تعارض الادله و اختلاف الحدیث-مولف: آیت الله سید علی سیستانی تقریر سید هاشم هاشمی گلپایگانی، ص 272
وهنا يلزم البحث عما وعدنا الحديث عنه في الجهة الثانية، وهو مدى تأثير التقية في بروز ظاهرة اختلاف الأحاديث، فهل إنها أكثر تأثيراً من سائر الأسباب ، ام إن دورها ضئيل وليس بذلك التصور الكبير عنها ؟ وهل توجد في كتب الحديث والروايات
الموجودة بأيدينا روايات صدرت من باب التقية أم لا؟.
ذکر صاحب الحدائق في مقدمة الكتاب ما يدل على التأثير الكبير للتقية في اختلاف الأحاديث: ( ولعل بمؤونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية بعد العرض على
الكتاب أقوى المرجحات ؛ فإن جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل
والتحقيق إنما نشأ من التقية).
وقال الشيخ الأنصاري بعد ذكره هذا الكلام في رسائله حيث يظهر منه عدم تأثير
التقية كثيراً في اختلاف الأحاديث: (الذي يقتضيه النظر - على تقدير القطع بصدور
جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهمه بعض الأخباريين أو الظن بصدور جميعها إلا
قليلاً في غاية القلة كما يقتضيه الإنصاف فيمن اطلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها
(۱) الحدائق ۸:۱
تعارض الأدلة واختلاف الحديث | ۲۷۳
هو أن يقال: إن عمدة الاختلاف إنما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر من الأخبار، إما لقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار أو نقلها بالمعنى، أو منفصلة من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين، أو مقالية اختفت بالانطماس، وإما بغير القرينة المصلحة يراها الإمام (عليه السلام) تقية على ما اخترناه من التقية على وجه التورية أو غير التقية من المصالح الأخر. فالمسألة كما نلاحظها عند العلماء على طرفي نقيض، وقد سبق الشيخ على إنكاره تأثير التقية في ظاهرة اختلاف الحديثاو ان مخالفة العامة ليست من المرجحات ، او ان احتمال التقية ليس اقوى الاحتمالات والعوامل التي دعت الصدور الروايات المختلفة، وذهب لهذا الرأي الشيخ المفيد ، والمحقق الحلي ، قال المحقق في معارجه: (المسألة التاسعة : قال الشيخ (قدس سره): إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما عن قول العامة والظاهر أن احتجاجه بذلك برواية رويت عن الصادق ( عليه السلام) وهو إثبات المسألة علمية بخبر واحد، ولا يخفى ما فيه، مع انه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.
فإن احتج بأن الأبعد لا يحتمل إلا الفتوى، والموافق للعامة يحتمل التقية فوجب الرجوع الى ما لا يحتمل مخالفته للواقع. قلنا: لا نسلم أنه لا يحتمل إلا الفتوى لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام فكذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل مراعاة المصحلة يراها ويعلمها الإمام). ولعل مراده من قوله: (ولا يخفى ما فيه): أن المسألة الأصولية المهمة التي تتفرع عنها الفروع والاحكام لا تثبت بخبر الواحد برأي المحققلان الخبر الواحد في امثال هذه المسائل يلزم ان يلاحظ مضمونياً ، لان مستند
(۱) فرائد الاصول ۲: ۸۱۰
(٢) المعارج : ١٥٦ .
| ۲۷۸
من الشيعة ، وذلك لان الائمة ( عليهم السلام ) لظروفهم ومهامهم الخاصة، كبعض زعماء الملل والنحل ، قد تصدر منهم بعض الاقوال تقية ، لاسباب مختلفة ، وفي بعض الظروف لدرء بعض الشبهات عنهم وغيرها ، ولكن لا ينقلها عادة خواص الائمة (عليهم السلام) وبطانتهم ، الذين يعرفون اسس تفكيرهم ومبادئهم، فاذا ذكر الامام (عليه السلام) كلاما من باب التقية، أو نقل اليهم ، فانهم سرعان ما يعرفون صدوره من باب التقية، كما في الرواية السابقة حول ارث البنت للنصف ، حيث قالوا له (اتقاك)؛ بل ربما يعرف ذلك اكثر الشيعة لا خصوص الخواص، وهذه المقولة اعطاك من جراب النورة - كانت مشهورة، ولكن ربما ينقلها بعض الضعاف من الشيعة أو اعدائهم ، كما لو ارادوا التهجم على الشيعة ، وانهم ينسبون انفسهم للائمة ( عليهم السلام) دون مستند ، وهم يخالفون في اقوالهم وافعالهم ائمتهم (عليهم السلام) ، لذلك ربما نقلوا عن الائمة ( عليهم السلام) بعض الروايات التي يلاحظ فيها المخالفة لما هو الشائع عند الشيعة ، او لما فيه التجاوب مع مخالفيهم كمدح بعض الخلفاء او الانتساب اليهم ، التي ربما نطق بها الامام (عليه السلام) من باب التقية ، دفعا لبعض الاضرار عنه أو عن الشيعة ومبادئهم ، ولسكن الخواص بل وغيرهم ، وخاصة في تلك الفترة ، يعرفون انها صدرت من باب التقية ، وكلامنا انما في تلك الروايات التي ينقلها الثقات أو الخواص من الشيعة، لا من غيرهم ، فكيف
ينقلون او يدونون ما صدر تقية بهذه الكثرة المدعاة.
ثم إن الرواة كانوا يعرضون رواياتهم وأحاديثهم على كبار الفقهاء، كما عرض عمر
بن أذينة الروايات التي سمعها من جماعة على زرارة ، وطلب منه أن يعين الحق منه ومع هذه الدقة فلم يدونوا أمثال هذه الروايات الصادرة تقية بعنوان كونها من فتاوى
تعارض الأدلة واختلاف الحديث | ۲۷۹
الأئمة ( عليهم السلام)، وإذا دونوها فلأجل التنبيه على وقوع مثل هذا الحدث تاريخياً،
لا من باب أنها فتاوى الأئمة ( عليهم السلام).
مضافاً إلى أن الرواة كانوا يتلقون العلم من أساتذتهم، كما تلمذ العلاء بن رزين المحمد بن مسلم، وصفوان بن يحيى لعبد الرحمن بن الحجاج، فكانوا يقرؤون عليهم الكتب الحديثية.
فمع هذا التدقيق والتمحيص فكيف يتصور منهم تدوين الروايات الصادرة عن تقية في الجوامع الحديثية المعتبرة وهي بمرأى ومسمع من عظماء الشيعة وفقهائهم ؟ وكيف يتصور أن تدون هذه النصوص في مثل جامع الآثار ليونس بن عبد الرحمن وفي مشيخة الحسن بن محبوب وكتب ابن أبي عمير ونحوها، وهي تعتبر المصادر الأصلية للكتب الأربعة ؟ وهؤلاء كانوا مأمورين بتدوين الاحاديث وتعليمها ، لاجل الحفاظ
عليها من الضياع ، ولاجل عمل الشيعة.
إذن، مع علم المدون بأن الرواية صادرة تقية، فكيف يدونها في كتاب الحديث المخصص الفتاوى الأئمة ( عليهم السلام) ، ولأجل عمل الشيعة ؟ كما ان الاخبار المتعارضة الصادرة من الصادقين (عليهما السلام) عرضت على الأئمة المتأخرين كالإمام الجواد والهادي والحجة (عليهم السلام) ، حيث يسأل فيها عن علاج الخبرين
المتعارضين ، فلم يعلل فيها صدور أحد الخبرين من باب التقية .
نعم ، ذلك لا ينفي احتمال وجود موارد نادرة خفيت عليهم، ولكن ذلك لا يعني
أن تحمل كل رواية موافقة لرأي من آراء العامة على التقي
| ۲۸۰
الأمر الثالث: الملاحظ أن كتب الأحاديث التي بأيدينا تشتمل بكثرة على روايات تبين لنا فضائل الأئمة ( عليهم السلام) ومقاماتهم المعنوية، وفضيلة زيارتهم وزيارة قبورهم، وفضيلة مسجد الكوفة والسهلة، وفضيلة ماء الفرات، بل وفضائل شيعتهم وأنهم خلقوا من أنوار الأئمة ( عليهم السلام)، وما يتعلق بحقوقهم من الأخماس والأنفال، وكذلك الروايات التي تبين مثالب أعدائهم ومطاعنهم، وغير ذلك من النصوص التي هي من أسس الفكر الشيعي المختصة بهم، مع اعتراف العلماء أنها قد نقلت واضحة بينة بلا تقية، مع أنه لو كان للتقية تأثيرها لكانت تؤثر هنا في عدم تدوين
أمثال هذه الأحاديث في هذه الموضوعات الحساسة المخالفة لمعتقدات العامة. ولا نحصر الأمر على كتاب بصائر الدرجات المشتمل على هذه النصوص كي ينكر من قبل بعض القميين، بل نشير الى الكافي الذي يقول فيه الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق: (إنه أجل كتب الشيعة) الذي يشتمل على أمور قد لا يتحملها حتى بعض الشيعة فضلاً عن أبناء العامة فليس في هذه الروايات تقية أبداً مع حساسيتها ولكن نقول بوجود التقية في الروايات الواردة في بيان الأحكام الفرعية التي يختلف فيها العامة أيضاً، وهي ليست بأهمية روايات الأصول والفضائل والمطاعن والروايات التي ترتبط ببعض أصول الفروع التي تمس أصول الفكر الديني عند العامة، مثل روايات جواز المتعة وعدم جواز المسح على الخفين"، حيث صنفت فيها كتب مستقلة، وفي بطلان العول والتعصب، ودونت رواياتها الكثيرة في كتب
(۱) انظر مثلا : الكافي ٣٦٣:٥ ٫ ٣٦٤، وغيرها كثير.
(۲) انظر مثلا : الكافي ٦: ٤١٥ ٫ ١١ ، الفقيه ٤٧:١ ٫ ٩٤ ، وغيرهما كثير.
(۳) انظر مثلا : الكافي : ۸۰ ٫ ١٣ ، الفقيه ٢٥٦:٤ ٫ ٥٦٢٠ ، وغيرهما كثير.
تعارض الأدلة واختلاف الحديث | ۲۸۱
الحديث، ووصلت الينا سليمة صحيحة دون أن يكون فيها أي أثر للتقية. ولكن بعض المسائل الفرعية الجزئية نقول بصدورها عن تقية، كيف يصح ذلك، مع أننا نرى العامة مختلفين حولها أيضاً؟ ولماذا لم تتحقق التقية في الأصول والاحكام المهمة ؟ التي
يوجه العامة إليها اهتمامهم .
ثم إن علماء العامة آنذاك لم تكن لهم شخصية اجتماعية أو سياسية كبيرة بحيث يحذر الإمام (عليه السلام) منهم، فأبو حنيفة مثلاً كان مغضوباً عليه من قبل السلطة الحاكمة ؛ لأنه اتخذ بعض المواقف المعارضة لها، فمثلاً حكم في زمن بني أمية بوجوب تأييد زيد بن علي في ثورته، وفي زمن العباسيين خالفهم وأيد محمداً ذا النفس الزكية وأخاه إبراهيم فلم يكن بذلك الموقع الاجتماعي أو السياسي بحيث يحذر منه الإمام (عليه السلام) في فتاواه. واذا لاحظنا بعض نصوص القياس نجد أن الأئمة ( عليهم السلام) واجهوا أبا حنيفة وناقشوا اراءه وناقشوا القياس وأبا حنيفة وامثاله بشدة وبحدة دون حذر وخوففي المسائل الاصلية وان اعتمادهم على القياس والادلة الظنية غير المعتبرة ، وعدم اخذهم بروايات اهل البيت (عليهم السلام) وابتعادهم عن مدرستهم ، مما تترتب عليها اثار سلبية خطيرة على الفكر الاسلامي ، ففي مثل هذه
المجالات الاصولية المهمة التي يكون من المفروض اتباع التقية في بيانها، لا نجد للتقية
أثراً فيها، لكن في المسائل الفرعية يحذرهم الامام (عليه السلام) فيفتي بالتقية.
ثم كيف يحذر الامام الصادق (عليه السلام) جانب الأوزاعي الذي كان في الشام دون أن يكون له تأثيره في الوسط الاجتماعي للإمام ( عليه السلام)، ولربما لم يكن قد
سمع أهل العراق أو المدينة برأيه. أما مالك فبروزه كان بعد زمان الامام الباقر
(۱) انظر الوسائل ۱۷ : ٤۳۱ ، ب من أبواب موجبات الإرث.
| ۲۸۲
والصادق (عليه السلام)، وأما الشافعي وأحمد، فإن ولادتهما كانت بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، فكيف يصح حمل رواياته المشتملة على ما يوافق رأيهم على صدورها تقية ؟ . كما انه كانت هناك خلافات و نزاعات شديدة بين علماء العامة ومدارسهم، والمطاعن التي يصدرها بعضهم في البعض الآخر ، ففي جزء من اجزاء تاریخ بغداد للخطيب البغدادي مطاعن في أبي حنيفة ، كما ان الحنفيين يطعنون في المذاهب الأخرى وائمتهم ، وربما كان السبب في هذه الخلافات ، أن السلطة الحاكمة آنذاك كانت تنشر وتشجع عليها وصولاً لبعض الاغراض ، او ان السبب وجود بعض العصبيات القبلية أو البلدية. فاهل الكوفة يتعصبون للكوفيين ، واهل المدينة
للمدنيين وهكذا.
ومع هذا الاختلاف في الاراء ، وتهجم البعض على الآخر ، فكيف يقوى احتمال التقية ، فان علماء العامة في أغلب الفروع التي صدرت فيها روايات متخالفة عن
الأئمة ( عليهم السلام) هم بانفسهم مختلفون فيها .
وكيف كان فاحتمال صدور الروايات عن تقية ربما يكون احتمالاً مستغرباً وموهوناً في حد ذاته، ومن التساهل في الفتوى والتحقيق وإن كان للتقية تأثيرها في موارد نادرة أحياناً في اختلاف الأحاديث في مقابل الاحتمالات الأخرى المؤثرة فيه كإلقاء
الاختلاف والسوق للكمال والمداراة وغيرها.
الأمر الرابع: أن الأسباب التي ذكرت لصدور النصوص تقية لا تقتضي بقاء هذه
النصوص الصادرة تقية دائماً، بل إن حالة التقية فيها مؤقتة تنكشف امرها أو يكشفها الإمام (عليه السلام) بعد انتهاء فترة التقية، فإن ما يصدر تقية تحفظاً على السائل فإنه
تعارض الأدلة واختلاف الحديث | ۲۸۳
يعرفه اصحاب الأئمة ( عليهم السلام) لكثرة معاشرة السائل للعامة وقلة معاشرته للشيعة او ان الامام يكشفها للسائل بعد ذلك، وما يصدر وفاقاً لمسلك السائل لا يُعد من رواياتنا. لان كلامنا في الروايات التي يرويها الثقات وخواص الأئمة ( عليهم السلام) وبطانتهم ، وقد ذكرنا ان الخواص أو اغلب الشيعة - كانوا يحاولون بدقة عدم السؤال من الامام (عليهم السلام) في امكنة عامة - وامام الملأ العام ، وخاصة في المسائل الحساسة ، لذلك رأينا زرارة يعين وقتا معينا يسأل فيه الامام (عليه السلام) . وكذا في الجواب في مجلس فيه من يُتقى منه، فإنه ليس من الضرورة، واللازم فيه استعمال التقية، بل يمكن الإجابة عن السؤال بأن فلاناً يقول : كذا وفلاناً يقول: كذا، وهكذا. أما الخوف من السلطة الحاكمة، فإن السلطة وإن كانت قوية في وقتها ولكن قوتها لا تدوم، فإنها إذا كانت في زمن الامام الباقر (عليه السلام) قوية وفرضت صدور الحكم منه ( عليه السلام) على خلاف الواقع لكنها في الامام الصادق (عليه السلام) ضعفت وتوفرت الظروف له (عليه السلام ) ليكشف عن الحقيقة، ويبين أن الحكم الصادر من أبيه كان على خلاف الواقع وأنه صدر عن تقية ؛ كما في روايات صيد جوارح الطير التي ذكرناها سابقاً فإن الإمام الصادق (عليه السلام) كان في أواخر زمان الأمويين، وأوائل زمان العباسيين حيث كانوا مشغولين بتصفية أمورهم ، ولم تكن لهم تلك الرقابة المشددة عليه إلا في أواخر حياته (عليه السلام).
فتبين من خلال هذه الأمور الأربعة أن الأحاديث المدونة التي صدرت تقية قليلة،
وأن فقهاءنا ومحدثينا قد بذلوا مختلف الجهود في مجال التصنيف والتدوين وتجريد
أصولهم وكتبهم الحديثية من الروايات التي صدرت تقية، وتمكنوا من تحقيق ذلك إلا
في بعض الموارد النادرة جداً.