بسم الله الرحمن الرحیم
الانتصار، 99-100
مسألة [9] [كيفية غسل اليدين] و مما انفردت به الإمامية الابتداء في غسل اليدين للوضوء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع. و في أصحابنا من يظن وجوب ذلك حتى أنه لا يجزئ خلافه، و قد ذكرت في كتاب مسائل الخلاف، و في جواب مسائل أهل الموصل الفقهية أن الأولى أن يكون ذلك مسنونا و مندوبا إليه و ليس بفرض حتم، فقد انفردت الشيعة على كل حال بأنه مسنون على هذه الكيفية. و باقي الفقهاء يقولون: هو مخير بين الابتداء بالأصابع و بين الابتداء بالمرافق . و الحجة على صحة ما ذهبنا إليه: مضافا إلى الإجماع الذي ذكرناه، أن الحدث إذا تيقن فلا يزول إلا بأمر متيقن، و ما هو مزيل له بيقين أولى و أحوط مما ليس هذه صفته، و قد علمنا أنه إذا غسل من المرافق إلى الأصابع كان مزيلا للحدث عن اليدين بالإجماع و اليقين، و ليس كذلك إذا غسل من الأصابع، فالذي قلناه أحوط. و مما يجوز أن يحتج به على المخالف ما رووه كلهم عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنه توضأ مرة مرة، ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فلا يخلو من أن يكون ابتدأ من المرافق أو انتهى إليها، فإن كان مبتدئا بالمرافق فيجب أن يكون خلاف ما فعله غير مقبول. و لفظة «مقبول» يستفاد بها في عرف الشرع أمران: أحدهما: الإجزاء، كقولنا: لا تقبل صلاة بغير طهارة. و الأمر الآخر: الثواب عليها، كقولنا: إن الصلاة المقصود بها الرياء غير مقبولة، بمعنى سقوط الثواب و إن لم يجب إعادتها. و قول المعتزلة: إن صلاة صاحب الكبيرة غير مقبولة، لأنه لا ثواب عندهم عليها، و إن كانت مجزية لا يجب إعادتها. و يجب حمل لفظة نفي القبول على الأمرين، غير أنه إذا قام الدليل على أن من غسل يديه و ابتدأ بأصابعه و انتهى إلى المرافق يجزي و ضوؤه، بقي المعنى الآخر و هو نفي الثواب و الفضل، و هو مرادنا.
التذکره باصول الفقه، ص 30
و امتثال الأمر مجز لصاحبه
و مسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه
. فصل في الأمر «12» هل يقتضى إجزاء الفعل المأمور به
اعلم أنّ «13» جميع الفقهاء يذهبون إلى أنّ امتثال الفعل «14» المأمور به يقتضى إجزاءه. و ذهب قوم إلى أنّ إجزاءه إنّما يعلم بدليل، و غير ممتنع ألاّ يكون مجزيا. و الكلام في هذا الموضع إنّما «15» هو في مقتضى
__________________________________________________
(1)- ب: و ان.
(2)- ب:- لا بد،+ و ليس هناك سبب وجوب.
(3)- الف: التعبد.
(4)- ب: لم يصل.
(5)- الف: فجعل.
(6)- ب:- مثله.
(7)- الف:- بنية مخصوصة.
(8)- ج:- و.
(9)- الف: فلذلك.
(10)- ب: و السبب.
(11)- ج: أيضا.
(12)- الف:- في الأمر.
(13)- ب:- ان.
(14)- الف:- الفعل.
(15)- ج:- يعلم، تا اينجا.
الذريعة إلى أصول الشريعة، ج1، ص: 122
وضع اللّغة و عرفها، و أمّا «1» عرف الشّرع فإنّا قد بيّنّا أنّه قد «2» استقرّ على أنّ فعل المأمور به على الحدّ الّذي تعلق «3» به الأمر يقتضى الإجزاء.
و الّذي يدلّ على «4» أنّ وضع اللّغة لا يقتضى ذلك أنّ الإشارة بقولنا «إجزاء» هو إلى أحكام شرعيّة، كنحو وقوع التّملّك بالبيع، و حصول الاستباحة بعقد النّكاح، و وقوع البينونة و الفرقة بالطلاق، و في الصّوم أنّه وقع موقع الصحّة فلا يجب إعادته، و كذلك في الصّلاة، و قد علمنا أنّ هذه الأحكام لا تتعلّق «5» بالأمر، لا في لفظه «6»، و لا في معناه، نفيا، و لا إثباتا، فكيف يدلّ امتثاله على ثبوتها و لا علقة بينها و بينه، و إنّما يدلّ امتثال أمر الحكيم على أنّ «7» الفاعل مطيع مستحقّ للمدح «8» و الثّواب، لأنّ للأمر «9» تعلّقا بذلك، و لا تعلّق له بما تقدّم ذكره من الأحكام الشّرعيّة.
و ربّما تعلّق في ذلك بأنّ الظانّ في آخر الوقت كونه متطهّرا يلزمه بإجماع «10» فعل الصّلاة، فلو ذكر «11» أنّه لم يكن متطهّرا، لما أجزأه «12» فعله، و «13» لوجب عليه القضاء، و كذلك «14» المفسد لحجّه
__________________________________________________
(1)- الف و ب: فاما.
(2)- الف:- قد.
(3)- ب و ج: يتعلق.
(4)- ج:+ ذلك.
(5)- ج: يتعلق.
(6)- ج:- لفظه.
(7)- ب:- ان.
(8)- الف: المدح، ج: لمدح.
(9)- ج: الأمر.
(10)- ج: باجتماع.
(11)- ج: ذكره.
(12)- ج: إجراؤه.
(13)- ب:- و.
(14)- ب: لذلك.
الذريعة إلى أصول الشريعة، ج1، ص: 123
يلزمه المضي فيه، و إن لزمه القضاء، فقد اجتمع- كما تراه- وجوب الفعل مع أنّه غير مجز.
و قد طعن قوم «1» في ذلك بأن قالوا: إنّما جاز في الظّانّ كونه متطهّرا و المفسد «2» حجّه ما ذكرتم، «3» لوقوع الاختلال «4» في فعله، لأنّه لما تيقّن أنّه لم يكن متطهّرا، كان مؤدّيا للصّلاة على غير الوجه الّذي أمر بأدائها عليه، و كذلك المفسد لحجّه، و إنّما يوجب الإجزاء و الصّحة في الفعل الّذي وقع على شرائطه كلّها المشروعة.
و هذا من الطاعن به غير صحيح، لأنّه «5» إن ادّعى أنّ تكامل «6» شرائط «7» الفعل الشّرعيّ «8» يقتضى إجزاءه، و أنّه إنّما لا يجزى لفساد أو إخلال «9» بشيء من الشّرائط، مع استقرار شرعنا هذا، فالأمر على ما ذكره، و قد زدنا على ذلك بأنّ «10» أهل الشّريعة قد تعارفوا و أجمعوا على أنّ امتثال الأمر يقتضى الإجزاء. و إن «11» ادّعى أنّ ذلك واجب على كلّ حال، و مع كلّ شرع، و من غير «12» دلالة الإجماع الّتي أشرنا إليها «13»، فمن أين
__________________________________________________
(1)- الف:- قوم.
(2)- الف: مفسد.
(3)- الف: ذكرناه.
(4)- ج: الاختلاف.
(5)- ب: لأن.
(6)- ب: يكامل.
(7)- ج: الشرائط.
(8)- الف: الشرعية.
(9)- ج: إذ اختلال.
(10)- ب: ان.
(11)- ج: فان.
(12)- ب و ج: قبل.
(13)- ب و ج: إليه.
الذريعة إلى أصول الشريعة، ج1، ص: 124
قال ذلك، و هل هو إلاّ محض الدّعوى، و ما «1» المانع من أن يأمر بالبيع تقديرا و فرضا، فيكون فاعله مطيعا له «2» و «3» مستحقّا للمدح و الثّواب، من غير «4» أن يتعلّق بهذا العقد هذه الأحكام المخصوصة، و كذلك القول في النّكاح و الطلاق، و «5» إذا كنّا «6» لا نوجب «7» تعلّق هذه الأحكام في كلّ حال و مع كلّ «8» شرع، فما المانع من انتفائها مع امتثال الأمر.
و اعتمادهم على أنّ القضاء في الشّريعة إنّما يقتضيه إخلال أو فساد يقع فيها صحيح، و الشّرع هذا و الحال هذه، فمن أين «9» وجوبه على كلّ حال.
و قول من يقول منهم، كيف يجوز أن يقول: صلّ الظهر أربعا على شرائط يذكرها، ثمّ يقول «10»: فإذا فعلت ذلك فاقضها بأربع ركعات، و هو إذا «11» تعبّد بذلك، كانت الثّانية عبادة مستأنفة غير قضاء للأولى، عجيب، لأنّه غير ممتنع ذلك فرضا و تقديرا، و إنّما يمتنع «12» و «13» الشّرع هذا، و ما المانع من أن تكون «14» العبادة بالصّلاة الثّانية تسمّى «15» قضاء
__________________________________________________
(1)- ب: و لا.
(2)- ب:- له.
(3)- ب: أو.
(4)- ب: غيره.
(5)- الف و ج:- و.
(6)- الف: كانا.
(7)- الف: يوجب.
(8)- ب:- كل.
(9)- ج:+ على.
(10)- ج: نقول.
(11)- ب:- إذا.
(12)- ج: ممتنع.
(13)- الف: في، بجاى «و».
(14)- ج و ب: يكون.
(15)- ج و ب: يسمى.
الذريعة إلى أصول الشريعة، ج1، ص: 125
على عرف هو غير عرفنا «1» الآن. على أنّه قد يتعلّق بالصّلاة المجزية أحكام هي «2» غير سقوط الإعادة، مثل حقن دم المصلّي و كونها على بعض الوجوه دلالة على إيمانه و إسلامه، فما المانع من «3» أن يفعل الصّلاة، و لا يثبت لها شيء من هذه الأحكام.
العدة في أصول الفقه، ج1، ص: 212
فصل- 10 «في أن الأمر هل يقتضي كون المأمور به مجزيا أم لا [1]؟
ذهب الفقهاء بأجمعهم و كثير من المتكلمين إلى أن الأمر بالشيء يقتضي
__________________________________________________
[1] ينبغي لنا قبل بيان اختلاف آراء الفقهاء و المتكلمين حول هذه المسألة أن نحرر محل النزاع، فنقول يفهم من كلمات الأصوليين أنه لا خلاف أن المكلف لو أتى بالمأمور به على الوجه الصحيح مع تمامية الأجزاء و الشرائط يكون مجزيا و يسقط التكليف عن ذمته، كما انه لا خلاف في عدم الاجزاء لو أتى بالمأمور به مختل الأجزاء و الشرائط و يكون عليه القضاء. و إنما الخلاف- كما يستفاد من كلام الشيخ الطوسي حين استدلاله على مذهبه المختار- فيما إذا أتى المكلف بالمأمور به على الوجه الّذي تناوله الأمر، أي على صفة الكمال، فهل الإتيان بالمأمور به على هذا الوجه يستلزم سقوط القضاء، أو يبقى احتمال ضرورة القضاء باقيا؟ قولان في المسألة:
1- الاجزاء: و هو مذهب عامة الفقهاء و جمهور الأصوليين و كثير من المتكلمين.
2- عدم الاجزاء، بمعنى أنه لا يمتنع أن يكون مجزيا و برغم ذلك يحتاج إلى القضاء، أو أن إجزاءه يفتقر إلى دليل آخر، و هذا مذهب جماعة كثيرة من المتكلمين كالقاضي عبد الجبار (في كتابه «العمد» كما نقله الشيرازي و غيره) و أبو هاشم الجبائي و أتباعه.
انظر: «التبصرة: 85، الأحكام للآمدي 2: 162، الإبهاج 1: 117، شرح اللمع 1: 264، ميزان الأصول 1:
252- 251، المنخول: 118- 117، المستصفى: 2: 5، روضة الناظر: 181، المعتمد في الأصول 1: 90».
أما الإمامية: فقد ذهب الشيخ المفيد (ره) (التذكرة: 30)- و تابعة على ذلك الشيخ الطوسي- إلى أن امتثال الأمر مجز لصاحبه و مسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه. و أما الشريف المرتضى (ره) (الذريعة: 1- 122- 121) فإنه ذهب إلى أن الامتثال في عرف الشرع يقتضي الاجزاء دون وضع اللغة الّذي
العدة في أصول الفقه، ج1، ص: 213
كونه مجزيا إذا فعل على الوجه الّذي تناوله الأمر.
و قال كثير من المتكلمين: إنه لا يدل على ذلك و لا يمتنع أن لا يكون مجزيا و يحتاج إلى القضاء «1».
و الصحيح هو الأول.
و الّذي يدل على ذلك: أن الأمر يدل على وجوب المأمور به، و كونه مصلحة إذا فعل على الوجه الّذي تناوله الأمر، فإذا فعل كذلك فلا بد من حصول المصلحة [1] به و استحقاق الثواب عليه، لأنه لو لم تكن مصلحة لم يحسن من الحكيم إيجابه، و لبطل «2» كونه مصلحة على ما تناوله الأمر.
و ليس لهم أن يقولوا: أنه لا يمتنع أن يوقع الفعل على الوجه الّذي تناوله الأمر و تحصل مصلحة و يستحق الثواب عليه، إلا أنه يحتاج إلى أن يقضيه دفعة أخرى، كما أن المفسد للحج يلزمه المضي فيه و مع ذلك يلزمه قضاؤه، و كذلك الظان لكونه متطهرا في آخر الوقت يلزمه الصلاة، ثم إذا علم أنه كان غير متطهر يلزمه قضاؤه «3».
و ذلك الّذي ذكروه لا يدل على أنه غير مجز، و إنما يدل على أن مثله مصلحة في الثاني، و نحن لا نمتنع من ذلك و جرى ذلك مجرى أن يؤمر بالفعل في وقتين، فانه متى فعل المأمور به فيهما فلا يقول أحد أن ما فعل في الثاني مجز و ما فعل في الأول غير مجز، فكذلك «4» ما يفعل بأمر آخر.
__________________________________________________
لا يدل إلا على ان الفاعل مطيع مستحق للمدح و الثواب ليس إلا.
[1] لا بد من ضم مقدمة مطوية هي: أنه إذا حصلت المصلحة و استحقاق الثواب، استحال عدم الإجزاء و وجوب القضاء، لأن القضاء إنما هو استدراك ما فات بالاتفاق.
__________________________________________________
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 212.
(2) كذا في النسخة، و الأولى: و كذا لو بطل كونه مصلحة على ما تناوله الأمر.
(3) انظر: «التبصرة: 86، شرح اللمع 1: 265».
(4) و كذلك.
العدة في أصول الفقه، ج1، ص: 214
فأما تسميته قضاء للأول فكلام في العبارة، و قد بينا أنه لا اعتبار به «1».
فأما المضي [1] في الحج الفاسد، و وجوب الصلاة على الظان لكونه متطهرا في آخر الوقت، فالذي تناوله الأمر في هذين إتمام الحج [2] و أداء تلك الصلاة [3] و قد فعلهما، و أما ما يجب عليه من قضاء تلك الصلاة إذا تيقن أنه كان محدثا و إعادة الحج، فإنه علم ذلك بدليل آخر، و قد بينا أنه لا اعتبار بتسميته قضاء «2» فيتعلق بذلك في هذا الباب.
فإن قيل: إنما أردنا لكونه غير مجز أنه لا يعلم إذا فعل أنه لا يلزمه مثله في المستقبل.
قيل له: و إنما أردنا بكونه مجزيا أنه لا يعلم أنه يجب عليه مثله في المستقبل، و يسقط حينئذ الخلاف.
و يدل أيضا على ما ذهبنا إليه: أنه ثبت أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه على ما سندل عليه «3»، فينبغي أن يكون الأمر يقتضي كونه مجزيا لأنه ضده.
__________________________________________________
[1]* تقرير الجواب عن النقض على ما يوافق الحق أن يقال: إن المكلف بإتمام الحج الفاسد توجه إليه أمران، الأول الأمر بالحج الصحيح، و الثاني الأمر بإتمام الحج لو أفسده، فمتى أتى بالمأمور به بالأمر الثاني فقد أجزأه و أما ما يجب عليه من القضاء فليس من الأمر الثاني، و الدليل الدال على وجوب قضاء ما فات، بل يعلم من الأمر الأول، و دليل وجوب قضاء ما فات و ذلك دليل آخر فهو قضاء بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى الثاني.
[2]* أي بعد إفساده و هو المأمور به بالأمر الثاني فيه.
[3]* أي مع ظن الطهارة كما هو المأمور به بالأمر الثاني فيها.
__________________________________________________
(1) راجع كلام الشيخ حول بطلان تسمية الفعل الثاني قضاء في صفحة 207.
(2) راجع كلام الشيخ حول بطلان تسمية الفعل الثاني قضاء في صفحة 207.
(3) راجع رأي المصنف في صفحة 260.
معارج الاصول 108
المسألة الثانية: الأمر يقتضي الإجزاء. نعني بذلك سقوط التعبّد عند الإتيان بالمأمور به «2». و قال القاضي «3»: إنّ معنى وصف العبادة بكونها
__________________________________________________
(1) المعتمد: 1/ 79، الذريعة: 1/ 88، العدّة: 1/ 220، التبصرة: 70، المنخول:
119، المستصفى: 1/ 81- 82، المحصول: 2/ 159- 160، الإحكام: 1/ 88، المنتهى: 97.
(2) كلمة: (به) لم ترد في ب.
(3) عبد الجبّار، كما في: المعتمد: 1/ 91، الإحكام: 1/ 395، المنتهى: 97.
معارج الأصول ( طبع جديد )، ص: 109
مجزية هو أنّه لا يجب قضاؤها.
و هذا باطل، لأنّ كثيرا من العبادات لا تقضى و إن لم تكن مجزية، كصلاة الجمعة و العيدين إذا اختلّ بعض شرائط صحّتها «1»، و لأنّ القضاء يمكن تعليله بأنّ العبادة غير مجزية، و العلّة غير المعلول.
و إنّما قلنا إنّ الأمر يقتضي الإجزاء بهذا التفسير، لأنّ وجوب المأمور به يدلّ على اختصاصه بالمصلحة، فلو لم يكن الإتيان به على ذلك الوجه كافلا «2» بتحصيل المصلحة المطلوبة، لما حصل الأمر به.
لا يقال «3» الحجّة التي حصل الوطء فيها يجب إتمامها و لا تجزي.
لأنّا نقول: تجزي في البراءة من عهدة الأمر المتناول للمضي فيها، و لا تجزي في سقوط القضاء
المبحث الثالث: في أنّ الأمر يقتضي الإجزاء
قد عرفت أنّ المراد من كون الفعل مجزئا هو: أنّ الإتيان به كاف في سقوط التعبّد.
و إنّما يتحقّق ذلك، إذا كان الفعل مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه، من حيث وقع الأمر به.
و قد فسّره قاضي القضاة بأنّه ما أسقط القضاء «1» و تقدّم إبطاله.
و قد دخل تحت ما اخترناه، العبادات الواجبة و غير الواجبة.
و ليس معنى قولنا: إنّ العبادة تجزئ، أنّها حسنة، لأنّ المباح حسن، و لا يوصف بالإجزاء.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف النّاس هنا: فالمحقّقون ذهبوا إلى أنّ
__________________________________________________
(1). نقله عنه أبو الحسين المعتزلي في المعتمد: 1/ 91؛ و الآمدي في الإحكام: 2/ 313.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 579
الإتيان بمقتضى الأمر، يقتضي الإجزاء بالمعنيين.
و قال أبو هاشم و أتباعه و القاضي عبد الجبّار: إنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء «1».
و قال السيّد المرتضى: إنّه يدلّ من حيث الشرع، لا من جهة اللغة «2».
لنا وجوه:
الأوّل: أنّه فعل المأمور به، فيخرج عن عهدة التكليف.
أمّا المقدّمة الأولى، فبالفرض.
و أمّا الثانية، فلأنّه لو بقي مكلّفا، فإمّا بالفعل الّذي فعله أوّلا، فيلزم تحصيل الحاصل، أو بغيره، فيلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير المأتيّ به، فلا يكون المأتيّ به تمام متعلّق الأمر، و قد فرضناه كذلك، هذا خلف.
الثاني: لو بقي في عهدة التكليف بذلك الفعل، فإمّا أن يكون في أعداد مخصوصة، أو دائما، و كلاهما باطل.
__________________________________________________
(1). في الكاشف عن المحصول: 4/ 70: قال القاضي عبد الجبار في كتابه المسمّى «العمد»: اعلم أنّ الصحيح أنّ الأمر لا يقتضي كون المأمور به مجزئا، و إنّما يعلم ذلك بدلالة، و الفقهاء بأسرهم على خلافه، ثمّ قال: لا يمتنع أن يقول الحكيم: «أمرتك بكذا، و إذا فعلت، أثبت عليه، و أدّيت الواجب، و يلزمك مع ذلك القضاء»؛ و هذا غير بعيد، و هو معنى قولنا: إنّه غير مجزئ، و لا نعني به: أنّه لا يحلّ؛ إنّما نعني به: أنّه يجب القضاء فيه، و لا يقع موقع الصحيح الّذي لا يقضى.
(2). الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 122.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 580
أمّا الأوّل فللتّرجيح من غير مرجّح.
و أمّا الثاني، فللحرج، و لزوم القبيح «1» لو كلّف بغيرها من العبادات.
الثالث: إمّا أن يجب عليه فعله ثانيا و ثالثا، أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم، و الأوّل يستلزم كون الأمر للتكرار، و هو باطل، و الثاني هو المطلوب، فإنّه بمعنى الإجزاء.
الرابع: لو لم يقتض الإجزاء لجاز أن يقول السيّد لعبده: «افعل، و إذا فعلت لا يجزئ عنك» و لو كان كذلك، لكان متناقضا.
الخامس: لو لم يدلّ على الإجزاء لم يعلم الامتثال، و التّالي باطل بالإجماع، فالمقدّم مثله.
السادس: القضاء استدراك ما فات من الأجزاء، فيكون تحصيلا للحاصل.
احتجوا بوجوه:
الأوّل: النّهي لا يدلّ على الفساد بمجرّده، فالأمر لا يدلّ على الإجزاء بمجرّده.
الثاني: لو وجب الإجزاء لاكتفى بإتمام الحجّ الفاسد، و الصّوم الّذي جامع فيه، عن القضاء.
الثالث: الأمر بالشّيء لا يفيد إلّا كونه مأمورا به، فأمّا دلالته على سقوط التكليف فلا.
__________________________________________________
(1). في «ب» و «ج»: و لزوم النّسخ.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 581
الرابع: لو دلّ على الإجزاء، لكان المصلّي بظنّ الطّهارة آثما أو ساقطا عنه القضاء، إذا تبيّن الحدث، لأنّه إمّا مأمور بالصّلاة بطهارة يقينيّة، فيكون عاصيا، حيث صلّى من غير يقين، أو بطهارة ظنّيّة، و قد امتثل، فيخرج عن العهدة، فلا يجب القضاء.
و الجواب عن الأوّل: بعد تسليم أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد: أنّه لا استبعاد في النّهي عن فعل، و تعلّق حكم به لو فعله المنهيّ عنه، و جعله سببا فيه، و الأمر لا يدلّ إلّا على اقتضاء المأمور به دفعة، فإذا فعلها المكلّف فقد أتى بتمام مقتضاه، فلا يبقى للأمر مقتضى آخر.
و عن الثاني: أنّ الحجّ و الصّوم لم يجزئا بالنسبة إلى الأمر الأوّل، حيث لم يقعا على الوجه المطلوب شرعا، و نحن لا ننازع في أنّ الفعل إذا أخلّ فيه ببعض شروطه، أو صفاته المطلوبة شرعا، فإنّه غير مجزئ، بل هو مجزئ بالنسبة إلى الأمر بإتمامها.
و عن الثالث: أنّ الإتيان بتمام ما اقتضاه الأمر يقتضي أنّ لا يبقى الأمر مقتضيا لشيء آخر، و هو المراد بالإجزاء.
و عن الرابع: بالمنع من الملازمة، فإنّه مأمور بالصلاة بظنّ الطّهارة، و [مع ذلك] يجب القضاء.
و وجوب القضاء ليس عمّا أمر به من الصّلاة المظنون طهارتها، لأنّه قد أتى بالمأمور به على وجهه، بل القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أوّلا من الصلاة مع الطّهارة، كما قلناه في الحجّ الفاسد.
نهاية الوصول الى علم الأصول، ج1، ص: 582
القواعد و الفوائد
قاعدة- 180 يظهر من كلام المرتضى «1» رحمه اللّه: أن قبول للعبادة و إجزائها غير متلازمين،
فيوجد الإجزاء من دون القبول، دون العكس. و هو قول بعض العامة «2». لأن المجزئ: ما وقع على الوجه المأمور به شرعا، و به يخرج عن العهدة، و تبرأ الذّمّة، و يسمى فاعله مطيعا.
و القبول: ما يترتب عليه الثواب.
و الّذي يدل على انفكاكه منه:
1: سؤال إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام التقبل «3»، مع أنهما لا يفعلان إلا فعلا صحيحا مجزئا «4».
و فيه نظر، لأن السؤال قد يكون للواقع، كما سلف «5»، و كالذي بعده رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ «6» و قد كانا مسلمين.
__________________________________________________
(1) انظر: الانتصار: 17. (طبعة النجف المحققة).
(2) انظر: القرافي- الفروق: 2- 51.
(3) هو إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة: 127 وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(4) انظر: القرافي- الفروق: 2- 52.
(5) أي سؤال إبراهيم و إسماعيل التقبل.
(6) البقرة: 128.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 98
2: و قوله تعالى فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ «1» مع أنهما معا قربا، فلو كان عمله غير صحيح لعلل بعدم الصحة «2».
و فيه نظر، لإمكان التعبير عن عدم الإجزاء بعدم القبول، لأنه غايته.
3: و قول النبي صلى اللّه عليه و آله: (أما من أسلم و أحسن في «3» إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية و الإسلام) «4». شرط في الجزاء ان يحسن في إسلامه، و الإحسان هو التقوى «5».
و فيه نظر، إذ الظاهر أن الإحسان: هو العمل بالأوامر على شرائطها، و أركانها، و ارتفاع موانعها، و نحن نقول به.
4: و قوله صلى اللّه عليه و آله: (إن من الصلاة لما يقبل نصفها و ثلثها و ربعها، و إن منها لما يلفّ كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها) «6» مع أنها مجزئة عند الفقهاء، إلا من شذّ من بعض فقهاء العامة و من الصوفية «7».
__________________________________________________
(1) المائدة: 27.
(2) انظر هذا الدليل في- الفروق 2- 51.
(3) زيادة من (أ)، و هي مطابقة لما في الفروق: 2- 52.
(4) أورده القرافي في- الفروق: 2- 52 نقلا عن صحيح مسلم و لم أعثر في صحيح مسلم على هذا النص في مظانه، و لعله موجود و لم أعثر عليه. نعم وجدت روايات بمضمونه. انظر:
1- 111، باب 53 من أبواب الأيمان، حديث: 189، 190.
(5) انظر: القرافي- الفروق: 2- 52.
(6) أورده القرافي في- الفروق: 2- 53.
(7) نقل عنهم القرافي انهم يذهبون إلى عدم الإجزاء: انظر:
نفس المصدر السابق.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 99
و فيه نظر، لأنه يمكن أن يكون ذلك مع استحقاق الثواب لكنه ناقص، أما حديث النصف إلى العشر فظاهر. و أما الملفوفة، فكناية عن حرمانه عن معظم الثواب، كيف و قد حصل نية التقرب، و هي مقتضية للثواب مع تمام العمل؟ و يمكن أن يراد بالملفوفة هنا: غير المجزئة، لاشتمالها على نوع من الخلل.
5: و لأن الناس مجمعون على الدعاء بقبول الأعمال، فلو كان القبول هو الإجزاء، لم يحسن إلا قبل الشروع في العمل، بمعنى تيسير الشرائط و الأركان و ارتفاع الموانع، و هم يسألون قبل و بعد «1»:
و فيه نظر، لأن السؤال قد يكون لزيادة القبول، أي زيادة لازمة أعني: الثواب، أو على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى.
6: و قوله تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2» فظاهره أن غير المتقي لا يتقبل اللّه «3» منه، مع أن عبادته مجزئة بالإجماع «4».
و فيه نظر، لأن بعض المفسرين قال يراد: من المؤمنين «5»، لأن الإيمان هو التقوى، قال اللّه تعالى وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «6».
__________________________________________________
(1) انظر: القرافي- الفروق: 2- 53.
(2) المائدة: 27.
(3) زيادة من (ك).
(4) انظر: القرافي- الفروق: 2- 51.
(5) انظر: تفسير الطبري: 6- 191 (الطبعة الثانية)، نسبه إلى جماعة من أهل التأويل، منهم الضحاك.
(6) الفتح: 26.
القواعد و الفوائد في الفقه و الاصول و العربية، ج2، ص: 100
سلمنا، لكن المراد: من المتقي في ذلك «1» العمل، بحيث لا يكون ذلك العمل على غير التقوى، كما يحكى عن الشيخ أبي جعفر مؤمن الطاق [1]: أنه مر و معه بعض رؤساء العامة في سوق الكوفة على بائع رمان، فأخذ العامي منه رمانتين اختلاسا، ثمَّ مر على سائل فدفع إليه واحدة، ثمَّ التفت إلى أبي جعفر فقال: عملنا سيئتين، و حصلنا عشر حسنات، فربحنا ثماني حسنات. قال له: أخطأت، إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2».
********************
الفوائد الحائرية، ص: 351
فائدة (1) [في إخلال ما يثبت جزئيّته أو شرطيّته للعبادة]
إذا ظهر- من فعل الشّارع أو قوله المطلق- أنّ شيئا جزء العبادة، فالأصل كونه ركنا تبطل العبادة بتركه عمدا أو سهوا أو جهلا، إلاّ يثبت خلافه، بأنّه لا يضرّ في بعض الصور. و كذا تبطل بزيادته حيث أنّ الجزء لم يكن بهذه الزّيادة، إلاّ أن يثبت عدم الضّرر كذلك.
و الدّليل واضح، لأنّ مع الإخلال لم يأت بالمأمور به على وجهه، فلا يكون ممتثلا، و لا نعني بالبطلان إلاّ ذلك. و مثل الجزء الشّرط، و الدّليل الدّليل.
فظهر فساد ما طعن بعض الغافلين أو القاصرين على الفقهاء في ذكرهم الأركان و أحكامها، و كذا أحكام الشّروط.
الفوائد الحائرية، ص: 415
فائدة (14) [عدم معذوريّة الجاهل]
الفقهاء يقولون: الأصل براءة الذمّة، حتّى يثبت التّكليف، و مع ذلك يقولون: الجاهل ليس بمعذور إلاّ في مواضع مخصوصة معروفة، فربّما يتوهّم التنافي بين القولين.
و ليس كذلك، لأنّ الأصل براءة الذمّة إلى أن يحصل العلم بالتّكليف أعم من أن يكون العلم به تفصيلا أو إجمالا.
و الأوّل: ظاهر عدم براءة الذّمّة فيه.
و أمّا الثّاني: فبأن يعلم أنّ عليه أن يفعل واجبا أو واجبات لا يعرفها، أو أنّ عليه أن يترك حراما أو محرّمات لا يعرفها، فلا بدّ من بذل الجهد في معرفة تلك الواجبات و المحرّمات البتّة، لأنّ الواجب معناه: أنّه إن ترك يكون معاقبا، و الحرام معناه: أنّه إن فعل يكون معاقبا على فعله، فإذا قصّر
الفوائد الحائرية، ص: 416
في المعرفة مع تمكّنه من تحصيلها لم يخرج الواجب بمجرّد هذا التقصير عن وجوبه، و كذا الحرام عن حرمته.
مثلا: إذا قال المولى لعبده لا أعاقبك إلاّ أن تعلم تكليفي، و تخالف، ثمّ أعطاه طومارا، و قال: كلّفتك في هذا الطّومار بتكليفات لو تركتها و خالفت لعاقبتك، فعليك بفتح الطّومار و العمل بما فيه. فلا شكّ في أنّ هذا العبد عالم بأنّه مكلّف بما في الطّومار، و لا ينفعه تقصيره في فتح الطّومار و تحصيل قراءة ما فيه، و لا يجعله داخلا في عدم العلم بالتّكليف، لأنّ العلم الإجمالي بالتّكليف علم بالتّكليف، لا عدم علم به، كمن يعلم أنّ عليه قضاء فريضة من الخمس لا يعرفها بعينها.
نعم لو لم يتمكّن من معرفة تلك التّكليفات و لم يتيسّر له الامتثال بارتكاب الاحتمالات- كما تيسّر في قضائه الفريضة الّتي لم يعرفها بعينها، و أمثال ذلك ممّا يتيسّر الامتثال بتأتّي الاحتمالات إلى أن يعلم الإتيان- فلا شكّ في سقوط التّكليف حينئذ، و أنّ الأصل براءة ذمّته، بمعنى: أنّه لا يجب عليه التوقّف و غيره ممّا ذهب إليه الأخباريّون. و كذا لو لم يعلم التّكليف لا إجمالا و لا تفصيلا، فإنّ الأصل براءة ذمّته بالمعنى المذكور.
إذا عرفت هذا فنقول: من ضروريّات دين الإسلام، بحيث يعرفها كلّ خاصّ و عامّ من أهل الإسلام، و الخارج عنه: أنّ في دين الإسلام واجبات كثيرة، و محرّمات كثيرة، و كلّ ذلك في غاية الكثرة، بل يعلم بعنوان الضّرورة أنّ فيه من الواجبات: الوضوء، و الغسل، و التيمّم و الصّلاة، و الزّكاة و الصّوم، و الحجّ، و غسل النجاسات من الثوب و البدن و غيرهما، و غير ذلك من الضروريّات للدّين أو المذهب.
و أيضا ورد في القرآن، و الأخبار المتواترة: «إنّ طلب العلم فريضة
الفوائد الحائرية، ص: 417
على كلّ مسلم و مسلمة» و نادى بذلك الفقهاء و العلماء في المنابر و المجالس و كلّ مكان بل غيرهم أيضا في جميع الأعصار و الأمصار بحيث إنّه صار كالشمس في رابعة النّهار، و اطّلع عليه المخدّرات في الأستار، بل الأطفال الصّغار، بتعليم المعلّمين في المكتب و غيره، و كذا الآباء و الأمّهات، بل لا تأمّل في أنّ ذلك أيضا من ضروريّات الدّين.
و أيضا ترى جميع أمّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهم يلتزمون بفعل الوضوء، و الغسل، و التيمّم، و الصّلاة، و غير ذلك ممّا لا حصر له.
فمع جميع ذلك كيف يكون الجاهل معذورا في تقصيره بترك معرفة تفاصيل الأمور الّتي يعلم وجوبها على الإجمال؟ بل لا بدّ من بذل الجهد في تحصيل المعرفة بالأدلّة إن كان مجتهدا، و الأخذ من المجتهد إن كان عامّيا بقدر الوسع إلى أن يحصل المظنّة للمجتهد بعدم الدّليل و المعرفة منه، و للمقلّد بأنّه ليس بأزيد منه عند المجتهد. أو أن يحصل العلم العادي بذلك، و يكون بعد ذلك الأصل براءة الذّمّة بالمعنى المذكور، و كذا الحال في أثناء التحصيل.
فإن قلت: أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السلام ورد فيهم بأنّ الأصل براءة ذمّتهم.
قلت: لا تفاوت بيننا و بينهم في كونهم عالمين بالتكليفات إجمالا، و أنّهم حصّلوا معرفة المجملات المكلّف بها على حسب ما تمكّنوا و ما لم يتمكّنوا كان الأصل براءة ذمّتهم، و كذا ما لم يعرفوا أنّهم مكلّفون به بعد تحصيل القدر الّذي عرفوا تكليفهم به، فإنّ الأصل براءة ذمّتهم فيه أيضا.
ثمّ اعلم أنّ ما ذكرنا ليس مختصا بالواجبات و المحرّمات بل إذا صدرت منهم معاملة فاسدة جهلا منهم في فسادها، فلا شكّ في كونها فاسدة قطعا، تتميّز أصلا و لا ينفعهم جهلهم بالفساد و زعمهم الصحّة. نعم ليسوا
الفوائد الحائرية، ص: 418
بمعاقبين في التصرّف في مال الآخر مع رضاء صاحب المال، إلاّ أن يكون الرّضا بشرط كون المعاملة صحيحة، فإنّه يتصرّف في مال نفسه، لا أنّه يتصرّف في مال الصّاحب، مع أنّه ربّما يقع في المحرّم مثل الرّبا و غيره.
نعم لو اتّفق انّ المعاملة صارت صحيحة مستجمعة لجميع شرائط الصحّة، تكون صحيحة، لكن الحكم بالصحّة إنما يتمشّى و يتحقّق من المجتهد، لأنّ باب العلم بالأحكام الشّرعية مسدود كما حقّق في محلّه، لأنّه لا بدّ من اعتبار أخبار الآحاد، و أصالة العدم، أو البقاء أو براءة الذّمّة، أو كلام اللّغويّ، و أمارات الحقيقة و المجاز، أو غير ذلك من الظّنون، كما مرّ الإشارة إليه في الفوائد.
مع أنّ العلمي في الفقه مثل: الإجماع، و المتواتر، لا يمكن للعامّيّ معرفته، سيّما في المتواتر، للحاجة إلى الظّنون بحسب الدّلالة، و القطعي الدّلالة غير موجود، و على فرض الوجود لا يتمكّن العاميّ من معرفته قطعا.
و بالجملة لا شبهة في أنّ العاميّ لا يمكنه معرفة الفقه من جهة إلاّ من جهة التقليد، كما ذكر في الفوائد و واضح أيضا. نعم ضروريّ الدّين أو المذهب يكون معرفته من غير جهة التقليد، و لذا يمكنه الحكم بفساد المعاملة إذا كان الفساد ضروريّا، و إلاّ فلا. هذا حال معاملات الجاهل.
و أمّا عباداته: فأمّا أن تكون عبادته فاسدة عند جمهور الفقهاء، أو صحيحة عند بعضهم فاسدة عند بعضهم، أو صحيحة عند الجميع على تقدير حصول معرفته.
و الأولى: فاسدة عند الجميع، و إن اتّفق كونها صحيحة بحسب الواقع، لأنّا مكلّفون الآن بالتكليفات الظاهريّة لا الأحكام الواقعيّة كما حقّق في محلّه. و المراد من التّكليفات الظاهريّة، أنّ الظاهر عند المجتهد أنّه حكم اللّه
الفوائد الحائرية، ص: 419
الواقعي.
و أمّا الثانية: فلعلّها أيضا تكون فاسدة عند الجميع، لأنّ الجاهل لم يقلّد القائل بالصحّة، و القائل بالصحّة إنّما يقول بالصحّة لنفسه و لمن قلّده، و لذا يحكم بالفساد للقائل بالفساد و لمن قلّده، و يحتمل أن تكون صحيحة عند القائل بالصحّة، فاسدة عند القائل بالفساد، لكن لا ينفعه قول القائل بالصحّة ما لم يقلّده، إذ لا وجه للحكم بالصحّة و ترجيحه على الفساد مع عدم التقليد أصلا. و أمّا أنّ التّقليد لا بدّ من أن يكون تقليد المجتهد الحيّ لا الميّت فقد مرّ الكلام فيه.
و أمّا الثالثة: فالمعروف من أصحابنا الفساد أيضا لأنّ المراد في الفقه على الظّنون كما عرفت، و الظّنّ ليس بحجّة ما لم يكن عليه دليل شرعيّ، كما حقّق في محلّه، و ذكرنا في الفوائد، و قد بسطنا الكلام فيه في رسالتنا في «الاجتهاد و الأخبار»، و أنّ العمل في الحقيقة على اليقين لا الظنّ، لأنّه في الطريق كالعمل بشهادة العدلين و غيره، و ليس ذلك محلّ تأمّل لأحد من الفقهاء، و لا يمكن أن يصير محلّ تأمّل لأحد إلاّ الغافل. و قد ذكرنا في الفوائد أنّ الظّنّ الّذي ثبت كونه حجّة ظنّ المجتهد و المقلّد له، و حقّق ذلك في محلّه.
و أيضا ورد في الأخبار أنّه لا عمل إلاّ بالفقه و المعرفة و إصابة السنّة و أمثال ذلك.
و أيضا ورد في الأخبار عدم الرّجوع إلى غير الأئمّة عليهم السلام و أنّه لا يجوز العمل بالرأي و الظنون و تقليد غير المعصوم عليه السلام سوى الفقهاء، بل تقليد الفقهاء في الحقيقة تقليد المعصوم عليه السلام، لأنّه إنّما يقلّده بأمر المعصوم عليه السلام و تجويزه عليه السلام، كما ذكر في الفوائد و غيرها، و حقّق في الكلام أنّ الحجّة قول اللّه تعالى و قول المعصوم عليه السلام ليس إلاّ.
الفوائد الحائرية، ص: 420
و أيضا شغل ذمّة الجاهل يقينيّ كما عرفت فلا بدّ من البراءة اليقينية لقولهم عليهم السلام: «لا تنقض اليقين، إلاّ بيقين مثله» «1»، و حصول الامتثال العرفي لقوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ* «2»، و لأنّ التكليف يستدعي الامتثال، و لا يتحقّق الامتثال إلاّ بإتيان المطلوب كما هو هو، أو يرخّص الآمر بالاكتفاء بالظنّ عوض مطلوبه، فلا يعلم أنّه ممتثل.
و أيضا الموافق للقواعد العدليّة أنّ المؤاخذة من جهة الفعل أو التّرك، و كذا الثّواب الّذي بإزاء الفعل أو التّرك إنّما هو بإزائهما، و معلوم أنّ الجاهل الّذي اتّفق مطابقة عبادته للواقع، و الجاهل الّذي اتّفق مخالفتها له في الفعل و التّرك و التقليد و التقصير واحد من دون تفاوت، و مجرّد اتفاق المطابقة و المخالفة ليس بفعلهما و قصدهما و إرادتهما، لأنّ كلاّ منهما قصده المطابقة و عدم المخالفة، و محض الاتفاق كيف يصير سببا للعقاب الطّويل، أو المخلّد إن كان المطلوب من أصول الدّين، و منشأ للثواب الدّائم الّذي هو بإزاء عمل المكلّف.
و أيضا النيّة شرط في صحّة العبادة فإذا لم يعرف أنّها عبادة مطلوبة منه، فحين فعله كيف ينوي أنّه يفعلها طاعة للّه تعالى و قربة إليه؟! مع أنّه لا يعلم أنّه إطاعة له تعالى و مقرّب إليه، لأنّه لا يعلم أنّ هذا الشخص من الفعل الّذي يفعله هو الّذي أمر اللّه تعالى به، و إذا علم أنّه هو الّذي أمر اللّه تعالى به يكون عالما لا جاهلا، و المفروض أنّه جاهل بذلك، و إن ظنّ أنّه
__________________________________________________
(1) بهذا المضمون ورد في الوسائل 1: 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث: 1.
(2) النساء: 59.
الفوائد الحائرية، ص: 421
المطلوب منه بمجرّد تقليده الآباء و الأمّهات أو باستحسان عقله فكيف ينوي التّقرّب مع أنّه لا يعلم أنّه تعالى راض بالتعويل على ذلك التّقليد أو الاستحسان؟! بل قد عرفت أنّ وجوب تحصيل المعرفة، و عدم جواز المسامحة و التّقصير في المعرفة، من المتواترات المعروفة، و ضروريّات الدين، و أنّه كالشّمس و غير ذلك ممّا مرّ، بل و مرّ أنّه لا يجوز الاعتماد على الرّأي و الاستحسان و قول غير المعصوم عليه السلام أو غير من يأمر به المعصوم عليه السلام.
و أيضا العبادات توقيفية موقوفة على النّصّ، لا على أيّ ظنّ يكون و على الاستحسان و تقليد من ليس بحجّة.
و اختار المقدّس الأردبيلي و من وافقه صحّة عبادة الجاهل بشرط أن تطابق الواقع، و إن لم تطابق تكن فاسدة عنده أيضا، لعدم إتيانه بالمأمور به، و إذا طابقت يكون آتيا بالمأمور به، لأنّ المعرفة ليست جزءا للمأمور به، و لا شرطا لصحّته، لعدم ثبوت ذلك، بل و ثبوت العدم كما يظهر ممّا ورد في تيمّم عمّار و طهارة بعض الأنصار و غير ذلك ممّا ذكرنا في الفوائد، و ذكرنا الجواب عنه.
و نقول هنا: إن أراد المقدّس انّه لا عقاب على الجاهل أصلا فقد عرفت أنّه ليس بجاهل في التّكليف، فإنّ الأطفال- فضلا عن النّساء، فضلا عن الرّجال- يعلمون أنّ في الدين تكليفات، بل و يعلمون أنّه لا بدّ من معرفتها على ما أشرنا إليه، بل و من يدخل في الدّين أيضا يجزم أنّ في الدّين شرائع و تكليفات، بل كلّ دين كذلك.
و إن أراد أنّه مؤاخذ في ترك التّعلّم الّذي هو فريضة عليه، لكن عبادته صحيحة إن طابقت الواقع.
الفوائد الحائرية، ص: 422
ففيه أوّلا: أنّه قد عرفت عذر الفقهاء.
و ثانيا: إنّ اعتقاد الصحّة من المقدّس كيف ينفع الجاهل الّذي لا يعرف انّها صحيحة؟! غاية ما في الباب أنّه يزعم الصحّة لا أنّه يعرفها من الشّرع، فإن كان هذا الزّعم كافيا للصحّة عنده و حصول براءة ذمّته فيلزم من هذا أن تكون ما خالفت الواقع أيضا صحيحة و مبرئة للذّمة، لأنّ زعمه الصحّة موجود فيما خالفت الواقع أيضا من دون فرق عنده أصلا بل ربّما كانت المخالفة للواقع عنده أوثق في كونها صحيحة، مع أنّه لا بدّ من دليل على كون هذا الزّعم كافيا لبراءة ذمّته، مع أنّ الأدلّة تقتضي عدم الكفاية بل و عدم جواز متابعته كلّ زعم أو ظنّ أو رأي أو استحسان أو تقليد، إلاّ ما رخّص الشارع و جعله حجّة على حسب ما عرفت.
و بالجملة إن بني الأمر على أنّ المكلّف لا بدّ من أن يعرف امتثاله و خروجه عن العهدة حتّى يصير بريء الذمّة، فقد عرفت أنّه لا يمكنه معرفة المطابقة للواقع و تمييزها عن المخالفة للواقع، بل بزعمه أنّ الكلّ مطابق للواقع، فزعمه لا يكون كافيا لبراءة ذمّته البتّة، مع أنّ الأدلّة أيضا تدلّ على خلافه، و إن أراد أنّه إذا قلّد المجتهد الّذي يقول بالصحّة تكون صحيحة، فيصير حينئذ عالما غير جاهل، أو يخرج من المفروض، مع أنّه لا يمكنه تمييز ما طابق الواقع عن غيره، و الشرط من مجتهده أنّها صحيحة بشرط المطابقة فلا ينفع التّقليد أيضا.
و إن بني الأمر على أنّ الصحّة و الخروج يتحقّق من غير حاجة إلى معرفة التّكليف.
ففيه: أنّ امتثال الأمر عرفا إنّما يتحقّق إذا علم الخروج، إذ لو اعتقد أنّه لم يتمثل و لا يريد الامتثال فلا شكّ في كونه عاصيا.
الفوائد الحائرية، ص: 423
و الحاصل أنّه لا بدّ من أن يعرف أنّه ممتثل و مطيع، حتّى يقال عرفا أنّه مطيع ممتثل للّه تعالى، و كذا قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين إلاّ بيقين مثله» يقتضي عدم نقض المكلّف يقينه بالتكليف السّابق، و الاستصحاب أيضا يقتضي ذلك، و الفقهاء أيضا بناؤهم على ذلك، و المدار في الأعصار و الأمصار على ذلك، و كذا سائر الأدلّة السّابقة يقتضي ذلك، فلاحظ، و تأمّل جدّاً.
هذا مع أنّ الفقهاء يقولون: لا يكفي مجرّد المطابقة، و هم سمعوا ذلك، فكيف يطمئنّون بالامتثال؟! بل عندهم أن امتثال هذا مرجعه الفقهاء، فمقتضى ذلك عدم الامتثال إن لم يكن مسامحتهم في الدّين.
مع أنّ الّذي يقول بالكفاية يشترط تحقّق المطابقة، و عدم كفاية اعتقاد المطابقة، فمن أين يدرون تحقّق الشرط؟! مع أنّ الأصل عدم التحقّق فتأمّل جدّاً.
و ثالثا: أنّ استدلاله بالأخبار لا يخلو عن غرابة، لأنّها لو دلّت على ما ذكر لدلّت على مفاسد و شنائع مثل قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّار:
«أ فلا صنعت هكذا» «1»، فإنّه إذا جعل المدلول أنّك لو صنعت هكذا من غير الأخذ من الشرع لكان صحيحا و لم يكن عليك شيء، فيلزم من ذلك أن لا يكون عليه عقاب بترك التعلّم الّذي فريضة على كلّ مسلم و أن يكون الرّجوع إلى غير الشّرع في العبادات التوقيفية جائزا، فلم يكن وظيفة الشّرع، و الرّجوع إلى غير الشّرع لا يكون إلاّ بالرّجوع إلى الرّأي و الاستحسان و مجرّد الجعل و الاختراع و أمثال ذلك، فيكون هذه الأمور حجّة. و يلزم أيضا الاكتفاء في مقام الامتثال بمجرّد الخيال و الاحتمال، و عدم
__________________________________________________
(1) الوسائل 2: 977 الباب 11 من أبواب التيمّم الحديث 8.
الفوائد الحائرية، ص: 424
الحاجة إلى قصد القربة، مع أنّ فعل التيمّم الصحيح من غير الأخذ من الشرع محال جزما، لعدم طريق للعقل إليه و لا غير العقل، فكيف يقول «1» [له]: أ فلا صنعت المحال؟! و بالجملة بملاحظة جميع ما ذكرت لا يبقى تأمّل في أنّ مراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الفعل هكذا بالنّحو الّذي يمكن عقلا و شرعا، و ليس إلاّ بالأخذ من الشّارع.
و مثل: طهارة الأنصاريّ، إذ يظهر من الخبر أنّه فعل الغسل من غير ورود الشرع به، و لا يخفى أنّه أدخل في الدين و غيّر التطهير الشّرعيّ، و هو غير محلّ النّزاع، و مع ذلك مخصوص بخصوص واقعة لا يجوز التمسّك به، و الاحتجاج به، لأنّه يلزم أن يكون التشريع و البدعة جائزا و راجحا- أيضا- موجبا لمدح و ثناء من اللّه العظيم.
و مثل: الإمام الّذي سلّم في الرّكعتين، فقام و أضاف إليهما ركعة، و المعصوم عليه السلام قال: «كنت أصوب فعلا».
فإنّ قيامه و إضافته الرّكعة إن كان بالأخذ من القاعدة الشّرعيّة فلا دخل له في المقام، لأنّه كان مجتهدا، فصوّب عليه السلام اجتهاده، و هو الظاهر من الخبر.
و إن كان ذلك من غير الأخذ من الشّرع لا جرم يكون مجرّد الرّأي و الاستحسان و الاختراع، فيكون المعصوم عليه السلام حكم بكون هذه الأمور حجّة حتّى في العبادات الموقوفة على النصّ، بل و يكون أقوى من الحجّة الشّرعيّة و هو: أنّه إذا لم يعلم الصحّة شرعا يجب الاحتياط، و تحصيل براءة
__________________________________________________
(1) ف: فكيف بقوله .. م: فكيف يقول به ..، و الصحيح ما أثبتناه.
الفوائد الحائرية، ص: 425
الذّمّة اليقينيّة، و الامتثال العرفيّ، و غير ذلك ممّا ظهر من الأدلّة المذكورة المعلومة، و هذا لا يتأتّى إلاّ بالإعادة كما فعل المأموم.
و يلزم أيضا عدم وجوب طلب العلم و المعرفة و الاكتفاء في الامتثال بمحض الجعل و الخيال و غير ذلك ممّا مرّ من المفاسد: مثل أنّه كيف قام إلى ركعة، و بنى على أنّها عبادة شرعيّة، و نوى القربة و الامتثال؟! مع أنّه لم يظهر عليه دليل شرعي أو قاعدة شرعيّة أنّ الشارع طلبها منه بل قام بمجرّد الجعل. و كيف يقول للمعصوم عليه السلام: إني بمجرّد الاختراع قمت و صلّيت ركعة و بقصد القربة فعلت، و بعض الرّواة قال له عليه السلام: إنّي اخترعت دعاء فزبره المعصوم عليه السلام، و قال: «دعني من اختراعك» «1»، فكيف يقول في مثل هذه الفريضة: «كنت أصوب فعلا»؟ [1].
و مثل صحّة حجّ من مرّ بالميقات جاهلا به «2»، فإنّه لا شكّ في أنّ المارّ لم يكن عالما بأنّه ميقات، و لم يرد الإطاعة أصلا و لم يقصد القربة، فهو مثل الجهل بنجاسة ثوب المصلّي، و غيره ممّا يتعلّق بالعبادات، إذ العبادة لا تصحّ
__________________________________________________
[1] هذا قطعة من حديث ما لفظه: عن عليّ بن النعمان الرازي «قال كنت مع أصحاب لي في سفر و أنا إمامهم فصليت بهم المغرب فسلّمت في الركعتين الأولتين فقال أصحابي إنما صليت بنا ركعتين فكلّمتهم و كلّموني فقالوا اما نحن فنعيد فقلت لكنّي لا أعيد و أتم بركعة فأتممت بركعة ثم صرنا فأتيت أبا عبد اللّه عليه السلام فذكرت له الّذي كان من أمرنا فقال لي: أنت كنت أصوب منهم فعلا ... الحديث» راجع الوسائل 5:
307 الباب 3 من أبواب الخلل الحديث 3.
__________________________________________________
(1) هذا قطعة من حديث راجع الوسائل 5: 257 الباب 28 من أبواب بقية الصلوات المندوبة الحديث 5.
(2) الوسائل 8: 238، الباب 14 من أبواب المواقيت، الحديث 2.
الفوائد الحائرية، ص: 426
بغير نيّة، فلا دخل له في المقام.
و على تقدير التّسليم فغاية ما في الباب أنّ الجهل في هذا الموضع يصير أيضا عذرا «1» إذ لا نزاع في أنّه في بعض المواضع يصير الجهل عذرا «2»، لا أنّ عبادة الجاهل مطلقا صحيحة. هذا على تقديره صحّة الخبر، و كونه معمولا به.
ثمّ اعلم يا أخي: أنّ اللّه تعالى و رسوله و الأئمّة صلوات الله عليهم قد أكثروا في إيجاب طلب العلم و الفقاهة و المعرفة و الاقتصار في الأخذ من الشّرع و غير ذلك ممّا أشرنا إليه، و أكّدوا غاية التأكيد، و شدّدوا نهاية التشديد، كي تصحّ عباداتهم و أعمالهم، و لا يزيد كثرة سيرهم زيادة البعد عن الطّريق، فيضلوا، و يهلكوا. و كذا فعل الفقهاء في كلّ عصر و مصر، و مع ذلك نرى العوام يسامحون في الدين، و أعمالهم و عباداتهم مخالفة لنهج الشّرع، فكيف يجوز تسهيل ما شدّد اللّه و الحجج المعصومون عليهم السلام، و رفع التأكيد فيما أكّدوا، و تجرئة العوام و تغريرهم. و اللّه يعلم.
و يمكن أن يقال: إذا حصل للعامّي ظنّ قويّ بكون ما فعله على وفق الشّرع و ما أفتى به المفتي، و وثق بظنّه إلى حدّ يتأتّى منه قصد الامتثال و القربة حين شروعه في الفعل، و فعل قربة إلى اللّه تعالى، ثمّ عرض فعله على المجتهد، فرأى انّه صحيح، فعلم من ذلك موافقة ظنّه للواقع، و عدم خطئه به يحصل امتثاله و الخروج عن العهدة به، سيّما إذا صرّح المجتهد بالكفاية.
__________________________________________________
(1) م: الجهل في هذا الموضع أيضا معذور ... ف: الجهل في هذا الموضع يصير معذورا ... و لعلى الصحيح ما أثبتناه.
(2) م: يصير الجهل معذورا ... ف: يصير أيضا الجهل معذورا ...
الفوائد الحائرية، ص: 427
و يمكن أن يقال أيضا إنّه و إن لم يخرج عن العهدة حال الأداء إلاّ أنّ القضاء بفرض جديد، و لا دليل على وجوب القضاء مع تحقّق المطابقة، لأنّ القضاء يثبت بفوات الفعل، و الظّاهر من الفوت ترك نفس الفعل لا ترك المعرفة بأنّه فعله.
و يمكن أن يقال بمثل هذا في الإعادة أيضا بأنّه لا يقتضي بأنّ المعرفة شرط لثبوت الامتثال و الخروج عن العدة، فتأمّل في الأدلّة حتّى تعرف الحال لأنّ ما ذكر أيضا لا يخلو عن إشكال.
و من العجائب أنّ بعض الأخباريّين يصرّح بأنّه لا يجوز في المسائل الشّرعيّة أن يستند إلى غير نصّ المعصوم عليه السلام، و لا يكتفي فيها بالاستناد إلى الإجماع و غيره من أدلّة المجتهدين، و يشنّع على من يكتفي بها بأنّه ليس نصّ المعصوم عليه السلام فكيف يكتفي في الشّرعيّات بغير نصّه؟! و مع ذلك يكتفي للعامي الجاهل أن يستند إلى رأيه و استحسانه، أو يستند إلى قول كلّ عامّي فاسق، أو غير ذلك ممّا ليس بنصّ المعصوم عليه السلام، و أين قول العامي الفاسق من إجماع الفقهاء؟! و أين ظنّ الجاهل و رأيه و استحسانه من أدلّة المجتهدين؟! فتأمّل.
و أعجب من هذا استدلال بعضهم على الصحّة بعموم «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون» [1] و أمثاله.
__________________________________________________
[1] الخصال 2: 417، الحديث 9. و نصّه هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي اللَّه عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد اللَّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللَّه، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع عن أمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان و ما أكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه، و الحسد، و الطّيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».
الفوائد الحائرية، ص: 428
و لا يتفطّن بأنّ هذا لو تمّ لكان يقتضي أن تكون عبادته الفاسدة كلّها صحيحة شرعا، فإنّي رأيت من الجهّال من لا يعرف من الصّلاة سوى القيام و القعود، من دون طهارة و لا قراءة و لا ركوع و لا سجود و لا تشهّد و لا تسليم بل اعتقاده أنّ قيامها و قعودها لا حدّ لهما، كلّما يزيد يكون أولى، و يقول: هذه صلاتنا و أمّا صلاة العلماء و الصّلحاء فغير هذه، و لا حاجة إلى تعريف عبادة الجهّال بل يراها كلّ أحد.
و أيضا يقتضي أن كلّ جاهل اعتقد في الدّين حكما بمحض اعتقاده، بل يكون دينه أحكاما فاسدة، و هو يعتقد شرعيتها بمحض جهله أو تقليده الجهّال، أو يخترع عبادات بكيفيات عجيبة- كما ترى ذلك في النّساء، بل و في الرّجال أيضا- و يكون جميع ذلك صحيحة شرعيّة، من جهة أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون».
بل ربّما اقتضى ذلك انّ عبادات أهل السنّة، و جهّالهم و بدعهم أيضا تكون صحيحة، حتّى أنّه عندهم أنّ قتل الشيعة و أسرهم و سبي نسائهم و استحلال فروجهنّ من أقرب القربات عند اللّه عزّ و جلّ فيلزم أن تكون صحيحة موجبة للثّواب، و لا يكون فيها عقاب، لأنّهم من الأمّة، مع أنّه ربّما يتحقّق أمثال ذلك في جهال الشّيعة أيضا.
و ربّما يقتضي أيضا أنّ العوام لو تركوا جميع عباداتهم الّتي ما أخذوها من الفقيه لا يكونون آثمين أصلا لقول الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع ...» إلخ، لأنّ مقتضى هذا أنّه لا إثم و لا مؤاخذة، لا أنّ أحكامهم و عباداتهم صحيحة شرعا، فمقتضى الحديث جواز الترك، و لا الصحّة شرعا.
الفوائد الحائرية، ص: 429
فإن قالوا: إنّهم عالمون بأنّهم مكلّفون، سيّما بالعبادات و الواجبات المعلومة بالضّرورة، و لا شكّ في أنّ التكليف: عبارة عن اشتغال ذمّتهم، و لا شكّ في أنّ شغل الذمّة يستدعي البراءة، و الخروج عن العهدة، و لا يتحقّق ذلك إلاّ بإتيان ما كلّفوا به، و لا يمكن ذلك إلاّ بمعرفته، و بعد المعرفة يخرجون عن الجهل و عن محلّ النزاع.
و القول: بأنّ كلّ توهّم يكون معرفة، و كذا تقليد كلّ جاهل- ممّا لا يصحّ أن يصدر عن عاقل.
انیس المجتهدین
فصل [16] قد عرفت فيما سبق «6» معنى الصحّة في العبادات و هو «7» موافقة الأمر
و امتثاله على المشهور، و يرادفها الإجزاء.
و أكثر الأصحاب على أنّ الإجزاء و القبول متلازمان، بمعنى أنّ كلّ عبادة تكون مجزئة تكون مقبولة، أي يترتّب عليها الثواب. و خالف المرتضى رحمه اللّه و قال بعدم تلازمهما «8». فيمكن أن يوجد الإجزاء من دون القبول، دون العكس؛ فإنّه يمكن أن يقع العبادة على الوجه المأمور به بحيث تبرأ ذمّة فاعله «9»، و يكون مطيعا، و لكن لم يترتّب عليها الثواب.
__________________________________________________
(1). كما في سورة البقرة (2): 280. و هي قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
(2). راجع الكافي 2: 644، باب التسليم، ح 3 و 8.
(3). تهذيب الأحكام 3: 150، 175.
(4). راجع القواعد و الفوائد 2: 107، القاعدة 185.
(5). راجع الكافي 4: 579، باب فضل الزيارات و ثوابها، و الأبواب التي بعده. و اعلم أنّه ليس في الأخبار المذكورة أنّ زيارتهم عليهم السّلام أعظم ثوابا من ردّ السلام و لكن يعلم الإنسان أنّ ما ذكر من الثواب و الفضيلة لزيارتهم عليهم السّلام لا يكون في ردّ السلام، و لذا قال المصنّف رحمه اللّه: «يستخرج و يستنبط».
(6). مرّ في ص 108.
(7). كذا في النسختين، و الأولى «هي». بدليل «يرادفها».
(8). راجع: الانتصار: 100، و استظهره الشهيد من كلامه في القواعد و الفوائد 2: 97، القاعدة 180.
(9). كذا في النسختين، و الأولى «فاعلها».
انيس المجتهدين في علم الأصول، ج1، ص: 160
و أيّد «1» ذلك بكثير من الظواهر: كقوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2»، مع أنّ عبادة غيرهم أيضا مجزئة إجماعا. و قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى «3»، مع أنّ الصدقات الواجبة المتبوعة بهما ليست بباطلة.
و ما ورد من أنّ صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا «4»، مع أنّ صلاته ليست بفاسدة في هذه المدّة.
و ما ورد من أنّ الصلاة لا يقبل منها إلّا ما أقبل عليه، فربّما قبل نصفها، و ربّما قبل ثلثها «5»، مع أنّها بدون الإقبال مجزئة.
و سؤال إبراهيم و إسماعيل التقبّل «6»، مع أنّ فعلهما كان مجزئا صحيحا.
و الجواب عن الجميع: أنّ المراد بالقبول القبول الكامل المشتمل على زيادة الثواب الموعود به، مع أنّه فسّر «المتّقين» في الآية بالمؤمنين «7»، و في بعض الأخبار أنّ المراد منهم الشيعة «8».
و سؤال إبراهيم و إسماعيل يمكن أن يكون للواقع، يدلّ عليه بعده رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ «9» مع أنّهما كانا مسلمين.
ثمّ الظاهر أنّ السيّد لمّا ذهب إلى أنّ الإجزاء في العبادة ما «10» يوجب سقوط القضاء دون موافقة أمر الشارع، قال بالفرق بينه و بين القبول؛ لأنّ سقوط القضاء غير مستلزم للقبول؛ لما سبق، فيكون مراده من الإجزاء- المنفكّ عن القبول في الآيات و الأخبار المذكورة- ما يلزمه سقوط القضاء.
__________________________________________________
(1). أيّد عدم التلازم الشهيد في القواعد و الفوائد 2: 97- 99، القاعدة 180.
(2). المائدة (5): 27.
(3). البقرة (2): 264.
(4). الكافي 6: 400، باب آخر منه، ح 1- 6 و 8- 12.
(5). المصدر 3: 362، باب ما يقبل من صلاة الساهي، ح 1، و الفروق 2: 53.
(6). إشارة إلى الآية 127 من البقرة (2) و هي قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.
(7). نسبه الطبري في جامع البيان 6: 123 إلى جماعة من أهل التأويل منهم الضحّاك.
(8). انظر الصافي 1: 92، و البرهان 1: 123، ح 310/ 1، و 2: 273، ح 3028/ 3. قيّد المعصوم عليه السّلام فيه المتّقين بالعارفين، و فسّر المعصوم عليه السّلام المتّقين في أوّل البقرة بالشيعة.
(9). البقرة (2): 128.
(10). لم يرد في «ب»: «ما».
انيس المجتهدين في علم الأصول، ج1، ص: 161
و قد عرفت الجواب.
و يظهر من كلام الشهيد أنّ القبول عنده غير الإجزاء و إن فسّر بموافقة الأمر و امتثاله، حيث قال- بعد ذكر أنّ القبول عنده غير الإجزاء-: لأنّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا، و به يخرج عن العهدة، و تبرأ الذمّة، و يسمّى فاعله مطيعا، و القبول ما يترتّب عليه الثواب «1».
و الإتيان بالفعل على الوجه المأمور به شرعا هو موافقة الأمر و امتثاله.
و غير خفيّ أنّه لا فرق في الاستدلال بالظواهر المذكورة على مغايرة الإجزاء للقبول و الجواب عنه بين تفسير الإجزاء بما يوجب سقوط القضاء، أو موافقة الأمر، إلّا أنّ الحكم بالمغايرة في الصورة الثانية أفحش؛ لأنّ السيّد إذا أمر عبده بشيء و وعد عليه الإحسان، ففعل العبد ما أمره به على النحو المأمور به، و كان موافقا لأمره، فلم يقبله السيّد و ردّه و لم يحسن إليه، يذمّه العقلاء، و ينسبونه إلى خلاف العدل، بخلاف ما إذا لم يأت بالفعل على النحو المأمور به و إن أسقط عنه القضاء.
و يرد عليهما «2»: أنّ العبادة التي لم يترتّب عليها الثواب كيف يخرج بها المكلّف عن التكليف؟! بل تكون لاغية عبثا؛ لأنّ كلّ تكليف يترتّب عليه الثواب و العقاب.
و بعض العرفاء وافق السيّد و قال:
لكلّ عبادة قالب و صورة، و روح و حقيقة، فروح الصلاة- مثلا- و حقيقتها هو الإقبال و الإخلاص و الخشوع و الحضور، فإذا أتى بأفعال الصلاة التي هي قالبها من دون الإتيان بما هو روحها، يكون ممتثلا لأمر اللّه، خارجا عن عهدة التكليف؛ لأنّ تكليفه كان هذا، و لكن لا يثاب ثواب الصلاة؛ لأنّه موقوف على إيجاد حقيقة الصلاة و روحها دون قالبها، فهذه الصلاة من حيث الصورة مجزئة، فيخرج المكلّف بها عن عهدة التكليف، و من حيث الحقيقة غير مجزئة، فلا يثاب عليها، فتأمّل فيه «3».
__________________________________________________
(1). القواعد و الفوائد 2: 97، القاعدة 180.
(2). أي يرد على السيّد المرتضى و الشهيد.
(3). لم أهتد إلى اسم هذا العارف القائل بعدم التلازم بين الإجزاء و القبول.
انيس المجتهدين في علم الأصول، ج1، ص: 162
ثمّ الحقّ أنّ الإجزاء في العبادة هو موافقة الأمر دون ما يوجب سقوط القضاء؛ لأنّ القضاء فرض مستأنف يحتاج إلى أمر جديد كما تعلم «1»، و لو كان الإجزاء ما يوجب «2» سقوط القضاء، لكان مستلزما لترتّب القضاء على الأداء.
ثمّ إنّ السيّد لمّا فرّق بين الإجزاء و القبول بالنحو المذكور فرّع عليه الحكم بأنّ كلّ عبادة حكم عليها الشارع بعدم القبول لا تكون مقبولة، و لكن تكون مجزئة و لا تحتاج إلى القضاء؛ و لذا ذهب إلى أنّ العبادة بنيّة الرياء مجزئة و إن لم يترتّب عليها الثواب؛ لأنّ الأخبار الواردة في النهي عن الرياء «3» إنّما تدلّ على عدم القبول الموجب للثواب «4».
و أنت تعلم كيفيّة الحال بعد الإحاطة بما حقّقناه.
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 293-297
الثالثة: محلّ النزاع في هذه المسألة يحرّر على وجهين:
الأوّل: هو أنّ إتيان المأمور به على وجهه، هل هو مسقط للتعبّد به،
بمعنى أنّه لا يقتضي ذلك الأمر فعله ثانيا قضاء أم لا؟
و الظاهر أنّ المخالف حينئذ يقول إنّه لا مانع من اقتضائه فعله ثانيا قضاء في الجملة، لا أنّه لا بدّ أن يقتضي فعله ثانيا دائما، كما لا يخفى.
و الثاني: أن يكون معنى إسقاط القضاء أنّه لا يجوز أن يكون معه أمر آخر «1» يفعله ثانيا قضاء أو يجوز «2»؟
و الظاهر أنّ النزاع على الثاني «3» يكون لفظيّا، إذ لا يمكن إنكار إمكان ذلك، فيعود النزاع في تسميته ذلك قضاء «4». و نحن أيضا نسقط هذا التقرير و نجري في الاستدلال على التحرير الأوّل، و نقرّر الأدلّة على ما يطابقه.
ثمّ إنّ هذا الكلام مع قطع النظر عن الخلاف الآتي في كون القضاء تابعا للأداء أو بفرض جديد، فالخلاف يجري على القولين كما لا يخفى.
و كذلك مع قطع النظر عن كون الأمر للطبيعة أو المرّة أو التكرار، إذ نفي المرّة للغير إنّما هو بالتّنصيص، و إسقاط القضاء على القول بالإجزاء إنّما هو من جهة
عدم الدّليل، إذ بعد حصول الإجزاء حصل الامتثال، فلا أمر يمتثل به ثانيا، فيسقط لأنّه تشريع.
و كذلك ثبوت فعله ثانيا في التكرار إنّما هو بالأصالة، و التكرار فيما نحن فيه على القول بعدم دلالته على الإجزاء إنّما هو من باب القضاء أو الإعادة...
إذا تمهّد هذه المقدمات فنقول:
اختلف الأصوليّون في أنّ إتيان المأمور به على وجهه؛ هل يقتضي الإجزاء، بمعنى سقوط القضاء بعد اتّفاقهم على اقتضائه الامتثال؟
على قولين، المشهور نعم «2»، و خالف فيه أبو هاشم «3» و عبد الجبار «4».
لنا: أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة المطلقة، بدون اعتبار مرّة و لا تكرار كما مرّ تحقيقه.
و معناه أنّ المطلوب به إيجاد الطبيعة، و هو يحصل بإيجاد فرد منه، و المفروض حصوله، فحصل المطلوب، فلا يبقى طلب آخر، فقد سقط الوجوب، بل المشروعيّة أيضا، لما مرّ تحقيقه في نفي دلالة الأمر على التكرار.
فلو قيل: إنّ حصول الامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر إنّما هو بالنسبة إلى بعض الأحوال دون بعض، و إنّما السّاقط هو الأمر بالبدل دون المبدل.
فأقول: إنّ ذلك باطل من وجهين:
الأوّل: أنّ ذلك خروج عن المتنازع، إذ ما ذكرته يصير أمرين، و كلامنا في الأمر الواحد.
و الثاني: أنّ المكلّف بالصلاة مع الوضوء مثلا إنّما هو مكلّف بصلاة واحدة كما هو مقتضى صيغة الأمر، من حيث إنّ المطلوب بها الماهيّة لا بشرط، فإذا تعذّر
عليه ذلك، فهو مكلّف بهذه الصلاة مع التيمّم، و هو أيضا لا يقتضي إلّا فعلها مرّة، و ظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأوّل، فعوده يحتاج إلى دليل، و الاستصحاب و أصالة العدم و عدم الدّليل كلّها يقتضي ذلك «1»، مضافا الى فهم العرف و اللّغة، و ما ترى أنّ الصلاة بظنّ الطهارة تقضى بعد انكشاف فساد الظنّ، فإنّما هو بأمر جديد و دليل خارجي «2».
نعم لو ثبت من الخارج أنّ كلّ مبدل إنّما يسقط عن المكلّف بفعل البدل ما دام غير متمكّن عنه، فلما ذكر وجه «3»، و أنّى لك بإثباته، بل الظاهر الإسقاط مطلقا «4».
فيرجع النزاع في المسألة إلى إثبات هذه الدّعوى إلّا أنّ الأمر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه، فالمسألة تصير فقهيّة لا اصوليّة «5».
هداية المسترشدين ( طبع جديد )، ج2، ص:702- 704
ثمّ إنّ الكلام في هذه المسألة يتصوّر على وجوه ثلاثة:
الأوّل: أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي سقوط التعبّد به- بمعنى عدم مطلوبيّة فعله ثانيا في الوقت أو خارجه- أو لا يقتضي ذلك؟ فيمكن بقاء التعبّد به و وجوب الإتيان به مرّة اخرى، كما هو الظاهر من كلام الخصم حيث ذكر أنّه لا يمتنع أن يأمر بالفعل و يقول: «إن فعلته أدّيت الواجب و يلزم القضاء مع ذلك» فيكون الحكم
في ذلك تابعا لدليل آخر، و مع عدمه فالأصل البراءة عنه. و على المشهور يقع المعارضة إذن بين الدليلين. فنفي القضاء مع عدم الدليل لا يكون مستندا إلى مجرّد الأصل بل إلى الدليل.
و اورد عليه: بأنّه لا يعقل النزاع في جواز تعلّق أمر آخر بمثل الفعل الأوّل، لوضوح إمكانه و وروده في موارد لا يحصى، فيكون النزاع في صدق القضاء عليه و عدمه فيرجع إلى اللفظ، فإن اعتبر في مفهوم القضاء استدراك المصلحة الفائتة لم يكن قضاء.
و فيه: أنّ الأمر المتعلّق بفرد آخر من الطبيعة المأمور بها غير الأوّل خارج عن محلّ المسألة قطعا، كالأمر المتعلّق بتكرار العبادات بحسب أوقاتها و أسبابها- كالصلاة و الصيام و الزكاة و غيرها- إذ الثاني غير الأوّل و إن تماثلا في الصورة فيرجع إلى الأمر بالمتماثلين. و إنّما الكلام في اقتضاء الأمر لسقوط التكليف بنفس المأمور به في الوقت أو بمثله لاستدراكه ثانيا في الوقت أو خارجه و لو بأمر آخر متعلّق بعين الأوّل.
و أنت خبير: بأنّ الضرورة كما قضت بجواز الأوّل كذا تقضي بامتناع الثاني، لكونه تحصيلا للحاصل. إلّا أن يقال: إنّ قيام الضرورة على بطلان أحد القولين لا يمنع من وقوع الخلاف فيه، فإنّ الخلاف في الامور الضروريّة ليس ببعيد، و لذا استدلّ المشهور على القول الأوّل بلزوم تحصيل الحاصل. و كان الباعث على التوهّم المذكور قياس الأمر في دلالته على الإجزاء على النهي في دلالته على الفساد، كما ذكره الخصم مع وضوح الفرق بين المقامين كما سنشير إليه إن شاء اللّه.
الثاني: أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي فعله ثانيا في الوقت من باب الإعادة أو في خارجه على وجه القضاء و لو في الجملة أو لا يقتضي ذلك بل يتبع تعلّق أمر آخر بذلك فيثبت به و عدمه فينتفي بالأصل؟
و بهذا الوجه قرّر بعض المتأخّرين محلّ الكلام في المسألة استبعادا لوقوع النزاع على الوجه الأوّل لرجوعه إلى اللفظ كما مرّ. و زعم أنّه لا يبتني على
الخلاف في المرّة و التكرار و لا في تبعيّة القضاء للأداء و عدمها. و هو من غرائب الكلام إذ الخلاف في ذلك أشدّ غرابة من الأوّل، لما عرفت من أنّ تعلق الأمر بمثل الأوّل ليس من المسألة، بل الكلام في جواز استدراكه ثانيا و عدمه. و إنّما يستبعد الخلاف فيه لقيام الضرورة على امتناع تحصيل الحاصل، فكيف يعقل القول بدلالة الأمر عليه، بل و كذا القول بلزوم الإعادة في خارج الوقت و لو لغير جهة الاستدراك بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه: من مرّة، أو تكرار، أو غير ذلك.
ثمّ لو فرضنا وقوع الخلاف في دلالته على ذلك فكيف يعقل اجتماع القول به مع القول بعدم تبعيّة القضاء للأداء، إذ الأمر لو لم يقتض التكليف بالقضاء مع الإخلال بالمأمور به في الوقت فكيف يعقل اقتضاؤه له مع الإتيان به على وجهه، ثمّ كيف يجتمع القول بذلك مع القول بدلالته على المرّة أو على طلب الطبيعة الحاصلة في ضمن الفرد.
نعم ما ذكر في الوجه الأوّل لا يبتني على الخلاف المذكور في شيء من المسألتين كما لا يخفى، ثمّ ليس في كلام الفريقين ما يشير إلى إرادة المعنى المذكور، بل كلماتهم في عنوان المسألة و أدلّتها صريحة في خلافه فلا تغفل.
الثالث: أنّ الأمر المتعلّق بالعمل بالطرق الشرعيّة المقرّرة لمعرفة الأحكام أو الموضوعات الخارجيّة هل يقتضي الإجزاء عند الإتيان بالواجبات و المستحبّات الشرعيّة على ما يقتضيه تلك الطرق و إن اتّفق مخالفتها للواقع إلّا أن يقوم دليل على خلافه أو لا يقتضي ذلك إلّا مع قيام دليل آخر عليه؟ فالأصل دوران الأمر في ذلك مدار إصابة الواقع و عدمها. فإن اتّفق مصادفتها للواقع حصل الاجتزاء به و إلّا فلا، إلّا أنّه يجوز الاكتفاء به من حيث الحكم عليه في الظاهر بأنّه هو الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا تبيّن ذلك انكشف فساد العمل و بقاء الواقع على حاله فيجب الإتيان به في الوقت، و القضاء في خارجه لتحقّق الفوات فيه. فمحصّله أنّ الأمر الظاهري هل يقتضي الإجزاء عند مخالفة الحكم الواقعي أم لا؟
و هذا هو الّذي ينبغي أن يكون محطّا لنظر العلماء دون الأوّلين، و إطلاق العنوان في كلام القوم يوهم اندراجه في محلّ المسألة. و يشهد به احتجاج الخصم بالصلاة الواقعة باستصحاب الطهارة بعد انكشاف الخلاف، إلّا أنّ الأظهر أنّ الغرض من عنوان المسألة أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي سقوط الأمر المتعلّق به لا سقوط أمر آخر يتعلّق بفعل آخر قد انكشف مخالفته للأوّل بعد اعتقاد توافقهما فلا يشمل الفرض المذكور.
و قد يقرّر المسألة في الأوامر الواردة في حقّ أصحاب الأعذار كالأفعال الواقعة على وجه التقيّة، و وضوء صاحب الجبيرة، و طهارة المسلوس و المبطون، و تيمّم العاجز عن الطهارة المائيّة، و صلاة العاجز عن القيام أو القراءة أو الطهارة، أو غيرها من الأجزاء و الشرائط المقرّرة إلى غير ذلك، فهل الأصل الاجتزاء بها بعد زوال تلك الأعذار أو يدور الأمر في ذلك مدار العذر فإذا زال بقي الواقع على حاله؟
ضوابط الأصول، ص:182- 183
الأمر الثانى فى بيان محلّ النزاع و ثمرته و فيه جهات الأولى
اعلم ان قولهم الامر يقتضى الاجزاء يحتمل معان
الاول ان الامر يقتضى سقوط التعبد به
ثانيا فيكون معنى عدم اقتضاء الامر الاجزاء انه يدل على سقوط التعبد به مط او فى الجملة او انه لا يدل على السّقوط
الثانى ان الامر لا يقتضى الاتيان بفعل المامور به ثانيا
اى لا يدل على لزوم الاتيان به ثانيا و عدم الاقتضاء ح اقتضاؤه الاتيان بالفعل ثانيا مط او فى الجملة
الثّالث ان الامر يدل على عدم صحّة الامر به ثانيا
و عدم الاقتضاء ح انه يدل على صحّة الامر به ثانيا او انّه لا يدل على احد الطرفين لا سبيل إلّا الى الاحتمال الاول لبطلان الثانى فان ظ قولهم يقتضى الاجزاء هو ان الامر يدلّ عليه و ليس ظاهره ان الامر لا يدلّ على لزوم الاتيان بالفعل ثانيا و لا يقتضيه فان الظاهر انما هو الدلالة و اقتضاء السقوط ثانيا لا مجرد عدم اقتضاء الاتيان به ثانيا مضافا الى ان مقتضى قول القائلين بالاقتضاء إن كان هو ما ذكر فى الاحتمال الثانى لما ترتب الثمرة التى ذكروها للنزاع اذ هم قالوا ان لازم القول بالاقتضاء عدم لزوم الاعادة بعد كشف الفساد و لو كان مرادهم من اقتضاء الاجزاء مجرّد عدم دلالة الامر على الاتيان ثانيا لكان اللّازم بعد كشف الفساد الرجوع الى الاصل فان كان مذهب القائل بالاقتضاء فى امثال تلك الموارد العمل بقاعدة الاشتغال و طرح البراءة و لزمه الاعادة و ان كان بناؤه على تقديم البراءة لم يلزم الاعادة فالقائل بالاجزاء لا يلزمه عدم الاعادة مط بل لا بدّ من التفصيل مع انهم اطلقوا عدم لزوم الاعادة على مذهب القائل بالاجزاء و هذا كاشف عن عدم ارادتهم من الاجزاء هذا الاحتمال و امّا بطلان الثالث فلان نزاعهم ان كان فى صحّة ورود الامر المستقل بما ورد به الامر اولا فلا وجه لانكار احد جواز ذلك سيما المشهور القائلين بالاجزاء و ان كان فى صحة ورود الامر بالتدارك المط سواء كان امرا بالتدارك عين على ما اتى به أو لا و تدارك بدله كان يأمر بالصّلاة بطهارة يقينية بعد كشف فساد صلاته بالطهارة المستصحبة فلا وجه
لانكار المشهور جواز ذلك لوضوح صحّة الامر بالتدارك فى الجملة و ليس ذلك ممّا يقبل النزاع و إن كان فى صحّة الامر بتدارك عين ما اتى به اولا فلا ريب فى وضوح عدم جواز ذلك عقلا فلا وجه لانكار المنكر و لا معنى قابلا للنزاع مع ان الاحتمال الاخير خلاف الظاهر من العبارة فتعيّن الاوّل و الظاهر ان مراد المنكر ح انه يدل على عدم السقوط فى الجملة و الوجه واضح مما مر
القواعد الشريفة، ج1، ص: 21
و اما الثالثة فالاحتمالات المتصوّرة فى المقام متعددة فمنها انه يحتمل ان يكون مراد من قال بدلالة الامر على الاجزاء انه يدلّ على عدم لزوم الاعادة بالمعنى الاعم من المعنى المصطلح عليه و من القضاء و المخالف فى مقابله يقول بانه لا يدلّ على ذلك فلو جاء دليل دال على لزوم الاتيان ثانيا لكان معارضا للامر الاول بناء على مذهب القائل بالاجزاء بهذا المعنى فلا بدّ من ملاحظة قاعدة التعارض بينهما و العمل بمقتضاها بخلاف القائل بعدم الاجزاء فى مقابله فانه يجب عليه الاخذ من دون تامّل اذ لا تعارض على هذا الفرض كما لا يخفى و منها انه يحتمل ان يكون مراد الاول انه لا دلالة للامر على لزوم الاتيان به ثانيا فالقول بسقوط التعبّد به على هذا الفرض انما هو من
جهة الاصل مثل القائل بعدم الاجزاء بالمعنى الاول و المخالف فى مقابله يقول باقتضاء الامر الاتيان به فى الجملة اى فى صورة ظهور فساد ما اتى به كمن صلّى بالطهارة الظنية فظهر بعد الصّلوة انه لم يكن متطهّرا فالقائل بعدم الاجزاء بهذا المعنى يقول بوجوب الاتيان بها ثانيا بنفس الامر الاوّل و القائل بالاجزاء يقول بعدم الوجوب نظرا الى الاصل و عدم وجود دليل اخر و منها انه يحتمل ان يكون مراد من قال بالاجزاء انه بعد الاتيان بالمامور به على وجهه لا يجوز الاتيان به ثانيا لكونه تشريعا حراما و المخالف يمنع من ذلك و يجوز الاتيان به ثانيا و منها انه يحتمل ان يكون مراد القائل بالاجزاء انه لا يجوز ورود الامر باتيان المامور به ثانيا قضاء او اعادة و المخالف فى مقابله يمنع من ذلك و يجوز ورود الامر باتيانه ثانيا قضاء او اعادة و لا يخفى عليك ان القائل بالاجزاء بهذا المعنى يحتمل ان يقول به من جهة اللفظ بمعنى ان يدعى ان الامر دل على عدم جواز ورود الامر باتيانه كك و يحتمل ان يقول به من جهة الحكم القوة العاقلة بذلك و المخالف فى مقابله يحتمل ان يدعى الدلالة اللفظية و يحتمل ان يدّعى جواز ذلك من جهة العقل و لا ريب ان احتمال الاخر من هذين الاحتمالين هو الذى يحتمل ان يكون محلّا للنزاع و امّا الاول منهما فلا يقبل ان يجعل محلّا للنزاع اذ لا دلالة للامر على الاجزاء و لا على عدمه بهذا المعنى قطعا
مفاتيح الأصول، ص:125- 126
مفاتيح الأصول، ص:125- 126
مفتاح [القول في بيان أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يفيد الإجزاء]
إذا أتى المكلّف بالمأمور به على الوجه المعتبرشرعا بأن يكون جامعا لجميع الأجزاء و الشرائط و خاليا عن جميع الموانع صار ممتثلا و خرج عن التكليف به و لا يجب إعادته لا في الوقت و لا في خارجه أمّا أنّه ممتثل حينئذ فظاهر و قد حكي عليه الإجماع و نفي الخلاف في الإحكام و المختصر و شرحه للعضدي و شرح المنهاج للأسنوي قال العضدي لأنّ معنى الامتثال و حقيقته ذلك و أمّا عدم وجوب الإعادة مطلقا و لو في الوقت إذا لم يقم عليه دليل من الخارج فمما ذهب إليه السّيّد في الذريعة و الشيخ في العدة و المحقق في المعارج و المعتبر و العلامة في المنتهى و المختلف و النهاية و التهذيب و المبادي و الشّهيدان في الذكرى و الروضة و المحقق الثاني في جامع المقاصد و المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة و سبط الشهيد الثاني في المدارك و الفاضل الخراساني في الذخيرة و المحدث الكاشاني في المعتصم و الرّازي في المحصول و الحاجبي في مختصر المنتهى و البيضاوي في المنهاج و غيرهم و في الإحكام هو مذهب أصحابنا و الفقهاء و أكثر المعتزلة و في العدة ذهب إليه الفقهاء بأجمعهم و كثير من المتكلّمين و في نهاية السئول قال به الجمهور و في النهاية ذهب إليه المحققون انتهى و حكى في الإحكام و المختصر و شرحه للعضدي و شرح المنهاج للأسنوي عن القاضي عبد الجبّار أنّه قال إن الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يقتضي إسقاط القضاء و لا يمتنع معه من الأمر به و في الإحكام عزا هذا إلى مبتغى القاضي و في العدة قال كثير من المتكلّمين إنّه لا يدل على ذلك و لا يمتنع أن لا يكون مجزيا و يحتاج إلى القضاء و في نهاية السئول قال أبو هاشم و عبد الجبّار و أتباعهما إنّه لا يمتنع الأمر بالقضاء مع فعله فيلزم من ذلك أنّه لا يدل على عدم وجوبه بل يكون عدم الوجوب مستفاد من الأصل هكذا حرّره الآمدي و غيره و نقله عن الخصم صريحا و في النهاية قال أبو القاسم و أتباعه و القاضي عبد الجبار إنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء انتهى
مفتاح [القول في بيان أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يفيد الإجزاء]
إذا أتى المكلّف بالمأمور به على الوجه المعتبرشرعا بأن يكون جامعا لجميع الأجزاء و الشرائط و خاليا عن جميع الموانع صار ممتثلا و خرج عن التكليف به و لا يجب إعادته لا في الوقت و لا في خارجه أمّا أنّه ممتثل حينئذ فظاهر و قد حكي عليه الإجماع و نفي الخلاف في الإحكام و المختصر و شرحه للعضدي و شرح المنهاج للأسنوي قال العضدي لأنّ معنى الامتثال و حقيقته ذلك و أمّا عدم وجوب الإعادة مطلقا و لو في الوقت إذا لم يقم عليه دليل من الخارج فمما ذهب إليه السّيّد في الذريعة و الشيخ في العدة و المحقق في المعارج و المعتبر و العلامة في المنتهى و المختلف و النهاية و التهذيب و المبادي و الشّهيدان في الذكرى و الروضة و المحقق الثاني في جامع المقاصد و المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة و سبط الشهيد الثاني في المدارك و الفاضل الخراساني في الذخيرة و المحدث الكاشاني في المعتصم و الرّازي في المحصول و الحاجبي في مختصر المنتهى و البيضاوي في المنهاج و غيرهم و في الإحكام هو مذهب أصحابنا و الفقهاء و أكثر المعتزلة و في العدة ذهب إليه الفقهاء بأجمعهم و كثير من المتكلّمين و في نهاية السئول قال به الجمهور و في النهاية ذهب إليه المحققون انتهى و حكى في الإحكام و المختصر و شرحه للعضدي و شرح المنهاج للأسنوي عن القاضي عبد الجبّار أنّه قال إن الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يقتضي إسقاط القضاء و لا يمتنع معه من الأمر به و في الإحكام عزا هذا إلى مبتغى القاضي و في العدة قال كثير من المتكلّمين إنّه لا يدل على ذلك و لا يمتنع أن لا يكون مجزيا و يحتاج إلى القضاء و في نهاية السئول قال أبو هاشم و عبد الجبّار و أتباعهما إنّه لا يمتنع الأمر بالقضاء مع فعله فيلزم من ذلك أنّه لا يدل على عدم وجوبه بل يكون عدم الوجوب مستفاد من الأصل هكذا حرّره الآمدي و غيره و نقله عن الخصم صريحا و في النهاية قال أبو القاسم و أتباعه و القاضي عبد الجبار إنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء انتهى
مفاتیح الاصول، ص 126-127
و التحقيق عندي في المسألة أن يقال إن القاضي عبد الجبار و من وافقه إن ادعوا أن الآتي بالمأمور به لا يخرج عن عهدة الأمر بعد الإتيان على وجهه و يبقى مشغول الذّمة بالتكليف و يحتمل بقاؤه على الاشتغال فهي دعوى فاسدة يكذبها الوجدان و يغني في إبطالها العيان عن البيان و كذا الحال لو ادعوا جواز الأمر بإعادته أو قضائه المفسّرين بحسب الاصطلاح بالإتيان به في ثاني
الحال باعتبار حصول خلل في إتيانه أو ترك للمأمور به في الوقت المضروب له و إن ادعوا أن لفظ الأمر لا يدل لغة على الخروج عن العهدة و ارتفاع الاشتغال به بعد الإتيان به و أنّه لا يدلّ أيضا لغة على عدم الأمر بذلك المأمور به في ثاني الحال و أنّه يجوز تعلّق أمر آخر مرة أخرى و أن الأمر الأوّل لا يعارضه لفظا فتلك دعاوي صحيحة لا دليل على بطلانها و قد صار إليها جماعة من الأعاظم كالسّيّد و ابن زهرة و الشّيخ و الآمدي و غيرهم و ذلك لأن دلالة اللفظ على معنى إمّا بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام و كلّها منتفية قطعا و بالجملة غاية ما يستفاد من الأمر ليس إلاّ مجرّد طلب الفعل و ليس فيه دلالة لفظية على أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي رفع الاشتغال و لا على عدم تعلق آخر بهذا الفعل و إنّما الحاكم بالأوّل هو العقل كما يحكم باستحقاق الثواب على الفعل على بعض الوجوه و باستحقاق العقاب على الترك على بعض الوجوه و الحاكم بالثّاني هو الأصل و نحوه و إذا قام دليل على خلافه وجب الأخذ به و لا يكون دافعا لظاهر الأمر الأوّل و هل يسمّى قضاء أو لا المعتمد هو الأول و على هذا يمكن أن يقال من أحكام الإتيان بالمأمور به على وجهه سقوط القضاء و لو نازعنا في هذا منازع لكان منازعا في أمر اصطلاح و الأمر فيه سهل و كما لا يدلّ الأمر لغة على ما ذكر كذلك لا يدلّ عليه شرعا و لا عرفا
[أمور تمهيدية]
اختلفوا في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أولا؟ على قولين «1»، ستعرف الحقّ منهما.
و قبل الخوض في المطلب ينبغي رسم امور:
الأوّل: الظاهر أنّ البحث هذا إنّما هو في اقتضاء الإتيان بالمأمور به عقلا الإجزاء، فليس البحث من الأبحاث اللغويّة التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو انصرافا «2»، فيعمّ البحث ما إذا كان الأمر مستفادا من الإجماع و نحوه من الأدلّة الغير اللفظيّة، و يشهد لذلك ملاحظة أدلّة الطرفين.
قلت: و يمكن توجيه البحث على وجه يرجع إلى الأبحاث اللفظيّة، كأن يقال: إنّ الماهيّات التي تقع موردا للأمر على قسمين: فتارة يكون الوجه الذي يدعو إلى طلبها و الأمر بها على وجه لا يسقط بالإتيان بها دفعة واحدة، و اخرى على وجه يسقط عند الإتيان بها مرّة واحدة، فيمكن أن يكون النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة للطلب المتعلّق بالقسم الأوّل أو القسم الثاني؟
و يؤيّد ذلك ما قد تمسّك للقول بعدم الإجزاء بمثل الأمر بالزيارة و الأمر بالصلاة بعد معلوميّة أنّ حسن الزيارة و الصلاة ممّا لا يسقط بالإتيان بها مرّة، و لكنّه مناف لظاهر لفظ «القضاء» أو «الإعادة» و نحوهما ممّا هو متداول في ألسنة أرباب القول بعدم الإجزاء، كما حكي عن أبي هاشم و عبد الجبّار «3»، على ما ستعرفه.
الفوائد الأصولية، ص: 674
************************
«التقريب والإرشاد (الصغير)» (2/ 169):
«باب
القول هل يقتضي الأمر إجزاء المأمور به أولا
؟
اختلف الناس في هذا الباب
فقال الكل من الفقهاء وعامة أهل العلم إنه يقتضي كون المأمور به? مجزئا إذا فعل على وجه ما تناوله الأمر.
وقال بعض المتكلمين: إنه لا يدل على إجزائه. وقد كنا قلنا في مواضع من الأمالي وغيرها إن الأشبه أن لا يجزئ وفسرنا ذلك بأنه لا يدل على أن مثل الفعل الذي وقع لا يلزم بعده. وأنه لا يمتنع أن يلزم مثل الواجب فيما بعد وإن فعل بحسب مقتضاه الأمر. ولكنه مع ذلك لا بد أن يعرض فيه سبب يوجب قضاءه بعد فعله. ومتى عري من كل سبب يوجب القضاء كان ما وجب بعده فرضا مبتدأ لا يوصف بأنه قضاء بسبب فساد وأمر عرض فيما قبله.
والذي يجب تحصيله وحصر الكلام عليه في هذا الباب أن يقال إن ما يفعل نحو الأمر به والإيجاب له على ضربين:
فضرب منه واجب مجزئ يدل الأمر به مع وقوعه على الصفات والشرائط التي يتناوله الأمر عليها واستكمالها على إجزائه وصحته»
«التقريب والإرشاد (الصغير)» (2/ 170):
«والضرب الآخر واجب فعله نحو الإيجاب له والأمر بهو قد دخله مع ذلك ضرب من الخلل إما لشيء من قبل المكلف اكتسبه أو لشيء دخل عليه من غير جهته, أو لأجل شيء كان منه قبل التلبس بالفعل المأمور به
فأما الأمر الدال على أجزاء المأمور وصحته على تأويل إن فعل مثل متعلقة الممأمور به لا يجب فيما بعد على سبيل القضاء له, وهي الصلاة المفعولة في وقتها بطهارة ونية واستكمال شرائطها وحصول أسباب وجوبها بأمر مبتدأ به, لا لأجل ترك شيء وجب قبلها, ولا لأجل صلاة لزمت لأجل فواتها. ولا لفساد فرض من الصوات لزمت من أجلها, وليس بين الأمة خلاف في أن ما وجب على هذه السبيل فهو فرض مبتدأ صحيح ليس بقضاء لشيء. ولا مما يجب قضاؤه إذا فعل عاريا من جميع العوارض والأسباب. وإذا كان كذلك, وجب أن يدل الأمر بما هذه سبيله على إجزاء المأمور به, إذا وقع مع حصول أسباب وجوبه واستكمال شرائطه, وأن لا يجب قضاؤه, وأن لا يكون في نفسه قضاء لشيء فات أو فسد. وهذا واجب لا محيص منه.
فإن قال قائل: فهل يستحيل عندكم في حكمة الله وطريقة التكليف أن يأمر الله سبحانه بالفعل عند أسباب تحصل وشرائط يقع عليها, فيفعل عند أسبابه وعلى شرائطه. ثم يأمر بفعل آخر مثله بعده على صفته وشرائطه.
قيل له: لا يستحيل ذلك في حكمته تعالى, ولكن لا يكون المفعول الثاني بالأمر بالثاني لترك الأول ولفواته ولا لخلل المأمور به الأول على الوجوه والشرائط التي ذكرناها ولا لفواته ولا لالخلل لحقه ودخل فيه يصير من أجله قضاء للأول, بل يكونان فرضين مبتدأين لا تعلق لأحدهما بالآخر, ولا يكون»
«التقريب والإرشاد (الصغير)» (2/ 171):
«الثاني مفعولا لترك فرض قبله وفساده ولسبب عرض فيه.
وأما الواجب الذي لا يدل الأمر به على إجزائه إذا وقع فهو الذي وقع وقد دخل فيه ضرب من الفساد الذي يلحق الواجب, وهذا الفساد يكون بوجهين:
أحدهما كسب للعبد, والآخر مدخول عليه بالفساد, لا من قبله.
فالأول: نحو إفساده الحج بالوطء, وما يجري مجراه الذي يجب عليه المضي في فاسده وفعل مثله بعده وقضاءه. وليس لأحد أن يقول ما أنكرتم أن يكون المعنى في فاسد الحج غير واجب من حيث وجب قضاؤه, بهده, لأن وجوب قضائه بعده لا يبقى وجوبه. وإنما الذي يبقي وجوبه سقوط الذم والعقاب بتركه. وقد اتفق على أنه قد ورد الذم والعقاب بترك المضي في فاسد الحج, كما يستحق ذلك بإفساده وتركه إذا تضيق وجوبه, فثبت وجوب المضي في فاسده, ولا يجب أن يقال الذي يدل على وجوب المضي في فاسد الحج استحقاق الثواب عليه, لأنه لا يمتنع ثبوت واجب على سبيل القضاء والابتداء. وإن لم يجعل الله عليه ثوابا. وإن أوجب الذم والعقاب بتركه. ولأن النفل من القرب عليه ثواب وإن لم يكن واجبا. فوجب الاعتماد على ما بدأنا به.
فصل: وأما الفاسد بسبب مدخول على العبد, فنحو الصلاة عند تضييق وقتها وفرضها, مع الظن بكون المصلي متطهرا, ونسيانه الحدث هذا- أيضا- مما قد اتفق على وجوبه, وأنه إذا ذكر بعد فعلها أنه كان محدثا غير متطهر لزمه قضاؤها. وبسبب وجوب القضاء تركه التطهر على سبيل السهو عن ذلك, والسهو ليس من كسبه ومقدوراته. وإن أجري في الحكم مجرى ما يفسد به الحج وغيره»
«التقريب والإرشاد (الصغير)» (2/ 172):
«من فرائضه بفعل من كسب معتمد مقصود. والذي يدل على وجوب الصلاة على من هذه حالة في ظن التطهر, وإجماع الأمة على أنه عاص ومستحق للذم على ترك الصلاة, وإن كان محدثا مع ظنه الطهارة ولو لم تجب عليه. والحال هذه لم يكن عاصيا بتركها فصح ما قلناه.
فصل: واعلموا- رحمكم الله- أنه ليس مرادنا بالقول إن من الأوامر مالا يدل على إجزاء المأمور به أن منها مالا يدل على أنه حسن طاعة مثاب فاعله ومتقرب به. وإنما مرادنا بذلك أنه لا يدل عله على سبيل الوجوب, والحال ما وصفناها على سقوط فرض مثله بعده. وكذلك إذا قلنا أن من النهي مالا يدل على فساد المنهي عنه. وليس مرادنا بذلك أنه لا يدل على قبحه إذا كان نهي تحريم, وعلى أنه معصية مستحق عليه الذم والعقاب. وإنما نعني بذلك أنه لا يدل بكونه منهيا عنه على أنه غير مجزئ في الشيء ولا واقعا موقع الصحيح نحو الصلاة في الدار المغصوبة, وما نذكره في أحكام النهي.
ومراد الفقهاء بقولهم: إن الأمر يدل على إجزاء المأمور به, والنهي يدل على أنه غير مجزئ أن ما وقع مأمورا به سقط فرض مثله بعد فعله. وما وقع منهيا عنه لم يقع مجزئا ونائبا عن المأمور به. وهذا ليس بمستمر لما ذكرناه من قبل»
«المعتمد في أصول الفقه» (1/ 90):
«باب في الأمر هل يدل على إجزاء المأمور به أم لا - صلى الله عليه وسلم -
ذهب الفقهاء بأسرهم إلى أنه يدل على ذلك وقال قاضي القضاة إنه لا يدل عليه وينبغي أن نذكر معنى وصفنا للعبادة بأنها مجزئة وغير مجزئة ثم نبني الكلام عليه فنقول إن وصف العبادة بأنها مجزئة معناه أنها تكفي وتجزيء في إسقاط التعبد بها وإنما يكون كذلك إذا استوفينا شروطها التي تعبدنا أن»
«المعتمد في أصول الفقه» (1/ 91):
«نفعلها عليها وذلك أنه لا فرق بين قولنا هذا الشيء يجزئني وبين قولنا إنه يكفيني والمعقول من قولنا إنه يكفيني أنه يكفي في غرض من الأغراض وكذلك المعقول من قولنا في العبادة إنها تجزيء هو أنها تكفي وتجزيء في إسقاط التعبد وإذا قلنا إن العبادة لا تجزيء فالمعقول منه أنها لا تجزىء في إسقاط التعبد بها وإنما لا تجزيء في ذلك لأنها لم تستوف شرايطها التي أخذ علينا إيقاعها عليها وتبع ذلك أن يجب قضاؤها بذلك التعبد إن لم تكن موقتة أو كان وقتها باقيا وأن يجوز أن يجب قضاؤها إن كان قد خرج وقتها وقد دخل تحت هذا الكلام العبادات الواجبة وغير الواجبة وليس معنى قولنا إن العبادة تجزىء أنها حسنة لأن المباح حسن ولا يوصف بأنه يجزىء وإنما يوصف المباح بأنه جائز على معنى أنه حسن غير قبيح وذكر قاضي القضاة أن معنى وصف العبادة بأنها مجزئة هو أنه لا يجب قضاؤها ومعنى وصفها بأنها لا تجزيء هو أنه يلزم قضاؤها وهذا غير مستمر لأن الله سبحانه لو أمرنا بالصلاة على طهارة فصلى الإنسان على غير طهارة ومات عقيب الصلاة أو بقي حتى خرج وقت الصلاة ولم يرد التعبد بالقضاء لوجب أن تكون الصلاة مجزئة إذ كان القضاء لم يجب وهو معنى كونها مجزئة عنده فإن قال العبادة التي هي غير المجزئة هي التي يجوز أن يجب قضاؤها أو كان يجوز أن يجب قضاؤها وما فرضتموه كان يجوز أن يجب عليه القضاء قيل فقد صارت العبادة المجزئة هي التي تكون على صفة لأجلها لا يجوز أن يجب قضاؤها والتي لا تجزيء تكون على صفة يجوز معها أن يجب قضاؤها فما تلك الصفة إذ هي معنى الإجزاء فلا بد عند ذلك من الرجوع إلى ما قلناه فيظهر أن المأمور به إذا فعل على حد ما أمر به لم يجز أن يجب قضاؤه
فاذا ثبت ذلك فلنتكلم في المسألة على كلا القولين فنقول إن كان معنى وصف العبادة بأنها مجزئة أنه قد سقط بها التعبد فمعلوم أن الأمر يدل على أن ما تناوله إذا فعل على حد ما تناوله مع تكامل الشرائط فهو يجزيء لأن»
«المعتمد في أصول الفقه» (1/ 92):
«المكلف بهذا الفعل ممتثل للامر فلو قلنا إن التعبد بذلك الفعل باق عليه انتقض القول بأنه ممتثل للأمر لأن الأمر تعبد ولهذا نقول إن المضي في الحجة الفاسدة يجزيء في إسقاط التعبد بالمضي فيها وإنما لا يجزيء فيها إسقاط التعبد بحجة صحيحة لأن ذلك التعبد ما امتثل وكذلك الصلاة في آخر الوقت على ظن الطهارة تجزيء في إسقاط التعبد المتوجه إلى الظان في ذلك الوقت وإذا ذكر من بعد أنه كان محدثا توجه إليه أمر آخر لأنه إنما كلف الصلاة على طهارة إذا ذكر أمه كان محدثا حين صلى فأما كون العباد جائزة على معنى أنها حسنة فلا شبهة في أن الأمر يدل عليه لأن الأمر يدل على الوجوب أو على الندب والحسن داخل تحت كل واحد منهما
فأما القول بأن الأمر يدل على إجزاء المأمور به على معنى أنه يمنع من لزم القضاء فصحيح أيضا لأن قضاء العبادة الموقتة هو فعل واقع بعد خروج وقتها بدلا من فعلها في وقتها على الوجه المأمور به وذلك يكون إما لأن العبادة ما فعلت أصلا أو فعلت على وجه الفساد وذلك غير حاصل إذا فعلها الإنسان على وجه الصحة فلم يتصور القضاء اللهم إلا أن يقال يجب عليه بعد خروج الوقت فعل مثل ما فعله في الوقت ولا يكون قضاء لما فعله فذلك غير منكر والأمر لا يدل على نفي وجوب ذلك ألا ترى أن الأمر بصلاة الظهر لا يمنع من وجوب مثلها في العصر غير أنه لا يكون قضاء لها فان قيل أليس الماضي في الحجة الفاسدة قد امتثل الأمر في المضي فيها ويلزمه القضاء وكذلك المصلي في آخر الوقت على ظن الطهارة قيل الحجة الصحيحة لا تكون قضاء لمقتضى الأمر بالمضي في الحجة الفاسدة وإنما هي مفعولة لأجل أن الأمر بالحج الصحيح باق والصلاة المفعولة بعد خروج الوقت إذا ذكر المكلف أنه كان صلى على غير طهارة ليس بقضاء لمقتضى الأمر بالصلاة مع ظن الطهارة وإنما هو قضاء لمقتضى الأمر بصلاة على طهارة»