكّر فإن أريد التعبير عن المشار إليه أتي بلفظ المشار إليه و لم يجز استعمال هذا حينئذ و كذا الضّمائر فإنّ هو مثلاً موضوعة لمذكّر غائب مقرون بالعهد الفعلي و مرجعه أيضا إلى نحو إشارة خاصّة و لو كانت على وجه الغيبة لا للمذكر الغائب و أنا مثلا موضوعة للمتكلّم في حال إيجاد الكلام الّذي هو معنى إنشائي كسائر الأفعال و أنت مثلا موضوعة للمخاطب في حال المخاطبة و كذا الموصولات فإنّها موضوعة لشيء مبهم مقرون بذكر صلته الكاشفة عن حقيقته لا للمتعيّن بصلته و إن أريد التعبير عن المشار إليه أو المذكر الغائب أو المتكلّم أو المخاطب أو المتعيّن بصلته لم يجز استعمال تلك المبهمات جدّا بل وجب الإتيان بألفاظ أخر مثل المشار إليه و المذكر الغائب و المتكلّم أو المخاطب و المتعيّن بصلة لأنّها لم توضع لها أنفسهما بل لهما في حال مقارنتها بتلك المعاني الإنشائية على حسب اختلاف كيفيّتها و قول النّحاة إنّ هذا موضوعة للمشار إليه المذكّر و أنا مثلا للمتكلّم بيان لما يتعلّق بها تلك المعاني الإنشائية لا أنّها معانيها مطلقا أ لا ترى أن علماء البيان جعلوا أسماء الإشارة و الموصولات و الضّمائر من أسباب تعريف المسند إليه أو المسند فإنّ ذلك مبني على كون اسم الإشارة و سائر المبهمات مأخوذا في معانيها التّعيين الّذي هو معنى إنشائي على اختلاف كيفيّة لا أنّها موضوعة للمعاني المتعينة كالأعلام فتأمّل و أمّا الحروف فالمعنى العام الملحوظ حال وضعها و إن كانت من قبيل الطّائفة الأولى كما يظهر بالتأمّل إلا أنّها موضوعة على القول المزبور لحقيقة ذلك المعنى العام الخارجية لا لمفهومه و إلا كانت معانيها مستقلة بالمفهومية كما تقدم توضيحه في رد المحقّق المتقدم فالمعنى العام الملحوظ في وضع من مثلا عنوان الابتداء الآلي أي ما كان صفة الآليّة ثابتة له في الخارج لا لمفهوم الابتداء الآلي كلفظ الآلة و من الواضح أنّ الاستعمال في ذلك المعنى العام الملحوظ على كليته أمر مستحيل ضرورة منافاة اعتبار الآليّة الفعلية للكلية كما لا يخفى و هكذا الكلام في مدلول الأفعال و المركّبات الإسنادية فإنّها بالنّسبة إلى مداليلها النّسبية وضعها كوضع الحروف و معانيها كمعانيها أمور إضافية نسبيّة قائمة بالمنتسبين على اختلاف كيفياتها و المعاني النّسبية إنما تكون تلك المعاني بعد ذكر أطرافها فكيف يعقل استعمال لفظ فيها على كلّيتها الملحوظة في حال الوضع كما مرّ توضيحه في البديعة السّابقة و ممّا ذكرنا و أطلنا ظهر أن ما أورد على القول المزبور من عدم استعمال لفظ هذا مثلا في ذلك المعنى العام الملحوظ حين الوضع أعني المشار إليه الكلّي قطّ و عدم استعمال الموصول في الكلي المتعيّن بصلته أبدا و عدم استعمال أنا مثلا في كلّي المتكلّم رأسا فكيف تكون هي الموضوع لها مبني على نحو من الاشتباه و الغفلة عن حقيقة ذلك المعنى العام الملحوظ حيث توهّم أنّه في أسماء الإشارة مثلا المشار إليه و في الضّمائر هو المتكلّم أو المخاطب أو الغائب و في الموصول هو المتعيّن بصلة و لم يتفطّن إلى أن تلك المعاني العامّة الملحوظة في حين الوضع معاني اعتبر فيها المقارنة بالأمور الإنشائية من الإشارة و الخطاب في التّعيين أي حقيقة هذه الأمور و فعليتها الّتي هي أفعال للمتكلّمين و بذلك يظهر وجه بنائها لأنّ هذه المعاني الإنشائية اعتبرت فيها من حيث تعرف حال متعلّقاتها كالمعاني الحرفية فبنيت لأجل تضمّنها للمعاني النّسبيّة الآليّة ثم إنّ بيان معاني المبهمات و الحروف و الأفعال على الوجه الّذي حقّقنا من نفائس التحقيقات و هو قريب ممّا ذكره بعض أكابر المحققين بل يمكن دعوى اتحادهما بالمآل و إن كان ظاهر بعض بياناته يقتضي بالمغايرة و أنت خبير بأنّ مرجع ذلك إلى كون الموضوع له هي الخصوصيات لأنّ الذات المقرونة بالإشارة الفعليّة ليست مفهوما كلّيا قابلا للصّدق على كثيرين و كذا ذات الشّيء المتعيّن بصلة تعيينا فعليا و كذا غيرهما من المبهمات فأين كون الموضوع به كلّيا مع هذا التّحقيق على ما صرّح به
المحقّق المزبور توضيح ذلك أنه يقول اعتبر في مدلول لفظة هذا مثلا الإشارة الفعليّة و لهذا لا يستعمل إلاّ في الجزئيات لتوقف الإشارة الفعليّة على متعلّق خاصّ و يرد عليه أنّه إن أريد اعتبار مفهوم الإشارة في مدلوله فهذا لا يتوقف على متعلّق خاص و إن أريد مصداقها فهو جزئي لا محالة و هكذا الكلام في مدلول لفظ الأمر فإنّ المعنى العام الملحوظ في حال وضعه إن كان هو مفهوم الطّلب فهو ليس من قبيل الإنشاء حتى يمتنع استعمال اللّفظ فيه على كلّيته الّتي كانت عليها في حال الوضع و إن كان هو مصداق الطّلب فهو جزئي لا محالة و الحاصل أنّه فرق بين مفهوم الوجود و مصداقه و كذا مفهوم الإيجاد و الإنشاء و مصداقهما و المفاهيم كلّها أمور عامّة قابلة لاستعمال اللّفظ فيها و المصاديق كلّها جزئيات خارجيّة لا عموم فيها و اللّه الهادي (المقدّمة الثانية) إنّه لا ريب و لا خلاف في أن وزان استعمال الألفاظ المزبورة في جزئيات تلك المعاني العامة الملحوظة في حال الوضع ليس على وزان استعمال الألفاظ في معانيها المجازية المتعارفة من حيث تبادرها من الألفاظ و عدم الاحتياج إلى تأوّل أو قرينة كما في المجازات بل قد عرفت في كلام
بدائع الأفكار، ص: 45
السّيد المتقدم نقل الإجماع على عدم كونها مجازات و الجمع بين هذا و بين القول بأنّها أفراد للموضوع له لا نفسه لا يخلو عن غموض و خفاء و لذا صرّح المدقق الشيرواني في تعليقاته على المعالم بأنّ استعمال الحروف في المعاني الجزئية على القول بوضعها للمعنى العام مجاز و قد يجمع بينهما بأحد وجهين أحدهما ما أورده بعض المحققين و بنى عليه تزييف مقالة الشيرواني من أنّ استعمالها في الجزئيات على هذا القول من قبيل استعمال الكلّي في الفرد نعم استناد فهم الخصوصيّة إلى أمر خارج عن حاق اللّفظ و انتصر لذلك بأنّ المراد من لفظ هذا و نظائرها من المبهمات في سائر الموارد ليس إلاّ أمرا واحدا و إن انطبق ذلك على أمور مختلفة و قال في موضع آخر إنّ المفهوم من الّذي في جميع استعمالاته هو نفس شيء و إنّما الاختلاف في الخصوصيّات المأخوذة معه و ثانيهما ما ذكره السيّد المتقدم الّذي اختار هذا القول قال بعد ما أورد على نفسه بأنّه لو صح ذلك لكان استعمالها في الجزئيات مجازا و ليس كذلك إجماعا ما حاصله أنّ مراد القوم بعدم كونها مجازات عدم افتقار دلالتها عليها إلى نصب القرينة و هو كذلك لأنّ الاستعمال إذا كان عن شرط وضعيّ و عن تعيين الواضع و منعه من غيره مقرونا بما لا يفارق من الخصوصيّات اللاّزمة له جرى عليه حكم الحقيقة و ليس مرادهم بعدم كونها مجازات عدم استعمالها في غير ما وضع له كيف و هم قد صرّحوا بأنّها موضوعة للمعاني الكلية و كيف يجامع ذلك مع القول بأنّها مستعملة فيما وضع له فالجمع بين قولهم هذا و عدم كونها مجازات لا يتيسّر إلاّ بما ذكر ثمّ قال و إن أبيت عن ذلك قلنا إنّها واسطة بين الحقائق و المجازات من حيث وجود خواصّهما فيها فمن حيث عدم كون المتبادر منها سوى الجزئيات تكون كالحقائق و من حيث كونها مستعملة في غير ما وضعت له كالمجازات بل نقول إنّها حقائق أي مشتملة لملاك الحقيقة و مناطها الّذي هو الاستغناء عن القرينة في إفادة المراد و إثبات حقيقة جديدة غير مشمولة لحدّها المعروف ليس بأصعب من إثبات وضع جديد غير معروف عند أهل العربيّة انتهى كلامه رفع مقامه مع تهذيب و تحرير (أقول) أمّا التوجيه الأوّل فالقول به في جميع المبهمات مشكل لأن اسم الإشارة يدلّ بنفسها على الذات المشار إليها من غير الالتفات إلى الخصوصيات المكتنفة لأنّ الوجدان السّليم قاض بأنّ تلك الذات لا تستفاد من طريق تعدد الدّال و المدلول و كذا الضّمائر و أما الحروف فقد عرفت أن خصوصية ذكر المتعلّق ليس دخيلا في الدلالة بل في المدلول كما مرّ نعم ما ذكره يمكن إتمامه في مثل الّذي و نحوه من الموصول لكن الكلام ليس في خصوصه (فإن قلت) ليست لفظة هذا مثلا اسما ثانيا لذات زيد مثلا حتّى يكون دلالتها عليه كدلالة لفظ زيد بل دلالتها على ذات زيد عند الإشارة إليه من قبيل دلالة الكليات المستعملة في الأفراد عليها بقرينة المقام لأنّ هذا في حال الإشارة إلى ذات زيد إنّما تدلّ على ذات مقرونة بالإشارة الفعلية و خصوصيّة الزيديّة تستفاد من الحسّ و الإشارة الحسّية كما أنّ لفظ الرّجل إذا أشير إلى ذات زيد تدلّ على ماهيّة الرّجل و خصوصيّة الزيدية تستفاد من اللاّم العهدية فحال أسماء الإشارة كحال سائر الألفاظ الكلية المستعملة في الفرد مع استناد الخصوصية إلى أمر خارج عن حاق اللّفظ (قلت) الفرق بين هذا و لفظ زيد هو أنّ لفظ زيد يدل على الذّات المشخّصة ساكنا عن جميع الأمور الخارجة عن حاق الذات بخلاف هذا فإن وزانه وزان اللّقب و الكنية في الدّلالة على تلك الذات مع الدلالة على كونها محلّ الإشارة الفعليّة فإشعارهما بأمر خارج عنها من مدح أو ذمّ أو بنوة أو أبوة و ذلك لا يوجب عدم استفادة الخصوصية من حاق اللّفظ كما لا يوجب ذلك في اللقب و الكنية و منه يظهر فساد التنظير بمثل الرجل إذا أريد به زيد بطريق العهد و على هذا القياس حال الضّمائر مضافا إلى أن جعل فهم الخصوصية مستند إلى أمر خارج عن حاق الألفاظ خروج عمّا اتفق عليه الفريقان من كون المستعمل فيه خاصا لأنّ هذه الألفاظ تكون مستعملة في المعنى العام الكلّي حينئذ إلاّ أن يقال الاستعمال في الخصوصية في اصطلاح القوم ما يعمّ مثل ذلك أو يقال إن غرضهم من كون المستعمل فيه خاصا عدم استعمال هذا مثلا في مفهوم المشار إليه على وجه يتعلّق به الحكم على كلّيته و أنّها مستعملة في المفهوم المشار إليه على وجه يتعلّق به الحكم بفرده المستفاد من القرائن اللاّزمة لمجاري استعمالاته
و كلاهما كما ترى لا يلائم ظاهر كلامهم و تصريحهم بعدم استعمالها إلاّ في الجزئيات لأنّ الظّاهر منه كون المستعمل فيه هو خصوص الفرد من حيث خصوصيّته و هو المحسوس المشاهد في كثير ما جعلوه من هذا الباب (و أمّا التّوجيه الثاني) فلم نصل إلى لبّه و حقيقته سوى الاعتراف باستفادة الخصوصيّة من اللّفظ لكن بواسطة القرينة اللاّزمة الّتي اشترطها الواضع كما في سائر المجازات و أنّ الفرق بينهما لزوم القرينة و شرط الواضع في المقام دون سائر المجازات و هو موافق لما سمعت عن المدقق الشّيرواني إلاّ أن يقال إنّ غرضه إرجاع القرائن اللاّزمة إلى مقدّمات وجود المدلول لا الدّلالة نظير ما سلكناه و استظهرناه من كلام المحقق الشريف في الحروف بأن يقال إن ذكر الخصوصيات إنّما هو لأجل تحصيل حقيقة الفرد الّتي هي المستعمل فيها لا لأجل توقف الدلالة عليه كتوقف دلالة أسد على الرّجل الشجاع على ذكر يرمي و بالجملة فرق بين توقف الدّلالة على الشيء و بين توقف المدلول عليه فإنّ الدلالة مستندة إلى حاق اللّفظ في الثّاني و إن لم تحصل بدون ذكر ذلك الشيء الّذي يتوقف عليه تحقق المدلول لأنّ مثل ذلك لا يعدّ افتقارا إلى أمر خارج من اللّفظ و لذا ذكرنا وفاقا للمحققين أنّ ذكر المتعلّق في الحروف ليس ممّا يتوقف عليه الدلالة ابتداء بل بواسطة افتقار المدلول و المناط في كون الدلالة مستندة إلى أمر خارج لا إلى حاق اللّفظ هو كون المقصود في
بدائع الأفكار، ص: 46
الدّال ابتداء لا بواسطة قصور المدلول سواء كان ذلك المدلول هو الموضوع له كما في الحروف أو الموضوع له غيره كما في المقام (فنقول) لو لا حضور المشار إليه و تشخصه بالإشارة الحسّية لم يحصل حقيقة المشار إليه الكلّي الّذي هو المعنى العام الملحوظ في الوضع فلا يحصل الاستعمال في ذلك المعنى أيضا و كذا لو لم يذكر الصّلة بعد ذكر الموصول لم يكن الاستعمال في ذلك المعنى العام الملحوظ في حال وضع الموصول أعني الشيء المتعيّن بصلته تعينا فعليا و هكذا إلى سائر المبهمات و ما يضاهيها في هذا القسم من الوضع الّذي نتكلّم فيه و بهذا البيان ينقدح فساد جلّ الإيرادات الموردة على هذا القول بل كلّها فاحفظه و اغتنم (المقدّمة الثالثة) إنّ ترخيص الواضع استعمال اللّفظ في غير المعنى الموضوع له و بالجملة العدول عن الوضع إلى التّرخيص لا بدّ أن يكون لأحد أمرين إمّا الاستراحة عن كلفة الوضع مع توسيع دائرة التعبير أو التوصّل إلى فوائد التجوّز كالمبالغة و نحوها من المزايا الّتي ترجع إلى وجوه البلاغة (أمّا الأوّل) فهو إنّما يتصوّر فيما إذا حصل من ترخيص واحد إجمالي جواز التّعبير بلفظ واحد عن معان متعدّدة و لم يتحصّل ذلك من وضع واحد كذلك كما هو الشّأن في المجازات لأن ترخيص استعمال اللّفظ في جزئيات إحدى العلائق المعهودة على القول بكون المجازات متلقاة من الواضع بالوضع النّوعي الّذي هو عبارة عن الترخيص المزبور تصير منشأ لصحة التعبير بلفظ واحد عن الجزئيات المندرجة تحت تلك العلاقة بذلك الترخيص الواحد الإجمالي و لا يتيسّر ذلك باختيار طريق الوضع لأنّ الوضع للأمور المتخالفة لا يكون إلاّ بأوضاع متعدّدة إلاّ أن يقال إنّ المترتّب على الترخيص المذكور إنّما هو التعبير عن المعنى الكلّي كالمتشابه و المجاور و نحوهما و أمّا الجزئيات المستعملة فيها الألفاظ المجازيّة فإنّما يستفاد من قرائن المقال أو المقام فليس ترخيص الواضع استعمال لفظ أسد مثلا في ما يشابه معناه الحقيقي كالشّجاع سببا لجواز التعبير عن معان متعدّدة بلفظ أسد مجازا بل عن معنى واحد و هو كلّي المشابه و إن كان المستعمل فيه هو خصوص زيد و عمرو و نحوهما من أفراد الشّجاع فإنّ الخصوصيّة ليست ممّا يتعلّق بها التّرخيص تفصيلا أو إجمالا بل من الأمور اللاّزمة للاستعمال و ليست أيضا موردا للاستعمال من حيث الخصوصيّة حتى يلزمه سبك المجاز عن المجاز كما توهم بعض الأجلّة (فقال) إن نحو رأيت أسدا يرمي مجاز منسبك من المجاز و العلاقة في الأوّل المشابهة و في الثاني العموم و الخصوص لأنّ ذلك مبني على إرادة خصوصيّة زيد الشّجاع مثلا من لفظ أسد و للمنع فيه مجال واضح (و لا ريب) أنّ الوضع الواحد مكان الترخيص المزبور أيضا يفيد هذه الفائدة في جميع الألفاظ الكلّية فيكون أولى من الترخيص لإغنائه عن القرينة إلاّ أن يقال إنّ القرينة المعينة اللازمة على هذا التقدير كقرينة التجوّز على تقدير الترخيص فيكافأ الاحتمالان و يتوقف التّرجيح على الثّبوت لكون الوضع و الترخيص كليهما توقيفيّين لكن يمكن ترجيح جانب الوضع لأنه الأصل في الإفادة و الاستفادة و إن كان المجاز أيضا كثيرا فإنّه بالنّسبة إلى الوضع أقل قليل و حينئذ فينحصر فائدة ترخيص الاستعمال في غير ما وضع له في الثاني و هو التوصل إلى المبالغة و نحوها من وجوه البلاغة فحيث لم يترتب على الترخيص المزبور هذه الفائدة كان صدوره من الواضع قبيحا هذه حال اختيار طريق الترخيص (و أمّا) اختيار طريق الوضع فالأصل فيه أن يكون الغرض الاستعمال في الموضوع له و إلاّ فلا طائل تحته نعم بعض من جوّز المجاز بلا حقيقة ذكر أن الوضع قد يكون لأجل الاستعمال فيما يناسب الموضوع له و حاصل التوصل إلى فوائد المجاز فحيث كان الاستعمال في غير الموضوع له لا لأجل ملاحظة المناسبة بينه و بين الموضوع له كان الوضع لأجله لغوا قبيحا إذ لم يترتب عليه الاستعمال في الموضوع له أصلا و الحاصل أن وضع لفظ المعنى إذا لم يقصد منه الاستعمال في ذلك المعنى أو في مناسبه مع ملاحظة المناسبة لتحصيل بعض المزايا لغو صرف لأنّ الاستعمال في ذلك المناسب إن كان ناشئا عن وضع اللّفظ بإزائه فهو أولى من أن يكون ناشئا عن وضع اللّفظ بإزاء ذلك المعنى فلا يصلح الاستعمال المزبور غرضا لفعل الواضع أعني الوضع لذلك المعنى (و منه رحمه الله) يظهر أنّ القول بأن الغرض من وضع الألفاظ المتنازع فيها للمعاني الكلّية الاستعمال في جزئياتها من دون أن يكون في الاستعمالات فوائد المجاز في غاية السّخافة (إذا تمهدت المقدمات) قلنا إنّ المختار من القولين هو القول الأوّل و يدل عليه وجوه ثلاثة (الأوّل) أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة
للمعاني الكلّية يصحّ استعمالها فيها بلا ريب لأنّ جواز الاستعمال من اللّوازم الظّاهرة للوضع مع أنّ استعمال هذا في كلي المشار إليه المذكّر و استعمال أنا في كلي المتكلم و استعمال الّذي في كلي المتعيّن بصلته أمر غير معهود بين الأوائل و الأواخر بل غير صحيح في العرف و اللّغة و أجيب عنه بوجوه (الأوّل) أنّ عدم استعمال هذه الألفاظ في معانيها الكلّية إنما هو من جهة شرط الواضع ذلك و منعه منه في حال الوضع و الملازمة بين الوضع و الاستعمال إنّما تثبت إذا لم يمنع الواضع منه و أمّا مع المنع فالمتبع هو ما قرّره الواضع و لا يتعدّى عنه (و الثّاني) أن عدم الاستعمال إنما هو من جهة قصور تلك المعاني الكلية عن صلاحيّة الاستعمال فيها لا لمنع المواضع و الاستعمال إنّما يلازم الوضع إذا كان الموضوع له قابلا له و أمّا مع عدمها فالمتعيّن هو الاستعمال في أفراده و قد سبق وجه عدم القابلية بما لا مزيد عليه (أقول) و يرد عليهما أنّ الوضع حينئذ فعل سفهيّ لا ينبغي صدوره من الواضع لأنّ الوضع لمعنى بشرط عدم الاستعمال فيه أو لمعنى غير قابل للاستعمال لا يترتّب عليه فائدة (فإن قلت) فائدته
بدائع الأفكار، ص: 47
التعبير من جزئيات ذلك المعنى (قلت) هذه الفائدة تقتضي وضع اللّفظ لتلك الجزئيات لا لكلّيها ثم الاستعمال فيها بطريق التجوز و أي فائدة في كون الموضوع له شيئا و المستعمل فيه شيئا آخر (فإن قلت) فائدته إدراك مزايا المجاز (قلت) فوائد التجوّز لا تدرك إلاّ إذا احتمل المخاطب حين سماع اللّفظ إرادة المعنى الحقيقي حتّى يكون العدول عنه إلى المعنى المجازي بواسطة القرينة سببا لحصول بعض المعاني و أما مع علم المخاطب بعدم إرادة المتكلّم المعنى الموضوع له في أوّل الأمر فلا يترتّب عليه سوى ما يترتب على العلم بالوضع من محض الانتقال إلى المعنى مع أنك عرفت أن استعمال هذه الألفاظ في الجزئيات ليس مبنيّا على ما يبنى عليه سائر المجازات هذا مضافا إلى ما في الأوّل من الإيرادات الّتي سبقت في المقدّمة الأولى و ما في الثّاني من أنّا لا نعقل كلية المعنى الموضوع له على تقدير عدم قابليّته للاستعمال كما نبّهنا عليه آنفا (و الثالث) أنّ هذه الألفاظ مستعملة في المعاني الكلّية و الخصوصيات مستفادة من القرائن اللاّزمة للاستعمال و مرجعه إلى منع بطلان التّالي كما أنّ مرجع الأوّلين إلى منع الملازمة و جوابه أيضا قد ظهر في المقدّمة الثانية من مصادمته للوجدان في كثير من الألفاظ المزبورة مثل هذا و سائر أسماء الإشارة فإنّا لا نتوصل إلى ما أريد منها من المعاني الجزئية بطريق تعدّد الدّال و المدلول بل ننتقل إلى ذات المشار إليه مثلا من حاق لفظ هذا و أنّ الفرق بينه و بين علم تلك الذّات أنّه يدل على الذات و معنى زائد عليها أعني الإشارة الجزئية بخلاف العلم فإنه يدل على الذّات المجرّدة (و الرابع) أنّ هذا مقلوب على المستدلّ لأنّ هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للجزئيات لاستعملت في تلك المقامات الكلّية أيضا بطريق المجاز لأنّ صحّة استعمال اللّفظ في الكلّي مجازا من لوازم وضعه للجزئي مع أنّها لا تستعمل فيها قط و هذا الجواب بمكان من الضّعف و السّقوط و لا حاجة في ردّه إلى ما قيل من منع الملازمة المزبورة نظرا إلى عدم اطّراد التجوز في كلّ لفظ بالنّسبة إلى كلّ خارج لأنه لو تم لدل على عدم وضعها لشيء من المعاني لمكان هذا المحذور و الثّاني أنّ القول بكلية معانيها لو تم فإنّما يتم في غير الحروف و الأفعال و المركّبات كأسماء الإشارة و سائر المبهمات لأنّ القول به فيها يستلزم القول باستقلالها بالمفهوميّة و هو ضروري البطلان (ثمّ) الظّاهر أن أحدا لم يفرق بينها و بين الأسماء من الجهة المبحوث عنها لأنّ الّذي دعا المحققين إلى فتح باب هذا القسم من الوضع مشترك الثبوت بين جميع الألفاظ اللاّزمة الاستعمال في جزئيات مفهوم واحد (و أجاب عنه) بعض المحقّقين بما حاصله أنّ الفرق بين الحروف و الأسماء بعد اشتراكهما في عموم الموضوع له و كلّيته إنما هو من جهة اعتبار المرآتية في معاني الحروف دون الأسماء فعدم استقلال الحروف بالمفهوميّة إنما جاء من جهة الآلية لا من جهة جزئية معانيها كيف و لازم ذلك أن تكون المبهمات غير مستقلة بالمفهومية عند المتأخّرين (أقول) إشكال المسألة في أنّ معاني الحروف على تقدير كلّيتها ملحوظة بالاستقلال و قابل للإشارة المعنوية و يصح الحكم عليها و بها و لو كانت معان آليّة لأنّ الآلة قد تلاحظ بالاستقلال و قد تلاحظ بالتّبع و قد مر شرح ذلك فيما تقدّم عند تحقيق معنى الحروف فمجرّد كونها معان آليّة لا يكفي في عدم استقلالها و قد تقدّم أيضا كلام صاحب المحصول في توضيح عدم استقلال الحروف بالمفهوميّة مع كونها معان كلّية فارجع و تأمّل (و حاصل) الكلام في تزييف الجواب و تزييف ما ذكره صاحب المحصول هو أن كلمة من إن كانت موضوعة لمفهوم الابتداء الآلي فعموم الموضوع له مستقيم حينئذ لكن مفهوم الآلة معنى مستقلّ فضلا عن مفهوم الابتداء الآلي و إن كان موضوعه لمصداق الابتداء الآلي أي للابتداء المتّصف بالآلية الفعليّة فعدم الاستقلال حينئذ مسلم دون الكلّية و قد يجاب أيضا بأن ما اتفق عليه أهل العربية من عدم استقلال معاني الحروف يراد به عدم استقلال ما قصد منها في مجاري الاستعمالات إذ ليس المعنى سوى ما قصد من اللّفظ و إلاّ فنفس الموضوع له مع قطع النّظر عن الاستعمال و الإرادة لا يصدق عليه المعنى و جوابه أيضا قد أسلفناه حيث قلنا إن ظاهر علماء العربية إبداء الفرق بين الحروف و الأسماء في نفس المعنى الموضوع له دون المستعمل فيه (الثالث) أنّ الأصل في الاستعمال المستمرّ الحقيقة و قد اعترف به مدّعيا عليه الإجماع السيّد المتقدّم في محله عند اتحاد المستعمل فيه و الشكّ في كونه الموضوع له أو الموضوع له غيره و
لا ريب في أنّ المقام من مجاري الأصل المزبور (الرابع) أنّ القول بأنّها موضوعة لنفس المعاني الكلية ترجم على الغيب لأنّ طريق العلم به مسدود باعتبار عدم جريان شيء من طرق الوضع الآتية فيه أمّا التّبادر فباعتراف الكلّ و كذا عدم صحّة السّلب نعم قد يتخيل إمكان ثبوته بإخبار أهل اللّسان كما في سائر الألفاظ و هو اشتباه جلي لأن إخبار أهل اللّسان مبني على ما يجدونه في المحاورات و الاستعمالات فإذا علمنا بعدم استعمال اللّفظ في معنى قط كان إخبارهم بوضع اللّفظ له ساقطا عن درجة الاعتبار هذا إذا كان إخبارهم حجّة من غير إفادة العلم و أما على تقدير عدم الحجية كما هو الحق فالأمر أوضح مضافا إلى ما ستعرف من منع حجية إخبارهم بذلك هذه ما استحسنته من وجوه القول المشهور المنصور و ما سنح لي من الوجوه و هذه الوجوه سوى الأخير أدلّة على عدم كون الموضوع له هو المعنى العام و أمّا كون الموضوع له هي الخصوصيات فيثبت بالملازمة كما لا يخفى و أمّا القول الآخر فقد ظهر من كلام السيّد المتقدّم جلّ أدلّته أو كلّه مع الإشارة إلى وجوه فسادها أحدها و هو الأقوى تصريح علماء العربية و أهل اللّسان بأنّ هذا موضوعة للمشار إليه المذكور و أنا للمتكلّم و هكذا إلى آخر المبهمات و تصريح بعضهم فضلا عن إجماعهم حجّة و فيه أولا
بدائع الأفكار، ص: 48
منع الحجّية ما لم يفد العلم كما سنحققه إن شاء الله تعالى و ثانيا منع التصريح لأنّ كلامهم هذا كما يحتمل أن يكون بيانا لتمام الموضوع له كذلك يحتمل أن يكون بيانا لجنسه فيكون قولهم أنا للمتكلم مثلا قضية مهملة مسوقة لبيان كونها إشارة إلى المتكلّم لا المخاطب و لعلّ الثاني أظهر لأنّ ديدنهم بيان ما هو المفيد في مقام الإفادة و الاستفادة و معلوم أنّ بيان الموضوع له الّذي لا يستعمل فيه اللّفظ أبدا لا يجدي في ذلك المقام أبدا بل المجدي إنّما هو بيان المعاني الّتي يستعمل فيها الألفاظ لأنّه المرجع في الإفادة و الاستفادة و لو حمل كلامهم على بيان تمام الموضوع له و أنّه الكلّي دخل في حدّ اللّغو و خرج عمّا يقتضيه شهادة أحوالهم (فإن قلت) بيان جنس الموضوع له ليس فيه أيضا فائدة لأنّ الإفادة و الاستفادة متوقفان على معرفة تمام الموضوع له (قلت) نعم لكنهم تركوا التّصريح بأنّ الموضوع له هو أفراد ذلك الجنس ثقة بما هو المعلوم من استعمالات هذه الألفاظ أعني إرادة الفرد سلّمنا عدم الظّهور في ذلك لكنّه محتمل قويّا فلا يتم الاستدلال هذا و يمكن دعوى الظّهور في الأوّل بمقتضى القواعد اللفظية و هو الأخذ بإطلاق الكلام لأن ملاحظة الأفراد اعتبار زائد يدفع بالأصل و فيه تأمّل ينشأ من أنّ إحراز مقام البيان شرط في التمسّك بالإطلاق و لا سبيل إليه في المقام كما يظهر للمتدرّب و ثانيها أنّهم قسموا الألفاظ إلى متحد المعنى و متعدّده و المتعدّد إلى المشترك و المنقول و الحقيقة و المجاز و على تقدير وضعها للجزئيات بطل الحصر المزبور لأنّه ليس بمشترك و لا منقول و لا الحقيقة و المجاز (و أجيب) بأنّ هذا التّقسيم من القدماء و لما كان مذهبهم وضعها للمعنى العام حصروا الأقسام فيما ذكر و هذا الجواب قد عرفت ما فيه لأنّ قولهم بذلك ليس بمعلوم و الصّواب أن يقال إنّه داخل في المشترك غاية الأمر أن الأوضاع هنا إجمالية و في المشترك المعروف تفصيلية (و ثالثها) أنّ الوضع للجزئيّات يستلزم إحضار ما لا يتناهى و فيه ما لا يخفى
تنبيهان
الأوّل
ذهب العضدي فيما حكي عنه إلى أن الموضوع له هي الجزئيات الحقيقية و ذهب بعض المحققين وفاقا لظاهر القوانين إلى أنّها على تقدير وضعها للجزئيات فالموضوع لها أعم من الجزئيات الحقيقية و الإضافية قال و لا يجري ذلك يعني ما زعموه من كون الموضوع له جزئيا حقيقيّا في كثير ممّا جعلوه من هذا القسم كالحروف فإنها و إن وضعت عندهم لخصوص المعاني المتعينة بمتعلّقاتها إلاّ أنّها مع ذلك قد تكون مطلقة قابلة للصدق على كثيرين كما في قولك كن على السّطح و كن في البلد و نحوهما فإن كلا من الاستعلاء و الظّرفية المتعينتين لمتعلّقاتها في المثالين قد استعمل فيها لفظة على و في لكنّهما مع ذلك صادقان على أفراد كثيرة لا تحصى إلى أن قال و كذا الحال في أسماء الإشارة إن قلنا بوضعها للأعمّ من الإشارة الحسية و غيرها فإنّ الكلّيّات يشار إليها بعد ذكرها (أقول) الظّاهر أنّ النزاع هنا لفظي لأنّ القائل بوضعها للجزئيات الحقيقية أراد ذلك بالقياس إلى مفاهيمها الكلية فهذا مثلا موضوعة لما هو جزئي حقيقي بالقياس إلى مفهوم المشار إليه بحيث يمتنع صدقه على شيء آخر يكون هو المشار إليه أيضا و إن كان قابلا للصّدق على كثيرين لا من هذه الحيثية و لو في حال كونه مشار إليه فافهم و هكذا الموصول (و أمّا الحروف) فالظّاهر أن كلّيتها و جزئيتها تابعة لحال متعلّقاتها كما اعترف به قدّس سرّه فمعاني الحروف على هذا القول يمكن أن يكون كلّيا بالقياس إلى المعنى العام الملحوظ في وضعها أيضا فضلا عن غيرها (و أمّا الموصول) فالحال فيه كما عرفت في أسماء الإشارة و كذا الضّمائر و الذي يفصح عن صدق ما ادّعينا أنّه مرادهم أنّ الضمير و الموصول قد يكون معناهما أفرادا متعدّدة كضمير الجمع و الموصول المستغرق فلا وجه لعدّهما جزئيا حقيقيّا حينئذ إلاّ بالقياس إلى المفهوم الملحوظ في حال وضعهما فافهم
الثّاني
أنّ النّزاع في هذه المسألة عديمة الجدوى علما و عملا لأنّ مجاري الاستعمالات في هذه الألفاظ ليست إلاّ الجزئيات و المشاجرة في أنها الموضوع لها أو الموضوع لها هي المعاني الكلّية ليس ممّا يهتمّ بشأنه هذا الاهتمام مع أنّ الفاصل في هذا النّزاع لا يكاد يتمّ لأنّ الإخبار عن فعل الواضع حسّا من العلوم الغيبيّة و اجتهاد قطعيا ممتنع هنا لأنّ الطّريق العلمي إلى الوضع بعد علائم الوضع المفقودة في المقام كلا منحصر في إخبار أهل اللّسان و معلوم أنّ إخبارهم مبنيّ على الفهم النّاشئ من تتبع الاستعمالات فحيث كان الاستعمال غير مفيد كان الإخبار أيضا كذلك و إنّما خضنا في المسألة اقتفاء لأثر بعض المحقّقين و مثله المسألة الآتية في عدم الجدوى و اللّه الهادي