المهذب البارع، ج 1، ص 312-317
تذنيب و اعلم: انّه اتفق حضور العلاّمة المحقّق خواجه نصير الدين محمد بن محمد الحسن الطوسي قدّس اللّه روحه مجلس المصنّف طاب ثراه و درسه، فكان فيما جرى بحضوره درس القبلة، فأورد إشكالا على التياسر، فأجاب المصنّف في الحال بما اقتضاه ذلك الزمان، ثمَّ عمل في المسألة رسالة و بعثها إليه، فاستحسنها المحقّق حين وقف عليها. و ها أنا موردها بلفظها:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم جرى في أثناء فوائد المولى - أفضل علماء الإسلام و أكمل فضلاء الأنام نصير الدنيا و الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي أيّد اللّه بهجته العالية قواعد الدين و وطّد أركانه، و مهّد بمباحثه السامية عقائد الايمان و شيّد بيانه - إشكالا على التياسر. و حكايته: الأمر بالتياسر لأهل العراق لا يتحقّق معناه. لأن التياسر أمر إضافي لا يتحقّق إلاّ بالإضافة إلى صاحب يسار متوجّه إلى جهة، و حينئذ إمّا أن تكون الجهة .......... محصّلة، و إمّا أن لا تكون. و يلزم من الأوّل التياسر عمّا وجب التوجّه إليه، و هو خلاف مدلول الآية، و من الثاني عدم إمكان التياسر، إذ تحقّقه موقوف على تحقّق الجهة التي يتياسر عنها. ثمَّ يلزم مع تحقّق هذا الاشكال تنزيل التياسر على التأويل، أو التوقّف فيه حتّى يوضّحه الدليل. و هذا الاشكال ممّا لم يقع عليه الخواطر و لا تنبّه له الأوائل و الأواخر و لا كشف عن مكنونه الغطا، لكن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء.
و فرض من يقف على فوائد هذا المولى الأعظم من علماء الأنام أن يبسطوا له يد الانقياد و الاستسلام، و ان يكون قصاراهم التقاط ما يصدر عنه من جواهر الكلام، فإنّها شفاء الأنفس و جلاء الأفهام. غير انّه ظاهر اللّه جلاله و لا أعدم أولياءه فضله و إفضاله، سوّغ لي الدخول في هذا الباب و أذن لي أن أورد ما تخطر في الجواب ما يكون صوابا أو مقارنا للصواب. فأقول: ممتثلا لأمره، مشتملا ملابس صفحة و عفوه: انّه ينبغي أن تتقدّم ذلك مقدّمة تشتمل على بحثين. البحث الأول لفقهائنا قولان: أحدهما: انّ الكعبة قبلة لمن كان في الحرم و من خرج عنه، و التوجّه إليها متعيّن على التقديرات فعلى هذا لا يتياسر أصلا. و الثاني: انّها قبلة لمن كان في المسجد، و المسجد قبلة لمن كان في الحرم، و الحرم قبلة لمن خرج عنه. و توجّه هذا القائل من الآفاق ليس إلى الكعبة، حتّى انّ استقبال الكعبة في الصفّ المتطاول متعذّر، لأن عنده جهة كل واحد من المصلّين غير جهة الآخر. إذ لو خرج من وجه كلّ واحد منهم خطّ مواز للخطّ الخارج من وجه الآخر .......... لخرج بعض تلك الخطوط عن ملاقاة الكعبة. فحينئذ يسقط اعتبار الكعبة بانفرادها في الاستقبال، و يعود الاستقبال مختصّا باستقبال ما اتّفق من الحرم. لا يقال: هذا باطل لقوله تعالى «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ» . و بأنّه لو كان كذا، لجاز لمن وقف على طرف الحرم في جهة الحل ان يعدل عن الكعبة إلى استقبال بعض الحرم. لأنّا نجيب عن الأوّل: بأنّ المسجد قد يطلق على الحرم، كما روي في تأويل قوله تعالى «سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ» . و قد روي أنّه قد كان في بيت أم هاني بنت أبي طالب [3]. و هو خارج عن المسجد، و لأنّا نتكلّم على التياسر المبني على قول من يقول بذلك. و نجيب عن الثاني: بأنّ استقبال جهة الكعبة متعيّن لمن تيقّنها، و إنّما يقتصر على الحرم من تعذّر عليه التيقّن بجهتها، ثمَّ لو ضويقنا جاز أن يلتزم ذلك، تمسّكا بظاهر الرواية. البحث الثاني من شاهد الكعبة استقبل ما شاء منها و لا تياسر عليه. و كذا من تيقّن جهتها على التعيين. أمّا من فقد القسمين، فعليه البناء على العلامات المنصوبة للقبلة، لكن محاذاة كلّ علامة من العلامات بالعضو المختصّ بها من المصلّي ليس يوجب محاذاة القبلة بوجهه تحقيقا، إذ قد يتوهّم المحاذاة و يكون منحرفا عن السمت انحرافا خفيّا،
خصوصا عند مقابلته الشيء الصغير. إذا تقرّر ذلك رجعنا إلى الإشكال. أمّا كون التياسر أمرا إضافيّا لا يتحقّق إلاّ بالمضاف، فلا ريب. و اما كون الجهة أمّا محصّلة أو غير محصّلة، فالوجه أنّها محصّلة، و بيان ذلك: إن الشرع نصب علامات أوجب محاذاة كلّ واحد منها لشيء من أعضاء المصلّي، بحيث تكون الجهة المقابلة لوجهه حال محاذاة تلك العلامة، هي جهة الاستقبال، فالتياسر حينئذ عن تلك الجهة المقابلة لوجه المصلّي. فأمّا أنّه إذا كانت محصّلة، كانت هي جهة الكعبة، و الانحراف عنها يزيل التوجّه إليها. فالجواب عنه: إنّا قد بيّنّا انّ الفرض هو استقبال الحرم، لا نفس الكعبة، فإنّ العلائم قد يحصل الخلل في مسامتها [مشاهدتها] فالتياسر حينئذ استظهار في مقابلة الحرم الذي يجب التوجّه إليه في كلي حالتي الاستقبال، و التياسر يكون متوجّها إلى القبلة المأمور بها. أما في حال الاستقبال فلأنّها جهة الإجزاء من حيث هو محاذ جهة من جهات الحرم تقليبا مستندا إلى الشرع. و امّا في حال التياسر فيلحقه محاذاة جهة الحرم، و لهذا تحقّق الاستحباب في طرفه، لحصول الاستظهار به. إن قيل: هنا إيرادات ثلاثة: الأوّل: النصوص خالية عن هذا التعيين، فمن أين صرتم إليه؟. الثاني: ما الحكمة في التياسر عن الجهة التي نصبت العلائم إليها؟ فإن قلتم: لأجل تفاوت مقدار الحرم عن يمين الكعبة و يسارها. قلنا: إن أريد بالتياسر وسط الحرم، فحينئذ يخرج المصلّي عن جهة الكعبة يقينا و إن أريد تياسرا لا يخرج به عن سمت الكعبة، فحينئذ يكون ذلك قبلة حقيقيّة، ثمَّ لا يكون بينه و بين التيامن اليسير فرق. الثالث: الجهة المشار إليها، إن كان استقبالها واجبا لم يجز العدول عنها، و التياسر .......... عدول فلا يكون مأمورا به.
قلنا: أمّا الجواب عن الأوّل، فإنّه و إن كانت النصوص خالية عن تعيين الجهة نطقا، فإنّها غير خالية من التنبيه عليها، إذ لم يثبت وجوب استقبال الجهة التي دلّت عليه العلائم و ثبت الأمر بالتياسر بمعنى انه عن السمت المدلول عليه. و عن الثاني: بالتفصّي عن إبانة الحكمة في التياسر، فإنّه غير لازم في كلّ موضع، بل غير ممكن في كلّ تكليف. و من شأن الفقيه تلقّي الحكم مهما صحّ المستند. أو نقول: إمّا أن يكون الأمر بالتياسر ثابتا، و إمّا أن لا يكون. فإن كان لزم الامتثال تلقّيا عن صاحب الشرع، و إن لم يعط العلّة الموجبة للتشريع. و إن لم يكن ثابتا، فلا حكمة. و يمكن أن نتكلّف إبانة الحكمة، بأن نقول: لمّا كانت الحكمة متعلّقة باستقبال الحرم، و كان المستقبل من أهل الآفاق قد يخرج من الاستناد إلى العلامات عن سمته، بأن يكون منحرفا إلى اليمين، و قدر الحرم يسير عن يمين الكعبة، فلو اقتصر على ما يظنّ أنّه جهة الاستقبال أمكن أن يكون مائلا إلى جهة اليمين فيخرج عن الحرم، و هو يظنّ استقباله. إذ محاذاة العلائم على الوجه المحرّر قد يخفى على المهندس الماهر، فيكون التياسر يسيرا عن سمت العلائم مفضيا إلى سمت المحاذاة، و يشهد لهذا التأويل ما روي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) و قد سئل عن سبب التحريف عن القبلة ذات اليسار؟ فقال: ان الحرم عن يسار الكعبة ثمانية أميال، و عن يمينها أربعة أميال، فإذا انحرف ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة، و إن انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة . و هذا الحديث يؤذن بأن المقابلة قد يحصل معها احتمال الانحراف. و كذا لو استدبر القبلة. و قيل: يعيد و إن خرج الوقت. (1) و لا يصلّي الفريضة على الراحلة اختيارا. و يرخّص في النافلة سفرا، حيث توجهت الراحلة. و أمّا الجواب عن الثالث: فقد مرّ في أثناء البحث. و هذا كلّه مبنيّ على أنّ استقبال أهل العراق إلى الحرم لا إلى الكعبة. و ليس ذلك بمعتمد، بل الوجه الاستقبال إلى جهة الكعبة إذا علمت أو غلب الظن مع عدم الطريق إلى العلم، سواء كان في المسجد أو خارجه فيسقط حينئذ اعتبار التياسر، و التعويل في استقبال الحرم إنّما هو على أخبار آحاد ضعيفة، و بتقدير أن يجمع جامع بين هذا المذهب و بين التياسر، يكون ورود الاشكال عليه أتم، و باللّه العصمة و التوفيق انّه وليّ الإجابة.هذا آخر رسالة المصنّف قدّس اللّه روحه.
و اعلم: أنّ غير المصنّف أجاب عن هذا الاشكال، بمنع الحصر. لأن حاصل السؤال: إنّ التياسر إمّا إلى القبلة فيكون واجبا لا مستحبّا. و إمّا عنها فيكون حراما. و الجواب: بمنع الحصر، بل نقول: التياسر فيها، و جاز اختصاص بعض جهات القبلة بمزيد الفضيلة على بعض، أو حصول الاستظهار بالتوسّط بسبب الانحراف.