بسم الله الرحمن الرحیم
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج4، ص: 97
أيوب عطف بيان. و إذ بدل اشتمال منه أني مسني بأنى مسنى: حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، و لو لم يحك لقال بأنه مسه: لأنه غائب. و قرئ بنصب بضم النون و فتحها مع سكون الصاد، و بفتحهما، و ضمهما، فالنصب و النصب: كالرشد و الرشد، و النصب: على أصل المصدر، و النصب: تثقيل نصب، و المعنى واحد، و هو التعب و المشقة. و العذاب: الألم، يريد مرضه و ما كان يقاسى فيه من أنواع الوصب «1». و قيل: الضر في البدن، و العذاب في ذهاب الأهل و المال فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، و لا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضى من إتعابهم و تعذيبهم وطره، و لو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه و طاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب و العذاب، نسبه إليه، و قد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله و لا يقدر عليه إلا هو. و قيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، و يغريه على الكراهة و الجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. و روى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلى الأنبياء و الصالحين، و ذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. و قيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه و لم يغزه. و قيل: أعجب بكثرة ماله
الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص: 208
قوله تعالى: «و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب» دعاء منه (ع) و سؤال للعافية و أن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال، و لم يصرح بما يريده و يسأله تواضعا و تذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة.
و النصب التعب، و قوله: «إذ نادى» إلخ بدل اشتمال من «عبدنا» أو «أيوب» و قوله: «أني مسني» إلخ حكاية ندائه.
و الظاهر من الآيات التالية أن مراده من النصب و العذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه و أهله و هو الذي ذكره عنه (ع) في سورة الأنبياء من ندائه أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه و أهله و لم يشر في هذه السورة و لا في سورة الأنبياء إلى ذهاب ماله و إن وقع ذكر المال في الروايات.
الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص: 209
و الظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب و العذاب استناد نصبه و عذابه من الشيطان بنحو من السببية و التأثير و هو الذي يظهر من الروايات، و لا ينافي استناد المرض و نحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الأسباب العادية الطبيعية لأن السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الآخر و قد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء:» الأعراف:- 96 في الجزء الثامن من الكتاب.
و لا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان و قد قال تعالى: «إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان:» المائدة:- 90 فنسبها أنفسها إليه، و قال حاكيا عن موسى (ع): «هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين:» القصص:- 15 يشير إلى الاقتتال.
و لو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه و ابتعادهم و طعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب و لم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوأى و شماتتهم و استهزائهم به.
و قد أنكر في الكشاف، ما تقدم من الوجه قائلا: لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه (ع) ليقضي من تعذيبهم و إتعابهم وطره و لو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى.
و فيه أن الذي يخص الأنبياء و أهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، و أما تأثيره في أبدانهم و سائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه، و قد حكى الله سبحانه عن فتى موسى و هو يوشع النبي (ع): «فإني نسيت الحوت و ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره:» الكهف:- 63.
و لا يلزم من تسلطه على نبي بالإيذاء و الإتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في
الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص: 210
الله سبحانه و أوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك و هو ظاهر.