سال بعدالفهرستسال قبل

زين الدين بن علي العاملي الجبعي الشهيد الثاني(911 - 966 هـ = 1505 - 1559 م)

زين الدين بن علي العاملي الجبعي الشهيد الثاني(911 - 966 هـ = 1505 - 1559 م)
الحسن بن زين الدين صاحب المعالم(959 - 1011 هـ = 1552 - 1603 م)
محمد بن علي بن الحسين صاحب المدارك(946 - 1009 هـ = 1540 - 1601 م)
اجازه نامه شهید ثانی به والد شیخ بهائی


کلمات الشهید الثاني قده در باره قراءات

شهید قده در فن قراءات خبره بودند، و درس گرفته بودند، و خود در شرح حال خود میفرمایند:

رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 865‌---مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 14‌
و قرأتُ في تلك المدّة بها على المرحوم الشيخ أحمد بن جابر الشاطبيّة في علم القراءات، و قرأتُ عليه القرآنَ بقراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو و عاصم.
************
رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 868‌---مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 15‌
و منهم: الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعيّ «4»، قرأتُ عليه القرآنَ بقراءة أبي عمرو و رسالةً في القراءات من تأليفاته.
و منهم: الشيخ شمس الدين محمّد أبو النجا النحّاس، قرأتُ عليه الشاطبية في القراءات و القرآن العزيز للأئمّة السبعة، و شرعتُ ثانياً أقرأ عليه للعشرة و لم أُكمل الختم بها.
************
و در هر کتابی که بحث را مطرح کردند بر تواتر قراءات سبع تاکید کردند، در مسالک که صاحب تمهید اشاره کردند، ایشان در بحث قرائت نماز اصلا وارد این موضوع نشدند، اما در همین مسالک در کتاب نکاح تصریح میکنند، که عبارات ایشان در کتب مختلف در ذیل آمده است:کلمات الشهید الثاني قده در باره قراءات



الأعلام للزركلي (3/ 64)
الشَّهِيد الثاني
(911 - 966 هـ = 1505 - 1559 م)
زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الجبعي: عالم بالحديث، بحاث، إمامي. ولد في جبع (بلبنان) ورحل إلى ميس، ومنها إلى كرك نوح. ثم قصد مصر، فالحجاز، فالعراق، فبلاد الروم. وأقام أشهرا في الآستانة فجعل مدرسا للمدرسة النورية ببعلبكّ فقدمها، فوشى به واش إلى السلطان، فطلبه، فعاد إلى الآستانة محفوظا، فقتله المحافظ عليه وأتى السلطان برأسه، فقتل السلطان قاتله.
من كتبه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد - ط) و (الاقتصاد في معرفة المبدإ والمعاد - خ) و (الإيمان والإسلام وبيان حقيقتهما - ط) و (غنية القاصدين في اصطلاح المحدثين) و (منار القاصدين في أسرار معالم الدين) و (الرجال والنسب) و (منظومة في النحو) و (شرح الشرائع) سبع مجلدات، و (شرح الألفية) في النحو، و (روض الجنان - ط) فقه، و (الروضة البهية - ط) فقه، و (مسالك الأفهام إلى شرائع الإسلام - ط) فقه، و (كشف الريبة عن أحكام الغيبة - ط) ورسائل فقهية كثيرة طبع بعضها (2) .
__________
(2) أمل الآمل للحر العاملي، طبعة الطهراني سنة 1307 هـ والذريعة 2: 267 و 514 وشهداء الفضيلة 132 - 144




رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 861‌
(32) ترجمة الشهيد بقلمه الشريف‌

رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 863‌
بسم الله الرحمن الرحيم «1» الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة على أشرف المرسلين، و آله الطاهرين و أصحابه المنتجبين.
هذه جملة من أحوالي و تصرّف الزمان بي في عمري و تاريخ بعض المهمّات التي اتّفقت لي.
كان مولدي في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر شوّال سنة إحدى عشرة و تسعمائة من الهجرة النبوية.
[ختمه القرآن و عمره تسع سنين]
و لا أحفظ مبدأ اشتغالي بالتعلّم؛ لكن كان خَتْمي لكتاب الله العزيز سنة عشرين و تسعمائة من الهجرة النبويّة، وسنّي إذ ذاك تسع سنين، و اشتغلتُ بعده بقِراءة الفنون العربية و الفقه على الوالد (قدّس الله سرّه) إلى أنْ تُوفّيَ في‌
______________________________
(1) اعلم أنّ العالم الجليل محمد بن علي بن الحسن العودي الجِزّيني تلميذ الشهيد رحمهما الله ضَمّنَ هذه الرسالة في رسالةٍ كتبها في تاريخ حياة أُستاذه سمّاها «بُغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد» و قال في أوائله: «و قد وجدت بخطّه الشريف قطعةً من تاريخ يتضمّن مولده و جملةً من أحواله، أوزّعُ على كلّ فصلٍ من الفصول ما يليق به منها» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 157). و نأسف لفقدان أكثر فصول هذه الرسالة حيث لم يبق إلا بعض الفصول التي أوردها الشيخ علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين، حفيد ابن الشهيد، في كتابه «الدرّ المنثور». و نحن ننقل بعض كلام ابن العودي في «بغية المريد» في تعاليقنا على ترجمة الشهيد بقلمه؛ لمزيد الإيضاح لبعض ما ذكره الشهيد باختصارٍ.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 864‌
العشر الأواسط من شهر رجب يوم الخميس سنةَ خمسٍ و عشرين و تسعمائةٍ.
و كان من جملة ما قرأتُه عليه من كتب الفقه النافع مختصر الشرائع و اللمعة الدمشقية.
ثمّ ارتحلتُ في تلك السنة مهاجراً في طلب العلم إلى مَيْس، و كان ابتداء الانتقال في شهر شوّال من السنة المذكورة، و اشتغلتُ على شيخنا الجليل الشيخ عليّ بن عبد العالي «1» (قدّس الله سرّه) من تلك السنة إلى أواخر سنةِ ثلاث و ثلاثين و تسعمائة، و كان من جملة ما قرأتُه عليه شرائع الإسلام و الإرشاد و أكثر القواعد.
ثمّ ارتحلتُ في شهر ذي الحجّة إلى كرْكِ نوحُ عليه السّلام، و قرأتُ بها على المرحوم المقدّس السيّد حسن ابن السيّد جعفر من الفنون، و كان ممّا قرأتُه عليه قواعد ميثم البحرانيّ في الكلام و التهذيب في أُصول الفقه و العمدة الجليّة في الأُصول الفقهية من مصنّفات السيّد المذكور و الكافية في النحو و سمعتُ جملةً من الفقه و غيره من الفنون.
ثمّ انتقلتُ إلى جُبَع وطني الأوّل زمنَ الوالد في شهر جمادى الآخرة سنة أربع و ثلاثين، و أقمتُ بها مشتغلًا بمطالعة العلم و المذاكرة إلى سنة 937.
ثمّ ارتحلتُ إلى دِمَشق و اشتغلتُ بها على الشيخ الفاضل المحقّق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكّي، فقرأتُ عليه من كتب الطبّ شرح الموجز النفيسي و غاية القصد في معرفة الفصد من مصنّفات الشيخ المبرور المذكور و فصول‌
______________________________
(1) هو الشيخ عليّ بن عبد العالي الميسي (م 938)، و ليس هو المحقّق الكركي صاحب جامع المقاصد (م 940) فإنّ الشهيد لم يتتلمذ عليه و ليستْ له منه إجازة، بل يروي عنه بواسطة. انظر «منية المريد» ص 22 23، مقدّمة التحقيق.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 865‌
الفرغاني في الهيئة و بعض حكمة الإشراق للسهروردي «1»، و قرأتُ في تلك المدّة بها على المرحوم الشيخ أحمد بن جابر الشاطبيّة في علم القراءات، و قرأتُ عليه القرآنَ بقراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو و عاصم.
ثمّ رجعتُ إلى جُبَع سنة 938، و بها تُوفّي شيخنا الشيخ شمس الدين المذكور و شيخنا المتقدّم الأعلى الشيخ عليّ في شهرٍ واحد، و هو شهر جمادى الأُولى، و كانت وفاة شيخنا السيّد حسن (رحمه الله) سادس شهر رمضان سنة 933، «2» و أقمتُ بالبلدة المذكورة إلى تمام سنة 941.
[رحلته إلى مصر و سماعه من شيوخ كثيرين فيها]
و رحلتُ إلى مصر في أوّل سنة 942 لتحصيل ما أمكنَ من العلوم و اجتمعتُ في تلك السفرة بجماعةٍ كثيرةٍ من الأفاضل، فأوّل اجتماعي بالشيخ شمس الدين ابن طولون الدمشقيّ الحنفيّ، و قرأتُ عليه جملةً من الصحيحين، و أجازني روايتَهما مع ما يجوز له روايته، في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة «3».
و كان وصولي إلى مصر يوم الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من السنة‌
______________________________
(1) السهروردي نسبة إلى سهرورد بضمّ السين و سكون الهاء و فتح الراء و الواو و سكون الراء بلدة قريبة من زنجان. و السهرورديّ هو أبو حفص شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد البكريّ الشافعيّ الفيلسوف المعروف، الذي اتُّهِم بانحلال العقيدة، و أباح علماءُ حلب قتلَه، فقتله الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين سنة 587، من مصنّفاته كتاب حكمة الإشراق. انظر «الكنى و الألقاب» ج 2، ص 298.
(2) كذا في المخطوطات الثلاث، و في «أمل الآمل» ج 1، ص 56؛ و «أعيان الشيعة» ج 5، ص 34، و هو خطأ بلا ريب، فإنّه كما تقدّم آنفاً قرأ عليه الشهيد من شهر ذي الحجّة سنة 933 إلى شهر جمادى الآخرة سنة 934، فلا يمكن أنْ تكون وفاته في شهر رمضان سنة 933. و في «رياض العلماء» ج 1، ص 167، نقلًا عن «نظام الأقوال»: «توفّي في سادس شهر رمضان المبارك سنة ستّ و ثلاثين و تسعمائة». و ذكره الشهيد في إجازته لوالد الشيخ البهائي و أطراه كثيراً.
(3) قال ابن العودي (رحمه الله): «و كانت قراءته عليه في الصالحية بالمدرسة السليمية و كنتُ إذ ذاك في خدمته أسمع الدرس، و أجازني الشيخ المذكور الصحيحين المذكورين .. و كنتُ أُريد صحبته إلى مصر، فأرسلتْ إليه الوالدة أنّه يمنعني من السفر فمنعني، و ما كان ذلك إلا لسوء حظّي .. ثمّ ودّعناه و سافر من دمشق يوم الأحد نصف ربيع الأوّل سنة 942، و اتّفق في الطريق ألطاف إلهية و كرامات جليّة حكى لنا بعضها، منها ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 159 161).



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 866‌
المتقدّمة، و اشتغلتُ بها على جماعةٍ:
منهم: الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي «1»، قرأتُ عليه منهاج النووي في الفقه و أكثر مختصر الأُصول لابن الحاجب و شرح العَضُدي مع مطالعة حواشيه، منها: السعديّة و الشريفيّة. و سمعتُ عليه كتباً كثيرةً في الفنون العربية و العقلية و غيرهما:
فمنها: شرح التلخيص المختصر في المعاني و البيان لملا سعد الدين.
و منها: شرح تصريف العزّي «2».
و منها: شرح الشيخ المذكور لورقات «3» إمام الحرمين الجويني في أُصول الفقه.
و منها: أذكار النووي و بعض شرح جمع الجوامع المحلّي «4» في أُصول الفقه و توضيح ابن هشام في النحو و غير ذلك ممّا يَطُول ذكره.
و أجازني إجازةً عامّةً بما يجوز له روايته سنة 943.
و منهم: المحسن الجُرجاني، قرأنا عليه جملةً من شرح التجريد للملا علي القوشجي مع حاشية ملا جلال الدين الدواني و شرح أشكال التأسيس في الهندسة لقاضي زادة الرومي و شرح الچغميني في الهيئة «5» له.
و منهم: الملا محمّد الأسترآبادي «6»، قرأنا عليه جملة من المُطَوّل. مع حاشية‌
______________________________
(1) توفّي عام 957، و وردت ترجمته و مصادر ترجمته في «الإعلام» ج 1، ص 120؛ و «معجم المؤلّفين» ج 1، ص 147.
(2) لمّا كان مؤلّف كتاب التصريف هو عزّ الدين الزنجاني يعرف الكتاب ب‍ «تصريف العزّي» و للتفتازاني شرح لهذا الكتاب معروف ب‍ «شرح التصريف».
(3) «الورقات» في أُصول الفقه مطبوع، انظر ترجمة مؤلّفه الجويني في «الإعلام» ج 4، ص 160.
(4) «جمع الجوامع»، لجلال الدين المحلّي، وردت ترجمة مؤلّفه في «الإعلام» ج 5، ص 333.
(5) الچغميني هو محمود بن محمد بن عمر، من علماء القرن التاسع، له و الملخّص في الهيئة.
(6) وردت ترجمته في «الإعلام» ج 6، ص 214.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 867‌
السيّد الشريف و الجامي في شرح الكافية «1».
و منهم: الملا محمد الكيلاني، سمعنا عليه جملةً من المعاني و المنطق.
و منهم: الشيخ شهاب الدين بن النجّار الحنبلي، قرأتُ عليه جميعَ شرح الشافية للجاربردي «2» و جميع شرح الخزرجية في العروض و القوافي للشيخ زكريا الأنصاريّ، و سمعتُ عليه كتباً كثيرة في الفنون و الحديث، منها الصحيحان، و أجازني جميع ما قرأتُ و سمعتُ و ما يجوز له روايته في السنة المذكورة.
و منهم: الشيخ أبو الحسن البكريّ «3»، سمعتُ عليه جملةً من الكتب في الفقه و التفسير و بعض شرحه على المنهاج.
و منهم: الشيخ زين الدين الحري المالكي، قرأت عليه ألفية ابن مالك.
و منهم: الشيخ المحقّق ناصر الدين اللَّقاني المالكي محقّق الوقت و فاضل تلك البلدة، لم أَرَ في الديار المصريّة أفضل منه في العلوم العقليّة و العربيّة، سمعتُ عليه البيضاوي في التفسير و غيره من الفنون.
و منهم: الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعيّ «4»، قرأتُ عليه القرآنَ بقراءة أبي عمرو و رسالةً في القراءات من تأليفاته.
______________________________
(1) الجامي هو عبد الرحمن بن أحمد بن محمّد الدشتي الفارسي الصوفي، النحوي الشاعر، قيل له: الجامى؛ لأنّه ولد ببلدة جام من بلاد ما وراء النهر سنة 817. له تأليفات كثيرة، منها: شرحه على كافية ابن الحاجب، الذي أسماه ب‍ «الفوائد الضيائيّة»، و هو المعروف ب‍ «الجامي» انظر: «الكنى و الألقاب» ج 2، ص 126125.
(2) هو فخر الدين أحمد بن الحسين الشافعي، من تلامذة القاضي البيضاوي، له علاوة على شرح الشافية شرح منهاج أُستاذه، توفّي بتبريز سنة 742. ( «الكنى و الألقاب» ج 2، ص 125).
(3) قد ترجم له الغزي في «الكواكب السائرة» ج 2، ص 194؛ و ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب» ج 8، ص 292 293؛ و الزركلي في «الإعلام» ج 7، ص 57؛ و عمر رضا كحّاله في «معجم المؤلّفين».
و ليس هو مؤلّف «الأنوار في مولد النبيّ المختار» قطعاً. انظر تفصيل ذلك في «غاية المراد» ج 1، ص 301 304، مقدّمة التحقيق.
(4) وردتْ ترجمته في «الإعلام» ج 6، ص 134.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 868‌
و منهم: الشيخ شمس الدين محمّد أبو النجا النحّاس، قرأتُ عليه الشاطبية في القراءات و القرآن العزيز للأئمّة السبعة، و شرعتُ ثانياً أقرأ عليه للعشرة و لم أُكمل الختم بها.
و منهم: الشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهودي، قرأت عليه جملةً صالحةً من الفنون و أجازني إجازةً عامّة.
و منهم: الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي، قرأت عليه كتباً كثيرة في الحساب الهوائي و المرشدة في حساب الهند الغباري «1» و الياسمينية و شرحها في علم الجبر و المقابلة و شرح المقنع في علم الجبر و المقابلة، «2» و سمعتُ عليه بعضَ شرح الوسيلة و أجازني إجازةً عامّة. «3»‌
و سمعت بالبلد المذكور من جملة متكثّرة من المشايخ يطول الخطبُ بتفصيلهم.
و منهم: الشيخ عميرة و الشيخ شهاب الدين بن عبد الحقّ و الشيخ شهاب الدين البلقيني و الشيخ شمس الدين الديروطي و غيرهم. «4»‌
ثمّ ارتحلتُ من مصر إلى الحجاز الشريف سابعَ عَشَرَ شهر شوّال سنة 943.
و رجعتُ إلى وطني الأوّل بعد قضاء الواجب من الحجّ و العُمرة و التمتّع بزيارة النبيّ و آله و أصحابه صلوات الله عليهم. «5»‌
______________________________
(1) «المرشدة» في علم الغبار، لابن الهائم، انظر «كشف الظنون» ج 2، ص 1942.
(2) «المقنع» في علم الجبر و المقابلة، و شرحه لابن الهائم، انظر «كشف الظنون» ج 2، ص 1810.
(3) انظر وصف هذه الكتب و مؤلّفيها فيما يأتي في القسم 13، الإجازة 8، ص 1155.
(4) قال ابن العودي: «و كلّ هؤلاء المشايخ لم يبق منهم أحد وقت إنشاء هذا التاريخ» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 167).
(5) قال ابن العودي تلميذ الشهيد: «و كان قدّس سرّه قد رأى النبي في منامه بمصر، و وعده بالخير، و لا أحفظ صورة المنام الآن، فلمّا وقف على القبر المقدّس و زاره، خاطبه و أنشده:
صلاة و تسليم على أشرف الورى و من فضله ينبو عن الحدّ و الحصر ..
( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 167 168).



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 869‌
و وصلتُ رابعَ عشر شهر صفر سنة 944 «1»، و أَقمتُ بها إلى سنة ستّ و أربعين. «2»‌
[سفره إلى العراق لزيارة الأئمّة عليهم السلام]
و سافرت إلى العراق لزيارة الأئمّة عليهم السلام، و كان خروجي سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة 946 و رجوعي خامسَ عَشَرَ شهر شعبان منها. «3»‌
و سافرتُ لزيارة بيت المقدس منتصف ذي الحجّة سنة 948، و اجتمعتُ في تلك السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، و قرأتُ عليه بعضَ صحيح البخاري و بعض صحيح مسلم، و أجازني إجازةً عامّةً.
ثمّ رجعتُ إلى الوطن الأوّل المتقدّم و أَقمتُ به إلى أواخر سنة إحدى و خمسين مُشتَغِلًا بمطالعة العلم و مذاكرته مستفرغاً وُسْعِي في ذلك.
[سفره اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية]
ثمّ بَرَزَتْ إِليّ الأوامرُ الإلهية «4» و الإشاراتُ الربّانية بالسفر إلى جهة الروم، و الاجتماع بمَن فيها من أهل الفضائل و العلوم، و التعلّق بسلطان الوقت و الزمان السلطان سليمان بن عثمان، و كان ذلك على خلاف مقتضى الطبع و مَساق الفهم، لكن ما قُدّرَ لا تصل إليه الفكرةُ الكَليلة و المعرفةُ القليلة من أسرار الحقائق و أحوال العواقب، و الكَيّسُ الماهر هو المُستَسْلِمُ في قبضة العالم‌
______________________________
(1) قال ابن العودي: «و كان قدومه إلى البلاد كرحمةٍ نازلة و غيوث هاطلة أحيا بعلومه نفوساً أماتها الجهل و ازدحم عليه أُولوا العلم و الفضل ..» ( «الدّر المنثور» ج 2، ص 168).
(2) قال ابن العودي: «و في خلال هذه المدّة عمر داره التي أنشأها بجبع .. و شرع أيضاً في عمارة المسجد المجاور للدار المذكورة و انتهى في سنة 945» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 168). قال العلامة الأمين في «أعيان الشيعة» ج 7، ص 150: «لم تزل الدار و المسجد باقيين إلى عصرنا و قد رأيتُهما».
(3) قال ابن العودي: «و كنت في خدمته مع جماعة من الأصحاب و أهل البلاد تلك المرّة، .. و زار الشيخ (قدّس سرّه) الأئمة «مستعجلًا و رجع و اجتمع عليه فضلاء العراق ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 169).
(4) قال العلامة السيد الأمين (رحمه الله) في «أعيان الشيعة» ج 7، ص 150: «يُشير إلى الاستخارة».



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 870‌
الخبير القاهر، الممتثلُ لأوامره الشريفة، المنقادُ إلى طاعته المنيفة.
كيف لا؟ و إنّما يأمر بمصلحة تعود على المأمور مع اطّلاعه على دقائق عواقب الأُمور، و هو الجواد المطلق و الرحيم المحقّق، و الحمد للّه على إنعامه و إحسانه و امتنانه، و الحمد للّه الذي لا يَنْسى مَن ذَكَرَه، و لا يُهْمِلُ مَن غفل عنه، و لا يُؤاخِذُ مَن صَدَف «1» عن طاعته، بل يَقُوده إلى مصلحته و يُوصِلُه إلى بُغْيَته.
و كان الخروج إلى السفر المذكور بعد بوادر الأوامر به و النواهي عن تركه و التخلّف عنه و تأخيره إلى وقت آخر ثاني عشر شهر ذي الحجّة الحرام سنة 951، و أقمتُ بمدينة دمشق بقيّة الشهر، ثمّ ارتحلتُ إلى حَلَب، و وصلت إليها يوم الأحد سادس عشر شهر المحرّم سنة 952، و أقمتُ بها إلى السابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
و من غريب ما اتّفق لنا بحلب أنّا أزْمَعْنا «2» عند الدخول إليها على تخفيف الإقامة بها بكلّ ما أمكن و لم نَنْوِ الإقامة، فخرجت قافلة إلى الروم على الطريق المعهود المارّ بمدينة أَذَنَة «3»، فاستخرنا الله على مرافقتها فلم يُخِرْ لنا، فكان قد تهيّأ بعض طلبة العلم من أهل الروم إلى السفر على طريق طوقات «4»، و هو طريق غير مسلوك غالباً لقاصد قسطنطنية، و ذكروا أنّه قد تهيّأتْ قافلة للسفر على الطريق المذكور فاستخرنا الله تعالى على السفر معهم فأخار به‌
______________________________
(1) صَدَفَ عن طاعته، أي أعرض عنها.
(2) أَزْمَعْنا أي عَزَمْنا.
(3) أَذَنَة: بَلَد من الثغور قرب المصيصة، بُنِيَت سنة إحدى أو اثنتين و أربعين و مائة، ثمّ بنى الرشيد القصرَ الذي فيها قريباً من جسرها على سَيْحان. و يُنسب إليها جماعة كثيرة من أهل العلم. انظر «معجم البلدان» ج 1، ص 133.
(4) مدينة بنواحي إرمينية، كما في «معجم البلدان» ج 4، ص 50؛ و «مراصد الاطّلاع» ج 2، ص 898.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 871‌
فتأخّر سفرهم و ساءنا ذلك، فتفأّلْتُ بكتاب الله تعالى على الصبر و انتظارهم، فظهر قوله تعالى وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لٰا تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ «1» فاطمأنّتِ النفسُ لذلك.
و خرجت قافلة أُخرى من طريق أذنة، و أشار الأصحاب برفقتهم؛ لما يظهر من مناسبتهم، فاستخرتُ الله تعالى على صُحبتهم، فلم يظهر خيرة، و تفأّلْتُ بكتاب الله تعالى على انتظار الرُّفْقة الأُولى و إنْ تأخّروا كثيراً، فظهر قوله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى قوله تعالى فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ «2».
ثمّ خرجت قافلة أُخرى على طريق أَذنة، فاستخرتُ الله تعالى على الخروج معها فلم يظهر خيرة، فَضِقتُ لذلك ذَرْعاً، و سَئِمْتُ الإقامةَ و تفأّلتُ بكتاب الله تعالى في ذلك، فظهر قوله تعالى وَ اتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحٰاكِمِينَ «3».
ثمّ خرجت قافلة رابعة على الطريق المذكور، فاستخرت الله تعالى على رفقتها فلم يظهر خيرة، و كانت القافلة التي أُمِرنا بالسفر معها تُسَوّفنا بالسفر يوماً و تكذب كثيراً في أخبارنا، ففتحتُ المصحف صبيحة يوم السبت و تفأّلتُ به، فظهر قوله تعالى وَ تَتَلَقّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ هٰذٰا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «4» فتعجّبنا من ذلك غايةَ العجب، و قلنا: إن كانت القافلة تسافر في هذا اليوم، فهو من أعجب الأُمور و أغربها و أتمّ البشائر بالخير و التوفيق، فأرسلنا بعض أصحابنا يستعلم الخبر، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك و حَمّلوا ففي هذا اليوم‌
______________________________
(1) الكهف (18): 28.
(2) الأنفال (8): 16.
(3) يونس (10): 109.
(4) الأنبياء (21): 103.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 872‌
نخرج، فحمدنا اللهَ تعالى على هذه النِّعَمِ العظيمة و المِنَن الجسيمة التي لا نَقْدِرُ على شكرها.
ثمّ بعد ذلك ظهرت لإقامتنا بحلب تلك المدّة فوائدُ و أسرار لا يمكن حصرها، و ظهرتْ لسفرنا على الطريق المذكور أيضاً فوائدُ و أسرار و خيرات لا تُحصى، و أقلّها أنّه بعد ذلك بَلَغَنا ممّن سافر على تلك الطريق التي نُهِينا عنها أنّ عليقَ «1» الدوابّ و زادَ الناس كان في غاية القلّة و الصعوبة، و الغلاء العظيم، حتّى أنّهم كانوا يشترون العليقة الواحدة بعشرة دراهم عثمانية، و احتاجوا مع ذلك إلى حمل الزاد أيّام؛ لعدم وجوده في الطريق لا للدوابّ و لا للإنسان، فلو نسافر في تلك الطريق لاتّجَه علينا ضرر عظيم لا يُوصَف، بل لا يَفِي جميع ما كان بيدنا من المال بالصرف في الطريق، خاصّة لكثرة ما معنا من الدوابّ و الأتباع، و كانت العليقة في طريقنا أكثر الأوقات بدرهم واحد عثماني و أقلّ إلى أن وَصَلْنا، و لم نفتقر إلى حمل شي‌ء، بل جميع طريقنا تمرّ على البلاد العامرة و الخيرات الوافرة، فالحمد للّه على نِعَمه الغامرة.
و كان وصولنا إلى مدينة طوقات صبيحة يوم الجمعة ثاني عشر شهر صفر، و نزلنا بعمارة السلطان بايزيد، و هي مدينة كثيرةُ الخيرات، عامرة آهِلَة، يُجلبُ إليها و منها أكثرُ الأمتعة و الأرزاق، كثيرة المياه، و الجبال محيطة بها من كلّ جانب، و يليها إلى الشمال وادٍ طويل متّسِع فيه نهر كبير جدّاً، يشتمل هذا الوادي على ما قيل على نحو أربعمائة قرية، شاهَدْنا كثيراً منها و مرَرْنا فيه يومين بعد خروجنا من طوقات.
و هذه القُرى المذكورة كلّها عامرة جدّاً، كثيرة الخير و الفواكه، متّصلة‌
______________________________
(1) «العليق: ما تعلفه الدابّة من شعير و نحوه» ( «المعجم الوسيط» ص 623، «علق»).



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 873‌
بعضها ببعض، لا يفصل بينها شي‌ء، و ربّما يَعدّ الإنسان منها في نظر واحد ما يزيد عن عَشْر قرى إلى عشرين قرية.
و كان خروجنا من طوقات يوم الأحد عند الظهر و وصلنا يوم الأربعاء إلى مدينة أماسية، «1» و بها أيضاً عمارة السلطان بايزيد، عظيمة البناء مُحكمة غاية الإحكام، في بقعة متّسعة جدّاً حسنة تشتمل على مطابخ عظيمة و صدقات وافرة لكلّ وارد، و فيها مدرسة عظيمة حسنة. و حاكم المدينة مع باقي تلك الجهات يومئذٍ السلطانُ مصطفى ابن السلطان سليمان.
و هذا السلطان مصطفى قتله أبوه؛ خوفاً على الملك في سنة ستّين و تسعمائة «2»، و هي السنة التي خرج فيها إلى حرب الفرس و كان قتله «3»، و فيها كان موت ولده آخر الزمان بحلب «4». و قيل: إنّ أباه قتله أيضاً.
و أقمنا بهذه المدينة ستّة عشر يوماً، ثمّ توجّهنا منها نحو قسطنطنية.
و من غريب ما رأينا في الطريق بعد مفارقتنا أماسية بأيّام أنّا مررنا بوادٍ عظيم لم نَرَ أحسن منه، و ليس فيه عمارة، طوله مسيرة يوم تقريباً، و فيه من سائر الفواكه و الثمار، بغير مالك بل هو نبات من الله سبحانه كغيره من الأشجار البرّيّة، و كذا فيه معظم أنواع المشمومات العَطِرة و الأزهار الأَرجة.
______________________________
(1) «أماسية مدينة تركية تقع شمال شرقي أنْقَرة» ( «المنجد في الإعلام» ص 64).
(2) هكذا في النسخ، و الظاهر أنّ من قوله: «و هذا السلطان» إلى قوله: «.. قتلَه أيضاً» من إضافات ابن العودي تلميذ الشهيد؛ لأنّ الشهيد كتب حوادث عمره إلى سنة 955 كما يأتي في آخر هذه الرسالة.
(3) هكذا في المخطوطات. و في «أعيان الشيعة» ج 7، ص 151: «.. حرب الفرس، و فيها مات ولده آخر الزمان بحلب، و قيل: إنّ».
(4) اعلم أنّه كان للسطان سليمان في سنة 960 أربعة أبناء أحياء، و سمّاهُم: مصطفى، سليم، بايزيد، جهانگير. و لمّا قتل مصطفى مات أخوه جهانگير حزناً في سنة 960، و ليس في المصادر ذكر عن «آخر الزمان»، و لعلّه تصحيف لِ‍ «جهانگير» أو كان معروفاً ب‍ «آخر الزمان» و انظر تفصيل الواقعة في «تاريخ عثماني» ج 2، ص 431 439؛ «أحسن التواريخ» ص 480.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 874‌
فممّا رأيْنا فيه الجوز و الرمّان و الفندق و العنّاب و العنب و التفّاح و أنواع من الخوخ و أنواع من الكُمّثرى و الزعرور و القراصيا، حتّى أنّ بعض أشجار القراصيا بقدر شجر الجوز الكبير بغير حرث و لا سقي، و فيه البرباريس بكثرة.
و رأينا من المشمومات الوردَ الأبيض و الأحمر و الأصفر و الياسمين الأصفر و البلسان و الزيزفون و البان، و كان ذلك الوقت أوان زَهْرِها.
و فيه من الأشجار الجيّدة العظيمة شجر الصنوبر و الدلب و الصفصاف و السنديان و الملول شجر البَلّوط، و هذه الأشجار كلّها مختلطة بعضها ببعض.
و رأينا فيه أنواعاً كثيرة من الفواكه قد انعقد حَبّها، و لا نعرف أسماءها، و لا رأيناها قبل ذلك اليوم أبداً.
ثمّ سِرْنا منه أيّاماً كثيرة، ثمّ وصلنا إلى أرض أكثر شجرها الفواكه، سيّما الخوخ و التفّاح، و أكثر ما اشتمل عليه ذلك الوادي يوجد فيها، و سرنا في هذه الأرض خمسةَ أيّام، و هي من أعجب ما رأينا من أرض الله تعالى و أحسنها و أكثرها فاكهة، مجتمعة بعضها ببعض كأنّها حدائق منضودة بالغرس لا يدخل بينها أجنبي، و فيها أشجار عظيمة طولًا و عرضاً، و ربّما بلغ طولها مائتي شبر فصاعداً، و دور بعضها يبلغ ثلاثين شبراً فصاعداً، و مررنا في جملة هذا السير على مدن حسنة و قرى جيّدة.
و كان وصولنا إلى مدينة قسطنطنية يوم الاثنين سابعَ عَشَرَ «1» شهر ربيع الأوّل من السنة السابقة و هي سنة 952، و وفّق الله تعالى لنا منزلًا حسناً رَفقاً من أحسن مساكن البلد، قريباً إلى جميع أغراضنا.
______________________________
(1) هكذا في بعض النسخ و «أعيان الشيعة» ج 7، ص 151؛ و في بعض النسخ: «سابع عشر شهر».



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 875‌
و بقيتُ بعد وصولي ثمانيةَ عشر يوماً لا أجتمع بأحد من الأعيان، ثمّ اقتضى الحال أن كتبتُ في هذه الأيّام رسالة جيّدة تشتمل على عَشَرَةِ مباحثَ جليلة، كلّ بحث في فنٍ من الفنون العقليّة و الفقهيّة و التفسير و غيرها، «1» و أوصلتُها إلى قاضي العسكر، و هو محمّد بن قطب الدين بن محمّد بن محمَّد بن قاضي زاده الرومي، و هو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من أحسن الناس خُلُقاً و تهذيباً و أَدباً، فوقعت منه موقعاً حسناً و حصل لي بسبب ذلك منه حظّ عظيم، و أَكْثَرَ من تعريفي و الثناء عَلَيّ للأفاضل، و اتّفق في خلال المدّة بيني و بينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق.
ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به أرسل إليّ الدفترَ المشتمل على الوظائف و المدارس، و بذل لي ما اختاره و أكّدَ في كون ذلك في الشام أو حلب، فاقتضى الحال أن اخترتُ منه المدرسة النورية ببعلبك؛ لمصالحَ وجدتُها، و لظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي بها إلى السلطان «2» سليمان، و كتب لي بها براءة، و جعل لي لكلّ شهر ما شرطه واقِفُها السلطان نور الدين الشهيد، و اتّفق من فضل الله سبحانه و مَنّهِ في مدّة إقامتي بالبلدة المذكورة من الألطاف الإلهيّة و الأسرار الربانية و الحِكَم الخفيّة ما يَقْصُرُ عنه البيانُ، و يَعْجِزُ عن تحريره البَنانُ، و يَكِلّ عن تقريره اللسانُ، فللّه الحمد و المِنّة و الفضل و النعمة على هذا الشأن، و نسأله أنْ يُتِمّ علينا منه الإحسانَ؛ إنّه الكريم الوهّاب المنّان.
و من غريب ما اتفق لي من نعم الله تعالى و فضله و كرمه وجوده زمان‌
______________________________
(1) هذه الرسالة فقدت و لم تصل إلينا.
(2) أي كتب لي عرضاً، و هو الطلب الذي يكتب إلى السلطان و الأمير.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 876‌
إقامتي بمدينة قسطنطنية أنْ خرجتُ يوماً مع الأصحاب، و كان ذلك اليوم في شهر جمادى الأُولى، لزيارة مشهد شريف هناك يسمّونه أبا أيّوب الأنصاريّ الصحابيّ، قد بنى عليه السلطان محمّد مشهداً خارج البلد، فلمّا كنتُ في المشهد فخلوتُ و قرأتُ جزءاً من القرآن، و أخذتُ المصحفَ و تفأّلْتُ به أنْ يَكْشِفَ لي عن حالِ حَملٍ كنتُ قد فارقتُه بالزوجة قبل سفري، و ميعاد ولادته أوائل شهر جمادى المذكور، فظهر لي في أوّل الفاتحة فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلٰامٍ حَلِيمٍ «1» فسجدتُ للّه شكراً و رجوتُ من الله تعالى أنْ يُحَقّقَ لي ذلك، و أنْ يكونَ قد رزقني ولداً ذكراً مباركاً ميموناً حميد العاقبة، فكتبتُ صورة الفأل و التاريخ في تلك الساعة في رقعة، و استمرّ الحال إلى أن خرجتُ من المدينة المذكورة إلى مدينة أُسْكُدار «2»، و هي قريبة منها، بينها و بينها قطعة يسيرة من البحر مسيرها نحو ميل، فجاءني و أنا مقيم بها في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب من السنة المذكورة كُتُب من أصحابنا بالبلاد، في بعضها بشارة بولد ذَكَرٍ وُلِدَ في المدّة المذكورة. «3»‌
فالحمد للّه الذي حَقَّقَ رَجاءَنا، و نسأل من فضله الكريم وجوده العَمِيم، و نتوسّل إليه بأشرف خلقه عليه محمّد و آله، أنْ يجعلَه ولداً صالحاً و عقباً ناجحاً‌
______________________________
(1) الصافّات (37): 101.
(2) في «المنجد في الأعلام» ص 43: «أُسكدار أو شقودر: أقدم و أوسع أحياء استنبول على شاطئ البوسفور في آسيا».
(3) قال ابن العودي: «البشارة كانت في بيتين أنشأتُهما في رسالةٍ كتبتُها إليه في تاريخ ولادة المولود المذكور و ستأتي الرسالة و هما:
و قد مَنّ مولانا الكريمُ بفضله عليكم بمولودٍ غلام من البشر فيا ربِ مَتّعنْا بطول بقائه و أحْيِ به قلباً له الوصل قد هجر و كان هذا المولود من زوجته الكبرى ابنة الشيخ عليّ الميسي و بنت خالته، و اسمه محمّد مات صغيراً في غيبة والده المقدّس» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 176).



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 877‌
راجحاً، و يُرِيَني فيه ما تَقَرُ به عيني و يجعلَه لي وارثاً و ذرّيّةً صالحة، و يرزُقَه خَيْرَيِ الدنيا و الآخرة، و يَجْمَعُ له بين العمر السعيد و العيش الرَّغِيد و العلم النافع و العمل بطاعته؛ فإنّه على كلّ شي‌ء قَدِير و بإغاثة دعاء عباده جَدِير.
و كانت مدّة إقامتي بمدينة قسطنطينية ثلاثة أشهر و نصفاً «1».
و خرجتُ منها يوم السبت، حادي عشر شهر رجب في السنة المذكورة، و عبرتُ البحر إلى مدينة أُسْكُدار، و هي مدينة حسنة جيدة صحيحة الهواء عذبة الماء مُحكَمة البناء، يتّصل بكلّ دار منها بستان حسن، يشتمل على الفواكه الجيّدة العَطرة على شاطئ البحر، مقابِلة لمدينة قسطنطينية، بينهما البحر خاصّة.
و أَقمتُ بها أنْتظر وصول صاحبنا الشيخ حسين بن عبد الصمد؛ «2» لأنّه احتاج إلى التأخّر عن تلك الليلة.
و من غريب ما اتّفق لي بها حين نزلتُ بها أنّي اجتمعت برجل هنديّ، له فضل و معرفة بفنون كثيرة منها الرمل و النجوم، فجرى بيني و بينه كلام، فقلت له: إنّ قاضي العسكر أشارَ عَلَيّ بأن أُسافر يوم الاثنين و خالفتُه، و جئت في هذا اليوم و هو يوم السبت؛ حذراً من نحس يوم الاثنين، بسبب كونه ثالثَ عَشَرَ الشهر، و كان قد ذكر لي قاضي العسكر المذكور أنّ يوم الاثنين يوم جيّد للسفر لا يكاد يتّفق مثله بالنسبة إلى أحكام النجوم، و إنّ سَعْدَه يَغْلِبُ نَحسه؛ بسبب كونه ثالثَ عَشَرَ.
______________________________
(1) قال ابن العودي (رحمه الله): «لم يذكر اجتماعه فيها بالسيّد عبد الرحيم العبّاسي، فقد كان (قدّس سرّه) كثيراً ما يطري ذكره علينا و أنّه من أهل الفضل التام، له مصنّفات منها: شرح شواهد التلخيص، سلك فيه مسلكاً واسعا سمّاه كتاب معاهد التنصيص في شرح أبيات التلخيص ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 176 177). و انظر «منية المريد» ص 22، مقدّمة التحقيق.
(2) هو والد شيخنا البهائي و من أجلّ تلامذة الشهيد، أجازه الشهيد بإجازة كبيرة و أطراه كثيراً، و سيأتي متنها في القسم الثالث عشر. و انظر «منية المريد» ص 46 47، مقدّمة التحقيق.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 878‌
فقال لي ذلك الرجل الهنديّ على البديهة:
صدق القاضي فيما قال، و أمّا يومُ السبْت الذي خرجتَ فيه فإنّه يوم صالح، لكن يقتضي أنّك تُقيم في هذه البلدة أيّاماً كثيرة.
و اتّفق الأمر كما قال؛ فإنّ الشيخ حسين بعد مفارقتي بَحثَ عن أمر المدرسة التي كان قد أعطاه إيّاها القاضي ببغداد، فوجد أوقافَها قليلةً فاحتاج إلى إبدالها بغيرها، فتوقّف لأجل ذلك إحدى و عشرين يوماً، و ظهر صدقُ ذلك الفاضل الهنديّ فيما أخبر به على البديهة.
ثمّ اتّفق لي أنْ رقمتُ له شَكْلًا رَمْليا و طلبتُ البحثَ عنه، ففكّر فيه ساعة، ثمّ أظهر لي منه أُموراً عجيبةً كلّها رأيتُها موافِقةً للواقع بحسب حالي.
و كان ممّا أخرجه من بيت العاقبة أنّها في غاية الجَوْدة و الخير و التوفيق، فالحمد للّه على ذلك.
و من بيت السفر أنّ هذه سفرة صالِحة حميدة جدّاً، و العَوْدَ فيها سعيد صالح، لكن فيه طول خارج عن المعتاد بالنسبة إلى العود إلى الوطن. و كان الأمر في الباطن على ما ذكر؛ لأنّي كنتُ قد عَزَمْتُ على التوجّه إلى العراق لتقبيل العتبات الشريفة في طريق العود ثمّ أرجع منها إلى الوطن، و ذلك بعد تأكّد الأمر الإلهي لنا بذلك و نهينا عن تركه. «1»‌
و كان خروجنا من أُسْكُدار متوجّهينَ إلى العراق يوم السبت لليلتين خَلَتا من شهر شعبان، و اتّفَقَ أنّ طريقنا إليها هي الطريق التي سلكناها من سِيواس «2» إلى اصطنبول.
______________________________
(1) يريد الاستخارة.
(2) «سِيواس بالكسر بلد بالروم كذا في القاموس و هو مشهور». انظر «مراصد الاطّلاع» ج 2، ص 768.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 879‌
و وصلنا إلى مدينة سِيواس يوم الاثنين لخمس بَقِين من شعبان و خرجنا منها يوم الأحد ثاني شهر رمضان متوجّهين إلى العراق، و هو أوّل ما فارقْناه من الطريق الأُولى، و خرجنا في حال نزول الثلج و بِتْنا ليلةَ الاثنين أيضاً على الثلج و كانت ليلةً عظيمةَ البرد.
و من غريب ما اتّفق لي تلك الليلة أنْ نمتُ يسيراً، فرأيتُ في تلك الليلة كأنّي في حضرة شيخنا الجليل محمد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله، و هو شيخ بهيّ جميل الوجه عليه أُبّهة العلم و نحو نصف لِمّته «1» بياض، و معي جماعة من أصحابي، منهم رفيقي و صديقي الشيخ حسين بن عبد الصمد، فطلبنا من الشيخ أبي جعفر الكليني المذكور نسخة الأصل لكتابة الكافي لِنَنْسَخَه، فدخل البيت و أخرج لنا الجزء الأوّل منه في قالب نصف الورق الشامي، ففتحه فإذا هو بخطّ حسن مُعْرَب مصحّح و رموزه مكتوبة بالزهر، فجعلنا نتعجّب من كون نسخة الأصل بهذه الصفة، فسُرِرْنا بذلك كثيراً؛ لِما كنّا قبل ذلك قد ابْتُلِينا به من رداءة النُّسَخ.
فطلبتُ منه بقيّة الأجزاء فجعل يتألّم من تقصير الناس في نَسْخها و رداءة نَسْخِهم، و قال: «إنّي لا أعلم أين بقيّة الأجزاء».
و كان ذلك صدر منه على وجه التألّم؛ لتقصير الناس في نَسْخ الكتاب و تصحيحه، و قال: «اشتَغِلُوا بهذا الجزء إلى أن أَجِدَ لكم غيره».
ثمّ دخل إلى بيته لتحصيل باقي الأجزاء، ثمّ خرج إلينا و بيده جزء بخطّ غيره على قالب الورق الشامي الكامل و هو ضخم غير جيّد الخطّ، فدفعه إليّ و جعل يشتكي إلينا من كتابة كتابه بهذه الصورة و يتألّم من ذلك، و كان في‌
______________________________
(1) «اللمّة: شعر الرأس المجاوِز شحمةَ الأُذن» ( «المعجم الوسيط» ص 840، «لمم»).



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 880‌
المجلس الأخ الصالح الشيخ زين الدين الفقعانيّ «1» (نفعنا الله ببركته) فقال: «أنا عندي جزء آخر من نسخة الأصل على الوصف المتقدّم» و دفعه إليّ فسُرِرْتُ كثيراً، ثمّ فتّش البيت و أخرج جزءاً آخَرَ إلى تمام أربعة أجزاء أو أكثر بالوصف المتقدّم فسُرِرْنا بها.
و خرجنا بالأجزاء إلى الشيخ الجليل المصنّف و هو جالس في مكانه الأوّل، فلمّا جلسنا عنده أعَدْنا فيما بيننا و بينه ذكر نسخ الكتاب و تقصير الناس فيه، فقلت: يا سيّدنا بمدينة دمشق رجل من أصحابنا اسمه زين العابدين الغرابيلي قد نسخ كتابك هذا نسخةً في غاية الجَوْدة، في ورق جيّد، و جَعلَ الكتاب في مجلّدين، كلّ واحد بقدر كتاب الشرائع و هذه النسخة فخر على المخالِف و المؤالِف، فتهلّل وجه الشيخ (رحمه الله) سروراً و أظهر الفرح و فتح يديه و دعا له بدعاء خفيّ لم أحفظ لفظه، ثمّ انتبهتُ.
و انتهينا بعد أربعة أيّام من اليوم المذكور إلى مدينة مَلَطْيَة «2»، و هي مدينة لطيفة كثيرة الفواكه، تقرب من أصل منبع الفرات، و مررنا بعد ذلك بمدينة لطيفة تسمّى أزغين «3»، و هي قريبة من منبع دجلة.
و كان وصولنا إلى المشهد المقدّس المبرور المشرّف بالعسكريّين بمدينة سامرّاء يوم الأربعاء رابع شهر شوّال، و أَقَمنا به ليلة الخميس و يومه و ليلة الجمعة.
______________________________
(1) العامليّ، و كان فاضلًا صالحاً ورعاً، من تلامذة الشيخ علي بن عبد العالي العامليّ الميسيّ، و الفقعانيّ نسبة إلى فقعية، بفاء مفتوحة و قاف ساكنة و عين مهملة مفتوحة، قرية في ساحل صور. راجع «أمل الآمل» ج 1، ص 91؛ «أعيان الشيعة» ج 7، ص 158.
(2) مَلَطْيَة بفتح الميم و اللام، و سكون الطاء، و تخفيف الياء ..: بلدة من بلاد الروم مشهورة، تُتاخِمُ الشامَ، و هي للمسلمين. انظر «معجم البلدان» ج 5، ص 192 193.
(3) هكذا في المخطوطات. و في «أعيان الشيعة» ج 7، ص 153: «زغين» بدل «أزغين».



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 881‌
ثمّ توجّهنا إلى بغداد و وصلنا إلى المشهد المقدّس الكاظمي يوم الأحد ثامن الشهر، و أَقمنا به إلى يوم الجمعة، و توجّهنا ذلك اليوم لزيارة وليّ الله تعالى سلمان الفارسيّ و حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
[وصوله إلى مشهد الحسين عليه السلام]
و رَحَلْنا منه إلى مشهد الحسين عليه السلام و وَصلْنا يومَ الأحد مُنْتَصف الشهر المذكور، و أَقمْنا به إلى يوم الجمعة.
و توجّهنا منه إلى الحلّة و أقمنا بها إلى يوم الجمعة، و توجّهنا منها إلى زيارة القاسم ثمّ إلى الكوفة و منها إلى المشهد المقدّس الغَرَويّ، و وصلنا إليه يوم الأربعاء ثالثَ شهر ذي القعدة الحرام و أقمنا به بقية الشهر.
و اتّفق لنا من فضل الله تعالى و كرمه و رأفته و عنايته من التوفيقات الإلهيّة و الخيرات الربّانية و التأييدات السبحانية و النعمة الشاملة و الرحمة الواصلة ما لا يقتضي الحال ذكره، و مُفيضُه سبحانه أعلمُ به.
و نسأل من فضله العميم و كرمه الجسيم أنْ يُمِدّنا بفضله، و يجودَ علينا بستره و كفايته كما عَوّدنا ذلك فيما سلف، و أنْ يَعْصِمَنا فيما بقي من كلّ ما يخالف رضاه و يُبْعِدُ عن جواره، و يَحْرسَنا بعين عنايته.
و قد أظهر الله سبحانه لجماعة من الصالحين بالمشهدَيْنِ و غيرهما آياتٍ باهرة و مناماتٍ صالحةً و أسراراً خَفِيّة أَوجبت كمال الإقبال و بلوغ الآمال، فله الحمد و المنّة على كلّ حال. «1»‌
______________________________
(1) قال ابن العودي (رحمه الله): «ممّا أخبرني به من الكرامات بعد رجوعه من هذه الزيارة في صفر ستّ و خمسين و تسعمائة أنّه لمّا حرّر الاجتهاد في قبلة العراق و حَقّقَ حالها و اعتبر محراب جامع الكوفة الذي صلّى فيه أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه)، و وَجَدَ محرابَ حضرته المقدّسة مخالفاً لمحراب الجامع و أقام البرهانَ على ذلك، و صلّى فيه منحرفاً نحو المغرب بما يقتضيه الحال، و قرّر ما أدّى إليه اجتهاده في ذلك المجال، و سلم طلبة العلم ذلك، لمّا اتّضح الأمرُ لهم هنالك، و تخلّف رجل أعجميّ عن التسليم ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 180 181).
و قال العلامة الأمين رحمه الله في «أعيان الشيعة» ج 7، ص 153: «ثمّ إنّ بعض العلماء غيّر قبلة مسجد الكوفة لظهور الانحراف فيها إذا عوّل على الجدي. و تطبيق الشهيد الثاني قبلة المشهد الشريف على محراب مسجد الكوفة بناءً على أنّه محراب صلّى فيه معصوم فيه ما لا يخفى؛ فإنّه لا يحصل القطع ببقاء المحراب على ما كان عليه في عهد أمير المؤمنين و ولده الحسن» و لا بكيفيّة صلاتهما إلى ذلك المحراب ..». و انظر أيضاً «كشكول البحراني» ج 3، ص 334329؛ «بحار الأنوار» ج 84، ص 5452، باب القبلة و أحكامها، و ج 100، ص 431 434، باب فضل الكوفة و مسجدها؛ «دروس معرفة الوقت و القبلة» ص 427 432، الدرس 59.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 882‌
و ممّا اتّفق لي أنّي كنتُ جالساً عند رأس الضريح المقدّس ليلةَ الجمعة، و قرأتُ شيئاً من القرآن و توجّهتُ و دعوتُ الله أنْ يُخْرِجَ لي ما أخْتَبِرُ به عاقبةَ أمري بعد هذه السفرة مع الأعداء و الحسّاد و غيرهم، فظهر في أوّل الصفحة اليمنى فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّٰا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» فسجدتُ للّه شكراً على هذه النِّعمة و التفضّلِ بهذه البشارة السنِيّة.
و كان خروجنا من المشاهد الشريفة بعد أنْ أَدْرَكْنا زيارة عرفةَ بالمشهد الحائريّ، و الغديرَ بالمشهد الغَرويّ، و المباهلة بالمشهد الكاظميّ، سابِعَ عَشَرَ شهر ذي الحِجّة الحرام من السنة المتقدّمة، و لم يتّفقْ لنا الإقامةُ لإدراك زيارة عاشوراء مع قرب المدّة؛ لعوارضَ و قواطعَ مَنَعَتْ من ذلك، و الحمد للّه على كلّ حال.
و اتّفَق وصولُنا إلى البلاد مُنْتَصفَ شهرِ صفر سنة 953، و وافَقه من الحروف بحساب الجُمّلِ حروفُ «خَيْر مَعَجّل»، و هو مطابق للواقع. (أحسنَ اللهُ خاتمتَنا بخيرٍ، كما جَعَلَ بِدايتَنا إلى خيرٍ بمنّه و كرمه).
ثمّ أقمنا ببعلبك و دَرّسْنا فيها مدّةً في المذاهب الخمسة و كثيرٍ من الفنون،
______________________________
(1) الشعراء (26): 21.



رسائل الشهيد الثاني (ط - الحديثة)، ج‌2، ص: 883‌
و صاحَبْنا أهلَها على اختلاف آرائهم أحسنَ صُحبةً، و عاشَرْناهم أحسنَ عِشْرة «1»، و كانت أيّاماً ميمونةً و أوقاتاً بَهِجةً، ما رأى أصحابُنا في الأعصار مثلَها «2».
ثمّ انتقلْنا عنهم إلى بلدنا بنيّة المفارقة؛ امتثالًا لأمر إلهي «3»، سابقاً في المشاهد الشريفة و لاحِقاً في المشهد الشريف مشهدِ شيث، و أقَمْنا في بلادنا إلى سنة خمسٍ و خمسين مشتغلين بالدرس و التصنيف «4».
______________________________
(1) «العِشْرة: المخالَطَة و المصاحَبَة» ( «المعجم الوسيط» ص 602، «عشر»).
(2) قال ابن العودي: «كنتُ في خدمته تلك الأيّام، و لا أنسىَ و هو في أعلى مقام و مرجع الأنام و ملاذ الخاصّ و العامّ، و مفتي كلّ فرقةٍ بما يوافق مذهبها، و يدرّس في المذاهب كُتبَها، و كان له في المسجد الأعظم بها درس مضافاً إلى ما ذكر، و صار أهل البلد كلّهم في انقياده و من وراء مراده، بقلوبٍ مخلِصةٍ في الوِداد، و حسن الإقبال و الاعتقاد، و قام سوق العلم بها على طبق المراد، و رجعتْ إليه الفضلاء من أقاصي البلاد، و رقى ناموس السادة و الأصحاب في الازدياد، و كانت عليهم تلك الأيّام من الأعياد ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 182).
(3) يريد الاستخارة.
(4) قال ابن العودي (رحمه الله): « [هذا] آخر ما وجدتُه بخطّه الشريف ممّا نسبتُه إليه من التاريخ المُنيف. و هذا التاريخ كان خاتمة أوقاتِ الأمان و السلامة من الحَدَثان، ثمّ نزل به ما نزل، و ستقف عليه إنْ شاء الله إلى خاتمة الأجل، و لنكمل ما وعدنا به من إتمامه .. أخبرني (قدّس الله لطيفه) و كان في منزلي بجِزّين متخفّياً من الأعداء ليلة الاثنين حادي عشر شهر صفر سنة 956 أنّ ..» ( «الدرّ المنثور» ج 2، ص 182 183).
اعلم أنّا اعتمدنا في تحقيق هذه الرسالة و حواشيها على ثلاث مخطوطاتٍ و «أعيان الشيعة» ج 7، ص 146 153، و المخطوطات غير خالية من الأخطاء، و صحّحناها بقدر الإمكان إلا ما زاغ عنه البصر، فليعذرني القارئ الكريم.













مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام؛ المقدمة، ص: 12
الشهيد يترجم نفسه‌
نقل ابن العودي في رسالته هذه، الترجمة عن خط الشهيد- قدس اللّه نفسه-، و فيه من تاريخ ولادته و حياته و أسفاره و جولاته العلمية و سعة ثقافته‌
______________________________
(1) الدر المنثور 2: 153.



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 13‌
و أسماء أساتذته من العامّة و الخاصّة و شؤون اخرى من حياته المليئة بالعبر و الكرامات ما يغنينا عن نقل غيره. فرأينا أن ننقله هنا تماما لمزيد الفائدة.
قال قدس سرّه:
«هذه جملة من أحوالي و تصرّف الزمان بي في عمري و تاريخ بعض المهمات التي اتفقت لي».
كان مولدي في يوم الثلاثاء، ثالث عشر شوال سنة إحدى عشرة و تسعمائة (911) من الهجرة النبوية، و لا أحفظ مبدأ اشتغالي بالتعلم، لكن كان ختمي لكتاب اللّه العزيز سنة عشرين و تسعمائة (920) من الهجرة النبوية و سني إذ ذاك تسع سنين، و اشتغلت بعده بقراءة الفنون العربية و الفقه على الوالد- قدّس اللّه سرّه-، الى أن توفي في العشر الأوسط من شهر رجب يوم الخميس سنة خمس و عشرين و تسعمائة (925) و كان من جملة ما قرأته عليه من كتب الفقه «النافع مختصر الشرائع» و «اللمعة الدمشقية».
ثمَّ ارتحلت في تلك السنة مهاجرا في طلب العلم الى «مبس»، و كان ابتداء الانتقال في شهر شوّال من السنة المذكورة، و اشتغلت على شيخنا الجليل الشيخ علي بن عبد العالي- قدّس اللّه سرّه- من تلك السنة إلى أواخر سنة ثلاث و ثلاثين و تسعمائة (933) و كان من جملة ما قرأته عليه: «شرائع الإسلام» و «الإرشاد» و أكثر «القواعد».
ثمَّ ارتحلت في شهر ذي الحجة إلى «كرك نوح» عليه السلام و قرأت بها على المرحوم المقدس السيد حسن بن السيد جعفر، جملة من الفنون، و كان ممّا قرأته عليه «قواعد ابن ميثم البحراني» في الكلام و «التهذيب» في أصول الفقه و «العمدة الجليلة في الأصول الفقهية» من مصنفات السيد المذكور و «الكافية» في النحو، و سمعت جملة من الفقه و غيره من الفنون.
ثمَّ انتقلت إلى «جبع» وطني الأول زمن الوالد في شهر جمادي الآخرة سنة أربع و ثلاثين (934)، و أقمت بها مشتغلا بمطالعة العلم و المذاكرة إلى سنة‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 14‌
(937).
ثمَّ ارتحلت إلى «دمشق» و اشتغلت بها على الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمّد بن مكّي، فقرأت عليه من كتب الطب، شرح الموجز التفليسي و «غاية القصد في معرفة الفصد» من مصنفات الشيخ المبرور المذكور، و «فصول الفرغاني» في الهيئة و بعض «حكمة الإشراق» للسّهروردي، و قرأت في تلك المدّة بها على المرحوم الشيخ احمد بن جابر «الشاطبية» في علم القراءات، و قرأت عليه القرآن بقراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو و عاصم.
ثمَّ رجعت الى «جبع» سنة (938) و بها توفّي شيخنا الشيخ شمس الدين المذكور و شيخنا المتقدم الأعلى الشيخ علي في شهر واحد و هو شهر جمادى الاولى، و كانت وفاة شيخنا السيد حسن، سادس شهر رمضان سنة (93)، و أقمت بالبلدة المذكورة إلى تمام سنة (941).
و رحلت إلى مصر في أول سنة (942) لتحصيل ما أمكن من العلوم، و اجتمعت في تلك السّفرة بجماعة كثيرة من الأفاضل، فأول اجتماعي بالشيخ شمس الدين بن طولون الدّمشقي الحنفي، و قرأت عليه جملة من الصحيحين و أجازني روايتهما مع ما يجوز له روايته في شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة.
و كان وصولي إلى مصر يوم الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من السنة المتقدمة، و اشتغلت بها على جماعة، منهم:
- الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي: قرأت عليه «منهاج النووي» في الفقه و أكثر «مختصر الأصول» لابن الحاجب و شرح العضدي مع مطالعة حواشيه منها السّعدية و الشريفية. و سمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون العربية و العقلية و غيرهما، فمنها شرح التلخيص المختصر في المعاني و البيان لملا سعد الدين، و منها شرح تصريف العربي و منها شرح الشيخ المذكور لورقات امام الحرمين الجويني في أصول الفقه و توضيح ابن هشام في النحو و غير ذلك مما‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 15‌
يطول ذكره. و أجازني اجازة عامّة بما يجوز له روايته، سنة (943).
- و منهم الملّا حسين الجرجاني: قرأنا عليه جملة من «شرح التجريد» للملّا علي القوشجي مع حاشية ملّا جلال الدين الدّواني و «شرح أشكال التأسيس» في الهندسة لقاضي زاده الرّومي و «شرح الجغميني» في الهيئة له.
- و منهم الملّا محمد الأسترابادي: قرأنا عليه جملة من «المطول» مع حاشية السيد الشريف و «الجامي» شرح الكافية.
- و منهم الملّا محمد الكيلاني: سمعنا عليه جملة من المعاني و المنطق.
- و منهم الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي: قرأت عليه جميع «شرح الشافية» للجاربردي و جميع «شرح الخزرجية» في العروض و القوافي للشّيخ زكريا الأنصاري و سمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون و الحديث منها: الصحيحان، و أجازني جميع ما قرأت و سمعت و ما يجوز له روايته في السنة المذكورة.
- و منهم الشّيخ أبو الحسن البكري: سمعت عليه جملة من الكتب في الفقه و التفسير و بعض شرحه على المنهاج.
- و منهم الشيخ زين الدين الحري المالكي: قرأت عليه «ألفية ابن مالك».
- و منهم الشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني المالكي، محقق الوقت و فاضل تلك البلدة. لم أر بالديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية و العربية. سمعت عليه «البيضاوي» في التفسير و غيره من الفنون.
- و منهم الشيخ ناصر الدين الطلاوي الشافعي: قرأت عليه القرآن بقراءة أبي عمرو و رسالة في القراءات من تأليفه.
- و منهم الشيخ شمس الدين محمد أبي النجا النّحاس «1» قرأت عليه «الشاطبية» في القراءات و القرآن العزيز للأئمة السّبعة، و شرعت ثانيا أقرأ عليه‌
______________________________
(1) كذا في الدر المنثور و لم نجد له ترجمة لنحقق عن اسمه.



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 16‌
للعشرة و لم أكمل الختم بها.
- و منهم الشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهودي قرأت عليه جملة صالحة من الفنون، و أجازني إجازة عامّة.
- و منهم الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي:
قرأت عليه كتبا كثيرة في الحساب الهوائي، و «المرشدة» في حساب الهندر الغباري، و «الياسمينية» و شرحها في علم الجبر و المقابلة. و «شرح المقنع» في علم الجبر و المقابلة. و سمعت عليه بعض شرح «الوسيلة». و أجازني اجازة عامة.
و سمعت بالبلد المذكور من جملة متكثرة من المشايخ يطول الخطب بتفصيلهم، و منهم الشيخ عميرة، الشيخ شهاب الدين بن عبد الحق و الشيخ شهاب الدين البلقيني و الشيخ شمس الدين الديروطي و غيرهم.
ثمَّ ارتحلت من مصر الى الحجاز الشريف سابع عشر شهر شوال سنة (943) و رجعت إلى وطني الأوّل بعد قضاء الواجب من الحج و العمرة و التمتّع بزيارة النبي و آله و أصحابه صلوات اللّه عليهم. و وصلت رابع عشر شهر صفر سنة (944)، و أقمت بها إلى سنة ست و أربعين (946).
و سافرت إلى العراق لزيارة الأئمة عليهم السّلام و كان خروجي سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة (946) و رجوعي خامس عشر شهر شعبان منها.
و سافرت لزيارة بيت المقدس، منتصف ذي الحجة سنة (948)، و اجتمعت في تلك السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، و قرأت عليه بعض صحيح البخاري و بعض صحيح مسلم و أجازني إجازة عامّة. ثمَّ رجعت إلى الوطن الأوّل المتقدم و أقمت به إلى أواخر سنة احدى و خمسين (951) مشتغلا بمطالعة العلم و مذاكرته مستفرغا و سعي في ذلك.
ثمَّ برزت إلى الأوامر الإلهية و الإشارات الربّانية بالسفر إلى جهة الروم و الاجتماع بمن فيها من أهل الفضائل و العلوم و المتعلق بسلطان الوقت و الزمان، السّلطان سليمان بن عثمان، و كان ذلك على خلاف مقتضى الطبع‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 17‌
و سياق الفهم، لكن ما قدّر، لا تصل إليه الفكرة الكلية و المعرفة القليلة من أسرار الحقائق و أحوال العواقب. و الكيّس الماهر هو المستسلم في قبضة العالم الخبير القاهر، الممتثل لأوامره الشريفة، المنقاد إلى طاعته المنيفة، كيف لا و انّما يأمر بمصلحة تعود على المأمور مع اطلاعه على دقائق عواقب الأمور و هو الجواد المطلق و الرحيم المحقق. و الحمد للّه على انعامه و إحسانه و امتنانه، و الحمد للّه الذي لا ينسى من ذكره و لا يهمل من غفل عنه و لا يؤاخذ من صدف عن طاعته بل يقوده إلى مصلحته و يوصله إلى بغيته.
و كان الخروج إلى السّفر المذكور- بعد بوادر الأوامر به و النواهي عن تركه و التخلف عنه و تأخيره إلى وقت آخر- ثاني عشر شهر ذي الحجة الحرام سنة (951)، و أقمت بمدينة «دمشق» بقية الشّهر، ثمَّ ارتحلت إلى «حلب» و وصلت إليها يوم الأحد سادس عشر شهر المحرم سنة (952)، و أقمت بها إلى السّابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
و من غريب ما اتفق لنا بحلب، أنّا أزمعنا عند الدخول إليها على تخفيف الإقامة بها بكل ما أمكن و لم ننو الإقامة، فخرجت قافلة إلى الروم على الطريق المعهود المارّ بمدينة «أذنة» فاستخرنا اللّه على مرافقتها فلم يخر لنا، فكان قد تهيأ بعض طلبة العلم من أهل الروم إلى السفر على طريق «ملوقات» و هو طريق غير مسلوك غالبا لقاصد قسطنطنية، و ذكروا أنه قد تهيّأ قافلة للسّفر على الطريق المذكور، فاستخرنا الله تعالى على السّفر معهم، فأخار به فتأخّر سفرهم و ساءنا ذلك، فتفألت بكتاب اللّه تعالى على الصبر و انتظارهم، فظهر قوله تعالى:
وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لٰا تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ «1» فاطمأنّت النفس لذلك، و خرجت قافلة أخرى من طريق «أذنة» و أشار الأصحاب برفقتهم لما يظهر من مناسبتهم، فاستخرت اللّه تعالى‌
______________________________
(1) الكهف: 28.



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 18‌
على صحبتهم، فلم يظهر خيرة، و تفألت بكتاب اللّه تعالى على انتظار الرفقة الاولى و ان تأخروا كثيرا، فظهر قوله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ. فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ ثمَّ خرجت قافلة أخرى على طريق «أذنة» فاستخرت اللّه تعالى على الخروج معها فلم يظهر خيرة، فضقت لذلك ذرعا و سئمت الإقامة، و تفألت بكتاب اللّه تعالى في ذلك، فظهر قوله تعالى وَ اتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحٰاكِمِينَ «1» ثمَّ خرجت قافلة رابعة على الطريق المذكور، فاستخرت اللّه تعالى على رفقتها، فلم يظهر خيرة. و كانت القافلة التي أمرنا بالسفر معها تسوّفنا بالسفر يوما و تكذب كثيرا في أخبارنا، ففتحت المصحف صبيحة يوم السبت و تفألت به فظهر قوله تعالى وَ تَتَلَقّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ هٰذٰا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «2». فتعجّبنا من ذلك غاية العجب و قلنا ان كانت القافلة تسافر في هذا اليوم فهو من أعجب الأمور و أغربها و أتمّ البشائر بالخير و التوفيق، فأرسلنا بعض أصحابنا يستعلم الخبر، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك و احملوا «امتعتكم» ففي هذا اليوم نخرج. فحمدنا اللّه تعالى على هذه النعم العظيمة و المنن الجسيمة التي لا نقدر على شكرها.
ثمَّ بعد ذلك ظهر لاقامتنا بحلب تلك المدة فوائد و اسرار لا يمكن حصرها، و ظهر لسفرنا على الطريق المذكور أيضا فوائد و أسرار و خيرات لا تحصى، و أقلّها أنه بعد ذلك بلغنا ممّن سافر على تلك الطريق التي نهينا عنها أن علّيق الدواب و زاد الناس كان في غاية القلة و الصعوبة و الغلاء العظيم، حتى أنهم كانوا يشترون العلّيقة الواحدة بعشرة دراهم عثمانية، و احتاجوا مع ذلك إلى حمل الزّاد أربعة أيّام لعدم وجوده في الطريق، لا للدواب و لا للإنسان، فلو نسافر في تلك الطريق، لاتّجه علينا ضرر عظيم لا يوصف، بل لا يفي جميع ما كان بيدنا من المال بالصّرف في الطريق.
______________________________
(1) يونس: 109.
(2) الأنبياء: 103‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 19‌
و كان وصولنا إلى مدينة قسطنطنية يوم الاثنين، سابع عشر من شهر ربيع الأول من السنة السّابعة و هي سنة (952)، و وفّق اللّه تعالى لنا منزلا حسنا وقفا من أحسن مساكن البلد قريبا إلى جميع أغراضنا، و بقيت بعد وصولي ثمانية عشر يوما لا اجتماع بأحد من الأعيان، ثمَّ اقتضى الحال ان كتبت في هذه الأيام رسالة جيدة تشتمل على عشرة مباحث جليلة، كلّ بحيث في فنّ من الفنون العقلية و الفقهية و التفسير و غيرها، و أوصلتها إلى قاضي العسكر و هو محمد بن قطب الدين بن محمد بن محمد بن قاضي زاده الرّومي، و هو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من أحسن الناس خلقا و تهذيبا و أدبا، فوقعت منه موقعا حسنا و حصل لي بسبب ذلك منه حظّ عظيم، و أكثر من تعريفي و الثناء عليّ، و اتفق في خلال المدة بيني و بينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق.
ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به، أرسل اليّ الدفتر المشتمل على الوظائف و المدارس و بذل لي ما أختاره، و أكّد في كون ذلك في الشام أو في حلب، فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النورية ببعلبك لمصالح وجدتها و لظهور أمر اللّه تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي بها إلى السلطان سليمان و كتب لي بها براءة و جعل لي لكل شهر ما شرطه واقفها السلطان نور الدين الشهيد، و اتفق من فضل اللّه و سبحانه و منّه لي في مدة إقامتي بالبلدة المذكورة من الألطاف الإلهيّة و الأسرار الربّانية و الحكم الخفيّة، ما يقصر عنه البيان، و يعجز عن تحريره البنان، و يكلّ عن تقريره اللّسان فللّه الحمد و المنة و الفضل و النعمة على هذا الشأن و نسأله أن يتمّ علينا منه الإحسان إنه الكريم الوهّاب المنّان.
و من غريب ما اتفق لي من نعم اللّه تعالى و فضله و كرمه وجوده زمان إقامتي بمدينة قسطنطنية، أن خرجت يوما مع الأصحاب و كان ذلك اليوم في شهر جمادي الأولى، لزيارة مشهد شريف هناك يسمونه «أبا أيوب الأنصاري الصحابي» و كان قد بنى عليه السلطان محمد مشهدا خارج البلد. فلما كنت في‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 20‌
المشهد، قرأت جزءا من القرآن و أخذت المصحف و تفألت به أن يكشف لي عن حال حمل كنت قد فارقته بالزوجة قبل سفري و ميعاد ولادته أوائل شهر جمادى المذكور، فظهر لي في أوّل الفاتحة فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلٰامٍ حَلِيمٍ فسجدت للّه شكرا و رجوت من اللّه تعالى أن يحقق لي ذلك و أن يكون قد رزقني ولدا ذكرا مباركا ميمونا حميد العاقبة، فكتبت صورة الفال و التاريخ في تلك الساعة في رقعة، و استمرّ الحال إلى أن خرجت من المدينة المذكورة إلى مدينة «اسكدار» و هي قريبة منها، بينها و بينها قطعة يسيرة من البحر، سيرها نحو ميل، فجاءني- و أنا مقيم بها- في يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رجب من السنة المذكورة كتب من أصحابنا بالبلاد في بعضها بشارة بولد ذكر ولد في المدة المذكورة.
و كانت مدة إقامتي بمدينة قسطنطنية ثلاثة أشهر و نصفا. و خرجت منها يوم السبت، حادي عشر شهر رجب في السنة المذكورة و عبرت البحر إلى مدينة «اسكدار» و هي مدينة حسنة جيدة، صحيحة الهواء، عذبة الماء، محكمة البناء، يتصل بكل دار منها بستان حسن يشتمل على الفواكه الجيدة العطرة على شاطئ البحر، مقابلة لمدينة قسطنطنية بينهما البحر خاصّة. و أقمت بها أنظر وصول صاحبنا الشيخ حسين بن عبد الصمد «1» لأنه احتاج الى التأخر عن تلك الليلة.
و كان خروجنا من «اسكدار» متوجهين الى العراق يوم السبت لليلتين خلتا من شهر شعبان، و اتفق أن طريقنا إليها هي الطريق التي سلكناها من «سيواس» إلى «اصطنبول» و وصلنا إلى مدينة «سيواس» يوم الاثنين لخمس بقين من شهر شعبان، و خرجنا منها يوم الأحد ثاني شهر رمضان متوجّهين إلى العراق، و هو أول ما فارقناه من الطريق الاولى و خرجنا في حال نزول الثلج و بتنا ليلة الاثنين أيضا على الثلج و كانت ليلة عظيمة البرد.
______________________________
(1) والد الشيخ البهائي قدس سرهما.



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 21‌
و من غريب ما اتفق لي تلك الليلة إن نمت يسيرا فرأيت في تلك الليلة كأني في حضرة شيخنا الجليل محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله، و هو شيخ بهي جميل الوجه عليه أبهة العلم و نحوه نصف لمته بياض، و معي جماعة من أصحابي منهم رفيقي و صديقي الشيخ حسين بن عبد الصمد، فطلبنا من الشيخ أبي جعفر الكليني المذكور نسخة الأصل لكتابة الكافي لننسخه، فدخل البيت و أخرج لنا الجزء الأول منه في قالب نصف الورق الشّامي ففتحه فاذا هو بخط حسن معرّب مصحّح و رموزه مكتوبة بالذهب، فجعلنا نتعجب من كون نسخة الأصل بهذه الصفة، فسررنا بذلك كثيرا لما كنا قبل ذلك قد ابتلينا به من رداءة النسخ. فطلبت منه بقية الأجزاء فجعل يتألم من تقصير الناس في نسخ الكتاب و تصحيحه و قال: اشتغلوا بهذا الجزء إلى أن أجد لكن غيره. ثمَّ دخل الى بيته لتحصيل باقي الأجزاء ثمَّ خرج إلينا و بيده جزء بخط غيره على قالب الورق الشّامي الكامل و هو ضخم غير جيد الخط، فدفعه إلي و جعل يشتكي إلينا من كتابة كتابة بهذه الصّورة و يتألم من ذلك، و كان في المجلس الأخ الصالح الشيخ زين الدين الفقعاني نفعنا اللّه ببركته فقال: أنا عندي جزء آخر من نسخة الأصل على الوصف المتقدم و دفعه إليّ فسررت كثيرا، ثمَّ فتّش البيت و أخرج جزءا آخر الى تمام أربعة أجزاء أو أكثر بالوصف المتقدم، فسررنا بها و خرجنا بالأجزاء إلى الشيخ الجليل المصنّف و هو جالس في مكانه الأوّل، فلما جلسنا عنده أعدنا فيما بيننا و بينه ذكر نسخ الكتاب و تقصير الناس فيه، فقلت:
يا سيدنا بمدينة دمشق رجل من أصحابنا اسمه زين العابدين الغرابيلي قد نسخ كتابك هذا نسخة في غاية الجودة في ورق جيد و جعل الكتاب في مجلدين كل واحد بقدر كتاب الشّرائع، و هذه النسخة فخر على المخالف و المؤالف فتهلّل وجه الشيخ رحمه اللّه سرورا و أظهر الفرح و فتح يديه و دعا له بدعاء خفي لم أحفظ لفظه، ثمَّ انتبهت.
و انتهينا بعد أربعة أيام من اليوم المذكور إلى مدينة «ملطية» و هي مدينة‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 22‌
لطيفة كثيرة الفواكه تقرب من أصل منبع الفرات و مررنا بعد ذلك بمدينة لطيفة تسمى «أزغين» و هي قريبة من منبع الدجلة.
و كان وصولنا الى المشهد المقدس المبرور المشرف بالعسكريين بمدينة «سامراء» يوم الأربعاء رابع شهر شوال، و أقمنا به ليلة الخميس و يومه و ليلة الجمعة.
ثمَّ توجها إلى «بغداد» و وصلنا إلى المشهد المقدّس الكاظمي يوم الأحد ثامن الشهر و أقمنا به الى يوم الجمعة و توجهنا ذلك اليوم لزيارة ولي اللّه تعالى «سلمان الفارسي» و «حذيفة بن اليمان» رضي اللّه عنهما.
و رحلنا منه إلى مشهد الحسين عليه السلام و وصلنا يوم الأحد منتصف الشهر المذكور، و أقمنا به الى يوم الجمعة.
و توجهنا منه إلى «الحلة» و أقمنا بها إلى يوم الجمعة، و توجهنا منها إلى زيارة القاسم ثمَّ إلى «الكوفة» و منها إلى المشهد المقدس الغروي، و وصلنا اليه يوم الأربعاء ثالث شهر ذي القعدة الحرام و أقمنا به بقية الشهر.
و اتفق لنا من فضل اللّه تعالى و كرمه و رأفته و عنايته من التوفيقات الإلهية و الخيرات الربانية و التأييدات السّبحانية و النعمة الشاملة و الرحمة الواصلة ما لا يقتضي الحال ذكره و مفيضه سبحانه أعلم به، و نسأل من فضله العميم و كرمه الجسيم أن يمدنا بفضله و يجود علينا بستره و كفايته كما عوّدنا ذلك فيما سلف، و أن يعصمنا فيما بقي من كل ما يخالف رضاه و يبعد عن جواره، و يحرسنا بعين عنايته، و قد أظهر اللّه سبحانه لجماعة من الصالحين بالمشهدين و غيرهما آيات باهرة و منامات صالحة و أسرارا خفيّة أوجبت كمال الإقبال و بلوغ الآمال، فله الحمد و المنة على كل حال.
و مما اتفق لي أني كنت جالسا عند رأس الضريح المقدس ليلة الجمعة و قرأت شيئا من القرآن و توجهت و دعوت اللّه أن يخرج لي ما اختبر به عاقبة أمري بعد هذه السّفرة مع الأعداء و الحسّاد و غيرهم، فظهر في أول الصفحة اليمنى‌



مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، المقدمة، ص: 23‌
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّٰا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فسجدت اللّه شكرا على هذه النعمة و التفضّل بهذه البشارة السنيّة.
و كان خروجنا من المشاهد الشريفة بعد أن أدركنا زيارة عرفة بالمشهد الحائري و الغدير بالمشهد الغروي و المباهلة بالمشهد الكاظمي سابع عشر شهر ذي الحجة الحرام من السنة المتقدمة و لم يتفق لنا الإقامة لإدراك زيارة عاشوراء مع قرب المدة لعوارض و قواطع منعت من ذلك و الحمد للّه على كل حال.
و اتفق وصولنا الى البلاد منتصف شهر صفر سنة (953) و وافقه من الحروف بحساب الجمل حروف «خير معجل» و هو مطابق للواقع أحسن اللّه خاتمتنا بخير كما جعل بدايتنا الى خير، بمنّه و كرمه.
ثمَّ أقمنا ببعلبك و درسنا فيها مدة في المذاهب الخمسة و كثير من الفنون و صاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة و عاشرناهم أحسن عشرة، و كانت أياما ميمونة و أوقاتا مبهجة، ما رأى أصحابنا في الأعصار مثلها.
ثمَّ انتقلنا عنهم إلى بلدنا بنيّة المفارقة امتثالا للأمر الإلهي سابقا في المشاهد الشريفة و لاحقا في المشهد الشريف، مشهد شيث عليه السلام، و أقمنا في بلادنا إلى سنة خمس و خمسين مشتغلين بالدرس و التصنيف «1».
______________________________
(1) الدر المنثور- ج 2- من ص 158- 182.























حواشی و شروح کتاب الروضة البهیة-ایجاد شده توسط: حسن خ