سایر مستندات و مرتبطات مناظره سیرافي و متی بن یونس راجع به منطق و نحو

فهرست مباحث منطق
فهرست علوم

مناظره سیرافي و متی بن یونس راجع به منطق و نحو
دكتر ضياء موحد : بيشترين ارتباط منطق و زبانشناسي در مباحث معنا شناسي است
بررسي مناظره سيرافي با متي در نقد منطق-نويسنده:محمدرضا محمدعليزاده


الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي أبو سعيد(284 - 368 هـ = 897 - 979 م)
أبو بشر-متى بن يونس(000 - 329 هـ = 000 - 941 م)
علي بن محمد بن العباس التوحيدي أبو حيان(320 - 414 هـ = 932 - 1023 م)





سندوبی مصری که کتاب المقابسات را تحقیق کرده، در مقدمه مناظره سیرافی و متی را آورده فراجع، نرم افزار حکمت اسلامی نور-در الشاملة مقدمه نیامده


مقدمة المقابسات، ص: 68
المنطق اليونانى و النحو العربى‏
مناظرة جرت بين أبى سعيد السيرافى و بين متى بن يونس القنّائى الفيلسوف قال أبو حيان: ذكرت للوزير «1» مناظرة جرت في مجلس الوزير أبى الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات «2» بين أبى سعيد السيرافى و أبى بشر متّى «3» و اختصرتها، فقال لى: أكتب هذه المناظرة على التمام، فان شيئا يجرى فى ذلك المجلس النبيه، و بين هذين الشيخين، بحضرة أولئك الاعلام ينبغى أن يغتنم سماعه، و توعى فوائده، و لا يتهاون بشي‏ء منه، فكتبت:
المقابسات، ص: 69
حدثنى أبو سعيد «1» بلمع من هذه القصة. فأما على بن عيسى النحوي «2» الشيخ الصالح فانه رواها مشروحة قال:





المقابسات (ص: 169)
المؤلف: أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفى: نحو 400هـ)
المقابسة الثانية والعشرون
في ما بين المنطق والنحو من المناسبة
قلت لأبي سليمان: إني أجد بين المنطق والنحو مناسبة غالبة ومشابهة قريبة، وعلى ذلك فما الفرق بينهما، وهل يتعاونان بالمناسبة، وهل يتفاوتان بالقرب به؟ فقال: النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، وجل نظر المنطقي في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي لها كالحلل والمعارض، وجل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يسوغ له الإخلال بالمعاني التي هي لها كالحقائق والجواهر؛ ألا ترى أن المنطقي يقول بخبر وهو ينفعل، والنحوي فيما خلاه اللفظ؟ ونظائر هذا المثال شوائع ذوائع في عرض الفنين والنظرين، أعني المنطق والنحو، وكما أن التقصير في تحبير اللفظ ضار ونقص وانحطاط، فكذلك التقصير في تحرير المعنى ضار ونقص وانحطاط، وحد الإفهام والتفهم معروف، وحد البلاغة والخطابة موصوف، والحاجة إلى الإفهام والتفهم على عادة أهل اللغة، أشد من الحاجة إلى الخطابة والبلاغة، لأنها متقدمة بالطبع، والطبع أقرب إلينا، والعقل أبعد عنا، والبديهة منوطة بالحس، وإن كانت معانة من وجهة الحس، وليس ينبغي أن يكتفي بالإفهام كيف كان، وعلى أي وجه وقع، فإن الدينار قد يكون رديء ذهب، وقد يكون رديء طبع، وقد يكون فاسد السكة، وقد يكون جيد الذهب عجيب الطبع حسن السكة، فالناقد الذي عليه المدار، وإليه العيار، يبهرجه مرة برداءة هذا، ومرة برداءة هذا، ويقبله مرة بحسن هذا، ومرة بحسن هذا، والإفهام إفهامان: رديء وجيد، فالأول لسفلة الناس، لأن ذلك غايتهم وشبيه برتبتهم في نقصهم، والثاني لسائر الناس، لأن ذلك جامع للمصالح والمنافع، فأما البلاغة فإنها زائدة على الإفهام الجيدة بالوزن والبناء، والسجع والتقفية، والحلية الرائعة، وتخير اللفظ، واختصار الزينة، بالرقة والجزالة والمتانة، وهذا الفن لخاصة النفس، لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام والتواصل إلى غاية ما في القلوب لذوي الفضل بتقويم البيان.
قلت له: فما النحو؟ فقال: على ما يحضرني الساعة من رسمه على غير تصفية حده وتنقيحه: إنه نظر في كلام العرب يعود بتحصيل ما تألفه وتعتاده، أو تفرقه وتعلل منه، أو تفرقه وتخليه، أو تأباه وتذهب عنه، وتستغني بغيره.
قلت: فما المنطق؟ قال: آلة بها يقع الفصل والتمييز بين ما يقال: هو حق أو باطل، فيما يعتقد، وبين ما يقال: هو خير أو شر، فيما يفعل، وبين ما يقال: هو صدق أو كذب، فيما يطلق باللسان، وبين ما يقال: هو حسن أو قبيح بالفعل.
قلت: فهل يعين أحدهما صاحبه؟ قال: نعم، وأي معونة إذا اجتمع المنطق الحسي؟ فهو الغاية والكمال! قال: ويجب أن تعلم أن فوائد النحو مقصورة على عادة العرب بالقصد الأول، قاصرة عن عادة غيرهم بالقصد الثاني. والمنطق مقصور على عادة جميع أهل العقل من أي جيل كانوا وبأي جيل كانوا وبأي لغة أبانوا، إلا أن يتعذر وجود أسماء عند قوم وتوجد عند قوم، فحينئذ الحال في التقصير يتورك على تعذر الأسماء أو على وضعها على الخلاف، إما بالتواطؤ والاصطلاح، وإما بالطبع والأسماع.
قال: وبالجملة، النحو يرتب اللفظ ترتيباً يؤدي إلى الحق المعروف أو إلى العادة الجارية، والمنطق يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. والشهادة في المنطق مأخوذة من العقل، والشهادة في النحو مأخوذة من العرف، ودليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي. والنحو مقصور، والمنطق مبسوط. والنحو يتبع ما في طباع العرب، وقد يعتريه الاختلاف، والمنطق يتبع ما في غرائز النفوس. وهو مستمر على الائتلاف. والحاجة إلى النحو أكثر من الحاجة إلى المنطق، كما أن الحاجة إلى الكلام في الجملة أكثر من الحاجة إلى البلاغة، لأن ذلك أول، وهذا ثان. والنحو أول مباحث الإنسان، والمنطق آخر مطالبه. وكل إنسان منطقي بالطبع الأول، ولكن يذهب عن استنباط ما عنده بالإهمال، وليس كل إنسان نحوياً في الأصل. والخطأ في النحو يسمى لحنا، والخطأ في المنطق يسمى إحالة. والنحو تحقيق المعنى باللفظ، والمنطق تحقيق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى بحاله لا يزول ولا يحول؛ فأما المعنى فإنه متى زال إلى معنى آخر تغير المعقول ورجع إلى غير ما عهد في الأول. والنحو يدخل المنطق، ولكن مرتباً له. والمنطق يدخل النحو، ولكن محققاً له. وقد يفهم بعض الأغراض وإن عرى لفظه من النحو، ولا يفهم شيء منها إذا عرى من العقل. فالعقل أشد انتظاماً للمنطق، والنحو، ولا يفهم شيء منها إذا عرى من العقل. فالعقل أشد انتظاماً للمنطق، والنحو أشد التحاماً بالطبع. والنحو شكل سمعي، والمنطق شكل عقلي. وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية. وما يستعار للنحو من المنطق حتى يتقوم، أكثر مما يستعار من النحو للمنطق حتى يصح ويستحكم. فالمنطق وزن لعيار العقل، والنحو كيل بصاع اللفظ؛ ولهذا قيل في النحو الشذوذ والنادر، ورديء المنطق ما جرى مجراهما.
فهذا ما استدف من قوله، وهو باب مفتوح يمكن أن يقال فيه من هذا الجنس ما يكون شاهداً لما قال والسلام.




المقابسات (ص: 177)
قال: وإذا وقف على هاتين الحالتين، الأولى بموجب اللسان العربي، والثانية بقضية الاعتبار النظري، لم يبق في الطبيعة من هذا النسق ما يفتقر إلى إيضاحه والإبانة عنه، لأن التصفح قد أتى على كل ما كان في القوة من هذين الوجهين. فأما حدها الذي هو لها بالتحقيق وهو ما قال أرسطو طاليس إنه مبدأ الحركة والسكون. وإيضاح هذا بين في الكتب الموضوعة فيه وفي أشكاله، وإنما قويت العناية في شرح هذا القول على قدر ما بدا من المسئلة والجواب.
تابعت حاطك الله من هذه المقابسات الثلاث لأنها متواخية في بابها، أعني أنها في حديث النحو واللغة والمنطق والنظر، وبهذا تبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمى بك إلى جانب النحو، والبحث عن النحو يرمي بك إلى جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحوياً، والنحوي منطقياً، خاصة والنحو واللغة عربية، والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها. والخلل على قدر ذلك قد دخل فيها بنقل بعد نقل، وشرح بعد شرح.







أخلاق الوزيرين = مثالب الوزيرين (ص: 413)
المؤلف: أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفى: نحو 400هـ)
فلما خرجنا قلت لأبي سعيد السيرافي: أيها الشيخ! رأيت ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا، الكبير في أنفسنا؟ فقال: ما دُهيت قطُّ بمثل ما دُهيت به اليوم، ولقد جَرت بيني وبين أبي بشر متّي صاحب شرح كتب المنطق سنة ست و عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفتح الفضل بن جعفر الفرات ملحة كانت هذه أشوس وأشرس منها.
ولولا هربي من الإطالة، وثقل النّسخ، وإدخالي حديثاً في حديث، لحكيت المناظرة التي أومى إليها هذا الشيخ الذي كان إمام زمانه وعالم عصره، لأنه حدثني بها بزَوْبَرِها، وكانت في الفرق بين النحو والمنطق وريم أحدهما على الآخر، وإحصاء الفوائد لكل واحد منهما.




الإمتاع والمؤانسة (ص: 22)
15- كتاب المحاضرات والمناظرات.
وهنالك كتب أخرى سوى هذه التي ذكرها ياقوت هي:
كتاب الحوامل والشوامل، ورسائل عدة مثل حكاية أبي القاسم البغدادي، ورسالة الحياة، ورسالة السقيفة، ورسالة في علم الكتابة، ورسالة في العلوم، ومناظرة بين أبي بشر متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي.
وأما كتبه المطبوعة والمنشورة فهي:




الأعلام للزركلي (5/ 191)
قدامة بن جَعْفَر...
ـــــــــــــــــــ
....قلت: نقل ياقوت، في إرشاد الأريب، وفاته عن ابن الجوزي في المنتظم، وقال: وأنا لا أعتمد على ما تفرد به ابن الجوزي، لأنه عندي كثير التخليط، ولكن آخر ما علمنا من أمر قدامة أن أبا حيان ذكر أنه حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر ابن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى المنطقي في سنة 320.




خزانة التراث - فهرس مخطوطات (57/ 600، بترقيم الشاملة آليا)
الرقم التسلسلي: 57489
الفن: آداب البحث والمناظره
عنوان المخطوط: مناظره مع متى بن يونس
عنوان المخطوط: مناظره السيرافي مع متى بن يونس
اسم المؤلف: الحسن بن عبد الله بن المرزبان, السيرافي
اسم الشهرة: السيرافي
تاريخ الوفاة: 368هـ
قرن الوفاة: 4هـ








الإمتاع والمؤانسة (ص: 88)
المؤلف: أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفى: نحو 400هـ)

الليلة الثامنة
وقال لي مرّة أخرى: أوصل وهب بن يعيش الرقيّ اليهوديّ رسالة يقول.....
...
وأمّا قوله في صدر كلامه: «إن القوم صدّوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه، واتّخذوا نشر الحكمة فخّا للمثالة العاجلة» ، فما أبعد، بل قارب الحقّ فإن «متّى» كان يملي ورقة بدرهم مقتدريّ وهو سكران لا يعقل، ويتهكّم، وعنده أنّه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالا، الأسفلين أحوالا.

ثم إنّي أيّها الشيخ- أحياك الله لأهل العلم وأحيى بك طالبيه- ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافيّ وأبي بشر متّى واختصرتها.

فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإنّ شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه.

فكتبت: حدّثني أبو سعيد بلمع من هذه القصّة. فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنّه رواها مشروحة.

لما انعقد المجلس سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة- وفيهم الخالديّ وابن الأخشاد والكتبيّ وابن أبي بشر وابن رباح بن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهريّ وعلي بن عيسى الجرّاح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلويّ ورسول ابن طغج من مصر والمرزبانيّ صاحب آل سامان-: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متّى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحقّ من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشرّ والحجّة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه.

فأحجم القوم وأطرقوا. قال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدّكم في العلم بحارا، وللدّين وأهله أنصارا، وللحق وطلّابه منارا، فما هذا الترامز والتغامز اللّذان تجلّون عنهما؟

فرفع أبو سعيد السيرافيّ رأسه فقال: اعذر أيّها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادّة والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة خاصّة كالمصاع في بقعة عامّة.

فقال ابن الفرات: أنت لها أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك.

فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلّة القدم، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسّلم.

ثم واجه متّى فقال: حدّثني عن المنطق ما تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه وردّ خطئه على سنن مرضيّ وطريقة معروفة.

قال متّى: أعني به أنّه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإنّي أعرف به الرّجحان من النقصان، والشائل من الجانح.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنّا نتكلّم بالعربيّة، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنّا نبحث بالعقل، وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون أيّما هو حديد أو ذهب أو شبه» أو رصاص؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدّها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلّا نفعا يسيرا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأوّل:

حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

وبعد، فقد ذهب عليك شيء هاهنا، ليس كلّ ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئيّة، فإنّه على ذلك أيضا في المعقولات المقرّرة، والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظة والمماثلة الظاهرة.

ودع هذا، إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم التّرك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضيا وحكما لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟

قال متّى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفّح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء ألا ترى أنّ أربعة وأربعة ثمانية سواء عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.

قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البيّنة في أربعة وأربعة وأنّهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موّهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التموية.

ولكن مع هذا أيضا إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟

قال: نعم.

قال: أخطأت، قل في هذا الموضع: بلى.

قال: بلى، أنا أقلّدك في مثل هذا.

قال: أنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانيّة وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الّذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها، على أنّك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحوّلة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانيّة، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟

قال متّى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدّت المعاني، وأخلصت الحقائق.

قال أبو سعيد: إذا سلّمت لك أنّ الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدّمت ولا أخّرت، ولا أخلّت بمعنى الخاصّ والعامّ ولا بأخصّ الخاصّ ولا بأعمّ العامّ- وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني- فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلّا ما أبرزوه.

قال متّى: لا، ولكنّهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كلّ ما يتّصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال أبو سعيد: أخطأت وتعصّبت وملت مع الهوى، فإنّ علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم، ولهذا قال القائل:

العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون علم، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصحّ قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطنة الظّاهرة، والبنية المخالفة، وأنّهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأنّ السكينة نزلت عليهم، والحقّ تكفّل بهم، والخطأ تبرّأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم، وهذا جهل ممّن يظنّه بهم، وعناد ممن يدّعيه لهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمّن قبله كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجّة على هذا الخلق الكثير والجمّ الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ «1» وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثّر فيه؟ هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنّه منعقد بالفطرة والطباع، وأنت لو فرّغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللّغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدارس أصحابنا بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعبارة أصحابها، لعلمت أنّك غنيّ عن معاني يونان كما أنك غنيّ عن لغة يونان.

وهاهنا مسألة، تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم منها متفاوتة.

قال: نعم.

قال: وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب؟

قال: بالطبيعة.

قال: فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعيّ والتفاوت الأصليّ؟

قال متّى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفا.

قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع؟

ودع هذا، أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميّزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الّذي تدلّ به وتباهي بتفخيمه، وهو (الواو) ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه أو وجوه؟

فبهت متّى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقيّ إليه، وبالنحويّ حاجة شديدة إلى المنطق، لأنّ المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقيّ باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحويّ بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتّمنّي والنهي والحضّ والدعاء والنداء والطلب كلّها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أنّ رجلا لو قال: «نطق زيد بالحقّ ولكن ما تكلّم بالحق، وتكلّم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ» ، لكان في جميع هذا محرّفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقّه، ومستعملا اللّفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعيّ والمعنى عقليّ، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان، لأن الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان، لأن مستملي المعنى عقل والعقل إلهي، ومادّة اللفظ طينيّة، وكلّ طينيّ متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربيّة لها اسما فتعار، ويسلّم لك ذلك بمقدار، وإذا لم يكن لك بدّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلابدّ لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثّقة والتوقّي من الخلّة اللاحقة.

فقال متّى: يكفيني من لغتكم هذه الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلّغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذّبتها لي يونان.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحرّكات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أنّ هاهنا سرّا ما علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها، ووزنها وميلها، وغير ذلك ممّا يطول ذكره، وما أظنّ أحدا يدفع هذا الحكم أو يشكّ في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى تعرّف اللغة العربيّة أحوج منك إلى تعرّف المعاني اليونانيّة، على أنّ المعاني لا تكون يونانيّة ولا هنديّة، كما أنّ اللغات تكون فارسيّة وعربيّة وتركيّة، ومع هذا فإنّك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلّا أحكام اللّغة، فلم تزري على العربيّة وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها؟

وحدّثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبّر كما تدبّروا، لأنّ اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقّرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد. ما تقول له؟ أتقول: إنّه لا يصحّ له هذا الحكم ولا يستتبّ هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت؟ ولعلّك تفرح بتقليده لك- وإن كان على باطل- أكثر ممّا تفرح باستبداده وإن كان على حقّ، وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.

ومع هذا، فحدّثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبيّن أنّ تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا، وأنت تجهل حرفا واحدا في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفا أمكن أن يجهل حروفا، ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلّها ولكن يجهل بعضها، فلعلّه يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامّة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبّى على هذا ويتكبّر، ويتوهّم أنه من الخاصّة وخاصية الخاصّة، وأنه يعرف سرّ الكلام وغامض الحكمة وخفيّ القياس وصحيح البرهان؟

وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلّها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والّتي لها بالتجوّز، سمعتكم تقولون: إن «في» لا يعرف النحويّون مواقعها، وإنما يقولون: هي «للوعاء» كما يقولون: «إن الباء للإلصاق» ، وإن «في» تقال على وجوه: يقال: «الشيء في الإناء» «والإناء في المكان» «والسائس في السياسة» «والسياسة في السائس» .

أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كلّ من يدّعيه، وخطل من القول الّذي أفاض فيه، النحويّ إذا قال «في» للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع التّكنية.

فقال ابن الفرات: أيّها الشيخ الموفّق، أجبه بالبيان عن مواقع «الواو» حتى تكون أشدّ في إفحامه، وحقّق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع هذا فهو مشنّع به.

فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: «أكرمت زيدا وعمرا» ومنها القسم في قولك: «والله لقد كان كذا وكذا» ومنها الاستئناف في قولك: «خرجت وزيد قائم» لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى ربّ الّتي هي للتقليل نحو قولهم «1» :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

ومنها أن تكون أصلية في الاسم، كقولك: واصل واقد وافد، وفي الفعل كذلك، كقولك: وجل يوجل، ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عزّ وجلّ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ
[الصافات: 103، 104] ، أي ناديناه، ومثله قول الشاعر «2»:

فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

المعنى: انتحى بنا، ومنها معنى الحال في قوله عزّ وجلّ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا
[آل عمران: 46] أي يكلّم الناس في حال كهولته، ومنها أن تكون بمعنى حرف الجرّ، كقولك: استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.

فقال ابن الفرات لمتّى: يا أبا بشر: أكان هذا في نحوك.

ثم قال أبو سعيد: دع هذا، هاهنا مسألة علاقتها بالمعنى العقليّ أكثر من علاقتها بالشكل اللّفظي، ما تقول في قول القائل: «زيد أفضل الإخوة»؟

قال: صحيح.

قال: فما تقول إن قال: «زيد أفضل إخوتهه»؟

قال: صحيح،

قال: فما الفرق بينهما مع الصّحّة؟

فبلح «3» وجنح وغصّ بريقه.

فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة، المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلا عن وجه صحّتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهلا عن وجه بطلانها.

قال متّى: بيّن لي ما هذا التهجين؟

قال أبو سعيد: إذا حضرت الحلقة استفدت، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنّك أخطأت، فلم تدّعي أن النحويّ إنما ينظر في اللّفظ دون المعنى، والمنطقيّ ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصحّ لو أنّ المنطقيّ كان يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتّب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارئ، فأمّا وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفّح إلى المتعلّم والمناظر، فلابدّ له من اللفظ الّذي يشتمل على مراده، ويكون طباقا لغرضه، وموافقا لقصده.

قال ابن الفرات لأبي سعيد: تمّم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر.

فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلّا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال ملّ.

فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر.

فقال أبو سعيد: إذا قلت: «زيد أفضل إخوته» لم يجز، وإذا قلت: «زيد أفضل الإخوة» جاز، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم.
والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال: «من إخوة زيد» لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن تقول: «إن حمارك أفره البغال» لأن الحمير غير البغال، كما أن زيدا غير إخوته، فإذا قلت: «زيد خير الإخوة» جاز، لأنّه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل: «من الإخوة» ؟ عددته فيهم، فقلت: «زيد وعمرو وبكر وخالد» فيكون بمنزلة قولك: «حمارك أفره الحمير» لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول: «زيد أفضل رجل» و «حمارك أفره حمار» فيدلّ «رجل» على الجنس كما دلّ الرجال، وكما في «عشرين درهما ومائة درهم» .

فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جلّ علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار.

فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنّب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلّق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلّم لهم ومأخوذ عنهم، وكلّ ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطّرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيّين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلّفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون. وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادّعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.

ثم أقبل أبو سعيد على متّى فقال: أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب، وتقول بالمثل: هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوبا، لأنّه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دونه لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته ورقّة سلكه كرقّة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كلّه ثوب، ولكن بعد تقدمة كلّ ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلّما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه، في المنطق الّذي ينصره، والحقّ الذي لا يبصره.

قال أبو سعيد: ما تقول في رجل يقول: «لهذا عليّ درهم غير قيراط، ولهذا الآخر عليّ درهم غير قيراط» .

قال: ما لي علم بهذا النّمط.

قال: لست نازعا عنك حتى يصحّ عند الحاضرين أنّك صاحب مخرقة وزرق «1» ، هاهنا ما هو أخفّ من هذا، قال رجل لصاحبه: «بكم الثوبان المصبوغان» ، وقال آخر: «بكم ثوبان مصبوغان» وقال آخر: «بكم ثوبان مصبوغين» بيّن هذه المعاني التي تضمّنها لفظ لفظ.

قال متى: لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصحّ لفظه على العادة الجارية أجبت، ثمّ لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا، وإن كان غير متعلّق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متّصلا باللفظ ولكن على وضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضا لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقرّرة بين أهلها.

ما وجدنا لكم إلّا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسّلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العيّ أقرب، وفي الفهاهة أذهب.

ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، فتدّعون الشّعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسّة إلى كتاب البرهان. فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب، وإن كانت الحاجة قد مسّت إلى ما قبل البرهان، فهي أيضا ماسّة إلى ما بعد البرهان، وإلّا فلم صنّف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه. هذا كلّه تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق.

وإنما بودّكم أن تشغلوا جاهلا، وتستذلّوا عزيزا؟ وغايتكم أن تهوّلوا بالجنس والنوع والخاصّة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهليّة والأينيّة والماهيّة والكيفيّة والكميّة والذاتيّة والعرضيّة والجوهريّة والهيوليّة والصورية والأيسية واللّيسيّة والنفسيّة؟

ثم تتطاولون فتقولون: «جئنا بالسّحر» في قولنا: «لا» «1» في شيء من «ب» و «ج» في بعض «ب» ، ف «لا» في بعض «ج» و «لا» في كلّ «ب» و «ج» في كل «ب» فإذن «لا» في كل «ج» ، هذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص.

وهذه كلّها خرافات وترّهات، ومغالق وشبكات، ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كلّه- بعون الله وفضله- وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنيّة، ومواهبه السنيّة، يختصّ بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها،

وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم وتتبّع طريقتكم، وبيّن خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردّوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا، وإنّما تكلّم على وهم. وهذا منكم تحاجز ونكول ورضى بالعجز وكلول، وكلّ ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في «يفعل وينفعل» لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من «يفعل» وقبول الفعل من «ينفعل» ، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة.

فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه مقال ولا مجال.

وأنت إذا قلت لإنسان: «كن منطقيا» ، فإنما تريد: كن عقليّا أو عاقلا أو اعقل ما تقول لأنّ أصحابك يزعمون أن النّطق هو العقل، وهذا قول مدخول، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو.

وإذا قال لك آخر: «كن نحويّا لغويّا فصيحا» فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك. وقدّر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدّر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه، هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به.

فأمّا إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل اللفظ بالروادف الموضّحة والأشباه المقرّبة، والاستعارات الممتعة، وبيّن المعاني بالبلاغة، أعني لوّح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشّوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عزّ وجلا، وكرم وعلا، واشرح منها شيئا حتّى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرّج عنه لاغتماضه، فهذا المذهب يكون جامعا لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أنّي لا أدري أيؤثّر فيك ما أقول أو لا؟

ثم قال: حدّثنا هل فصلتم قطّ بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم الخلاف بين اثنين، أتراك بقوّة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحقّ ما تقوله؟ هيهات، هاهنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدقّ عن عقولهم وأذهانهم.

ودع هذا، هاهنا مسألة قد أوقعت خلافا، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك:

قال قائل: «لفلان من الحائط إلى الحائط» ما الحكم فيه؟ وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معا وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كلّ منهما. وقال آخرون: له أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنّى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك.

ودع هذا أيضا، قال قائل: «من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ» . فسّر هذه الجملة. واعترض عليه عالم آخر، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوّة صناعتك التي تميّز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحقّ والباطل؟

فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصّل اعتراضه؟

قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له، ثم أوضح الحقّ منهما، لأن الأصل مسموع لك، حاصل عندك وما يصحّ به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة.

فقد بان الآن أنّ مركّب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة ولها اتّصال شديد وبساطة تامّة، وليس في قوّة اللفظ من أيّ لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سورا، ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج، ولا شيئا من خارجه أن يدخل، خوفا من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أنّ ذلك يخلط الحقّ بالباطل، ويشبّه الباطل بالحقّ،

وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأوّل قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق،

وأنت لو عرفت تصرّف العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقّرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوه عليه أقلّ في عينك من السّها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل.

أليس الكنديّ وهو عليم في أصحابك يقول في جواب مسألة «هذا من باب عدّ» . فعدّ الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتّى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد فيه أنّه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوّش اللّب.

قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام، وتضاعف الأركان؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟

وقالوا له أيضا: ما نسبة الحركات الطبيعيّة إلى الصّور الهيولانيّة؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلة له مزايلة على غاية الإحكام؟

وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟

وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الرّكاكة والضّعف والفساد والفسالة والسّخف.

ولولا التوقّي من التطويل لسردت ذلك كلّه، ولقد مرّ بي في خطّه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به، لأنّه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكلّ ما يكون على هذا النّهج فالنّكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النّكرة، على أنّ النّكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهيّة، لا من باب الإلهيّة العارضة في أحوال البشرية.

ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدوّ ويغرّ الصّديق، وما ورث هذا كلّه إلّا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنّه سميع مجيب.

هذا آخر ما كتبت عن عليّ بن عيسى الرّمّاني الشيخ الصالح بإملائه. وكان أبو سعيد قد روى لمعا من هذه القصّة.

وكان يقول: لم أحفظ عن نفسي كلّ ما قلت، ولكن كتب ذلك أقوام حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا، وقد اختلّ عليّ كثير منه.

قال علي بن عيسى: وتقوّض المجلس وأهله يتعجّبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلّل وفوائده المتتابعة.

وقال الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيّها الشيخ، فقد ندّيت أكبادا وأقررت عيونا، وبيّضت وجوها، وحكت طرازا لا يبليه الزمان، ولا يتطرّق إليه الحدثان.

قلت لعلي بن عيسى: وكم كانت سنّ أبي سعيد في ذلك الوقت؟

قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشّيب بلهازمه «1» مع السّمت والوقار والدّين والجدّ، وهذا شعار أهل الفضل والتقدّم، وقلّ من تظاهر به أو تحلّى بحليته إلا جلّ في العيون وعظم في النفوس، وأحبّته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة.

وقلت لعليّ بن عيسى: أما كان أبو عليّ الفسويّ النحويّ حاضر المجلس؟

قال: لا، كان غائبا، وحدّث بما كان، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.

فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكّرتني شيئا قد دار في نفسي مرارا، وأحببت أن أقف على واضحه، أين أبو سعيد من أبي عليّ، وأين عليّ بن عيسى منهما، وأين ابن المراغيّ أيضا من الجماعة؟ وكذلك المرزبانيّ وابن شاذان وابن الورّاق وابن حيّويه؟

فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم....













معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (2/ 894)
شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (المتوفى: 626هـ)
مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي رحمة الله عليه
قال أبو حيان «1» : ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها، فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة «2» قال الوزير ابن الفرات للجماعة- وفيهم الخالدي وابن الاخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهريّ وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلويّ ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان-: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متّى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحقّ من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام [به] ، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدّكم في العلم بحارا، وللدين وأهله أنصارا، وللحقّ وطلابه منارا، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلّون عنهما؟! فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال:
اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة، والعقول الجامّة «1» ، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصّة، كالصراع في بقعة خاصّة «2» . فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره «3» هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلّة القدم، وإيّاه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم. ثم واجه متّى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به، فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه وردّ خطأه على سنن مرضيّ وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. فقال له أبو سعيد: أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف [بالنظم المألوف والاعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف] بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص، وأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون، وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدّها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعا يسيرا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول «4» .
حفظت شيئا وضاعت منك أشياء
وبعد، فقد ذهب عليك شيء ها هنا: ليس كلّ ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح، وفيها ما يحزر، وهذا وإن 14.
كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضا على ذلك في المعقولات المقرّرة «1» .
والاحساسات «2» ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا: إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم، وقاضيا بينهم، ما شهد لهم [به] قبلوه وما أنكره رفضوه؟.
قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفّح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موّهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضا: إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلّا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال: نعم، قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى، قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها «3» ؟ على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متحوّلة «4» بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟
قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدّت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلّت بمعنى الخاصّ والعامّ ولا بأخصّ الخاصّ ولا بأعمّ العامّ، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وصفوه «1» ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتّصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشا ما نشا من أنواع العلم وأصناف الصناعة «2» ، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:
العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث
وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة «3» الظاهرة والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحقّ تكفّل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممّن يظنه بهم، وعناد ممّن يدّعيه عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجمّ الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، وامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرّغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعبارة «1» أصحابها لعلمت أنك غنيّ عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وها هنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم، قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعيّ والتفاوت الأصليّ؟ قال متى: هذا قد مرّ في جملة كلامك آنفا، قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا: أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميّزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدلّ به وتباهي بتفخيمه- وهو الواو- وما أحكامه وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟
فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحويّ حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والإنباء والحديث والاخبار والاستخبار والعرض والتمني والحضّ والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلا لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلّم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرّفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقه، ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره. والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أنّ اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان يقفو أثر الطبيعية بأثر آخر من الطبيعية، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان لأن مستملي المعنى عقل، والعقل إلهيّ، ومادّة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت. وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتعار، ويسلم لك [ذلك] بمقدار، وإن لم يكن لك بدّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بدّ لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة لك.
قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلّغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذّبتها لي يونان.
قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة. على أن ها هنا سرا ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحدا يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية. على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون «1» فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، إلا إحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها؟! وحدثني عن قائل قال لك:
حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقّرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ [أتقول] لا يصحّ له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليده لك وإن كان على باطل، أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حقّ، وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين.
ومع هذا: فحدثني عن الواو ما حكمه فإني أريد أن أبيّن أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا وأنت تجهل حرفا واحدا من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفا واحدا أمكن أن يجهل اللغة بكاملها، فإن كان لا يجهلها كلّها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج [إليه] . وهذه رتبة العامة أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبّى على هذا ويتكبر «2» ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سرّ الكلام وغامض الحكمة وخفيّ القياس وصحيح البرهان؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالتجوّز؟
سمعتكم تقولون «في» لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن «في» تقال على وجوه: يقال الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة والسياسة في السائس. أترى [أن] هذا التشقيق «3» هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كل من يدّعيه، وخطل من القول الذي أفاض فيه.
النحوي إذا قال: «في» للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع التكنية «1» .
فقال ابن الفرات. أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه، وحقّق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشبّع «2» به.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها: معنى العطف في قولك أكرمت زيدا وعمرا، ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا، ومنا الائتناف كقولك:
خرجت وزيد قائم، لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى ربّ التي هي للتقليل نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق «3»
ومنها أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد واصل وافد، وفي الفعل كقولك وجل يوجل، ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه
(الصافات: 13) أي ناديناه، ومثله قول الشاعر «4» :
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
المعنى: انتحى بنا، ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلا
(آل عمران: 46) أي يكلّم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته، ومنها أن تكون بمعنى حرف الجرّ كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.
فقال ابن الفرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك؟
ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الاخوة؟ قال:
صحيح، قال فما تقول إن قال: زيد أفضل إخوته، قال: صحيح، قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلّح وجنح وعصب ريقه «1» . فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلا عن وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهبا عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعي أن النحويّ إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصحّ لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم السيّاح «2» والخاطر العارض والحدس الطارىء، وأما وهو يريغ أن يبرز ما صحّ له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بدّ له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقا لغرضه، وموافقا لقصده.
قال ابن الفرات: يا أبا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال ملّ. فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت:
زيد أفضل الاخوة جاز، والفصل بينهما أنّ إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، ودليل ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال لأن الحمار غير البغال، كما أن زيدا غير إخوته، فإذا قلت: زيد أفضل الاخوة جاز لأنه أحد الاخوة والاسم يقع عليه وعلى غيره فهو بعض الاخوة، ألا ترى أنه لو قيل من الاخوة؟ عددته فيهم فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير، فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار، فيدلّ رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهما ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جلّ علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار «1» .
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلّم لهم ومأخوذ عنهم «2» ، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أنّ المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون، وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متّى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوبا، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ورقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب ولكن بعد تقدمة كلّ ما يحتاج إليه فيه.
قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا يبصره «1» .
قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا عليّ درهم غير قيراط، ولهذا الآخر عليّ درهم غير قيراط؟ قال متى: ما لي علم بهذا النمط. قال: لست نازعا عنك حتى يصحّ عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ها هنا ما هو أخفّ من هذا: قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بيّن هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق شيئا لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصحّ لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا، وإن كان غير متعلّق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلا باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد- على ما حشوتم به كتبكم- رددته أيضا، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها. ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسلب والإيجاب، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والمهمل والمحصور «2» ، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العيّ أقرب وفي الفهاهة أذهب، ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسّة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مسّت إلى ما قبل البرهان فهي أيضا ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنّف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق، وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا وتستذلّوا عزيزا، وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهلّية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسيّة «1» والنفسية، ثم تنمطون وتقولون: جئنا بالسحر في قولنا لا (أ) في شيء من (ب) و (ج) في بعض (ب) فلا (أ) في بعض (ج) و (أ) لا في كل (ب) ، و (ج) في بعض (ب) فاذن: لا (أ) في كل (ج) «2» . هذا بطريق الخلف «3» ، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترّهات ومغالق وشبكات «4» ، ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كلّه، بعون الله وفضله، وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده، وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبّع طريقكم وبيّن خطأكم وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا ولا وقف على مرادنا وإنما تكلم على وهم. وهذا منكم لجاجة «5» ونكول، ورضى بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض: هذا قولكم في فعل «6» وينفعل لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة، فأما البدل ووجوهه والمعرفة وأقسامها والنكرة ومراتبها وغير ذلك مما يطول ذكره فليس لكم فيه مقال ولا مجال.
وأنت إذا قلت لإنسان كن منطقيا فإنما تريد: كن عقليا أو عاقلا أو اعقل ما تقول لأنّ أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحويا لغويا فصيحا فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول ثم رم أن يفهم عنك غيرك وقدّر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدّر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه- هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل «1» اللفظ بالروادف الموضحة والأشباه المقربة والاستعارات الممتعة، وشدّ «2» المعاني بالبلاغة، أعني لوّح منها شيئا حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجلّ، وكرم وعلا، واشرح منها شيئا حتى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرّج «3» عنه لاغتماضه فبهذا المعنى يكون جامعا لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس. على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أم لا.
ثم قال: حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم بالخلاف بين اثنين، أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله؟! هيهات، ها هنا أمور ترتفع «4» عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدقّ عن عقولهم وأذهانهم. ودع هذا: ها هنا مسألة قد أوقعت خلافا، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك، قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط، ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان، فقد قال ناس: له الحائطان معا وما بينهما، وقال آخرون: له ما بينهما، وقال آخرون: له النصف من كل واحد منهما، وقال آخرون: له أحدهما، هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضا: قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسّر هذه الجملة، واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل، فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته والآخر لم أحصل على اعتراضه قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له، ثم أوضح الحقّ منهما، لأن الأصل مسموع لك حاصل عندك، وما يصحّ به أو يطّرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة. فقد بان الآن أن مركّب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامّة، وليس في قوة اللفظ من أيّ لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سورا ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج ولا شيئا من خارجه أن يدخل خوفا من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحقّ بالباطل ويشبّه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق. وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم ووقفت على غورهم في نظرهم، وغوصهم في استنباطهم وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقلّ في عينك من السها عند القمر، ومن الحصى عند الجبل. أليس الكندي- وهو علم في أصحابك- يقول في جواب مسألة: «هذا من جواب عدة» «1» فعدّ الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب حتى وضعوا له مسائل من هذا [الشكل] وغالطوه بها وأروه [أنها] من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوّش اللب، قالوا له:
أخبرنا عن الاسطقسات الأجرام واصطكاك تضاغط الأركان «2» هل يدخل في باب وجوب الإمكان أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟ وقالوا له أيضا:
ما نسبة «3» الحركات الطبيعيّة إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل لسردت ذلك كله. ولقد مرّ بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية «1» . ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدوّ ويغمّ الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق، ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.
قال أبو حيان: هذا اخر ما كتبت عن علي بن عيسى الشيخ الصالح باملائه، وكان أبو سعيد روى لمعا من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ عن «2» نفسي كلّ ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذين حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا، وقد اختل [عليّ] كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوّض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد ندّيت أكبادا، وأقررت عيونا، وبيضت وجوها، وحكت طرازا لا تبليه الأيام ولا يتطرقه الحدثان.
قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقلّ من تظاهر به وتحلى بحليته إلا جلّ في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب وجرت بمدحه الألسنة.
معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (2/ 909)
وقلت لعلي بن عيسى: أكان أبو علي الفسوي حاضرا في المجلس؟ قال:
لا، كان غائبا وحدّث بما كان، وكان [يكتم] الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور والثناء المذكور.
قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئا كان في نفسي وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي وأين علي بن عيسى منهما وأين المراغي أيضا من الجماعة وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه؟ (فكان من الجواب ما تقدم ذكره) .
ونظير خبر أبي سعيد مع متى خبره أيضا مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضا قال: لما ورد أبو الفتح ابن العميد إلى بغداد وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه ووصل أبا سعيد السيرافي وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد بن العميد. قال أبو حيان «1» : انعقد المجلس في جمادى الأولى «2» سنة أربع وستين وثلاثمائة وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله، فعجب الناس من هذه المطالبة ونزل بأبي سعيد ما كاد يشده «3» به، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمين، فقال:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن مع السكون «4» لبابة ... ومن التكلّف ما يكون خبالا «5»
والله يا شيخ لعينك أكبر من فرارك «6» ، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك
أبين من منظومك، فما هذا الذي طوّعت له نفسك، وسدّد عليه رأيك؟ اني أظنّ أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان، فقال ابن العميد وقد أعجب بما قال أبو سعيد:
فتى كان يعلو مفرق الحقّ قوله ... إذا الخطباء الصيد عضّل قيلها
جهير وممتدّ العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبيرها
القائل القول الرفيع الذي ... يمرع منه البلد الماحل
والتفت إلى العامري فقال:
وإنّ لسانا لم تعنه لبابة ... كحاطب ليل يجمع الرذل حاطبه
وذي خطل بالقول يحسب انه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله «1»
وفي الصمت ستر للعيّي وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما «2»
وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى ... إذا لم يكن للنطق وجه ومذهب
ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفرضة «3» والشط «4» .
قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا الكبير في أنفسنا؟ قال: ما دهيت قطّ بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب «شرح كتاب المنطق» سنة عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفضل ابن الفرات مناظرة كانت هذه أشوس «5» وأشرس منها.







الكتاب: مجلة المقتبس
أصدرها: محمد بن عبد الرزاق بن محمَّد، كُرْد عَلي (المتوفى: 1372هـ)
الأعداد: 96 عددا
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد]
مناظرة القنائي والسيرافي
من المناظرات الجميلة بأسلوبها وجمال إنشائها ما جرى بين متى بن يونس القنائي وبين أبي سعيد السيرافي نقتبسها من الجزء الثالث من معجم الأدباء الذي صدر مؤخراً ليطلع القراء على أفكار الفيلسوف وأفكار نحوي وها نحن نقدم قبل إيراد المناظرة مختصر ترجمة المتناظرين وناقل كلامهما ليكون القراء على بينة مما يتلو كلامه.
أما متى بن يونس أو يونان أبو بشر وهو من أهل دير ممن نشأ في أسكول مرماي قرأ على قوقري وعلى روفيل وبنيامين ويحيى المروزي وعلى ابن أحمد بن كرنيب وله تفسير من السرياني إلى العربي وإليه انتهت رئاسة المنطقتين في عصره وكان نصرانياً وتوفي ببغداد يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ولمتى من الكتب مقالة من مقدمات صدر بها كتاب أنالوطيقا كتاب المقاييس الشرطية وشرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس.
وأما أبو سعيد الحسن السيرافي فيتلخص مما قاله ياقوت في معجم الأدباء أن سيراف بليد على ساحل البحر من فارس كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبوه أبو سعيد عبد الله وقال أبو حيان في كتابه الذي ألفه تقريظ أبو عمرو بن بحر وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم ابو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو الفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر له على زلة وقضى ببغداد وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله ومات 368.
هذا أما أبو حيان التوحيدي فهو المتكلم الصوفي صاحب المصنفات ومنها كتاب البصائر والإشارات وغيرهما وكتاب المقابسات وكان إماماً في النحو واللغة والتصريف فقيهاً مؤرخاً وصفه ابن النجار أنه كان فقسراً صابراً متديناً وأنه كان صحيح العقيدة إلا أن بعض المؤرخين رموه بالكذب وقلة الدين والمجاهرة بالبهتان وإنه تعرض لأمور جسام والقدح في الشريعة والقول بالتعطيل قال ابن الفارس:
ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد
(54/21)
************
فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعداءه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار.
وعده أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه أحد زنادقة الإسلام الثلاثة وهم الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء قال وأشدهم على الإسلام أبو حيان لأنه جمجم ولم يصرح. قال السبكي أنه وقع على كثير من كلامه فلم يجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدرياً بأهل عصره ولا يوجب هذا القدر. قلنا وما كان طلب الصاحب ابن عباد لأبي حيان إلا لأن هذا وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما ومن كتبه أيضاً الإمتاع والمؤانسة في مجلدين وكتاب الصديق والصداقة وكان موجوداً في السنة الأربعمائة.
وإليك الآن هذه المناظرة الغريبة.
قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة هؤلاء الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون منه في شيءٍ فكتبت:
حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة: (وفيهم الخالدي وابن الإخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن أبي رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فارس وابن رشيد وابن العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي وابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان) أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده وأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن
(54/22)
************
فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما ذهب إليه وإني أعدكم في العلم بحاراً وللدين وأهله أنصاراً وللحق وطلابه مناراً فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الجامدة والألباب الناقدة لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة ويجتلب الحياة والحيا مغلبة وليس البراز في معركة غاصة كالصراع في بقعة خاصة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك والانتصار لنفسك راجح على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطؤه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح.
فقال له أبو سعيد: لأخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل هبك عرفت الراجح منت الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون والى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.
وبعد فقد ذهب عليك شيءٌ هاهنا ليس كل ما لدينا في الدنيا يوزن بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها ما يذرع وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة والإحساس ظلال العقول وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها
(54/23)
************
من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه وأن يتخذوه حكماً لهم وعليهم وقاضياً بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه. قال متى: إنما يلزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه. قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة إنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق وطلكن ليس الأمر هكذا ولقد موهت بهذا المثال ولكم عادة في مثل هذا التمويه ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة. قال: نعم. قال أخطأت: قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بل أنا أقلدك مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى علم تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان فكيف صرت تدعو إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متهولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية. قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت وقومت وما حرفت ووزنت وما جزفت ولا نقصت ولا زادت ولا قدمت ولا أخرت ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول بعد هذا لا حجة إلى عقول يونان ولا برهان إلا ما وصفوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصناعة ولم نجد هذا عند غيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى فإن العلم مبثوث في العالم ولهذا قال القائل:
العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث
(54/24)
************
وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض ولهذا غلب علم في مكان دون مكان وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة وهذا واضح والزيادة مشغلة ومع هذا فإنما كان يصح قولك ويسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبينة المخالفة وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم والحق تكفل بهم والخطأ تبرأ منهم والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظن بهم وعناد ممن يدعيه عليهم بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير وله مخالفون منهم ومن غيرهم ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث في المسألة والجواب سنخ وطبيعة فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيءٍ يرفع به هذا الخلاف أو يحله أو يؤثر فيه هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منط قه على ما كان قبل منط قه وامسح وجهك بالسلوة عن شيءٍ لا يستطاع لأنه مفتقد بالفطرة والطباع وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها وتدرس كتب يونان بعادة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان وها هنا مسألة: أتقول أن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيءٌ يرتفع به الاختلاف الطبيعية والتفاوت الأصلي. قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع دع عنك هذا أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه وهو الواو وما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه. فهبت متى وقال: هذا نحو والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحوي حاجة إلى المنطق لأن المنطق يبحث عن المعنى والمنطق يبحث عن اللفظ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ واللفظ أوضح من المعى. قال أبو
(54/25)
************
سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والأنباء والحديث والأخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ألا ترى أن رجلاً لو قال نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح وأبان المراد ولكن ما أوضح أوفاه بحاجته ولكن ما لفظ أو أخبر ولكن ما أنبأ لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى وإن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان لأن مستعملي المعنى عقل والعقل إلهي ومادة اللفظ طينية وكل طيني متهافت وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ويسلم لك بمقدار وإن لم يكن لك من بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة بك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف فإني أتبلغ بهذا القدر إلى إغراض قد هذبتها لي يونان. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات كهذه الأسماء والأفعال والحروف فإن أخطأت والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة على أن ها هنا سراً ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو أنتعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن نثق بشيءٍ ترجم لك على هذا الوصف بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية كما أن اللغات لا تكون فارسية ولا عربية وتركية ومع هذا فإنك
(54/26)
************
تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر فلم يبق إلا أحكام اللغة فلم تزري على اللغة العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطليس بها من جهلك بحقيقتها وحدثني قائل قال لك عن حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا وأتدبر كما تدبروا لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد وما تقول له لا يصح له هذا الحكم ولا يستثب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل أكثر مما يفرح باستبداده وإن كان على حق وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين. ومع هذا حدثني عن الواو وما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً. وإن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل اللغة بكاملها وإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج وهذه رتبة العامة أو هي رتبة فوق العامة بقدر يسير فلم يتأبى على هذا وينكر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان وإنما سألتك عن معاني حرف واحد فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق والتي لها بالتجوز وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون أن الباء للإلصاق وإن في تقال على وجوه يقال الشيء في الوعاء والإناء والمكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس ألا ترى هذا الشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب فهذا جهل من كل من يدعيه وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذ قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع السكيت. فقال ابن الفرات أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون اشد في إفحامه وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشيع به. فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا ومنها الائتناف كقولك خرجت وزيداً قائم لأن الكلام بعد ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل
(54/27)
************
نحو قوله:
وقائم الأعمال خاوي المخترقن.
ومنا أن تكون أصلية في الاسم كقولك واقد واصل وافد وفي الفعل كقولك وجل يوجل ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى فلما استلما وتله للجبين ونادياه أي ناديناه ومثله قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
المعنى انتحى بنا ومعنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلاً أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة. فقال ابن فرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك. ثم قال أبو سعيد: دع هذا ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ما تقول في قول القائل زيد أفضل الأخوة. قال: صحيح: قال: فما تقول إن قال زيد أفضل أخوته. قال: صحيح قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهباً عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه والجماعة تعلم أنك أخطأت فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ هذا كان يصح لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم اتلسياح والخاطر العارض والحدس الطارئ وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له الاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه وموافقاً لقصده.
قال ابن فرات يا ابا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملاً في نفس أبي البشر. فقال ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير فإن الكلام إذا طال ملَّ. فقال ابن الفرات ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال ابو سعيد: إذا قلت زيد أفضل أخوته لم يجز وإذا قلت زيد أفضل الأخوة جاز والفصل بينهما أن أخوة زيد هم
(54/28)
************
غير زيد وزيد خارج من جملتهم ولك دليل أنه لو سأل سائل فقال من أخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول عمرو وخالد ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن أخوته صار غيرهم فلم تجز زيداً غير أخوته فإذا قلت زيد أفضل الأخوة ألا ترى أنه لو قيل من الأخوة عددته فيهم فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير فلما كان على ما وصفناه جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس كما دل الرجال وكما في عشرين درهماً مائة درهم. فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد. فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك وإن زاغ شيءٌ عن النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيءٌ مسلم لهم ومأخوذ عليهم وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى. ثم اقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا البشر أن الكلام اسم وقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً ثم به نسج بعد أن غزله فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي وزن سداته ثم تأليفه كنسجه وبلاغته كقصارته ودقة سلكه كرق لفظه وغلظ غزله ككثافة حروفه ومجموع هذا كله ثوب ولكن يعد تقدمة كل ما يحتاج إليه. قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسوألة أخرى فان هذا كلما توالي عليه بأن انقطاعه وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال لهذا عليّ درهم غير قيراط. قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ها هنا ما هو أخف من هذا قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان وقال آخر:
(54/29)
************
بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا عليك من مسائل المنطق شيئاً لكن حالك كحالي. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيءٍ أنظر فيه فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً وإن كان غير مت علق بالمعنى رددته عليك وإن كان مت صلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها وبين ما وحدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب وإلا والموضوع والمحمول والكون الفساد والمهمل والمخصوص وأمثلة لا تنفع ولا تجدي وهي إلى العي اقرب منها إلى الفهاهة اذهب ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقض ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة وتدعون الشعر ولا تعرفونه وتدعون الخاطبة وأنتم عنها في منقطع التراب وقد سمعت قائلكم يقول الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بمن قبله من الكتب وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان وإلا فلما صنف مالاً يحتاج إليه ويستغني عنه هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً وغابتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص وتقولوا إلهية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والإنسية والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولون جئنا بالسحر في قولنا * لا أفي شيء من باء وواو وجيم في بعض باء وفاء في بعض جيم وإلا في كل ب وج في كل ب فإذا لا في كل ج وهذا بطريق الحلف وهذا بطريق الاختصاص وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وإنارات نفسه واستغنى عن هذا كله بعون اله وفضله وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس منائح الله الهبية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده وما عرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً من هذا الناشيء
(54/30)








نرم افزار جامع حکمت نور:
كتاب الحروف، ص: 47
ابو نصر الفارابى‏
مقدمه و تحقيق و تعليق از محسن مهدى‏
(8) الفارابيّ و مناظرة متّى و السيرافيّ‏
في سنة 320 ه (أي بعد وفاة ابن السرّاج بأربع سنين) جرت مناظرة في حديث المنطق و النحو في بغداد في مجلس الفضل بن جعفر بن الفرات وزير الخليفة المقتدر، بين أبي سعيد السيرافيّ اللغويّ الفقيه المتكلّم الذي أخذ عن ابن السرّاج، و الفيلسوف المنطقيّ النسطوريّ أبي بشر متّى بن يونس (المتوفّى سنة 328 ه) الذي كان قدم حديثا إلى بغداد و اجتمع إليه الناس في مجلس التعليم و سار الحديث عن مجلسه و ما يقوله في تفخيم المنطق و ما يدّعيه من أنّ النحويّين مع اللفظ لا مع المعنى. و حضر هذه المناظرة عدد من العلماء و أصحاب الشأن يومئذ في بغداد، منهم علي بن عيسى الرمّانيّ- المذكور سابقا بين الذين أخذوا عن ابن السرّاج- الذي كتب المناظرة يومئذ و رواها مشروحة و أملاها على أبي حيّان التوحيديّ (و روى أبو سعيد السيرافيّ أيضا لمعا منها للتوحيديّ) و وضعها التوحيديّ في الليلة الثامنة من كتاب «الإمتاع و المؤانسة» (ج 1، ص ص 107- 128). و ليس هذا مجال شرح هذه المناظرة و تتبّع أصول آراء السيرافيّ الكلاميّة و اللغويّة (راجع مقالنا «اللغة و المنطق في الإسلام»)، و غرضنا هو الإشارة إلى أنّ هذه المناظرة اعتبرت في أوساط بغداد الأدبيّة و العلميّة انتصارا للنحو على المنطق، و للنحويّين و المتكلّمين على أصحاب المنطق و الفلسفة.
فمن أسباب اندحار متّى أنّه لم ينظر في النحو و أحكام اللغة (التوحيديّ «الإمتاع» ج 1، ص 114، س س 5- 9) و كان يجهل الحروف و معانيها و مواضع استعمالها (ص 111، س س 9- 10، ص ص 116- 117)، و مع ذلك يدّعي أنّ النحويّين لا يعرفون مواقع الحروف (ص 117، س 9). و نجح السيرافيّ في المناظرة في إظهار جهل متّى باللغة العربيّة و نحوها و فقهها، و عدم غناء تفخيمه للمنطق و ادّعائه أنّه لا حاجة بالمنطقيّ إلى النحو، و عجزه عن إقناع النظّارة كتاب الحروف- 4


كتاب الحروف، ص: 48
بصحّة ما يقوله في صلة المنطق بالنحو، و بيّن أنّ متّى يتحدّث عن الصلة بين شيئين لا يعرف شيئا عن أحدهما.
و المناظرة جرت في مجلس عامّ حضره «أقوام» كتبوها «في ألواح كانت معهم و محابر أيضا ... و تقوّض المجلس و أهله يتعجّبون من جأش أبي سعيد [السيرافيّ‏] الثابت و لسانه المتصرّف و وجهه المتهلّل و فوائده المتتابعة» (ص 128، س س 13- 16). و كان للسيرافيّ يوم المناظرة أربعون سنة، و متّى يومئذ شيخ كبير يربو على الخامسة و السبعين، و السيرافيّ كان معروفا بالدين و الجدّ و الفضل و الزهد بالدنيا، و متّى مشهور عنه أنّه «كان يملي ورقة بدرهم مقتدريّ و هو سكران لا يعقل، و يتهكّم، و عنده أنّه في ربح و هو من الأخسرين أعمالا، الأسفلين أحوالا» (ص 107، س س 13- 14، قارن ص 129، س س 1- 4). فانتصار السيرافيّ على متّى في المناظرة لم يكن انتصار رجل على آخر أو فنّ على آخر فحسب، بل نصرا للأدب و الكلام أثار في قلوب الناس شكوكا في فوائد المنطق و الفلسفة و دعوى أصحابها.
و علاقة الفارابيّ بمتّى يشوبها الغموض. فيقال إنّه أخذ عنه، و إنّ متّى «كان أسنّ من أبي نصر [الفارابيّ‏] و أبو نصر أحدّ ذهنا و أعذب كلاما» (ابن أبي أصيبعة «عيون» ج 2، ص 135، س س 26- 27). و الفارابيّ كان يومئذ في بغداد يدرّس المنطق و الفلسفة، يقرأ مع تلامذته و يملي عليهم شروحه لكتب المنطق و ما كتبه في علاقة النحو بالمنطق، و يبحث في الحروف و معانيها عند شرحه «مدخل» فورفوريوس و «مقولات» أرسطوطاليس و كتابه «ما بعد الطبيعة».
و كان بين التلامذة من يحضر مجلسه و مجلس متّى.
و يخيّل إليّ أنّ المناظرة التي جرت بين متّى و السيرافيّ أدّت بكثير من تلامذة الفارابيّ إلى يسألوه كيف يجيب هو عن الأسئلة التي أثارها السيرافيّ عن اللغة وصلتها بالمنطق، و عن الحروف، و غير ذلك ممّا لم يتمكّن متّى من الإجابة عنه أو أجاب عنه إجابة غير مقنعة. و ذلك لأنّ الفارابيّ كان إلى علوّ شأنه في المنطق عارفا بالعربيّة و فقهها و نحوها، أخذها عن ابن السرّاج إمام زمانه في هذه الفنون‏


كتاب الحروف، ص: 49
و أستاذ السيرافيّ. و يبدو لي أنّ الفارابيّ ذهب يجيب عن هذه الأسئلة و يفسّر هذه الأمور في حلقة كان يشرح فيها معاني الحروف و يفسّر فيها كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطوطاليس، فأطنب في أصل اللغة و النحو، و في نشأتها، و في صلتها بالفلسفة و الملّة، و أنّ كتاب «الحروف» هو ما أملاه في هذه الحلقة في الجواب عن الأسئلة التي أثارها السيرافيّ و الآراء التي دافع عنها في مناظرته مع متّى في طبائع اللغات و اختلاف اصطلاحها، و دلالة الألفاظ على المعاني المعقولة، و علاقة الشكل اللفظيّ بالمعنى العقليّ، و علاقة المعاني العامّيّة بالمعاني الفلسفيّة، و نقل المعاني من لغة إلى أخرى، يدحض ما زعمه السيرافيّ من أنّ المنطقيّين لا يصرفون عنايتهم إلى اللغة التي يتحاورون فيها و يدارسون أصحابهم بمفهوم أهلها.
(9) وصف النسخة الخطّيّة (م)