بسم الله الرحمن الرحیم

حکم الجاهل

فهرست علوم
فهرست فقه
علم الحقوق



الحدائق، ج 1، ص 77-87

المقدمة الخامسة في حكم الجاهل بالأحكام

و قد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام (أسكنهم الله تعالى أعلى درجة في دار السلام) فالمشهور بينهم عدم المعذورية إلا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام، و فرعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل - و هو عندهم من لم يكن مجتهدا و لا مقلدا - و ان طابقت الواقع، حيث أوجبوا معرفة واجبها و ندبها و إيقاع كل منهما على وجهه. و ان تلك المعرفة لا بد أن تكون عن اجتهاد أو تقليد، فصلاة المكلف - بدون أحد الوجهين - باطلة عندهم و ان طابقت الواقع و طابق اعتقاده  و إيقاعه الواجب و الندب - ما هو المطلوب شرعا.

و ذهب جمع من المتأخرين و متأخريهم إلى معذورية الجاهل مطلقا إلا في مواضع يسيرة، حتى حكم بعض متأخري المتأخرين بصحة صلاة العوام كيف كانت، و اقتصر بعض على ما طابق الواقع من ذلك. و ظواهر الأخبار في المسألة لا تخلو عن تناقض يحتاج الى مزيد كشف و بيان لترتفع به غشاوة الشبهة عن جملة الأذهان. فمن الأخبار الدالة - على القول المشهور - قول ابي الحسن (عليه السلام) في مرسلة يونس بعد أن سأله السائل «هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه‌؟ فقال: لا» . و قول الصادق (عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله عنه: «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» . و قوله (عليه السلام): «لا يسع الناس حتى يسألوا و يتفقهوا» . و كذا يدل على ذلك الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم و الأمر بالتفقه في الدين. و مما يدل على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرقة في جزئيات الاحکام

فمن ذلك ما ورد في باب الحج و هو أخبار كثيرة. (منها) - صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: «من لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه و هو محرم ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه». و مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام): «في رجل نسي أن يحرم أو جهل و قد شهد المناسك كلها و طاف و سعى‌؟ قال: تجزيه نيته إذا كان قد نوى ذلك فقد تم حجه و ان لم يهل». و رواية عبد الصمد بن بشير عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام و هو يلبي و عليه قميصه، فوثب عليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شق قميصك و أخرجه من رجليك، فان عليك بدنة و عليك الحج من قابل و حجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليه السلام) فقام على باب المسجد فكبر و استقبل الكعبة، فدنا الرجل من ابي عبد الله (عليه السلام) و هو ينتف شعره و يضرب وجهه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): اسكن يا عبد الله، فلما كلمه و كان الرجل أعجميا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول‌؟ قال: كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شيء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي و انزعه من قبل رجلي و ان حجي فاسد و ان علي بدنة. فقال له: متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل‌؟ قال: قبل ان ألبي. قال: فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة و ليس عليك الحج من قابل، اي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. طف بالبيت أسبوعا و صل ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) واسع  بين الصفا و المروة و قصر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل و أهل بالحج و اصنع كما يصنع الناس». و من ذلك - ما ورد في النكاح في العدة. و منه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة و بمضمونها روايات عديدة .

و من ذلك - ما ورد في الحدود كموثقة عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله (عليه السلام) : «في رجل شرب الخمر على عهد ابي بكر و عمر. و اعتذر بجهله بالتحريم، فسألا أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمر (عليه السلام) بان يدار به على مجالس المهاجرين و الأنصار، و قال: من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله». و بمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة. و من ذلك - ما ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة و محمد بن مسلم و هذا من جملة ما استثناه من قال بعدم معذورية الجاهل، و ما ورد في من أقام عشرة أيام و صلى قصرا جاهلا كصحيحة منصور بن حازم و كذا ما ورد في من جهر في موضع الإخفات و أخفت في موضع الجهر و هذا أيضا أحد ما استثنوه.  و من ذلك ايضا - ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب التوحيد بسنده عن عبد الأعلى بن أعين: قال: «سألت أبا عبد الله (ع) عمن لا يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال: لا». و ما رواه في الفقيه و التوحيد في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه السلام): قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): رفع عن أمتي تسعة، و عد منها ما لا يعلمون». و مما يؤكد ذلك ما روي أيضا: «انه ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء ان يعلموا» رواه في الكافي . و قوله: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» . و قوله: «ان الله يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم» . الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع. و يمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه: (أظهرها) ان يقال: ان الجاهل - كما يطلق على الغافل عن الحكم بالكلية - يطلق ايضا على غير العالم بالحكم و ان كان شاكا أو ظانا، و المفهوم من الأخبار ان الجاهل بالحكم الشرعي على المعنى الثاني غير معذور بل الواجب عليه الفحص و التفتيش عن الأدلة أو السؤال، و مع تعذر الوقوف على الحكم ففرضه التوقف عن الحكم و الفتوى و الوقوف على جادة الاحتياط في العمل، و ان الحكم بالنسبة إليه من الشبهات المشار إليها في قولهم (عليهم السلام): «حلال بين و حرام بين و شبهات بين ذلك» . و على هذا الفرد تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل و وجوب التفقه و العلم و السؤال. و مما يدل - على ان حكم الجاهل بهذا المعنى ما ذكرنا - صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة الواردة في جزاء الصيد كما أشرنا إليه ثمة. و حسنة بريد الكناسي في من تزوجت في العدة جاهلة، حيث قال الراوي فيها: «قلت: فان كانت تعلم ان عليها عدة و لا تدري كم هي‌؟ فقال: إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة، فتسأل حتى تعلم» . و هما ظاهرتا الدلالة على ذلك و ان كان موردهما جزئيات الحكم الشرعي. و أما الجاهل بالمعنى الأول فلا ريب في معذوريته، لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية و أيدتها الأدلة النقلية، و الى ذلك يشير قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة في سابق هذه المقدمة الواردة في التزويج في العدة في تعليل ان الجاهل بالتحريم أعذر من الجاهل بكونها في عدة: «و ذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها» بمعنى انه مع جهله بان الله حرم عليه التزويج في العدة لا يقدر على الاحتياط بالترك، لعدم تصور الحكم بالكلية، بخلاف الظان أو الشاك فإنه يقدر على ذلك لو تعذر عليه العلم و على هذا تحمل الأخبار الأخير الدالة على المعذورية

و اما ما يفهم من كلام ذلك البعض المشار اليه آنفا من الحكم بصحة صلاة العوام كيف كانت و ان اشتملت على الإخلال بالواجبات، فظني انه على إطلاقه غير تام، فإنه متى قام العذر للجاهل بمجرد جهله و صحت صلاته كصلاة الفقيه بجميع شروطها و واجباتها و وسعه البقاء على جهله، لزم سقوط التكليف. فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام و الفصل فيها بين الحلال و الحرام‌؟ و الى من تتوجه هذه الأوامر؟ و الى من أرسلت  الرسل و أنزلت الكتب‌؟ إذا وسع الجاهل البقاء على جهله و صحت جميع أفعاله و أعماله الواقعة كذلك، و في هذا من الشناعة ما لا يلتزمه من له ادنى قدم في التحصيل، و اخبار - «لا يسع الناس البقاء على الجهالة» (1). و حديث تفسير قوله سبحانه: « قُلْ‌ فَلِلّٰهِ‌ الْحُجَّةُ‌ الْبٰالِغَةُ‌ » (2) و ما روي في حسنة زرارة عنه (صلى الله عليه و آله) حين رأى من يصلي و لم يحسن ركوعه و لا سجوده، من انه قال: «نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتن على غير ديني». و ما استفاض عنهم (صلوات الله عليهم): «ليس منا من استخف بصلاته». و في جملة منها «لا ينال شفاعتنا من استخف بصلاته» . الشامل ذلك بإطلاقه للعالم و الجاهل - مما يرد هذا القول و يبطله. و القول الفصل في ذلك ان يقال: ان الظاهر ان الحكم في ذلك يختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام و التمييز بين الحلال و الحرام و عدمه، و قوة عقولهم و إفهامهم و عدمها. و لكل تكليف يناسب حاله، و يرجع ذلك بالأخرة إلى الجاهل بمعنييه المتقدمين . و ذلك فان من المعلوم ان سكان الصحاري و الرساتيق ليسوا في الانس بالأحكام و الشرائع، كسكان المدن و الأمصار المشتملة على العلماء و الوعاظ و الجمعات و الجماعات و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحو ذلك. و لهذا نهى الشارع عن سكون تلك و ندب الى سكون هذه، لانه بمجرد ذلك يحصل التأدب بالآداب الشرعية، و التخلق بالأخلاق المرضية، و الاطلاع على الأحكام النبوية بمداخلة أبناء النوع و معاشرتهم، بل مجرد رؤيتهم، كما لا يخفى على من تأمل ذلك، و حينئذ فالعامي من سكان الصحاري - مثلا - إذا أخذ العبادة من آبائه و تلقاها من اسلافه على اي وجه كان، معتقدا انها هي العبادة التي أمر بها الشارع و لم يعلم زيادة على ذلك، فالظاهر صحتها. (أما أولا) - فلأنه جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا، و توجه الخطاب الى مثله كما قدمنا ممتنع عقلا و نقلا. و (أما ثانيا) - فلانه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهل الإمامة من المخالفين انهم ممن يرجى لهم الفوز بالنجاة في الآخرة، فإذا كان ذلك حال المخالفين في الإمامة التي هي من أصول الدين فكيف بعوام مذهبنا في الفروع‌؟ و كذا القول بالنسبة إلى قوة العقل و الفهم و عدمها، فان خطاب كاملي العقول و ثاقبي الأذهان ليس كخطاب غيرهم من البله و الصبيان و النسوان، و قد ورد عنهم (عليهم السلام): «انما يداق الله العباد على ما وهبهم من العقول» . و «انه سبحانه يحتج على العباد بما آتاهم  و عرفهم» . و ان الايمان درجات فلا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ من صاحب الدرجة السافلة و لا يوبخه عليها» . و حينئذ فتكليف ضعفة العقول ليس كتكليف كامليها، و مما يؤكد ذلك انه قد ورد في أخبارنا ان المستضعفين من المخالفين ممن يرجى لهم الفوز بالجنة، و ان دل ظاهر الآية الشريفة على انهم من المرجئين لأمر الله، إلا ان ظاهر جملة من الأخبار ان عاقبة أمرهم إلى الجنة، بل قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) على ما نقله عنه السيد نعمة الله الجزائري (رحمه الله) في بعض فوائده: «أن المستضعفين - من الكفار ممن لم تقم عليه الحجة من عوامهم و من بعد عن بلاد الإسلام - ممن يرجى لهم النجاة» قال السيد نعمة الله بعد نقل ذلك عنه: «و هذا القول و ان لم يوافقه عليه الأكثر إلا انه غير بعيد من تتبع موارد الاخبار» انتهى. و حينئذ فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه و اسلافه، معتقدا ان هذا هو أقصى ما هو مكلف به. فالظاهر صحتها بالتقريب المتقدم. و اما بالنسبة الى من عدا من ذكرنا فالظاهر ان جهلهم ليس كجهل أولئك حتى يكون موجبا للعذر لهم و مصححا لعباداتهم، فإنه لا أقل ان يكونوا - بمن يصحبونه من المصلين الآتين بالصلاة على وجهها و بجملة حدودها، و يشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع الأوقات و الحالات سيما في المساجد و الجماعات - يحصل لهم الظن الغالب - ان تنزلنا عن دعوى العلم - بان هذه هي الصلاة المأمور بها شرعا، و ان ما نقص عنها و خالفها ان لم يكن معلوم البطلان فلا أقل ان يكون مظنونه أو مشكوكه، و حينئذ فيرجع  الى الجهل بالمعنى الآخر الموجب للفحص و السؤال و العلم و التفقه، و استحقاق العقوبة على ترك ذلك، و بطلان العمل مع الإخلال بما هنالك، كما يدل عليه قوله (عليه السلام): «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة فتسأل حتى تعلم» . و ربما يستأنس لذلك ايضا بقول الصادق (عليه السلام) في آخر حديث عبد الصمد بن بشير : «و اصنع كما يصنع الناس». و في هذا المقام مباحث شريفة و فوائد لطيفة قد وشحنا بها هذه المسألة في كتاب الدرر النجفية مع بسط في أصل المسألة تشتاقه الطباع و تلذه الأسماع.

 

 

الدرر النجفیه، ج 1، ص 77-103

(2) درّة نجفيّة في معذورية الجاهل قد استفاضت الأخبار عن الأئمّة الأخيار - صلوات اللّه عليهم - بمعذوريّة الجاهل في جملة من الأحكام إلاّ مواضع مخصوصة، و المشهور بين الأصحاب - رضوان اللّه عليهم - عدم المعذورية إلاّ في مواضع مخصوصة، كحكمي الجهر و الاخفات، و القصر و الاتمام. و فرّعوا على ذلك بطلان صلاة الجاهل، و هو من لم يكن مجتهدا و لا مقلّدا؛ حيث أوجبوا معرفة واجب الصلاة و ندبها، و ابقاء كلّ‌ منهما على وجهه، و أنّ‌ تلك لا بدّ أن تكون عن أحد ذينك الوجهين المذكورين. فصلاة المكلّف بدون اجتهاد أو تقليد باطلة عندهم و إن طابقت الواقع، و طابق اعتقاده و إيقاعه للواجب و الندب ما هو المطلوب شرعا. و ممن صرح بذلك الشهيدان - رحمهما اللّه - في مواضع من مصنّفاتهما، و خالف في ذلك جمع من متأخري المتأخرين، منهم المولى الأردبيلي، و تلميذه السيّد السند صاحب (المدارك) و المحدّث الكاشاني، و المحدّث الأمين الأسترآبادي ، و الفاضل المحدث العلاّمة السيّد نعمة اللّه الجزائرى، و شيخنا  العلاّمة الشيخ سلمان بن عبد اللّه البحراني، قدس اللّه أرواحهم. و هو الحق الحقيق بالاتّباع كما سيظهر لك إن شاء اللّه تعالى. قال المحدث السيد نعمة اللّه رحمه اللّه في شرح كتاب (عوالي اللآلي) بعد نقل ذلك عن الشهيدين: (و يلزم على هذا بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار و ما قاربها، و ذلك أن وجود المجتهدين في كلّ‌ صقع و كل بلد متعذّر؛ لأن صروف الليالي أذهبت العلماء، و ما بقي من يرجع إلى قوله إلاّ القليل في بلد من البلدان أو صقع من الأصقاع: فكأنها برق تألّق بالحمى ثم انثنى فكأنه لم يلمع و إذا كان المقلد في أقاصي البلدان فكيف يتمكّن من الوصول إلى المجتهد في أكثر أوقاته‌؟ فيلزم الحرج على الخلق). إلى أن قال: (و الناس في الأعصار السابقة و اللاحقة كانوا يتعلمون العبادات و أحكامها من الواجبات و المندوبات و السنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد و لا تقليد، و العوام في جميع الأعصار؛ حتى في أعصار الأئمَّة عليهم السّلام كانوا يصلّون و يصومون على ما أخذوا من الآباء، و من حضرهم من العلماء و إن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد. على أن الصلاة المأمور بها شرعا ما كان تتفق إلاّ من آحاد العلماء. أ لا تری إلى حمّاد كيف كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة‌؟ فلمّا صلّى بحضور الإمام الصادق عليه السّلام قال: «يا حمّاد لا تحسن أن تصلي» . فقام عليه السّلام و صلّى ركعتين تعليما له. هذا و حمّاد من أجلّ‌ أهل الرواية و من أصحاب الأئمّة، فلما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم عليهم السّلام‌؟ على أن الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب و كانت مأخوذة من أهل الإيمان، فما السبب في بطلانها؟ و شيء آخر و هو أنهم صرحوا بأنه لا فرق بين تارك الصلاة، و بين من أوقعها على غير الوجه المطلوب، و لو بالإخلال بحرف من القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود، إلى غير ذلك ممّا حرره في كتبهم. و أنت إذا تتّبعت عبادات عوام المذهب سيّما في الصلاة، ما تجد أحدا منهم إلاّ و الخلل في عباداته، خصوصا الصلاة، و لا سيّما القراءة فيما يوجب بطلانها بكثير، فيلزم بطلان صلاتهم كلها، فيكونون متعمّدين في ترك الصلاة مدّة أعمارهم، بل مستحلّين تركها؛ لأنهم يرون أن الصلاة المشروعة هي ما أتوا به، و قد حكمتم ببطلانها. فهذه هي الداهية العظمى و المصيبة الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثّرهم و وفورهم. فإن قلت: فما المخلص من هذه البلية العامة‌؟ قلت: قد استفاض من الأخبار عن النبيّ‌ و أهل بيته - عليهم أفضل الصلوات من الملك الجبار - «الناس في سعة ما لم يعلموا» فمن كان جاهلا للأصل أو جاهلا للحكم يكون داخلا تحت عموم الخبر، فيعذر في جهله، حتى يعرف  الحكم فيطلبه. و حينئذ، فيكون الأولى أن يجعل الضابط هكذا: الجاهل معذور إلاّ ما قام الدليل عليه. و الأكثر عكسوا الكلية، و قالوا: الجاهل كالعالم إلاّ ما خرج بالدليل، فيلزم ما تقدم من الضيق و الحرج، و للنظر إلى ما حررناه وردت الأخبار المتضمّنة لقولهم عليهم السّلام: «ما أخذ اللّه على الجهّال أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلّموا» . و قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في وصف نفسه الشريفة: «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، و أحمى مواسمه، يضع عن ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، و آذن صمّ‌، و ألسنة بكم، متتبّع بدوائه في مواضع الغفلة و مواطن الحيرة» .يعني: أنه عليه السّلام طبيب داء الجهل، و الجهال مرضى القلوب . و من القانون أن الطبيب يمضي إلى المريض كما كان المسيح عليه السّلام يفعل ذلك، فقال له الحواريون: هنا؟ في موضع ما كانوا عهدوه يمضي إليه، فقال: «نعم إنّما يأتي الطبيب المريض» . و المراد ب‍ «مراهمه»: علومه و مواعظه التي هي مراهم قلب الجاهل. و المراد من «المراسم»: سيفه و سوطه، فإن من لا تنفع فيه المواعظ وقعت عليه الحدود الإلهيّة. و الحاصل أن الجهّال معذورون حتّى يأتي إليهم علوم الأحكام و المعرفة بها من علماء الدين) انتهى كلامه، زيد إكرامه. و قال المولى الأردبيلي قدّس سرّه في مبحث الوقت من شرحه على (الإرشاد) - بعد تصريحه بأنه متى ترك الاجتهاد عالما بوجوب الاجتهاد، فمعلوم بطلان صلاته إذا لم يكن في الوقت، و أمّا إذا وقعت في الوقت تماما، فيحتمل الصحة و البطلان، و الظاهر البطلان، إلاّ مع تجويز المصلّي عدم تكليفه بالاجتهاد، و تجويزه دخول الوقت، و دخل، فوافق، فالظاهر الصحّة حينئذ، و الناسي بطريق الأولى للامتثال و عدم النهي حال الفعل، و كذا الجاهل بالوجوب و الوقت؛ لما مر ما هذا لفظه: (و بالجملة، كل من فعل ما هو في نفس الأمر و إن لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل، حتى لو أخذ المسائل من غير أهله، بل لو لم يأخذ من أحد و ظنها كذلك به و فعل، فإنّه يصح فعله، و كذا في الاعتقادات و إن لم يأخذها عن أدلّتها، فإنه يكفي ما اعتقده دليلا، و أوصله إلى المطلوب و لو كان تقليدا. كذا يفهم من كلام منسوب إلى المحقق نصير الملّة و الدين قدّس سرّه ، و في كلام الشارع إشارات إليه، مثل مدحه جماعة للطهارة بالحجر و الماء ، مع عدم العلم بحسنها، و صحّة حجّ‌ من مرّ بالموقف و غيرهما ممّا يدلّ‌ عليه الأثر، ستطلع عليه إن تأمّلت، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّار، حين غلط في التيمم: «ألا فعلت كذا» فإنه يدلّ‌ على أنه لو فعل كذا يصحّ‌، مع أنه ما كان يعرف. و في الصحيح من نسی ركعة ففعلها و استحسنه عليه السّلام مع عدم العلم و الشريعة السمحة السهلة تقتضيه. و ما وقع في أوائل الإسلام من فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الكفار من الاكتفاء بمجرد قولهم بالشهادة . و كذا فعل الأئمَّة عليهم السّلام مع من قال بهم بما يفيد اليقين، فتأمل... و احتط) انتهى. و قال تلميذه السيّد السند قدّس سرّه في (المدارك) بعد أن نقل شطرا من ذلك: (و هو في غاية الجودة) انتهى. أقول: و يؤيد ما ذكره رحمه اللّه من الاكتفاء بمطابقة الحكم واقعا، و إن لم يكن عن علم و معرفة، رواية عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل يلبّي، حتى دخل المسجد الحرام و هو يلبّي و عليه قميصه، فوثب إليه الناس من أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: شق قميصك و أخرجه من رجليك؛ فإن عليك بدنة، و عليك الحج من قابل، و حجّك فاسد. فطلع أبو عبد اللّه عليه السّلام، فقام على باب المسجد، فكبّر و استقبل الكعبة، فدنا الرجل من أبي عبد اللّه عليه السّلام و هو ينتف شعره، و يضرب وجهه، فقال له أبو عبد اللّه: «اسكن يا عبد اللّه». فلمّا كلّمه و كان الرجل عجميا، فقال أبو عبد اللّه: «ما تقول‌؟». قال: كنت رجلا أعمل بيدي، فاجتمعت لي نفقة، فجئت أحجّ‌، لم أسأل أحدا عن شيء، فأفتوني هؤلاء أن أشقّ‌ قميصي و أنزعه من قبل رجليّ‌؛ و أن حجّي فاسد، و أن عليّ‌ بدنة. فقال عليه السّلام له: «متى لبست قميصك‌؟ أبعد ما لبيت أم قبل‌؟». قال: قبل أن ألبّي.  قال عليه السّلام: «فأخرجه من رأسك، فإنه ليس عليك بدنة، و ليس عليك الحج من قابل؛ أي رجل ركب أمرا بجهالة، فلا شيء عليه. طف بالبيت اسبوعا، و صلّ‌ ركعتين عند مقام إبراهيم، واسع بين الصفا و المروة، و قصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل و أهلّ‌ بالحجّ‌، و اصنع كما يصنع الناس» . فإنه مع تصريحه بمعذوريّة الجاهل بوجه كلّي و قاعدة مطّردة، تضمّن صحّة ما فعله قبل لقاء الإمام عليه السّلام من الاغتسال و الإحرام و التلبية و نحوها، مع إخباره أنه لم يسأل أحدا عن شيء من الأحكام التي أتى بها؛ و لهذا وقع فيما وقع فيه، و أمره عليه السّلام أن يصنع كما يصنع الناس من واجب و مستحب، مع عدم المعرفة بشيء من ذلك.

ركعة ففعلها و استحسنه عليه السّلام مع عدم العلم و الشريعة السمحة السهلة تقتضيه. و ما وقع في أوائل الإسلام من فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الكفار من الاكتفاء بمجرد قولهم بالشهادة . و كذا فعل الأئمَّة عليهم السّلام مع من قال بهم بما يفيد اليقين، فتأمل... و احتط) انتهى. و قال تلميذه السيّد السند قدّس سرّه في (المدارك) بعد أن نقل شطرا من ذلك: (و هو في غاية الجودة) انتهى. أقول: و يؤيد ما ذكره رحمه اللّه من الاكتفاء بمطابقة الحكم واقعا، و إن لم يكن عن علم و معرفة، رواية عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل يلبّي، حتى دخل المسجد الحرام و هو يلبّي و عليه قميصه، فوثب إليه الناس من أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: شق قميصك و أخرجه من رجليك؛ فإن عليك بدنة، و عليك الحج من قابل، و حجّك فاسد. فطلع أبو عبد اللّه عليه السّلام، فقام على باب المسجد، فكبّر و استقبل الكعبة، فدنا الرجل من أبي عبد اللّه عليه السّلام و هو ينتف شعره، و يضرب وجهه، فقال له أبو عبد اللّه: «اسكن يا عبد اللّه». فلمّا كلّمه و كان الرجل عجميا، فقال أبو عبد اللّه: «ما تقول‌؟». قال: كنت رجلا أعمل بيدي، فاجتمعت لي نفقة، فجئت أحجّ‌، لم أسأل أحدا عن شيء، فأفتوني هؤلاء أن أشقّ‌ قميصي و أنزعه من قبل رجليّ‌؛ و أن حجّي فاسد، و أن عليّ‌ بدنة. فقال عليه السّلام له: «متى لبست قميصك‌؟ أبعد ما لبيت أم قبل‌؟». قال: قبل أن ألبّي.  قال عليه السّلام: «فأخرجه من رأسك، فإنه ليس عليك بدنة، و ليس عليك الحج من قابل؛ أي رجل ركب أمرا بجهالة، فلا شيء عليه. طف بالبيت اسبوعا، و صلّ‌ ركعتين عند مقام إبراهيم، واسع بين الصفا و المروة، و قصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل و أهلّ‌ بالحجّ‌، و اصنع كما يصنع الناس» . فإنه مع تصريحه بمعذوريّة الجاهل بوجه كلّي و قاعدة مطّردة، تضمّن صحّة ما فعله قبل لقاء الإمام عليه السّلام من الاغتسال و الإحرام و التلبية و نحوها، مع إخباره أنه لم يسأل أحدا عن شيء من الأحكام التي أتى بها؛ و لهذا وقع فيما وقع فيه، و أمره عليه السّلام أن يصنع كما يصنع الناس من واجب و مستحب، مع عدم المعرفة بشيء من ذلك.

قال الفاضل المحقّق صاحب (الكفاية) في شرحه على (الإرشاد) - بعد نقله شطرا من كلام المولى الأردبيلي، رفع اللّه درجتهما - ما صورته: (و عندي أن ما ذكره منظور فيه، مخالف للقواعد المقررة العدليّة، و ليس المقام محل تفصيل، [لكن] أقول إجمالا: إن أحد الجاهلين إن صلّى في الوقت و الآخر في غير الوقت فلا يخلو، إمّا أن يستحقا العقاب، أو لم يستحقا أصلا، أو يستحقّ‌ أحدهما دون الآخر. و على الأول: يثبت المطلوب. و على الثاني: يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا. و على الثالث: يلزم خلاف العدل، لاستوائهما في الحركات الاختيارية الموجبة للمدح و الذمّ‌، و إنّما حصل مصادفة الوقت و عدمه، بضرب من الاتفاق  من غير أن يكون لأحد منهما فيه ضرب من التعمّد أو السعي، و تجويز مدخليّة الاتّفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح و الذمّ‌ ممّا هدم بنيانه البرهان، و عليه إطباق العدلية في كلّ‌ زمان) انتهى كلامه رحمه اللّه. أقول: فيه: أوّلا: بعد اختيار الشقّ‌ الثالث الذي هو محلّ‌ النزاع - أنّه متى قام الدليل من خارج على معذوريّة الجاهل و صحّة عبادته إذا طابقت الواقع، فهذا الاستبعاد العقلي لا يسمع و إن اشتهر عنهم ترجيح الدليل العقلي على النقلي، إلاّ إن ما نحن فيه ليس منه. و ثانيا: أن المدح و الذمّ‌ على هذه الحركات الاختيارية إن كان من اللّه سبحانه فاستواؤهما فيه ممنوع؛ إذ إيجاب الحركات للمدح و الذمّ‌ ليس لذاتها، و إنّما هو لموافقة الأمر و عدمها تعمدا، أو اتّفاقا. و حينئذ، فمقتضى ما قلنا في قيام الدليل على صحّة عبادة الجاهل إذا صادفت الوقت، فإنّه تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت، و تكون حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف، فإنها تكون موجبة للذّم لعدم المصادفة. و ثالثا: أنّ‌ الغرض من التكليف الإتيان بما كلّف به حسب الأمر، و من صادفت صلاته الوقت يصدق عليه أنه أتى بالمأمور به، و امتثال الأمر يقتضي الإجزاء. و رابعا: أنّه منقوض بما وقع الاتّفاق عليه نصّا و فتوى من صحّة صلاة الجاهل بوجوب التقصير تماما، مع كونها غير مطابقة للواقع ، فإذا كان الجهل عذرا مع عدم المطابقة؛ فبالأولى أن يكون عذرا معها

و ستأتيك الأدلّة الدالة على ما يطابق هذه الصورة أيضا من المعذوريّة، و إن لم يطابق الواقع. و خامسا: بأنه معارض بما صرّح به الأصحاب، كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في (شرح الألفيّة) ، من أن من صلّى في النجاسة جاهلا بها و إن صحّت صلاته ظاهرا، إلاّ إنها غير صحيحة و لا مقبولة في الواقع؛ لفقد شرطها واقعا، فإن للقائل أن يقول فيه أيضا: إنه يلزم خلاف العدل؛ لاستواء حركات هذا المصلّي مع حركات من اتّفق كون صلاته في طاهر واقعا في المدح و الذمّ‌، فكيف تقبل إحداهما دون الاخرى‌؟ إذ كلّ‌ منهما قد بنى على ظاهر الطهارة في نظره و إنما جعلت الطهارة الواقعية في أحدهما دون الآخر بضرب من الاتّفاق، و الفرض أن الاتفاق الخارج لا مدخل له. و مثل ذلك أيضا فيمن توضّأ بماء نجس واقعا مع كونه طاهرا في الظاهر؛ فإن بطلان طهارته و عبادته دون من توضّأ بماء طاهر؛ ظاهرا و واقعا، مع اشتراكهما فيما ذكر من الحركات و السكنات، و كون الطهارة و النجاسة واقعا بنوع من الاتّفاق دون التعمّد خلاف العدل أيضا، و الأصحاب لا يقولون به. و سادسها: أنه لو كان الاتّفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه، لما أجزأ صوم آخر يوم من شعبان عن أول شهر رمضان، متى ظهر كونه منه بعد ذلك، و يسقط القضاء عمّن أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية، ثم ظهرت الرؤية في البلاد المتقاربة. أو مطلقا على الخلاف في ذلك، و لوجب الحدّ على من زنى بامرأة ثم ظهر أنها زوجته؛ و لصحّ‌ شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثم ظهر كونه غصبا؛ و لوجب  القضاء و الكفارة على من أفطر يوم الثلاثين من شهر رمضان ثم ظهر كونه من شوّال؛ و لوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا، ثم ظهر كونه ممّن له قتله قودا، و لوجوب العوض على من غصب مالا و تصرف فيه، ثم ظهر كونه له، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع. و اللوازم كلها باطلة اتفاقا. فإن قيل: إن الأحكام المعترض بها هنا إنما صير إليها؛ لقيام الدليل. قلنا: قيام الدليل عليها دليل على أن الاتّفاق واقعا ممّا له مدخل في الذمّ‌ و المدح، و الصحّة و الفساد، كما هو المدّعى. و لا يخفى أن الأحكام الشرعيّة لا تنطبق على الأدلّة العقليّة، بل قد توافقها تارة و تخالفها اخرى. هذا، و أمّا الأخبار المتعلقة بهذه المسألة فهي بحسب الظاهر مختلفة، فممّا يدلّ‌ على المشهور ما رواه في (الكافي) عن يونس عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن عليه السّلام: هل يسع الناس ترك المسألة مما يحتاجون إليه‌؟ فقال: «لا» . و ما رواه في الصحيح عن زرارة و محمد بن مسلم و بريد بن معاوية قالوا: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين في شيء سأله: «إنّما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» . و ما رواه فيه أيضا عن مؤمن الطاق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يسع الناس، حتى يسألوا و يتفقهوا و يعرفوا إمامهم، و يسعهم أن يأخذوا بما يقول و إن كان تقية» .  و في حديث آخر عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أفّ‌ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ‌ جمعة لأمر دينه، فيتعاهده و يسأل عن دينه» . أقول: و التقريب فيها ظاهر، فإنه لو كان الجاهل معذورا مطلقا، لصحّ‌ جميع ما أتى به من العبادات، و حينئذ فيسعه ترك المسألة، و الأخبار مصرّحة بخلافه، فإن المراد بقولهم عليهم السّلام: لا يسع الناس ترك المسألة و ترك التفقه أنه لا تصحّ‌ أعمالهم إلاّ إذا كانت عن معرفة و تفقه و سؤال و فحص. و مما يدلّ‌ على ذلك أيضا الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم و التفقه في الدين. و من تلك الأخبار ما رواه في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: طلب العلم فريضة على كل مسلم » . و ما رواه فيه أيضا عنه عليه السّلام قال: «وددت أن أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقهوا» . و بمضمونهما أخبار عديدة لا يسع المقام الإتيان عليها.

وجه التقريب فيها أن وجوب تحصيل العلم ليس إلاّ العمل به، كما استفاضت به الأخبار، و منها ما رواه في الكتاب المذكور عن علي بن الحسين عليه السّلام قال: «مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لمّا تعملوا بما علمتم؛ فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفرا، و لم يزدد من اللّه إلاّ بعدا» . و حينئذ، فلو كان الجاهل معذورا مطلقا و عباداته و أعماله صحيحة لذلك، لم يكن للأمر بطلب العلم و التفقه في الدين معنى بالكلية.  و ممّا يدلّ‌ على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرّقة في جزئيات الأحكام، فمن ذلك ما ورد في أحكام الحجّ‌، و منه خبر عبد الصمد بن بشير المتقدّم ، و هو - كما عرفت - صريح في المدّعى على أبلغ وجه. و منه صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من لبس ثوبا لا ينبغي (له) لبسه و هو محرم، ففعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو جاهلا فلا شيء عليه، و من فعله متعمدا فعليه دم» . و مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السّلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل، و قد شهد المناسك كلّها، و طاف و سعى، قال: «تجزيه نيّته، و إذا كان قد نوى ذلك فقد تمّ‌ حجّه و إن لم يهل» الخبر. و في باب الحجّ‌ من الأخبار الدالّة على معذوريّة الجاهل، ما يضيق نطاق البيان عن الإتيان عليه. و من ذلك ما ورد في الصيام، كصحيحة الحلبيّ‌ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: رجل صام في السفر فقال: «إن كان بلغه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك، فعليه القضاء، و إن لم يكن بلغه فلا شيء عليه» . و بمضمونها بالنسبة إلى الصيام في السفر بجهالة صحيحة العيص ،

و صحيحة أبي بصير ، و صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري . و من ذلك ما ورد في النكاح في العدّة، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أ هي ممّن لا تحلّ‌ له أبدا؟ قال: «لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها، و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك». فقلت: بأي الجهالتين [يعذر] ؛ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرّم عليه، أم بجهالته أنها في عدّة‌؟ فقال: «إحدى الجهالتين أهون عليه من الاخرى، الجهالة بأن اللّه حرم ذلك عليه، و ذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها». فقلت: فهو في الاخرى معذور؟ قال: «نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوجها» . و بمضمونه روايات عديدة. و من ذلك ما ورد في الحدود، كموثّقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال في رجل شرب خمرا على عهد أبي بكر و عمر و اعتذر بجهله، فسألا أمير المؤمنين عليه السّلام عن حكمه فأمر عليه السّلام من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار، و قال: «من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه» . ففعلوا به ذلك، فلم يشهد عليه أحد، فخلّى عنه.  و مرسلة الحذّاء قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «لو وجدت رجلا كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شيء من التفسير زنى أو سرق أو شرب خمرا لم أقم عليه الحد إذا جهله، إلاّ أن تقوم عليه البينة أنه قد أقرّ بذلك و عرفه» . و بمضمون ذلك في باب الحدود روايات عديدة في سقوط الحدّ عمّن أتى ما يوجبه جهلا

و من ذلك ما ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قالا: قلنا: فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: «إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه» . و رواية منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة، فإن تركه رجل جاهل فليس عليه إعادة» . و روى الصدوق رحمه اللّه في كتاب (التوحيد) بسنده إلى عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّن لا يعرف شيئا، هل عليه شيء؟ قال: «لا» . و روى في (الفقيه) و (التوحيد) في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال  رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رفع عن أمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يطيقون، و ما لا يعلمون، و ما اضطرّوا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة». إلى غير ذلك من الأخبار المتفرّقة في جزئيات المسائل. و ممّا يؤيد ذلك أيضا و يعضده ما دلّ‌ من الأخبار على أنه ما أخذ اللّه على الجهّال أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلّموا. رواه في (الكافي) . و قوله عليه السّلام: «الناس في سعة ما لم يعلموا» . و قوله عليه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» . و قوله: «إن اللّه يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم» . أقول: و يمكن الجمع بين هذه الأخبار المختلفة في هذا المضمار بأن يقال: إنّ‌ الجاهل يطلق تارة على غير العالم بالحكم - و إن كان شاكّا أو ظانّا - و يطلق تارة على الغافل عن الحكم بالكلّيّة. و المفهوم من الأخبار أن الجاهل بالمعنى الأوّل غير معذور، بل الواجب عليه الفحص و التفتيش و السؤال. و مع تعذّر الوقوف على الحكم، ففرضه التوقّف عن الحكم، و الوقوف على ساحل الاحتياط في العمل، و أن الحكم بالنسبة إليه من الشبهات المشار إليها في قولهم: «حلال بيّن و حرام بيّن، و شبهات بين ذلك. فمن وقف عند الشبهات نجا من الهلکات.

و على هذا الفرد تحمل الأخبار الدالّة على وجوب التفقّه و السؤال و العلم. و ممّا يدلّ‌ على رجوع الجاهل بهذا المعنى إلى الاحتياط مع تعذّر العلم، صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا و هما محرمان؛ الجزاء عليهما، أم على كل واحد منهما؟ قال: «لا، بل عليهما أن يجزي كلّ‌ واحد منهما عن الصّيد». قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال عليه السّلام: «إذا اصبتم بمثل ذلك فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» . فإن ظاهر الخبر أن السائل عالم بوجوب الجزاء في الجملة، لكنه متردّد بين كونهما عليهما معا جزاء واحد يشتركان فيه، أو يكون على كلّ‌ واحد جزاء بانفراده، فأمره عليه السّلام بالاحتياط في مثله مع عدم إمكان العلم. و مثله أيضا حسنة يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن امرأة تزوّجت في عدّتها، قال: «إن كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة، فإنّ‌ عليها الرجم». إلى أن قال: قلت: أ رأيت إن كان ذلك منها بجهالة‌؟ قال: فقال: «ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلاّ و هي تعلم أن عليها عدّة في طلاق أو موت و لقد كنّ‌ نساء الجاهلية يعرفن ذلك». قلت: فإن كانت تعلم أن عليها عدّة و لا تدري كم هي‌؟  قال: فقال: «إذا علمت أن عليها عدّة لزمتها الحجة، فتسأل حتّى تعلم [1]» . و أمّا الجاهل بالمعنى الثاني فلا ريب في معذوريّته؛ لأن تكليف الغافل الذاهل ممّا منعت منه الأدلة العقليّة و ساعدتها الأدلة النقليّة، و يشير إلى ذلك قوله عليه السّلام في صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة في التزويج في العدّة و ذلك بأنه: «لا يقدر على الاحتياط معها» يعني: أنه مع جهله أن اللّه حرم عليه التزويج في العدّة، لا يقدر على الاحتياط، لعدم تصوّر الحكم بالكلّيّة بخلاف الظانّ‌ و الشاكّ‌؛ فإنه يقدر على ذلك لو تعذّر عليه العلم. و على هذا تحمل الأخبار الأخيرة، و ربما جمع بينها كما ذكره بعض الأصحاب : بأن الأخبار الاول إنّما دلّت على وجوب الطلب، و لا كلام فيه. و هذا لا يستلزم بطلان عبادة الجاهل مطلقا، و عدم معذوريّته و تأثّمه بفعل ما هو محرّم و ترك ما هو واجب. و احتمل آخرون أيضا في وجه الجمع بينهما حمل الأخبار الأخيرة على صورة عدم إمكان العلم، فوجب الحكم بالمعذوريّة لذلك، و إلاّلزم التكليف بما لا يطاق.

و في هذين الوجهين نظر ظاهر لا يخفى على الخبير الماهر [1]. أمّا الأول منهما، فلما عرفت سابقا من بيان وجه التقريب في ذيل تلك الأخبار. و أمّا الثاني، فلأنه لو اجري في الجاهل بمعنييه المتقدّمين للزم الحكم بالمعذوريّة فيهما، مع أنك قد عرفت دلالة الأخبار على الأمر بالاحتياط، مع تعذّر السؤال في الجاهل بالمعنى الأوّل كما تضمّنه صحيحتا عبد الرحمن، و الكناسي المتقدّمتان. و بالجملة، فالأظهر في وجه الجمع هو الأوّل؛ فإن الأخبار بقضّها و قضيضها [2]  و طويلها و عريضها إنّما تنطبق عليه، و إليه يشير كلام المحدّث الأمين الأسترابادي رحمه اللّه في كتاب (الفوائد المدنية) حيث قال: (الفائدة الثانية: أنه في كلامهم وقع إطلاق الجاهل على غير القاطع بالحكم - سواء كان شاكّا أو ظانّا - و الجاهل بهذا المعنى يجب عليه التوقّف. و وقع إطلاقه على الغافل الذاهل ذهنه عن تصوّر المسألة. و الجاهل بالمعنى الأخير لا يجب عليه الاحتياط، و إلاّ للزم تكليف الغافل) انتهى. إذا عرفت هذا فالمفهوم من كلام المولى الأردبيلي قدّس سرّه هنا هو معذوريّة الجاهل فيما يطابق فعله الواقع، بمعنى أن يأتي بالمأمور به على وجهه واقعا و إن كان عن جهل، و من كلام المحدّث السيّد نعمة اللّه - طاب ثراه - هو المعذوريّة و إن لم يطابق، بمعنى: أن يخلّ‌ ببعض الواجبات، أو يرتكب بعض المنهيات جهلا. و هذا هو المفهوم من الأخبار؛ فإنها قد تضمّنت صحّة صلاة من أخلّ‌ بالجهر و الإخفات جهلا، و من تمّم في موضع القصر أو قصّر في موضع التمام كذلك، و من ترك الإحرام في الحجّ‌، و نحو ذلك. فإن قلت: إن المفهوم من كلام السيّد نعمة اللّه رحمه اللّه الحكم بصحّة صلاة العوامّ‌، بمجرّد كونها مأخوذة من الآباء و الامّهات، و إن اشتملت على ترك شيء من الواجبات، و حينئذ فإذا قام العذر للجاهل في أمثال هذا المحال، لزم سقوط التكليف؛ إذ متى قام العذر للعامي بمجرّد جهله، و صحّت صلاته كصلاة الفقيه العالم بجميع واجباتها و شروطها و أحكامها، و وسعه البقاء على جهله، فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام، و الفصل فيها بين الحلال و الحرام، و إرسال الرسل، و إنزال الكتب، و الحثّ‌ و الزجر على التعلّم و التفقّه، و الفحص و السؤال‌؟ و إلى من تتوجه هذه الخطابات إذا وسع الجاهل البقاء على جهله، و صحّ‌ ما يأتي به موافقا أو مخالفا؟ و في هذا من الشناعة ما لا يلتزمه محصّل. و أخبار لا يسع الناس البقاء على الجهالة ، و حديث تفسير قوله تعالى فَلِلّٰهِ‌ الْحُجَّةُ‌ الْبٰالِغَةُ‌ ، و غيرها صريحة في ردّه مع أنه قد ورد في حسنة زرارة عنه عليه السّلام حين رأى من يصلّي، و لم يحسن ركوعه و لا سجوده أنه قال: «نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتن على غير ديني» . و قد استفاض أيضا عنهم عليهم السّلام: «ليس منّا من استخفّ‌ بصلاته» . و في بعضها: «لا ينال شفاعتنا من استخف بصلاته» . و هي بإطلاقها شاملة للعالم و الجاهل. قلت: القول الفصل و المذهب الجزل في هذا المجال، أن يقال: الظاهر أن الحكم في ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في انسهم بالأحكام، و التمييز بين الحلال و الحرام و عدمه، و قوة عقولهم و أفهامهم و عدمها، و لكلّ‌ تكليف يناسب  حاله، و يرجع ذلك بالآخرة إلى الجاهل بمعنييه المتقدّمين في و ذلك؛ فإن المعلوم أن سكّان الصحارى و الرساتيق ليسوا في الانس بالأحكام و الشرائع كسكّان المدن و الأمصار المشتملة على العلماء و الوعّاظ، و الجمعات و الجماعات، و المدارس، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و نحو ذلك؛ و لهذا نهى الشارع عن سكنى تلك، و ندب إلى سكنى هذه؛ لأنه بمجرد ذلك يحصل التأدّب بالآداب الشرعيّة، و التخلّق بالأخلاق المرضيّة، و الاطّلاع على الأحكام النبوية، بمداخلة أبناء النوع و معاشرتهم، بل مشاهدتهم و رؤيتهم كما لا يخفى على من تأمّل ذلك. و حينئذ فالعامي من سكّان الصحارى، مثلا إذا أخذ العبادة من آبائه و تلقاها من أسلافه على أيّ‌ وجه كان، معتقدا أنها هي العبادة المأمور بها من الشارع، و لم يعلم زيادة على ذلك، فالظاهر صحّتها. أ

أمّا أوّلا، فلأنه جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا، و توجه الخطاب إلى مثله - كما قدّمناه - ممتنع عقلا و نقلا. و أمّا ثانيا، فلأنه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهلي الإمامة من المخالفين بأنهم ممّن يرجى لهم الفوز بالنجاة في الآخرة، فإذا كان ذلك حال المخالفين بالنسبة إلى الإمامة التي هي من اصول الدين، فكيف بعوامّ‌ مذهبنا في الفروع‌؟ و كذا القول بالنسبة إلى قوّة العقل و الفهم و عدمهما؛ فإنّ‌ خطاب كاملي العقول و ثاقبي الأذهان، غير خطاب ناقصيهما؛ فقد ورد عنهم عليهم السّلام: «إنّما يداقّ‌ اللّه العباد على ما وهبهم من العقول» .  و أنه سبحانه «يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم» . و أن الإيمان درجات و أنه لا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ من صاحب الدرجة السافلة و لا يوبخه عليها . و حينئذ، فتكليف ضعفة العقول كالنساء و البلّه و الصبيان ليس كتكليف كاملي العقول و ثاقبي الأذهان. و ممّا يؤكد ذلك أيضا أنه قد ورد في أخبارنا أن المستضعفين من المخالفين ممّن يرجى لهم الفوز بالجنة، و إن دلّت الآية الشريفة على أنهم من المرجئين لأمر اللّه إلاّ إن ظاهر جملة من الأخبار أن عاقبة أمرهم إلى الجنّة ، بل قال شيخنا المجلسي - طاب ثراه - على ما نقله عنه السيد نعمة اللّه رحمه اللّه في بعض فوائده -: (إن المستضعفين و الكفّار ممّن لم تقم الحجّة عليه من عوامهم، و من بعد عن بلاد الإسلام ممّن يرجى له النجاة) . ثم قال السيد رحمه اللّه - بعد نقل ذلك عنه -: (و هذا القول، و إن لم يوافقه عليه الأكثر؛ إلاّ إنه غير بعيد ممن تتبع الأخبار) انتهى. و حينئذ، فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه و أسلافه معتقدا أن هذا هو أقصى ما كلّف به و ما هو مطلوب منه، فالظاهر أيضا صحتها بالتقريب المتقدّم. و أمّا بالنسبة إلى من عدا من ذكرنا، فالظاهر أن جهلهم ليس كجهل اولئك حتّى يكون موجبا للعذر لهم و مصحّحا لعباداتهم، فإنّه لا أقلّ‌ من أن يكونوا بالاطّلاع على من يصحبونه من المصلّين الآتين بالصلاة على وجهها،  و بجملة حدودها، و يشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع الأوقات و الحالات، سيّما في المساجد و الجماعات يحصل لهم الظنّ‌ الغالب - إن تنزّلنا عن دعوى العلم - بأن هذه هي الصلاة المأمور بها من الشارع، و أن ما خالفها و نقص عنها إن لم يكن معلوم البطلان، فلا أقلّ‌ [من] أن يكون مظنونا أو مشكوكا فيه. و حينئذ، فيرجع إلى الجهل بالمعنى الآخر الموجب للفحص و السؤال و التعلّم و استحقاق العقوبة و بطلان العمل مع الإخلال بذلك، كما يدلّ‌ عليه قوله عليه السّلام في حسنة الكناسي: «إذا علمت أن عليها العدّة لزمتها الحجّة، فتسأل حتى تعلم » . و كذا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد ، كما أوضحناه في ذيلها. و ربما يستأنس لذلك أيضا بقول الصادق عليه السّلام في آخر حديث عبد الصمد المتقدّم: «و اصنع كما يصنع الناس» ، و الظاهر حمل الأخبار الأخيرة - أعني:  ما روي عنه من قوله: «نقر كنقر الغراب» الحديث، و قوله عليه السّلام: «ليس منا من استخف بصلاته» ، و نحوهما - على هذا الفرد و إن كان ظاهر الإطلاق العموم. و أمّا قوله قدّس سرّه: (و أمّا الصلاة المأمور بها شرعا ما كان تتفق إلاّ من آحاد العلماء) - انتهى - فإن أراد بالنسبة إلى ما يطلب فيها من الإقبال بالقلب، و الخشوع، و الخضوع، فمسلّم. و لكنه ليس من محلّ‌ البحث في شيء، و إن أراد بالنسبة إلى استكمال الواجبات و خلوها من المبطلات فهو ممنوع أشدّ المنع، و أي إشكال يوجب تعذّر الإتيان بها كذلك بعد معرفة أحكامها المسطورة في كتب الفقهاء اجتهادا أو تقليدا، حتى يتعذّر الإتيان بها إلاّ من آحاد العلماء؟ و أمّا حديث حمّاد، فالظاهر أنه ليس على ما فهمه قدّس سرّه؛ إذ الظاهر من قول الصادق عليه السّلام: «أ تحسن أن تصلي‌؟» ، و توبيخه له لمّا صلّى بين يديه؛ إنّما هو بالنسبة إلى الآداب المستحبّة و الحدود المندوبة، كما هو المحكي في صلاته عليه السّلام، تعليما لحمّاد، فإن مرمى الحكاية إنّما هو بالنسبة إلى الآداب و المستحبّات، كما لا يخفى على من راجع الرواية و إن كان قد سبقه إلى هذا الوهم المولى  الأردبيلي - طاب ثراه - في (شرح الإرشاد) في مبحث الجاهل بالقصر و الإتمام؛ حيث عرض في المقام بحديث حمّاد و هو لا يخلو عن غفلة. تتمة تشتمل على فوائد مهمة.

الفائدة الاولى: الاحتياط إنما يكون عند الجهل بالحكم الشرعي

ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من وجوب الاحتياط على الجاهل بعد فقد العلم إنما هو بالنسبة إلى جاهل الحكم الشرعي؛ إذ لا يخفى أن الجهل إمّا أن يتعلّق بالحكم الشرعيّ‌، أو بجزئيّاته التي هي أفراد موضوعه. و الحكم في الأول: الفحص و السؤال، و مع عدم العلم الوقوف على جادة الاحتياط، كما تقدّم، لما ورد في الآيات و الروايات من وجوب البناء في الأحكام الشرعية على اليقين، كقوله سبحانه أَ لَمْ‌ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ‌ مِيثٰاقُ‌ الْكِتٰابِ‌ أَنْ‌ لاٰ يَقُولُوا عَلَى اللّٰهِ‌ إِلاَّ الْحَقَّ‌ . مع قوله سبحانه إِنَّ‌ الظَّنَّ‌ لاٰ يُغْنِي مِنَ‌ الْحَقِّ‌ شَيْئاً . و من الأخبار ما رواه في (الكافي) عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: ما حق اللّه على العباد؟ فقال: «أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون» . و مثلها ما رواه في الموثق عن هشام بن الحكم . و الأخبار بوجوب الفحص و السؤال في الأحكام الشرعية، و مع عدم حصول  العلم، فالوقوف على ساحل التوقف مستفيضة . نعم، يأتي على مذهب القائلين بحجّية البراءة الأصليّة عدم تحتّم الاحتياط مع فقد العلم و إن استحبّ‌، بل العمل بموجب البراءة الأصليّة. و سيأتي في بعض درر هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى حكم البراءة الأصليّة و بيان عدم حجيّتها. و أمّا الحكم في الثاني، فليس مثل الأوّل في وجوب الفحص و السؤال، بل كثيرا ما ورد في الأخبار في بعض أفراده النهي عن السؤال ، و هو غير منضبط و لا مبنيّ‌ على قاعدة كالأوّل، فربما اعتبر الشارع البناء فيه على الأصل تارة، كالبناء على الطهارة، لما ورد أن «كلّ‌ شيء طاهر، حتى تعلم أنه قذر» . و الأصل هنا بمعنى الراجح الذي هو أحد معانيه، و ربما اعتبر تارة البناء على الظاهر، كما في الحكم بحلّيّة الأشياء و إن علم فيها الحرام لا بعينه لما ورد أن «كلّ‌ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» ، فإن مرجع الحكم بالحلّيّة إلى عدم العلم بكونه محرما و إن كان كذلك في نفس الأمر. و ربما اعتبر البناء على الجهل، كالتزويج في العدّة مع العلم بالتحريم و جهل العدة، فإنه يجوز له التزويج، و لا يجب عليه الفحص و السؤال، و لا الاحتياط؛ و إن كان يقدر عليه، كما أشارت إليه صحيحة عبد الرحمن المتقدمة . أمّا الجهل بأصل التحريم، فهو من قبيل الجهل بالحكم الشرعيّ‌، و هو عذر؛ لكونه جاهلا ساذجا كما تقدّم بيانه. و ربما اعتبر البناء على الظن، كما في القبلة، لما ورد من أنه مع جهلها يتحرى جهده ، و ربما اعتبر البناء على اليقين و القطع كمن فاتته صلاة من الخمس لا يعلمها بعينها، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع، و لو بالترديد فيما اتّفق عدده منها. و بالجملة، فالحكم في متعلّقات الحكم الشرعي غير منضبط على وجه واحد، بل يجب الرجوع في كلّ‌ فرد فرد إلى الأخبار الواردة فيه، و ما تنصّ‌ به في ذلك، و أمّا فيه نفسه فلم يعتبر الشارع فيه إلاّ البناء على اليقين و العلم، و إلاّ فالتوقّف و الاحتياط. نعم، مع الجهل الساذج يحصل العذر، كما عرفت.

 

 

 











فایل قبلی که این فایل در ارتباط با آن توسط حسن خ ایجاد شده است