بسم الله الرحمن الرحیم
علامات الوضع-التبادر
القواعد الفقهیة و الاصولیة
القواعد الاصولیة
الوضع
الذريعة إلى أصول الشريعة، ج1، ص: 13
و أقوى ما يعرف به كون اللّفظ حقيقة «6» هو نصّ أهل اللّغة، و توقيفهم على ذلك، أو يكون معلوما من حالهم ضرورة.
و يتلوه في القوّة أن يستعملوا اللّفظ «7» في بعض الفوائد، و لا يدلّونا على أنّهم متجوّزون بها مستعيرون لها، فيعلم «8» أنّها حقيقة، و لهذا نقول: إنّ «9» ظاهر استعمال أهل اللّغة اللّفظة في شيء دلالة «10» على أنّها حقيقة فيه إلاّ أن ينقلنا ناقل عن هذا الظّاهر.
****************
معارج الأصول ( طبع جديد )، ص: 79
المسألة الثانية: فيما يفصل به بينهما
. و هو إمّا بنصّ أهل اللّغة- بأن يقولوا: هذا حقيقة و ذاك مجاز- أو بالاستدلال بعوائدهم «3»، كأن يسبق إلى أذهانهم- عند سماع اللّفظ- المعنى من دون قرينة.
و هاهنا فروق أخر «4»:
الأوّل: الاطراد في فائدتها، دلالة على كون اللّفظ حقيقة في تلك الفائدة.
الثاني: صحّة التصرّف، كالتثنية و الجمع، دلالة على الحقيقة.
الثالث: استعمال أهل اللّغة، دلالة عليها أيضا.
__________________________________________________
(1 و 2) المعتمد: 1/ 11، المحصول: 1/ 286.
(3) في هامش الحجرية: (أي: عاداتهم). و في ه: (بفوائدهم). و قد وقع التعبير بكليهما في كتب اصول الفقه، ففي: المعتمد: 1/ 25؛ التعبير بالعادات، و في:
الذريعة: 1/ 13؛ التعبير بالفوائد.
(4) المعتمد: 1/ 26- 27، العدّة: 1/ 38- 39.
معارج الأصول ( طبع جديد )، ص: 80
الرابع: تعليق اللّفظة بما يستحيل تعلّقها به، دلالة على المجاز، كقوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ «1».
و في الكلّ نظر «2».
مبادي الوصول إلى علم الأصول، ص: 80
و يعلم كون اللفظ حقيقة و مجازا [2]: بالنصّ من أهل اللغة [3]، و مبادرة المعنى إلى الذهن في الحقيقة [4]، و استغنائه عن القرينة، و بضدّ ذلك في المجاز، و بتعلّقه بما يستحيل تعلّقه عليه [5]
****************
الفوائد الحائرية، ص: 324
افعل تستعمل في معان مختلفة شتّى، و من شدّة الخلط وقع النزاع بين أرباب المعرفة، فقال كلّ طائفة منهم بقول إلى أن تحقّق أقوال كثيرة، و هكذا بالقياس إلى كثير من الألفاظ فلا بدّ من معرفة أمارات الحقيقة و المجاز و هي متعدّدة:
الأولى: نصّ الواضح و إن كان بقوله: اسم لكذا، فإنّ الظّاهر منه أنّه حقيقة فيه، أو يذكره مقدّما على سائر المعاني، لبعد أن يكون الجميع مجازات أو المجاز مقدّما، فتأمّل.
الثانية: التبادر: إمّا مطلقا، أو من حيث الإرادة على الخلاف. مثلا:
«المشترك» على الأوّل: جميع معانيه متبادرة على الاجتماع، و على الثاني:
جميعها متبادرة على سبيل البدليّة، و لا ثمرة بينهما. و علامة المجاز: عدم التّبادر.
و ربّما جعل علامة الحقيقة عدم تبادر الغير، و علامة المجاز تبادر الغير.
و اعلم أنّه من المسلّمات أنّ المطلق ينصرف إلى الأفراد الشّائعة، فيكون غيرها غير متبادر، مع أنّه من الأفراد الحقيقيّة، لا المجازية، لعدم صحّة السّلب، مع أنّه من المسلّمات.
و يمكن أن يقال: التبادر على صورتين:
الأولى: انّه هو المراد لا غير و أنّه المعنى ليس إلاّ، و هذا علامة كون المعنى بهذا النّحو حقيقة، فيكون عدم هذا التّبادر علامة المجاز.
و الثانية: تبادر الفرد الشائع من الأفراد، لا أنّه «1» المعنى الحقيقي ليس
__________________________________________________
(1) في الأصل: أنها.
الفوائد الحائرية، ص: 325
إلاّ، بل غير الشّائع في محلّ الشكّ، فعدم التبادر بهذا المعنى ليس علامة المجاز، لكن هذا لا يخلو عن إشكال ظاهر.
و أولى من هذا أن يقال: عدم التّبادر علامة المجاز إن لم يمنع مانع مثل أنّه ثبت من الواضع نصّ على كونه حقيقة، و مثل عدم صحّة السلب، و غير ذلك.
و اعلم أنّ تبادر كلّ قوم علامة الحقيقة في اصطلاحهم فقط، فلو كان يتبادر من كلام اللّغة مثلا معنى في عرفنا فلا يدلّ على أنّه حقيقة لغة، بل حقيقة في عرفنا.
نعم لو لم نجد له معنى حقيقيا سواه فالأصل عدم التعدّد، فيكون معنى حقيقيا لغويّا أيضا. و إن وجد له معنى حقيقي آخر فلا ينفع التبادر لإثبات غير عرفنا. و من لم يفرّق بين المقامين وقع منه خلط، فلا يعرف الاصطلاحات الحادثة، و لا يفرّق بينها و بين اصطلاحات زمان المعصوم عليه السلام و غيرها من الاصطلاحات القديمة، و يخبط خبطا كثيرا كما مرّ الإشارة إليه.
الثالثة: صحّة السّلب للمعنى المجازي، و عدمها للمعنى الحقيقيّ و هذه أيضا بالنسبة إلى عرفنا كسابقتها.
و أورد عليها أنه إن أريد صحّة سلب جميع المعاني فهو فاسد، و إن أريد المعنى الحقيقي، ففيه دور واضح.
و الجواب عنه: أنّا نريد سلب ما يستعمل فيه اللّفظ المجرّد من القرينة و ما يفهم منه كذلك عرفا، إذ لا شكّ في أنّه يصحّ عرفا أن يقال للبليد: إنّه ليس بحمار، و لا يصحّ أن يقال: ليس برجل أو ببشر أو بإنسان. و الحاصل أنّ الصحّة العرفيّة و عدمها العرفيّ أمارتان.
الفوائد الحائرية، ص: 326
الرّابعة: الاطراد للحقيقة، و عدم الاطراد للمجاز، فإنّه يقال: «اسأل القرية»، و لا يقال: «اسأل البساط»، بخلاف «اسأل زيدا و عمراً» و هكذا كلّ من يكون قابلا للسؤال عنه حقيقة. و عدم إطلاق السّخي و الفاضل على «اللّه»: إمّا من جهة أنّ أسامي اللّه تعالى توقيفيّة، أو من جهة أنّهما موضوعان لمن هو من شأنه البخل أو الجهل. و كذا الكلام في القارورة، فإنّه منقول إلى ما هو مقرّ، و يكون زجاجا.
****************
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 56
قانون طرق معرفة الحقيقة و المجاز
اعلم أنّ الجاهل بكلّ اصطلاح و لغة، إذا أراد معرفة حقائق ألفاظه و مجازاته فله طرق «1»:
الأوّل: تنصيصهم بأنّ اللّفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني،
و أنّ استعماله في الفلاني خلاف موضوعه.
الثاني: التبادر
و هو علامة الحقيقة، كما أنّ تبادر الغير علامة المجاز.
و المراد بالتبادر أنّ الجاهل بمصطلح هذه الطائفة إذا تتبّع موارد استعمالاتهم و محاوراتهم، و علم من حالهم أنّهم يفهمون من لفظ خاصّ معنى مخصوصا بلا معاونة قرينة حالية أو مقالية «2»، و لو كان شهرة في الاستعمال في المعنى الغير الموضوع له، و عرف أنّ ذلك الفهم من جهة نفس اللّفظ فقط، يعرف أنّ هذا اللّفظ موضوع عندهم لذلك المعنى و ينتقل إليه انتقالا إنّيا «3» فيكون التبادر معلولا للوضع.
__________________________________________________
(1) قيل: إنّ الفرق بين الدليل و الأمارة و الطريق، هو أنّ الدليل ما يكون الشيء منه مقطوعا و الأمارة ما يكون الشيء منه مظنونا و الطريق يعمهما، و يمكن لهذا اختار الطريق عليهما، و قد يطلق بعضها على بعض مجازا.
(2) أي بلا مساعدة قرينة حالية أو مقالية أي في الحال أو المقال.
(3) الدليل الإني هو الانتقال من المعلول الى العلّة، في مقابل الدليل اللّمي الذي هو الانتقال من العلّة الى المعلول. و وجه التسمية هو انّ الحدّ الأوسط في القياس إنّما يسمى حدا أوسط لكونه واسطة في التصديق بالنتيجة، و هو مع ذلك ان كان واسطة في النسبة الايجابية أو السلبية أي علّة لها يسمى البرهان حينئذ البرهان اللمّي لدلالته على ما هو لمّ الحكم و علّته و ذلك كتعفن الأخلاط في قولك هذا متعفّن الأخلاط و كل-
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 57
و أمّا العالمون بالأوضاع، فلا يحتاجون إلى إعمال هذه العلامة إلّا من جهة إعلام الجاهل.
و لمّا كان استناد الانفهام إلى مجرّد اللّفظ و عدم مدخلية القرينة فيه أمرا غامضا لتفاوت الأفهام في التخلية و عدمه، و تفاوت القرائن في الخفاء و الوضوح «1»، فمن ذلك يجيء الاختلاف في دعوى التبادر من الأجانبة «2» بالاصطلاح المذكور.
فقد يكون الانفهام عند أهل هذا الاصطلاح من جهة القرائن الخفيّة، و يدّعي الغافل التبادر بزعم انتفاء القرينة، و يدّعي خصمه المتفطّن التبادر في معنى آخر، و هكذا.
و لذلك أوجبوا استقراء غالب موارد الاستعمال ليزول هذا الاحتمال، فالاشتباه و الخلط؛ إمّا لعدم استفراغ الوسع في الاستقراء «3»؛ و إمّا لتلبيس الوهم و إخفاء القرينة على المدّعى، و لذلك قالوا: إنّ الفقيه متّهم في حدسه بالنسبة الى العرف و إن كان هو من أهل العرف، لكثرة و فور الاحتمالات و غلبة مزاولة المتخالفة من الاستعمالات مع ما يسنحه من المنافيات «4» من جهة الأدلّة العقلية و النقلية،
__________________________________________________
- متعفّن الاخلاط محموم فهذا محموم. و إن لم يكن واسطة في ثبوت النسبة في نفس الامر فالبرهان يسمى البرهان الإني حيث يدل على إنيّة الحكم خاصة، و تحققه في الواقع دون علّيته في الذهن سواء كانت الواسطة حينئذ معلولا للحكم كالحمى في قولنا زيد محموم و كلّ محموم متعفّن الاخلاط فزيد متعفّن الاخلاط، هذا كما في حاشية الميرزا موسى.
(1) إذ إنّ فهم العوام خال عن الأدلّة الخارجية بخلاف العلماء، و تفاوت القرائن لأنّ بعضها خفيّة و بعضها واضحة.
(2) أي صادرة تلك الدعوة من الغافل الجاهل بالاصطلاح المذكور.
(3) لعدم بذل تمام الطاقة في التتبع.
(4) يعرضه من المنافيات.
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 58
فلذلك قد يدّعي أحدهم أنّ الأمر بالشيء لا يدلّ على النّهي عن ضدّه الخاص عرفا بأحد من الدّلالات «1» كما هو الحقّ، و يدّعي آخر دلالته لما التبس عليه الأمر من جهة الأدلّة العقلية التي قرّبت إليه مقصوده.
و كذلك في مقدّمة الواجب، فلا بدّ أن يرجع الى عرف عوامّ العرب، فإنّهم هم الّذين لا يفهمون شيئا إلّا من جهة وضع اللّفظ، فالفقيه حينئذ كالجاهل بالاصطلاح و إن كان من جملة أهل هذا الاصطلاح.
و بالجملة، لا بدّ من بذل الجهد في معرفة أنّ انفهام المعنى إنّما هو من جهة اللّفظ لا غير.
و بما ذكرناه «2»؛ يندفع ما يتوهّم، أنّ التبادر كما هو موجود في المعنى الحقيقي. فكذلك في المجاز المشهور، فلا يكون علامة للحقيقة و لا لازما خاصّا لها، بل هو أعمّ من الحقيقة.
و توضيح ذلك: أنّ المجاز المشهور، هو ما يبلغ في الاشتهار بحيث يساوي الحقيقة في الاستعمال أو يغلبها [يغلب]، ثمّ إنّ الأمر فيه الى حيث يفهم منه المعنى بدون القرينة، و يتبادر ذلك حتّى مع قطع النظر عن ملاحظة الشهرة أيضا، فلا ريب أنّه يصير بذلك حقيقة عرفيّة كما ذكرنا سابقا، و هذا أيضا وضع، فالتبادر كاشف عنه، و إن لم يكن كذلك، بل كان بحيث يتبادر المعنى بإعانة الشّهرة و سببيّته و إن لم يلاحظ تفصيلا «3»، و هو الذي ذكره الأصوليّون في باب تعارض الأحوال.
__________________________________________________
(1) الدلالات الثلاث.
(2) من أنّ التبادر بلا قرينة هو علامة الحقيقة بخلاف التبادر مع القرينة و لو كانت قرينة الشهرة كما مرّ الاشارة إليه، فإنّ ذلك التبادر علامة المجاز.
(3) بمعنى انّ سبب التبادر هو الشهرة، و المراد بالملاحظة التفصيليّة هو أن يلاحظ المعنى الحقيقي أوّلا ثم المعنى المجازي ثانيا ثم العلاقة و المناسبة بينهما ثالثا.
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 59
و اختلفوا في ترجيحه على الحقيقة المرجوحة في الاستعمال «1».
فالحقّ، أنّ هذا مجاز، و التبادر الحاصل في ذلك ليس من علائم الحقيقة، و الذي اعتبر في معرفة الحقيقة هو التبادر من جهة اللّفظ مع قطع النظر عن القرائن، و إن كانت القرينة هي الشّهرة، و الموجود فيما نحن فيه إنّما هو من جهة القرينة.
و بعد ما بيّنا لك سابقا «2»، لا مجال لتوهّم أن يقال إنّ الجاهل بالاصطلاح إذا رأى أنّ أهل هذا الاصطلاح يفهم من اللّفظ هذا المعنى، و لا يظهر عليه أنّ ذلك من جهة الشهرة أو من جهة نفس اللّفظ فينفي القرينة بأصل العدم و يحكم بالحقيقة مع أنّه في نفس الأمر مجاز، فالتبادر لا يثبت الحقيقة فقط، و ذلك لأنّ أصل العدم لا يثبت إلّا عدم العلم بالقرينة، و ما ذكرنا مبنيّ على لزوم العلم بعدم القرينة حتّى يختص بالحقيقة، هذا إذا قلنا بلزوم تحصيل العلم في الأصول.
و أمّا على القول بعدمه «3» كما هو الحق و المحقّق، فهذا الظنّ الحاصل من الأصل مع التتبّع في محاورات أهل ذلك الاصطلاح يقوم مقام العلم كما في سائر المسائل الأصولية و الفقهية و غيرها «4». فاعتقاد كونها حقيقة مع كونها مجازا في
__________________________________________________
(1) فمنهم من قال بتقديم الحقيقة على المجاز المشهور كأبي حنيفة كما في «المحصول» 1/ 189، و منهم من قال بالعكس كأبي يوسف، كما في «المحصول» في المسألة العاشرة في المجاز و توقف الأكثر عن حمل اللّفظ على شيء منهما، و منهم صاحب «المعالم» في صيغة افعل ص 116. و سيشير المصنف الى هذا الاختلاف.
(2) من لزوم التخلية و الاستقراء.
(3) بعدم لزوم تحصيل العلم في علم الاصول و حينئذ يكفي التبادر الفقاهتي و هو التبادر المظنون استناده الى نفس اللّفظ مع انضمام أصالة عدم القرينة، فلا يكون علامة لأنّه يعمل بظنّه و ربما يكون في الواقع مجازا.
(4) المراد من سائر معنى الجميع و ان كان قليل الاستعمال في هذا المعنى مأخوذا من-
القوانين المحكمة في الأصول ( طبع جديد )، ج1، ص: 60
نفس الأمر غير مضرّ، مع أنّ هذا لا يتصوّر إلّا في فرض نادر كما لا يخفى، فلا يوجب القدح في القواعد المبتنية على الغالب.
و ينبّه على ما ذكرنا «1»، البناء على أصالة الحقيقة فيما لم يظهر قرينة المجاز، و إن كان المراد هو المجاز في نفس الأمر.
*****************
الفصول الغروية في الأصول الفقهية، ص: 33
لا يقال مجرد التبادر في الموارد مع عدم مصادفة القرينة لا يستلزم الحقيقة لجواز أن يكون التبادر لقرينة خفية لازمة للفظ كما في المجاز المشهور لأنا نقول لما كان المدار في إثبات وضع الألفاظ على الظن غالبا فمثل هذا الاحتمال لندرته لا يورث الوهن فيه فإن الظن إنما يلحق الشيء بالأعم الأغلب و مما يرشد إلى ذلك أن أعظم طرق اللغويين في تميز المعاني الحقيقية عن المجازية هو هذه العلامة على ما هو الظاهر و ظاهر أن هذا الاحتمال قل أن لا يتطرق إليها فلو كانوا يلتفتون إليه لما حصل لهم التميز في معظم الألفاظ و لك أن تتمسك أيضا في نفي القرينة بأصالة عدمها لأنها لم تكن قبل الاستعمال فالأصل بقاؤها على العدم و لا يشكل بأن الأصل مما يصح تخلفه عن مقتضاه لقيام أمارة عليه بخلاف العلامة فإنها عبارة عن الخاصة و هي لا تتخلف لأن الأصل على ما قررنا طريق إلى العلم بتحقق العلامة و ليس بها و لا منها فصحة التخلف متطرقة إلى طريق العلامة لا إلى نفسها فلا إشكال و من هنا يتبين أن الأصل في التبادر أن يكون وضعيا فيبنى عليه إلى أن يتبين كونه إطلاقيا أو بمعونة قرينة أخرى
**************
شهید صدر
بحوث في علم الأصول، ج2، ص: 211
الأمر السابع علامات الحقيقة و المجاز
ذكروا ثلاث علامات للحقيقة: التبادر، و صحة الحمل، و الاطراد.
العلامة الأولى: التبادر
قيل في تقريب كون التبادر علامة على الحقيقة: بأن انسباق معنى مخصوص عند سماع لفظ مخصوص، لا بد و أن ينشأ من أحد سببين: أن يكون اللفظ موضوعا لذلك المعنى، أو تكون هناك قرينة خاصة أو عامة تدل على ذلك المعنى.
أما إذا لم يكن وضع و لا قرينة، فلا معنى للانسباق، لأن دلالة الألفاظ على معانيها ليست دلالة ذاتية، بل دلالتها بالجعل، و هذا الجعل عبارة عن الوضع أو القرينة. فإذا حصل التبادر من حاق اللفظ في مورد علم فيه عدم القرينة، يستكشف بالإن وجود الوضع من باب كشف العلة من وجود المعلول، حيث لا موجب لهذا الانسباق و التبادر، إلا الوضع فيكشف عنه.
و قد اعترض على هذه العلامة بلزوم الدور، لأن معنى كون التبادر علامة على الحقيقة، أن العلم بالوضع بتوقف على التبادر، لأن العلم بذي العلامة يتوقف على حصول العلامة، فما لم تحصل العلامة لا علم بذيها. و التبادر متوقف على العلم بالوضع، لأن من كان جاهلا بالألفاظ و معانيها، لا يتبادر إلى ذهنه المعنى الحقيقي من اللفظ، فيكون هذا دورا.
بحوث في علم الأصول، ج2، ص: 212
و قد أجاب عن ذلك صاحب الكفاية «1» (قده) بالتمييز بين العلم المتوقف على التبادر، و العلم الذي يتوقف عليه التبادر، فادعى أن العلم الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع، و العلم الذي يتوقف عليه التبادر هو العلم الارتكازي بالوضع؛ فهذان نحوان من الوجود لهذا العلم: وجود إجمالي مقترن مع الغفلة، و وجود بارز ظاهر لا يتلاءم مع الغفلة، و حينئذ المتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي البارز. و أما التبادر فلا يتوقف على العلم التفصيلي بالوضع، بل يكفي فيه العلم بالوضع بوجوده الإجمالي الارتكازي. إذن فالمتوقف على التبادر غير ما هو متوقف عليه التبادر، فلا دور في المقام.
و هذا الجواب لا محصل له، لأن المقصود من التبادر إما تحصيل أصل العلم بالوضع، و إما مجرد تبديل العلم من كونه إجماليا إلى كونه تفصيليا.
فإن كان المقصود بالتبادر هو الأول: فإشكال الدور محكم في المقام، لأن أصل العلم بالوضع لا بد من فرض وجوده قبل التبادر، و لو بنحو ارتكازي كيما يكون سببا في إيجاد التبادر، فكيف يعقل تحصيل أصل العلم بالوضع بهذه العلامة؟.
و إن كان المقصود بالتبادر هو الثاني: فهذا يحصل بمجرد الاستعلام، و التوجه إلى تحويل العلم الارتكازي إلى علم تفصيلي، بلا حاجة إلى أن يطلب ذلك بالتبادر. فالذي يريد أن يحول علمه الارتكازي إلى علم تفصيلي بالوضع، فبهذه الإرادة، و بمجرد، الالتفات و التوجه إلى ذلك، يحصل لديه المطلب، بدون أن تصل النوبة إلى التبادر.
و لكن الصحيح: إن إشكال الدور في المقام لا أساس له أصلا، لأنه مبني على التصورات المتعارفة في باب الوضع، من كون الوضع هو الجعل
__________________________________________________
(1) حقائق الأصول ج 1 ص 42- 43.
بحوث في علم الأصول، ج2، ص: 213
و الاعتبار، فيوجب انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى للعالم به، و يقال حينئذ: بأن المستعلم قبل أن يعلم بهذا الجعل، لا ينتقل ذهنه إلى هذا المعنى، و بعد علمه به لا حاجة إلى علامية التبادر في المقام.
و لكنبناء على مبنانا في حقيقة الوضع لا يتأتى إشكال الدور أصلا، لأننا قلنا في حقيقة الوضع: إنه القرن الأكيد الشديد بين اللفظ و المعنى، و حينئذ من الواضح أن القرن بنفسه يكون سببا في التبادر، قبل أن يحصل العلم بالوضع، و يمكن معرفة ذلك بالالتفات إلى الطفل حيث يحصل عنده التبادر من لفظ (حليب) إلى المعنى المخصوص، مع أن الطفل لا علم له بالوضع.
و نقول: بأن العلم بالوضع يتوقف على أن يكون هناك انسباق و تبادر للمعنى من اللفظ. و أما التبادر لا يتوقف على العلم بالوضع، بل على روح الوضع، و هو القرن، فلا أساس لإشكال الدور. و هذا كله فيما إذا فرض أن علامة التبادر لوحظت بالنسبة إلى الجاهل المستعلم.
و أما إذا قلنا: بأن التبادر عند العالم إمارة على الوضع عند الجاهل، فهذا خارج عن محل الكلام، و داخل في الإطراد، فعلامة التبادر معقولة، لكن ليس بالتقريب الابتدائي المذكور، من أن التبادر و الانسباق له علتان: إما الوضع، و إما القرينة. فحيث لا قرينة يكشف التبادر كشفا إنيا عن الوضع، من باب كشف المعلول عن العلة، بل الانسباق إلى ذهن المستعلم له ثلاث علل و توضيح ذلك:
إن الوضع روحه القرن، و هذا القرن على نحوين: شخصي و نوعي، فتارة يكون القرن بين اللفظ و المعنى في ذهن زيد قرنا شخصيا لمناسبات شخصية، و أخرى يكون قرنا نوعيا اجتماعيا بحيث يكون اللفظ مقرونا مع المعنى في ذهنه، لا باعتبار خصوصية في زيد، بل باعتبار أنه أحد أبناء اللغة و العرف. و هذا القرن النوعي هو ميزان الحجية و الفهم في مقام استخراج المعاني من الألفاظ.
بحوث في علم الأصول، ج2، ص: 214
و كل من القرنين يولد الانسباق و التبادر إلى الذهن، و الوضع المطلوب إثباته بالعلامة، إنما هو القرن النوعي، لأننا بالوضع نريد أن نعين مراد المتكلم، لان القرن النوعي يستتبع ظهورا نوعيا، بينما القرن الشخصي يستتبع ظهورا شخصيا، و موضوع وجوب العمل هو الظهور النوعي.
فالتبادر ينشأ من أحد أمور ثلاثة: إما من القرينة، و إما من قرن أكيد نوعي بين اللفظ و المعنى و هو الوضع، و إما من قرن شخصي. و حينئذ في مقام إثبات علامة التبادر و استكشاف الوضع، لا بد من نفي الطرفين الأخيرين، و هما: القرينة و القرن الشخصي. أما احتمال نشوء التبادر من القرينة، فلا بد في نفي ذلك من الفحص عن كل ما يكتنف اللفظ من حال أو مقال، فإن حصل الجزم بعدم وجود القرينة بسبب الفحص فهو، و إلا فلا يمكن إثبات الوضع و نفي القرينة المشكوكة بأصالة عدم القرينة لما تقدم من أن أصالة عدم القرينة من الإمارات العقلائية المتعبد بها فقط في طريق معرفة مراد المتكلم.
و لا يسري التعبد، للوصول إلى الوضع اللغوي، و هنا ليس المراد بأصالة عدم القرينة تشخيص مراد المتكلم، فإن مراده معلوم بالتبادر. و إنما المراد تشخيص الوضع و تعيينه، و هذا مما لا يقبله أصالة عدم القرينة. إذن فلا بد من الجزم بعدم القرينة، و إلا بطلت علامية التبادر.
و أما احتمال نشوء التبادر من القرن الشخصي في شخص زيد بالخصوص، فيمكن نفيه بالفحص و التأمل في حياتنا، لنتأكد من عدم وقوع أمر يؤثر في ذلك، و يمكن نفيه أيضا بالأصل العقلائي، فإن السيرة العقلائية منعقدة في المقام على أصالة التطابق بين الظهور الشخصي، و الظهور النوعي- بين التبادر الشخصي، و التبادر النوعي-. فالعقلاء يجعلون الظهور الشخصي إمارة على الظهور النوعي، و يجعلون التبادر النوعي إمارة على الوضع بحيث يثبت به مراد المتكلم. فهذا الاحتمال الثاني يمكن نفيه بالأصل العقلائي، بمعنى جعل التبادر الشخصي إمارة عقلائية على نوعية التبادر، و بهذا تتم علامية التبادر.
****************
الحاشية على كفاية الأصول، ج1، ص: 55
(2) (قوله: لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ .. إلخ.) يمكن الاستشكال بأن هذا عين الوضع لا علامة له، إذ هو نفس دلالة
الحاشية على كفاية الأصول، ج1، ص: 56
اللفظ على المعنى، و حيثية الوضع الذي يراد العلم به بهذه العلامات ليست إلا حيثية الدلالة، إذ ليس المراد به هنا التعييني الذي هو فعل لفاعل مختار، و إلا لما دلت عليه، و لا فائدة في تحصيله أيضا، بل الأعم منه و من التعيني، و الجامع ليس إلا كونه بحيث يفهم منه المعنى كما لا يخفى.
إن قلت: من المشهورات أن التبادر موقوف على العلم بالوضع، و يشهد عليه أن ألفاظ كل لغة إنما يتبادر معانيها منها عند أهل اللغة لا غيرهم، و هذا ينافي ما ذكرت من أن التبادر عين الوضع.
قلت: الذي يشهد عليه الوجدان أن التبادر في كل زمان، و في أذهان آحاد كل قوم ينشأ من المخالطة مع من يتبادر عندهم هذا المعنى، فينتهي منشأ التبادر في أهل كل زمان إلى التبادر عند من قبلهم، و هكذا إلى أن ينتهي إلى الوضع التعييني من شخص أو من كثرة الاستعمال بتأول و مع قرينة إلى أن استغنى عنهما، فإن أريد بالوضع الذي جعل العلم به مقدمة للتبادر ما ينتهي إليه منشأ التبادرات المتدرجة، فكثيرا ما لا يخطر ببال من يتبادر عنده في الأزمنة المتأخرة، و إن أريد به التبادر عند أهل الزمان السابق، فهو عين الإشكال.
الحجة في الفقه، ص: 49
المقرر: حائری یزدی، مهدی
التبادر:
و من علائم الحقيقة التبادر و هو من أهم علائم الوضع و يقال إنه المائز الأهم بين الحقيقة و المجاز إلا أن مقتضي التحقيق خلافه، لأن التبادر هو نفس الوضع بالمعنى الذي قلناه في حقيقة الوضع من أنه جعل اللفظ بحيث إذا سمع يفهم منه المعنى و قد عبرنا عن ذلك بالدلالة الشأنية و التبادر هو الانتقال الذهني و الانتقال الذهني من اللفظ إلى المعنى ليس إلا الدلالة الشأنية و هي عين الوضع فالتبادر هو الوضع لا أنه من علائم الوضع. «1»
و بما ذكرنا من إنكار علامية التبادر للوضع يظهر أنه لا وجه لإشكال الدور و الجواب عنه أصلا، لكنه لا بأس بتقرير الإشكال و الجواب حتى يتضح الأمر على المتعلمين. فنقول:
__________________________________________________
(1)- هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ في درسه إلا أن الذي يخطر بالبال هو أن التبادر فعلية الدلالة و الوضع كما بنى عليه سيدنا الأستاذ في محله هو شأنية الدلالة و المراد بفعليتها هو نفس الانتقال الذهني فعلا الذي يعبر عنه بالتبادر فمن الممكن أن يكون فعلية الشيء من علائم شأنيته كما لا يخفى و أوردنا هذا الإشكال في درسه الشريف فما وفقت للجواب. (المقرر)