الحاشیه علی استصحاب القوانین، ص ٢٠۵
و لكن مع ذلك كله، فالمتهم هو فهمي القاصر، و إدراكي الفاتر، و الله هو العالم بالسرائر
.
2521- شيخ الطائفة شيخنا المرتضى بن الشيخ أمين بن مرتضى بن شمس الدين بن أحمد بن نور الدين بن محمد صادق الأنصاري الدزفولي النجفي
أنار اللّه برهانه، شيخ الطائفة، و علّامة وقته، صاحب التحقيقات
__________________________________________________
(1) أي أن وفاته سنة 1288 ه.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 37
و التدقيقات و التأسيسات و التنقيحات التي لم يسبقه أحد من المتقدّمين و المتأخّرين إلى مثلها، إليه اليوم ينتهي علم علماء الإمامية، و الكلّ من بحره يغترف، و هو الأستاذ الاستناد لسيدنا الأستاذ و من في طبقته من علماء البلاد.
مصنّفاته و إملاءاته في الفقه و الأصول لا يعرف الفضل إلّا بدراستها.
قال العلّامة النوري عند ذكره: خاتم الفقهاء و المجتهدين، و أكمل الربّانيين من العلماء الراسخين، المتجلّي من أنوار درر أفكاره مدلهمات غياهب الظلم من ليالي الجهالة، و المستضيء من ضياء شموس أنظاره خفايا زوايا طرق الرشد و الدلالة، المنتهى إليه رئاسة الإمامية في العلم و الورع و التقى، الشيخ مرتضى بن المرحوم السعيد المولى محمد أمين الأنصاري، لانتهاء نسبه الشريف إلى جابر بن عبد اللّه بن حزام الأنصاري، من خواصّ أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و أمير المؤمنين، و الحسن و الحسين، و علي بن الحسين، و محمد بن علي الباقر (صلوات اللّه عليهم).
و من آثار إخلاص إيمانه و علائم صدق ولائه أن تفضّل اللّه عليه، و أخرج من صلبه من نصر الملّة و الدين بالعلم و التحقيق، و الدقة و الزهد و الورع و العبادة و الكياسة، بما لم يبلغه من تقدّم عليه، و لا يحوم حوله من تأخّر عنه. و قد عكف على كتبه و مؤلّفاته و تحقيقاته كلّ من نشأ بعده من العلماء الأعلام و الفقهاء الكرام، و صرفوا هممهم و بذلوا مجهودهم، و حبسوا أفكارهم و أنظارهم فيها و عليها، و هم بعد ذلك معترفون بالعجز عن بلوغ مرامه، فضلا عن الوصول إلى مقامه، جزاه اللّه تعالى عن الإسلام و المسلمين خير جزاء المحسنين «1».
__________________________________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 382.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 38
أقول: كان تولّده- قدّس اللّه روحه- في دزفول سنة 1214 (أربع عشرة بعد المائتين و الألف) الهجريّة، و أنشأه اللّه سبحانه منشأ مباركا، و اشتغل في طلب العلم هناك حتّى صار يحضر عالي مجلس درس جدّه الأمّي العلّامة الفقيه، أحد تلامذة العلّامة السيد صاحب الرياض السيد مير سيد علي الطباطبائي.
فلما كانت سنة 1234 و قد بلغ من العمر عشرين سنة هاجر به أبوه المولى محمد أمين إلى كربلاء إلى السيد صاحب المفاتيح الطباطبائي للحضور عليه لشهرته في ذلك العصر، فلمّا دخل به عليه و استقرّ به المجلس قال للسيد: إنّي قد جئت بابني هذا لأودعه عندكم يشتغل بالعلم عليك، فأرجو من فضلكم قبوله.
فقال السيد: ما ذا كان يقرأ في دزفول؟ فقال المولى محمد أمين:
اسأل منه. فقال: كنت أحضر في الفقه و الأصول الخارج عن السطوح على المولى الجدّ فلان، فقال السيد: كيف كان حاله ذاك من محقّقي العلماء الأجلّة.
فأخبره عن حاله فقال له السيد: لمّا فارقته ما ذا كان يدرّس في الفقه؟ فقال الشيخ: كان يدرّس مبحث الخلل الواقع في الصلاة، فصار السيد يسأل الشيخ عن بعض مسائل الخلل، و يقول: ما ذا صنع في مسألة كذا؟ و ما قال في مسألة كذا؟ و صار الشيخ يتكلّم في ذلك. فالتفت السيد إلى المولى محمد أمين و قال له: أودعه عند سيدنا الحسين (عليه السّلام)، فأنا غير قابل لأن أكون كفيله لأنه من أفاضل العلماء الفاهمين.
و بالجملة، صار الشيخ عند السيد في مباحث الخلل أيضا لأنه كان قد شرع في تدريس ذلك فحضر الشيخ تمام مبحث الخلل، و لم يحضر غيره لاشتغال السيد بفتنة القوقاس حتّى رحل إلى جهادهم، و توفّي
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 39
بقزوين عند رجوعه سنة 1242، و الشيخ صار يحضر على شريف العلماء (قدّس اللّه روحه) و بعد ما كمل، رحل إلى كاشان و حضر على المحقّق النيراقي صاحب المستند و بقي هناك مدّة، كتب النيراقي فيها المناهج و العوائد بإعانة الشيخ ثمّ استجازه الشيخ فأجازه.
ثم رحل إلى أصفهان و حضر على السيد العلّامة السيد صدر الدين العاملي عمّ والدي و استجازه فأجازه و طريقه منحصر بهما.
و حضر على السيد حجّة الإسلام السيد محمد باقر صاحب مطالع الأنوار، و رجع إلى العراق و جاور في النجف، و صار يحضر على الشيخ المحقّق الشيخ علي بن شيخ الطائفة كاشف الغطاء.
حدّثني الشيخ الفقيه الأستاذ الشيخ مهدي بن الشيخ علي المذكور، قال: جاءت إلى أبي مسألة من تركستان من فروع مسألة (من ملك شيئا ملك الإقرار)، و عنونها الشيخ الوالد، و صارت الأفاضل تتكلّم فيها، فأرسلني والدي بالمسألة إلى الشيخ مرتضى، و قال لي: قال له يكتب ما عنده فيها، و دلّني على منزله في محلّة المشراق، فأتيته فأعطيته المسألة.
و بعد أيام جاء إلى أبي و أنا حاضر عنده، فقال له: ما ذا صنعت؟ فأخرج كرّاسة قد كتب فيها المسألة مفصّلا، و أخرج ورقة صغيرة فيها جواب الاستفتاء، فأول ما نظر أبي إلى جواب الاستفتاء، قال: الحمد للّه.
الآن حصحص الحقّ. هذا و الله رأيي و اعتقادي.
ثم صار ينظر إلى ما في الكرّاسة، و هي الرسالة التي طبعت مع باقي رسائله خلف مكاسبه و طهارته، و هي الآن عندي بخطّه الشريف فقلت لوالدي: هذا الشيخ فاضل. فقال: يا ولدي هذا من أرجو أن يكون المرجع العام للإماميّة في الدين.
قال الشيخ مهدي: و أنا ما كنت أعرفه حينئذ بهذا الفضل لأني كنت أراه يحضر درس أبي و لا يتكلّم أبدا.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 40
و بقي يحضر درس الشيخ علي المذكور إلى أن توفّي- قدّس اللّه روحه- و هو عمدة أساتيذه في الفقه، كما أن شريف العلماء عمدة أساتيذه في الأصول.
و بعد وفاة الشيخ علي صار يحضر مجلس درس صاحب الجواهر احتراما له لأنه شيخ الطائفة بعد الشيخ علي بن الشيخ جعفر، و الشيخ مرتضى يومئذ عظيم في قلوب فضلاء العصر، لا نظير له، بل لا يرون أفضل منه في كلّ علماء العصر، و كلّما يطلبون منه التصدّي إلى الفتوى لا يقبل حتّى أن السيد الوالد طلب منه أن يفتي في مسألة جزئيّة سرّا فلم يقبل، و قال: لا ينبغي لأحد الفتوى مع وجود هذا الشيخ.
بل كان لا يرضى بكثرة الاجتماع في بحثه، و لم يجعل وقتا معيّنا لتدريسه بحيث يعرف وقت تدريسه خوفا من اجتماع الطلبة عليه، بل كان يغيّر وقت تدريسه بمجرّد أن يرى اجتماع الطلبة، و يغيّر المكان على ما حدّثني به شيخنا المحقّق صاحب البدائع، قال: لا يدع مبحثه ينتظم ما دام الشيخ صاحب الجواهر حيّا، كلّ ذلك تعظيما و احتراما للشيخ، لأنه كان يعلم أنه إذا عيّن وقت مجلسه و مكان تدريسه، و انتظم وقته و مكانه، اجتمعت عليه الفضلاء و العلماء و وجوه أهل الفضل لاشتياقهم سماع مطالبه، و ذلك يخل في جلالة الشيخ صاحب الجواهر و استقلاله.
و لمّا مرض الشيخ صاحب الجواهر و عرف أن مرضه مرض الموت أرسل خلف الشيخ بمحضر جماعة من الأفاضل، و لمّا حضر الشيخ صار الشيخ يلتمسه بألطف بيان على التصدّي لأمور الشيعة و الإقامة بالرئاسة الشرعيّة و يوصيه بالرفق و عدم التشديد عليهم بكثرة الاحتياط، و سأله أن يصلّي على جنازته، و التفت إلى من حضر و قال: هذا نائب الإمام و أفقه علماء الإسلام و أورعهم و أتقاهم.
و توفّي الشيخ صاحب الجواهر غرّة شعبان سنة 1266 (ست و ستين
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 41
و مائتين بعد الألف)، فصلّى عليه الشيخ في الصحن الشريف عند الحجر القبليّة. و كان الصحن قد امتلأ بتمامه من المشيّعين، و صلّى الجميع خلف الشيخ على الجنازة و كانت صلاة مشهورة، قام فيها جماعة في الأواوين لإعلام الناس بالتكبيرات الخمس.
و استقلّ الشيخ حينئذ بالرئاسة الشرعيّة، فسلك فيها مسالك الربّانيين حتّى صار يضرب به المثل في العلم و العمل، و السياسة و الكياسة، و الزهد و الورع، حتّى قال قونسل الإنكليز ببغداد: هذا شبيه عيسى بن مريم.
و قد رأيت كيفيّة انكباب الناس عليه لمّا جاء إلى بلد الكاظمين قبل وفاته بسنة في شهر ربيع الأول سنة ثمانين و مائتين بعد الألف، و كيفيّة تعظيمهم له و تصاغر الأعيان و الشاهزادات له، و كانت بلد الكاظمين يومئذ مشحونة بأولاد فتح علي شاه، و في بغداد الأعيان و الأعاظم، و الكلّ كالعبيد.
و هو رجل إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أحمر اللون، نحيف الجسم، ضعيف العينين، بين عينيه سجّادة، قد خضّب بالحنّاء كريمته، على رأسه عمامة كرباس أبيض، ليست كبيرة، و عليه قباء كرباس أبيض، و عباءة صوف أحمر خفيفة، صلّى في جهة صحن قريش، فامتلأ من الناس.
و كان في استطراقه بغداد لزيارة سلمان للناس على اختلاف مللهم اجتماع غريب للنظر إليه و التطلّع عليه. و كان يوما مشهورا، و هو على حمار و معه أصحابه راكبين على حمر كذلك، كأنّهم أنوار قدس.
حدّثني بعض علماء أهل السنّة من الأشعريّة الحنفيّة ببغداد، قال:
وصل خبر مرض الشيخ مرتضى الأنصاري إلى السلطان عبد العزيز خان
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 42
العثماني في إسلامبول، أمر السلطان الخطيب يوم الجمعة أن يدعو اللّه في الشفاء للشيخ مرتضى، و أن يؤمّنوا على دعائه، فدعا على المنبر و أمّن المسلمون على دعائه، فقلت: و لم أمر بذلك؟ فقال: لأنه كان عزّا للإسلام و فخرا لهم، اشتهر اسمه، و بعد صيته.
قلت: كان مرضه مرض البطن، و طال به المرض، و خرج إلى التاجيّة لتغيير الهواء مدّة.
حدّثني الشيخ الفاضل الشيخ عباس بن الشيخ الأعظم الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة بن شيخ الطائفة صاحب كشف الغطاء، قال: جئت بخدمة ابن عمّي الشيخ الأجل فقيه النجف الشيخ مهدي بن الشيخ علي ابن الشيخ كاشف الغطاء إلى التاجيّة لعيادة الشيخ، شيخ مرتضى. فلمّا وصلنا إلى باب البستان التي هو فيها رأينا جماعة من الأعاظم جلوسا على باب البستان منهم السيد العلّامة السيد حسين الترك، و الفاضل الإيرواني، فقلنا: ما جلوسكم؟ فقالوا: إنا لا نجسر على أن نطرق الباب، فلعلّ الشيخ بالقرب من الباب. فقلنا: لا بدّ لنا من ذلك.
فتقدّمت أنا و طرقت باب البستان، فجاء خادم الشيخ الحاج ملّا رحمة اللّه الشوشتري، فقلنا له: إنا جئنا لعيادة الشيخ، فإن كان يسهل عليه دخولنا دخلنا، و إلّا رجعنا. و لا نرضى أن يتكلّف من جهتنا بشيء.
فدخل، و بعد هنيئة خرج و أدخلنا و إذا حوض ماء، و في أطرافه حصر مفروشة في طرف منها دوشك جالس عليه الشيخ، فدخلنا و سلّمنا عليه، فردّ السلام، و رحّب بنا.
فجلس الجماعة على غاية من الأدب كلّ على ركبتيه مخرجا ليده من العباءة مطرقا برأسه إلى الأرض. فالتفت الشيخ إليّ و قال: يا شيخ عبّاس، ما عند عجائز بيت الشيخ من الدواء لهذا الإسهال؟
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 43
فقلت: شيخنا إن عجائز البيت يصفون له السمّاق و الكشك، و أمثال هذه القوابض، لكن الدواء العمدة- الحمد للّه- حاصل لكم فإنه لا ينعقد اليوم مجلس في الدنيا إلّا فيه الدعاء لكم بالشفاء، و لا يصلّي مؤمن إلّا و هو يدعو بالشفاء، و لا يزور أحد المشاهد المشرّفة زائرا إلّا و يدعو في شفائكم، و هذا غير الختوم و التوسّلات المخصوصة من الخواص في طلب الشفاء و الدعاء لكم.
فقال: يا شيخ عباس، جزى اللّه المؤمنين خيرا. ما الحياة و الموت إلّا حالتان للنفس، و لكن الخوف من سواد الوجه هناك.
قال: و لم تطل الشيوخ الجلوس هناك، و قمنا من عنده و رجعنا إلى النجف، و لم يتفق لأحد من علماء الإماميّة ما اتفق للشيخ من الهيبة و العظمة في النفوس، مع أنه لم يكن له تجمّلات صوريّة، لا خدم، و لا حشم، و لا أبّهة، و لا شيء من آثار الرؤساء، إنما هو رجل شوشتري وضعا و لباسا.
و أمّا زهده فشيء عجيب. كان له أربع نساء، أخذهن برجاء أن يكون له ولد ذكر، فلم يرزق. و مع ذلك كانت تركته كلّها قيمة سبعين قرانا، و داره دار أقلّ الطلبة مع أنه كان يجيئه من الهدايا و التحف ما شاء اللّه. لكنّه كان يؤثر بها إخوانه، و يبذلها في الأمور المستحبّة عند اللّه، حتّى حدّثني بعض إخوته أنه لم يترك مستحبّا شرعيّا ماليّا أو عمليّا إلّا فعله، حتّى كتابة المصحف. كتب مصحفا بقلم يده لمحض استحباب كتابة المصحف.
و كان يقيم عزاء الحسين (عليه السّلام) في كلّ ليلة جمعة، يبذل فيه الخبز مع ماء اللحم لمن يطلب حضوره.
و كان يرسل من خالص ماله إلى خراسان في فكاك من يأسره
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 44
التركمان في طريق خراسان من الزوّار. و بسببه فتح على علماء العتبات أمران عظيمان أحدهما رجوع عامّة الشيعة في التقليد إلى علماء العتبات، و هذا لم يكن قبل الشيخ، كانوا يقلّدون من عندهم من الفقهاء، و الثاني إرسال الوجوه و الحقوق إلى العلماء المراجع في العراق، و هذا أيضا لم يكن قبل الشيخ حتّى أن الشيخ علي سبط الشيخ صاحب الجواهر الذي كانت كلّ أمور جدّه الشيخ بيده، هو حدّثني أنه في تمام مدّة رئاسة الشيخ صاحب الجواهر لم يرسل إليه دفعة واحدة أكثر من خمسة آلاف قران، غير مسألة الجري.
و كانت الوجوه التي ترد على الشيخ مرتضى الألوف من التوامين، فضلا عن القرانات؛ كلّ ذلك لما كان عليه من العظمة في القلوب و الربّانيّة، و حسن التدبير.
و أمّا تأسيساته في كيفية الاشتغال، و كيفيّة الوصول إلى المطالب، و تحقيق الحقائق، فشيء ظاهر لا يخفى حتّى على العوام.
و من تأسيساته أيضا التي عندي أنها أعظم ما يكون من آثاره الباقية في الدين تمرين الشيعة على العمل بالاحتياط في مقام العمل في عباداتهم و معاملاتهم و تمرينهم على ما هو الأقرب إلى الواقع، و هذا ممّا لم يسبقه فيه أحد من العلماء الإماميّة.
و من تأسيساته تمرين طلبة العلم على الزهد و الورع و الاقتصاد و المواظبة على الطاعات حتّى صار شعار أهل العلم في عصره الزهد، و إن كان من المثرين في الدنيا.
و كانت له مقامات و أسرار لم يطّلع عليها أحد مدّة حياته. حدّثني السيد حجّة الإسلام السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي دام ظلّه، عن العبد الصالح، الثقة العدل، الحاج مولى حسن اليزدي، العابد الزاهد،
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 45
المتوطّن في النجف، جدّ أولاد السيد المذكور، لأن السيد- دام بقاه- كان صهره على ابنته، قال أنه سأل السيد الأجل جمال السالكين، زبدة العلماء الربّانيين، السيد علي بن السيد محمد التستري، وصي الشيخ، و صاحب أسراره، و الذي لم يكن يفارقه في حضر و لا سفر، مذ سكن النجف، و كان في الجلالة و المعارف الرّبانيّة و المنامات ما كان يظنّ أن الشيخ من مردته «1» و المنقطعين إليه في السر: هل رأيت من الشيخ كرامة أو نحوها في مدّة معاشرتك له؟
قال: فأطرق برأسه مدّة ثمّ رفع رأسه إليّ، و قال: زرنا بخدمته سيدنا أبا عبد اللّه الحسين (عليه السّلام) في بعض الزيارات المخصوصة، فجئنا من النجف إلى كربلاء و أنا زميله في المحمل، فنزلنا في الدار التي لا زلنا ننزلها إذا جئنا كربلاء حتّى انقضت أيام المخصوصة، فقلت للشيخ: هل تأذن في استئجار الدواب للرجوع إلى النّجف؟ فقال لي: اصبر قليلا.
فلمّا كان نصف الليل أو أكثر من نصفه، و أنا نائم في فراشي إذ سمعت حركة باب الدار، و أنها فتحت، فرفعت رأسي فلم أر الشيخ في فراشه، فعلمت أنه هو الذي فتح الباب، و خرج فتعجّبت من ذلك، و خفت عليه في خروجه في هذا الوقت من الليل، فقمت و عجّلت بالخروج خلفه، فرأيته من بعيد متوجّها إلى جهة باب بغداد فتبعته و أنا متخفّ عنه، فرأيته وقف على باب دار محقّرة هناك، فسمعته يقول:
السلام عليكم أهل بيت النبوّة. هل تأذنون لعبدكم بالرجوع إلى النجف؟
فسمعت قائلا يقول له: إذا كان غد تفعل (كذا)، و لم أفهم المطلب. فرجع الشيخ فرجعت مسرعا من حيث لا يراني، فدخلت الدار، و نمت في فراشي كي لا يعرف حالي. فجاء و صعد السطح،
__________________________________________________
(1) المردة جمع مريد.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 46
و أيقظني لصلاة الليل على عادته كلّ ليلة، فقمت و لم أظهر شيئا حتّى كانت الليلة الثانية. فلمّا كان آخر الليل رأيته خرج، و أنا في فراشي، و هو لا يدري إلّا أني نائم، فقمت و خرجت خلفه، فرأيته توجّه إلى تلك الجهة، فتبعته حتّى انتهى إلى تلك الدار، فسلّم كسلامه ليلة أمس، فسمعت قائلا يقول له: قد قضيت الذي قلنا لك؟ فقال: نعم.
و لم أسمع باقي الكلام، فسلّم و رجع مسرعا، فأسرعت أنا من طريق آخر، و دخلت الدار، و طرحت نفسي في فراشي حتّى لا يعرف حالي.
فدخل و صعد السطح الذي ننام عليه فناداني: آقا سيد علي، على عادته، و قال: أ لا تجلس. فجلست، و أخذ هو في النافلة، و صرت أنا أتنفّل أيضا حتّى إذا صار الصباح، قال لي: إذا تحب تستأجر دوابا فلا بأس.
فقلت له: من كان في تلك الدار المحقّرة من أهل بيت النبوّة؟ و ما الحاجة التي أمرت بقضائها في الليلة الأولى؟ و لم لا يكونون في الحرم الشريف، لا في مثل هذا المنزل المحقّر؟
فتغيّر لونه و قال لي: ما تقول؟ فقلت: أنا كنت معك، و حكيت له الحال من أوله إلى آخره، فقال لي: أمّا من كان فلا أخبرك به، و لا أخبرك بالحاجة التي قضيتها، و أحرّم عليك أن تنقل ما رأيت في مدّة حياتي. ثمّ قال: آقا سيد علي، حرم خانه نيست كه آنجا منزل كنندا. انتهى.
و حدّثني غير واحد من الأجلّة عن الآقا الحاج سيد علي المذكور (قدّس اللّه سرّه) أنه قال عن الشيخ: عاش وحيدا، و مات فقيدا، و أنه كان له من العلوم و المقامات ما لم يطلع عليها أحد حتّى مات، قدّس اللّه سرّه.
و كانت وفاته ليلة السبت الثامنة عشرة من شهر جمادى الثانية سنة 1281 (إحدى و ثمانين و مائتين و ألف) في النجف الأشرف، و دفن في إيوان حجرة الصحن التي فيها الشيخ الأجل الحسين النجف.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 47
حدّثني والدي أن الشيخ لم يعيّن مكان دفنه، لكن الشيخ جواد نجف هو الذي دفنه في حجرتهم المذكورة المتصلة بباب القبلة على يسار الداخل منها الصحن الشريف.
و صنع شهاب الملك أرسي و شبابيك و أخرج الإيوان من الحجرة المذكورة، و هو مكان قبر الشيخ، و عمّره، و وضع على القبر الشريف صخرة مرمر، و كتب عليها اسم الشيخ (قدّس سرّه) و هو إلى اليوم مزار معروف.
و أمّا مصنّفاته الشريفة فالذي طبع منها لا حاجة إلى ذكره لشهرته، و تكرّر طبعه. و له ما لم يطبع كثير، فإن الذي رأيته أنا بخطّه الشريف من ذلك جملة منها:
1- حاشية على القوانين من أول حجّية الأخبار، و تمام الأدلّة العقليّة، و تأمّلت فيها فرأيت مطالبها مطالب كتابه الفرائد، أعني الرسائل الأربع، و كان كتبها أولا بعنوان حاشية على القوانين، ثمّ بدا له و كتبها رسائل مستقلّة.
و منها ما رأيته أيضا بخطّه الشريف مسوّدة:
2- كتاب القضاء.
3- جملة من مباحث الألفاظ.
4- رسائل متفرقة في مسائل مهمّة، يطول شرح موضوعها جميعا.
5- كتابه في الرجال الرواة، اقتصر فيه على نقل ما في صه و جش و كش و جخ «1» لا غير. و ذكر بعد باب الكنى و الألقاب مشيخة الشيخ
__________________________________________________
(1) صه/ خلاصة الأقوال في الرجال، للعلّامة الحلي. و جش/ رجال النجاشي.
و كش/ رجال الكشّي، و جخ/ رجال الشيخ الطوسي.
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 48
الصدوق و صحّح منها ما رواه ص يحا و غير ذلك من الأنواع الأربعة للحديث، و لم أر فيه له تحقيقا أو غير ذلك.
و حدّثني السيد العالم الجليل السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد حيدر الكاظمي (رحمه اللّه) أنه سمع الشيخ (ره) يقول: إني كنت قد كتبت في الفقه أكثر أبوابه في أوائل أمري، و أنا في الولاية، يعني دزفول، و تركتها هناك في الزنابيل، و خرجت إلى كربلاء للاشتغال على العلماء. انتهى كلامه.
و قد عرفت أن عمره يوم خرج من الولاية عشرين سنة، و لا غرو فإن الشيخ صاحب الجواهر شرع في كتابة الجواهر و عمره أربع و عشرون سنة.
و أمّا إملاءاته في مجلس الدرس في الفقه و الأصول فأمر عظيم.
و قد كتب أفاضل تلامذته من ذلك. كتب شيخنا المحقّق الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي جميع ما باحثه الشيخ في الفقه و الأصول، و هو أحسن من كتب، ثمّ الفاضل المحقّق الحاج ميرزا أبو القاسم الطهراني، كتب كلّ ذلك أيضا. و قد رأيته بخطّه عند ابنه الميرزا أبي الفضل تمام مباحث الأصول و تمام ما حضره في الفقه، و هو أبسط من كتابة الميرزا الرشتي.
و كان الحاج ميرزا أبو القاسم أحد المقرّرين لدرس الشيخ، و بعده الشيخ الفاضل الميرزا حسن الآشتياني، رأيت له تمام دورة الأصول الّتي حضرها على الشيخ، و تمام دورة الفقه بعنوان التقرير لا غير في غاية البسط. كان يكتب كلمات الأفاضل الذين كانوا يتكلّمون مع الشيخ أيضا.
و رأيت تقريرات أخر لأفاضل أخر لكن الدائرة بين الأفاضل تقريرات هؤلاء الذين ذكرتهم، و تقدّم أن الفاضل الآخوند المولى محمود
تكملة أمل الآمل، ج6، ص: 49
العراقي كتب إملاءات الشيخ في الفقه و سمّاها اللوامع، و في الأصول و سمّاها الجوامع، و كلّ في عدّة مجلّدات.
بدائع الافکار، ص 457
و نفس الأمر إما صادر عن الإمام فيدخل تحت قوله عليه السلام ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقية و إما غير صادر فلا معنى للتعبد بالكاذب الغير الصادر فكيف يتعقل العمل به عند التعارض و توضيح المقام أن موافقة العامة إما هي من المرجحات الخارجية بناء على غلبة الباطل في أخبارهم و أحكامهم أو من المرجحات الجهتية الباعثة على حمل الكلام الصادر من الإمام على التقية و لا إشكال في تقديمها على الصفات بناء على الأول كما هو قدس سره معترف بذلك حيث صرح في غير موضع بأن المرجحات الخارجية مقدمة على الصفات و إن هذا المرجح أيضا على الوجه المذكور حكمه حكم المرجحات الخارجية فانحصر تقديم الصفات عليها على الوجه الثاني و هو غير معقول لأن مورد هذا المرجح هو الخبر المقطوع لاختصاص دليله به و مقتضاه عدم العمل بموافق العامة مطلقا قطعيا كان أو ظنيا إذ لا فرق بينهما إلا احتمال عدم الصدور في الثاني دون الأول و بداهة العقل قاضية بأن احتمال عدم الصدور لو لم يكن منشأ لعدم التعبد فلا يصلح منشأ للتعبد سواء كان راويه جامعا للصفات المرجحة أو كان سنده كذلك أو لم تكن فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة مع نص الإمام عليه السلام على طرح ما يوافقهم من العجائب و الغرائب التي لم يعهد صدوره عن ذي مسكة فضلا عمن هو مآل العصمة علما و عملا
و لذا نقل عن الوحيد البهبهاني قدس سره في الفوائد أنه جعله من جملة عيوب المقبولة ذكر مخالفة العامة بعد الصفات حيث كان فساده عنده من الواضحات التي توجب سقوط الخبر عن الاعتبار هذا مع استقرار طريقة العلماء فيما عثرنا على خلافه لأنهم يقدمون مخالفة العامة على موافقتهم من غير ملاحظة المرجحات السندية وجودا و عدما حتى لو كان الخبر مستفيضا يحملونه على التقية عند التعارض و ليت شعري إن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه رحمه الله مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر
مآل ظاهراً تصحیحف تالی است.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 456
و (قد أورد بعض أعاظم تلاميذه «1» عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها لأنه إلغاء لأحدهما أيضا في الحقيقة.) و فيه ما لا يخفى من الغفلة و حسبان أنه التزم قدس سره في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور إما للعلم بصدورهما و إما للتعبد به فعلا مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين بل و لا بأحدهما و قضية دليل العلاج ليس إلا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.
و العجب كل العجب أنه رحمه الله لم يكتف بما أورده من النقض حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به و برهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله و بين صدوره تقية و لا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق بل الأمر في الظني الصدور أهون لاحتمال عدم
__________________________________________________
(1) و هو الشيخ المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي (طاب ثراه). راجع بدائع الأفكار/ 457.
كفاية الأصول ( طبع آل البيت )، ص: 457
صدوره بخلافه.
(ثم قال فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة مع نص الإمام عليه السلام على طرح موافقهم من العجائب و الغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلا عمن هو تالي العصمة علما و عملا.
ثم قال و ليت شعري أن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر).