سال بعدالفهرستسال قبل

شرح حال شیخ مفید قده در مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام


شرح حال محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد(336 - 413 هـ = 947 - 1022 م)



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)؛ ج‌31، ص: 264
من فقهائنا 13 الشيخ المفيد رحمه الله‌
القسم الأوّل [حول حياته و آثاره]
الشيخ صفاء الدين الخزرجي‌
هو معلّم الامّة و رئيس الملّة و لسانها المفوّه و فقيهها المعظّم على الإطلاق الإمام الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان ابن سعيد بن جبير (و هو غير سعيد بن جبير التابعي المفسِّر) بن وهيب بن هلال بن أوس بن سعيد بن سنان بن عبد الدار بن الريان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عُلَة بن خلد بن مالك بن ادد بن زيد بن يشجُب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجُب بن يعرب بن قحطان «1».
كنيته و لقبه:
المعروف أنّ كنيته أبو عبد اللّٰه، بل هو المتبادر عند إطلاقها من بين جماعة يكنّون بذلك و هم: الحسين بن عبيد اللّٰه الغضائري و أحمد بن عبدون «2».
______________________________
(1) رجال النجاشي: 399. ط- مؤسسة النشر الإسلامي.
(2) الفوائد الرجالية (للسيد بحر العلوم) 4: 108.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 266‌
و انفرد ابن الفوطي بأنّ كنيته: أبو بكر «1». و هو وهم؛ إذ لم يذكره أحد من الفريقين ممّن ترجم له.
لُقِّب بالمفيد لغزارة علمه و كثرة إفاداته، و عرف أيضاً بابن المعلِّم لمهنة أبيه في التعليم «2»، كما يلقب أيضاً بالبغدادي و العُكبري نسبة إلى مسقط رأسه في «عُكبرا»، و بالحارثي نسبة إلى الحارث بن كعب.
و المعروف أنّ الذي لقبه بالمفيد هو علي بن عيسى الرماني من علماء بغداد و متكلميها و ذلك في عنفوان شباب الشيخ و أخذه العلم. و السبب في تسميته كما يرويه ابن إدريس- هو أنّ الشيخ المفيد عند ما كان يقرأ على شيخه أبي ياسر أشار عليه بأن يقرأ على علي بن عيسى الرماني، و أرسل معه من يدلّه على مجلسه، يقول الشيخ: فلما دخلت قعدت حيث انتهى بي المجلس حيث كان غاصّاً بأهله و مليئاً بالحاضرين، فلما خفّ الناس اقتربت من مجلسه، فدخل عليه في هذه الأثناء رجل من أهل البصرة، فأكرمه الرماني و طال الحديث بينهما، فقال الرجل لعلي بن عيسى: ما تقول في يوم الغدير و الغار؟ فقال: أمّا خبر الغار فدراية، و أمّا خبر الغدير فرواية، و الرواية ما توجب ما توجبه الدراية- قال:- و انصرف البصري و لم يحر خطاباً يورد إليه.
قال المفيد رضى الله عنه: فقلت: أيّها الشيخ مسألة! فقال: هات مسألتك. فقلت: ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل؟ قال: يكون كافراً، ثمّ استدرك فقال: فاسقاً. فقلت: ما تقول في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: إمام- قال:- قلت: فما تقول في يوم الجمل و طلحة و الزبير؟ فقال: تابا. فقلت: أما خبر الجمل فدراية، و أمّا خبر التوبة فرواية. فقال لي: كنت حاضراً و قد سألني البصري؟ فقلت: نعم، رواية برواية و دراية بدراية! فقال: بمن تُعرف و على من تقرأ؟ قلت: اعرف بابن المعلم، و أقرأ على الشيخ أبي عبد اللّٰه الجُعَل.
______________________________
(1) تلخيص مجمع الآداب: 721 (كتاب اللام و الميم) ط- حيدرآباد نقلًا عن المقالات و الرسالات 1: 41.
(2) لسان الميزان 5: 368.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 267‌
فقال: موضعك، و دخل منزله و خرج و معه رقعة قد كتبها و ألصقها، فقال لي: أوصل هذه الرقعة إلى أبي عبد اللّٰه، فجئت بها إليه، فقرأها و لم يزل يضحك بينه و بين نفسه، ثمّ قال: أيش جرى لك في مجلسه؟ فقد وصّاني بك و لقّبك المفيد، فذكرت المجلس بقصته فتبسّم «1».
و حكي نظير ذلك مناظرته مع القاضي عبد الجبار المعتزلي حينما أفحمه الشيخ المفيد، فبهت القاضي و لم يحر جواباً، و وضع رأسه ثمّ رفعه و قال: من أنت؟ فقال: خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي، فقام القاضي من مقامه و أخذ بيد الشيخ و أجلسه على مسنده و قال: أنت المفيد حقاً «2».
و لكن ذكر ابن شهرآشوب أنّ الذي لقبه بالمفيد هو الإمام الحجّة- عجّل اللّٰه فرجه- ثمّ قال: إنّه قد ذكر سبب ذلك في كتابه مناقب آل أبي طالب «3». و مقصوده التوقيعان الصادران عن الناحية المقدسة الوارد فيهما مخاطبته بالمفيد: «للأخ السديد، و الولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان، أدام اللّٰه إعزازه» «4».
و لكن لم يعثر على ما ذكره ابن شهرآشوب في كتابه المناقب «5».
و لكن الصحيح هو ما ذكرناه من تسمية الرماني له أو القاضي عبد الجبار و أنّ ذلك كان في أوائل أمره حتى عرف به. و أمّا التوقيعان فهما صادران في أواخر حياته؛ فإنّ أحدهما كان في سنة (410 ه‍) و الآخر في سنة (412 ه‍). علماً أنّه يمكن الجمع بين ما ورد في التوقيع و بين ما ذكره ابن إدريس في سبب التسمية؛ بحمل الوارد في التوقيع على الاستعمال لا الوضع، سيّما و أنّ التوقيع مؤرخ في سنة (410 ه‍) أي في اخريات حياة الشيخ المفيد، في حين أنّ الرماني قد لقّبه بذلك في أوائل شبابه، فيكون تلقيبه في التوقيع من باب استعمال اللفظ فيما اطلق عليه و استعمل فيه. و لعلّ لنا عودة إلى بحث التوقيعات فيما يلي من البحث.
______________________________
(1) السرائر (المستطرفات) 3: 648. ط- مؤسسة النشر الإسلامي.
(2) معجم رجال الحديث 17: 208.
(3) معالم العلماء: 112.
(4) الاحتجاج 2: 495. ط- نشر المرتضى.
(5) معجم رجال الحديث 17: 209.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 268‌
ولادته و شمائله:
ولد الشيخ المفيد في «عكبرا» من نواحي الدجيل بالعراق في الحادي عشر من ذي القعدة سنة (336 ه‍) بحسب ما ذكره تلميذه الشيخ النجاشي «1»، إلّا أنّه نقل قولًا بأنّ سنة ولادته هي (338 ه‍)، و هو قول الشيخ الطوسي «2» و ابن النديم «3»، و تبعهما عليه ابن شهرآشوب «4».
و ثمّة قول ثالث لصاحب الرياض ذهب فيه إلى أنّ سنة ولادته هي (333 ه‍) «5».
و أمّا صفته و شمائله: فقد وصفه المؤرخون بأنّه كان ربعة، نحيفاً، أسمر، قوي النفس، كثير البر و الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة و الصوم، يلبس الخشن من الثياب، كثير التقشف و التخشع و الإكباب على طلب العلم «6». و ذكر صهره الشريف أبو يعلى الجعفري: أنّه ما كان ينام من الليل إلّا هجعة ثمّ يقوم يصلّي أو يطالع أو يتلو القرآن «7».
الشيخ المفيد في كلمات الأعلام و المؤرخين:
الشيخ المفيد شخصية فذّة قلّ نظيرها في مصافّ العلماء، و عالم كبير برع ففاق أهل زمانه بل و من جاء بعدهم، فهو آية في العلم و النبوغ و الفضائل طرّاً. لقد جمعت شخصية الشيخ المفيد جميع المزايا العلمية و العملية، فهو آية في العلم، و هو آية في العمل و العبادة و الاجتهاد على حدّ سواء. لقد صاغت هذه الخصائص من شخصية الشيخ المفيد جوهراً ثميناً و شخصية رائعة لا تدانيها و لا تضاهيها شخصية اخرى، بل ينحني الجميع أمامها إجلالًا و تعظيماً لما يجدونه من وقع عظيم وهيبة كبيرة لها في النفوس، حتى قيل: إنّ له على كلّ إمام منّة! «8».
و أوّل ما يطالعنا في آراء التعظيم و التمجيد و المدح و الثناء لشخصية‌
______________________________
(1) رجال النجاشي: 402.
(2) الفهرست: 158.
(3) الفهرست (لابن النديم): 247.
(4) معالم العلماء: 112.
(5) رياض العلماء 5: 177.
(6) سير أعلام النبلاء 17: 344، نقلًا عن ابن أبي طي في «تأريخ الإمامية».
(7) لسان الميزان 5: 416.
(8) المصدر السابق.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 269‌
المفيد هو ما ذكره العلماء من التوقيعات الشريفة الصادرة عن الإمام الحجّة عجّل اللّٰه تعالى فرجه- و هي ثلاثة توقيعات، إلّا أنّ الثالث منها فُقد نصّه.
و قد ورد في التوقيع الأوّل الصادر سنة (410 ه‍): «للأخ السديد، و الولي الرشيد، الشيخ المفيد؛ محمّد بن محمّد بن النعمان- أدام اللّٰه إعزازه- من مستودع العهد المأخوذ على العباد: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، أمّا بعد: سلام عليك أيّها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك اللّٰه الذي لا إلٰه إلّا هو، و نسأله الصلاة على سيدنا و مولانا و نبيّنا محمّد و آله الطاهرين، و نعلمك- أدام اللّٰه توفيقك لنصرة الحق، و أجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق-: أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة و تكليفك ما تؤديه عنّا إلى موالينا قبلك، أعزهم اللّٰه و كفاهم المهم برعايته لهم و حراسته، فقف- أيّدك اللّٰه بعونه على أعدائه المارقين من دينه- على ما أذكره، و اعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء اللّٰه ...» إلى آخر التوقيع.
و ورد في لفظ التوقيع الثاني الصادر سنة (412 ه‍) ما يدلّ أيضاً على التعظيم و التكريم للشيخ المفيد، حيث ورد في مستهلّه:
«سلام اللّٰه عليك أيّها الناصر للحق، الداعي إليه بكلمة الصدق- إلى قوله:- و نحن نعهد إليك أيّها الولي المخلص، المجاهد فينا الظالمين، أيّدك اللّٰه بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين ...» إلى آخر التوقيع الشريف.
و مهما يكن من أمر، فإنّ النعوت التي تضمنتها التوقيعات حول شخصية الشيخ المفيد لم تجانب الواقع و لو لم يثبت صدورها، فالمفيد كان حقاً ملهم الحق و دليله، و الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق؛ كما كان أيضاً الولي المخلص لأولياء اللّٰه المجاهد فيهم للظالمين و المنحرفين.
و أمّا كلمات أعلام الامّة في هذه الشخصية العملاقة فإنّها أطبقت على‌



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 270‌
تعظيمها، و لم تتردد في الثناء عليها و إعطائها حقّها أو دونه، فقد تقاطرت هذه الشهادات لتكريم شخصه انطلاقاً من علماء عصره و أكابر معاصريه و مروراً بالقرون العشرة الخالية التي لم يخلُ واحد منها من شهادة له و هي تستذكر جهوده العلمية و سعيه الدءوب فتطأطئ لذلك إجلالًا .. فمع آراء الأعلام:
قال ابن عساكر في حقه: «عالم الشيعة و إمام الرافضة، البارع في الكلام و الجدل و الفقه، و كان يناظر أهل كل عقيدة بالجلالة و العظمة في الدولة البهية البويهية، و كان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة و الصوم، خشن اللباس، و كان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد».
و ذكره ابن كثير فقال: «شيخ الإمامية الروافض، و المصنف لهم، و المحامي عنهم. كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف؛ لميل الكثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيّع، و كان مجلسه يحضره خلق كثير من سائر الطوائف» «1».
و قال اليافعي- عند ذكر سنة (413)-: «و فيها توفي عالم الشيعة و إمام الرافضة، صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد و بابن المعلم، البارع في الكلام و الفقه و الجدل، و كان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية» «2».
و ذكره الذهبي بقوله: «عالم الشيعة، صاحب التصانيف، كان صاحب فنون و بحوث و كلام و اعتزال و أدب» «3».
و قال أيضاً: «كان رأس الرافضة و عالمهم» «4».
و قال ابن النديم: «إليه انتهت رئاسة أصحابه من الشيعة الإمامية في الفقه و الكلام و الآثار».
______________________________
(1) البداية و النهاية 12: 15. ط- مصر.
(2) مرآة الجنان 3: 28.
(3) سير أعلام النبلاء 17: 344.
(4) تأريخ الإسلام و وفيات مشاهير الأعلام: 332.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 271‌
و قال أيضاً: «انتهت إليه رئاسة متكلمي الشيعة، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر، شاهدته فرأيته بارعاً» «1».
و قال فيه ابن حجر: «صاحب التصانيف البديعة، له صولة عظيمة بسبب عضد الدولة، و كان كثير التقشف و التخشع و الإكباب على العلم، تخرج به جماعة، و برع في المقالة الإمامية حتى كان يقال: له على كل إمام منّة! و يقال: إنّ عضد الدولة كان يزوره في داره و يعوده إذا مرض» «2».
و قال الصفدي: «رأس الرافضة، صنّف لهم كتباً، كان أوحد عصره في فنونه» «3».
و قال ابن الجوزي: «شيخ الإمامية و عالمها، صنّف على مذهبهم، و من أصحابه المرتضى. و كان لابن المعلم مجلس نظر بداره ب‍ «درب الرياح» يحضره كافّة العلماء. و كانت له منزلة عند امراء الأطراف لميلهم إلى مذهبه» «4».
و قال عنه ابن تغري بردي: «فقيه الشيعة و شيخ الرافضة و عالمها و مصنّف الكتب في مذهبها، و كان له منزلة عند بني بويه و عند ملوك الأطراف و الرافضة» «5».
و ذكره الحرضي اليماني في حوادث سنة (413): «و فيها مات عالم الشيعة المعروف بابن المعلم و بالمفيد أيضاً، و كان يناظر أهل العقائد كلهم و كان معظماً عند بني بويه؛ يزوره عضد الدولة و غيره، و كان كثير الخشوع و الصدقة و أنواع البر. و له أكثر من مائتي مصنف» «6».
و قال ابن النجار: «كان من شيوخ الشيعة و رؤسائهم، و له مصنفات على مذهب الإمامية» «7».
______________________________
(1) الفهرست: 147، 226. ط- طهران.
(2) لسان الميزان 5: 416.
(3) الوافي بالوفيات 1: 116.
(4) المنتظم 15: 57.
(5) النجوم الزاهرة 4: 258.
(6) غربال الزمان: 346.
(7) ذيل تأريخ بغداد 4: 68.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 272‌
و قال بطرس البستاني: «ابن المعلم و يلقب بالشيخ المفيد، كان ذا جلالة عظيمة في دولة بني بويه، و كان عضد الدولة ينزل إليه، عاش (76) سنة، و له مصنفات كثيرة و كان خاشعاً متعبداً» «1».
و قال كارل بروكلمان: «كان رأس الإمامية في زمانه» «2».
و وصفه النجاشي بقوله: «شيخنا و استاذنا رضى الله عنه فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية و الثقة و العلم» «3».
و أطراه الشيخ الطوسي قائلًا: «من جملة متكلمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، و كان مقدماً في العلم و صناعة الكلام، و كان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب» «4».
و مجّده ابن إدريس حيث قال: «و كان هذا الرجل كثير المحاسن، حديد الخاطر، جمّ الفضائل، غزير العلوم» «5».
و أثنى عليه ابن داود الحلّي بقوله: «فقيه الطائفة و شيخها غير مدافع، أبو عبد اللّٰه، يعرف بابن المعلم، شيخ متكلمي الإمامية و فقهائها، انتهت رياستهم إليه في وقته في العلم، فقيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، و حاله أعظم من الثناء عليه» «6».
و قال السيد ابن طاوس: «المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الذي انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه» «7».
و أطراه العلّامة بقوله: «من أجلّ مشايخ الشيعة و رئيسهم و استاذهم، و كل من تأخر عنه استفاد منه، و فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية. أوثق أهل زمانه و أعلمهم. انتهت رئاسة الإمامية إليه في وقته، و كان حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب» «8».
و عظّمه ابن أبي طي فقال: «كان أوحد في جميع فنون العلم: الأصلين‌
______________________________
(1) دائرة المعارف 1: 696.
(2) تأريخ الأدب العربي 3: 349.
(3) رجال النجاشي: 399، رقم 1067، ط- جماعة المدرسين.
(4) الفهرست (للطوسي): 514، رقم 158.
(5) السرائر (المستطرفات) 3: 648.
(6) رجال ابن داود: 333.
(7) فتح الأبواب: 129.
(8) خلاصة الأقوال: 147، رقم 45.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 273‌
و الفقه و الأخبار و معرفة الرجال و التفسير و النحو و الشعر، و كان يناظر أهل كل عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية و الرتبة الجسيمة عند الخلفاء. قيل: و ربما زاره عضد الدولة و يقول له: اشفع تشفّع» «1».
و قال السيّد بحر العلوم: «شيخ مشايخ الجلّة، و رئيس رؤساء الملّة، فاتح أبواب التحقيق بنصب الأدلّة، و الكاسر بشقائق بيانه الرشيق حجج الفرق المضلّة، اجتمعت فيه خلال الفضل، و انتهت إليه رئاسة الكل، و اتفق الجميع على علمه و فضله و فقهه و عدالته و ثقته و جلالته، و كان رضى الله عنه كثير المحاسن، جمّ المناقب، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، واسع الرواية، خبيراً بالرجال و الأخبار و الأشعار. و كان أوثق أهل زمانه في الحديث، و أعرفهم بالفقه و الكلام، و كلّ من تأخر عنه استفاد منه» «2».
و قال الشيخ أسد اللّٰه التستري: «شيخ المشايخ العظام و حجة الحجج الهداة الكرام، محيي الشريعة و ماحي البدعة و الشنيعة، ملهم الحق و دليله و منار الدين و سبيله، صاحب التوقيعات المعروفة المهدوية المنقول عليها إجماع الإمامية، و المخصوص بما فيها من المزايا و الفضائل السنية، و غيرها من الكرامات الجلية و المقامات العلية و المناظرات الكثيرة الباهرة البهية، الشيخ أبو عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي الكاظمي، سقى اللّٰه روضته ينابيع الرضوان، و أحلّه أعلى منازل الجنان» «3».
و بجّله العلّامة المجلسي في عدّة مواضع، فقال: «الشيخ الإمام، السعيد العالم، الأفضل الأتقى الأورع، أبو عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، قدّس اللّٰه نفسه و طهّر رمسه» «4».
و قال عنه أيضاً: «الإمام السعيد مرجع المذهب» «5».
و قال فيه: «الأجلّ الأفضل الأكمل، شيخ مشايخ الشيعة و مفتي الشريعة‌
______________________________
(1) سير أعلام النبلاء 17: 344. نقلًا عن كتاب «تأريخ الإمامية» ليحيى بن أبي طي الحلبي (م 630 ه‍) من فقهاء الإمامية.
(2) الفوائد الرجالية 3: 311.
(3) مقابس الأنوار: 5.
(4) بحار الأنوار 104: 19 و 197.
(5) المصدر السابق.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 274‌
علّامة الزمان و خلاصة نوع الإنسان، استاذ الخلائق و مستخرج الدقائق، العالم العامل المحقق، و البحر الزاخر المدقق، أفضل علماء الإسلام، و حجّة اللّٰه على الأنام» «1».
و وصفه أيضاً بأنّه: «شيخ الفرقة، و ملاذ العلماء «2»، و شيخ الإسلام، فقيه أهل البيت في زمانه» «3».
و قال المولى القهبائي: «من أجلّة متكلمي الإمامية، انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه في العلم، و كان مقدماً في صناعة الكلام، و كان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة» «4».
و أثنى عليه السيد الخونساري بقوله: «الشيخ المتقدم الوحيد، و الحبر المتبحر الفريد، كان من أجلّ مشايخ الشيعة و رئيسهم و استاذهم، و كل من تأخر عنه استفاد منه، و فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية، أوثق أهل زمانه و أعلمهم» «5».
و قال السيد حسن الصدر: «الشيخ المفيد أبو عبد اللّٰه، المعروف في زمانه عند الناس بابن المعلم، و عند الإمامية بالشيخ المفيد» «6».
و قال السيد هبة الدين الشهرستاني عنه «نابغة العراق و رئيس شيعته على الإطلاق، و قد كان في الشيعة عرقها النابض و بطلها الناهض و دماغها المفكر و رئيسها المدبّر، معروفاً بالصلاح بل غرّة رجال الإصلاح، و الخطيب المصقع و المتكلّم المفوّه، و المنافح اللسن، و الفصل المشترك بين الإمام و الرعية؛ ليس في ختام المائة الرابعة فحسب بل حتى اليوم» «7».
و قال العلّامة فضل اللّٰه الزنجاني: «من أجلّاء شيوخ الشيعة و متكلمي الإمامية، البارع في الفنون و العلوم الإسلامية، و أثنى عليه علماء الفريقين و وصفوه بأنّه أجلّ مشايخ الشيعة و رئيسهم و استاذهم» «8».
______________________________
(1) المصدر السابق 105: 32.
(2) المصدر السابق: 52.
(3) المصدر السابق: 67.
(4) مجمع الرجال 6: 33.
(5) روضات الجنات 6: 153.
(6) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 312.
(7) مقدمة تصحيح الاعتقاد: 172.
(8) مقدمة أوائل المقالات: 24.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 275‌
التوقيعات الصادرة بشأن الشيخ المفيد:
حكى الشيخ الطبرسي (م 588 ه‍) في أواخر كتاب الاحتجاج عن رسالة نهج العلوم إلى نفي المعدوم للشيخ يحيى بن البطريق (م 600 ه‍) أنّ توقيعات ثلاثة صدرت من الناحية المقدّسة- عجّل اللّٰه فرجه الشريف- إلى الشيخ المفيد، و كان صدورها في أواخر حياته في سنة (410 ه‍) و (412 ه‍) على التوالي و كان التوقيع الأخير سبق وفاته بثمانية أشهر.
و الموجود من هذه التوقيعات هو التوقيع الأوّل و الثاني، و أمّا الثالث فهو مفقود.
و قد اشتملت هذه التوقيعات على ثناء بليغ من الإمام المهدي- عجّل اللّٰه فرجه الشريف- على الشيخ المفيد قلّما يوجد نظير له في رسائل الأئمة عليهم السلام بشكل عام و التوقيعات الصادرة عنه- سلام اللّٰه عليه- بشكل خاص، و هو أمر ينبئ عن عظمة شخصية المخاطب فيها.
كما تضمّنت ذكر أحداث مستقبلية و أخبار غيبية لا يعلمها إلّا من يطلعه عليها عالم الغيب من الأولياء؛ مما يُعزز صدور هذه التوقيعات.
و سوف ننقل نصّ التوقيعين لنقف على مضمونهما ثمّ التعقيب على قضية صدورهما:
التوقيع الأوّل:
قال الشيخ الطبرسي رحمه الله:
«ذكر كتاب ورد من الناحية المقدّسة- حرسها اللّٰه و رعاها- في أيّام بقيت من صفر سنة عشر و أربعمائة على الشيخ أبي عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان- قدّس اللّٰه روحه و نوّر ضريحه- ذكر موصله أنّه تحمله من ناحية متصلة بالحجاز نسخته:



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 276‌
«للأخ السديد، و الولي الرشيد، الشيخ المفيد؛ أبي عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان- أدام اللّٰه إعزازه- من مستودع العهد المأخوذ على العباد:
بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد:
سلام عليك أيّها الولي (المولى خ ل) المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك اللّٰه الذي لا إلٰه إلّا هو، و نسأله الصلاة على سيدنا و مولانا نبيّنا محمّد و آله الطاهرين، و نعلمك- أدام اللّٰه توفيقك لنصرة الحق، و أجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق- أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة و تكليفك ما تؤديه عنّا إلى موالينا قبلك أعزّهم اللّٰه تعالى بطاعته و كفاهم المهم برعايته و حراسته، فقف- أمدّك (أيّدك خ ل) اللّٰه بعونه على أعدائه المارقين من دينه- على ما نذكره، و اعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء اللّٰه. نحن و إن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه اللّٰه تعالى لنا من الصلاح و لشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين فإنّا يحيط علمنا بأنبائكم، و لا يعزب عنّا شي‌ء من أخباركم و معرفتنا بالزلل (الأذى خ ل) الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، و نبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون!
إنّا غير مهملين لمراعاتكم و لا ناسين لذكركم، و لو لا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم الأعداء، فاتقوا اللّٰه- جلّ جلاله- و ظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حم أجله و يحمى عنها من أدرك أمله، و هي أمارة لُازوف حركتنا و مناقشتكم (و مباثتكم خ ل) لأمرنا و نهينا، و اللّٰه متمّ نوره و لو كره المشركون.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 277‌
فاعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية يحششها عصب اموية، و يهول بها فرقة مهدية. أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن الخفية، و سلك في الظعن عنها السبل المرضية. إذا حلّ جمادى الاولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، و استيقظوا من رقدتكم لما يكون في (من خ ل) الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية، و من الأرض مثلها بالسوية، و يحدث في أرض المشرق ما يحزن و يقلق، و يغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثمّ تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار يسرّ بهلاكه المتقون و الأخيار، و يتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه على توفير غلبة منهم و اتفاق، و لنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم و الوفاق شأن يظهر على نظام و اتساق، فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا، و ليتجنب ما يدنيه من كراهتنا و سخطنا؛ فإنّ أمرنا يبعثه فجأة حين لا تنفعه توبة و لا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، و اللّٰه يلهمكم الرشد و يلطف لكم في التوفيق برحمته».
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام: «هذا كتابنا إليك أيّها الأخ الولي، و المخلص في ودّنا الصفي، و الناصر لنا الوفي، حرسك اللّٰه بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به، و لا تظهر على خطنا- الذي سطرناه بما له ضمّنّاه- أحداً، و أدِّ ما فيه إلى من تسكن إليه، و أوصِ جماعتهم بالعمل عليه إن شاء اللّٰه، و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين»» «1».
التوقيع الثاني:
قال الطبرسي رحمه الله:
«ورد عليه كتاب آخر من قبله- صلوات اللّٰه عليه- يوم الخميس الثالث و العشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشر و أربعمائة، نسخته:
______________________________
(1) الاحتجاج 2: 318. ط- دار النعمان.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 278‌
«من عبد اللّٰه المرابط في سبيله إلى ملهم الحق و دليله:
بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك أيّها العبد الصالح الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنّا نحمد اللّٰه إليك الذي لا إلٰه إلّا هو إلهنا و إلٰه آبائنا الأولين، و نسأله الصلاة على نبينا و سيّدنا و مولانا محمّد خاتم النبيين و على أهل بيته الطيبين الطاهرين.
و بعد، فقد كنا نظرنا مناجاتك، عصمك اللّٰه تعالى بالسبب الذي وهبه لك من أوليائه، و حرسك به من كيد أعدائه، و شفعنا ذلك الآن من مستقر لنا ينصب (يتصلب خ ل) في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل (عمى ليل خ ل) ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، و يوشك أن يكون هبوطنا منه إلى صحيح من غير بُعد من الدهر و لا تطاول من الزمان، و يأتيك نبأ منّا بما يتجدد لنا من حال؛ فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، و اللّٰه موفقك لذلك برحمته. فلتكن- حرسك اللّٰه بعينه التي لا تنام- أن تقابل لذلك فتنة ففيه تبسل نفوس قوم حرثت باطلًا لاسترهاب المبطلين يبتهج لدمارها المؤمنون و يحزن لذلك المجرمون، و آية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، و لا يبلغ بذلك غرضه من الظلم لهم و العدوان؛ لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض و السماء، فليطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، و ليثقوا بالكفاية منه و إن راعتهم به الخطوب، و العاقبة بجميل صنع اللّٰه سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب. و نحن نعهد إليك أيّها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين- أيّدك اللّٰه بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين- أنّه من اتقى ربّه من إخوانك في الدين و أخرج مما عليه إلى مستحقه، كان آمناً من الفتنة المبطلة و محنتها المظلمة المضلّة،



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 279‌
و من بخل منهم بما أعاده اللّٰه من نعمته على من أمره بصلته، فإنّه يكون خاسراً بذلك لُاولاه و آخرته، و لو أنّ أشياعنا- وفّقهم اللّٰه لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة و صدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتصل بنا مما نكرهه و لا نؤثره منهم، و اللّٰه المستعان و هو حسبنا و نعم الوكيل، و صلواته على سيدنا البشير النذير محمّد و آله الطاهرين و سلّم. و كتب في غرة شوال من سنة اثني عشرة و أربعمائة».
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات اللّٰه على صاحبها: «هذا كتابنا إليك- أيّها الولي الملهم للحق العلي- بإملائنا و خط ثقتنا، فاخفِه عن كلّ أحد و اطوِه، و اجعل له نسخة يطّلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم اللّٰه ببركتنا و دعائنا إن شاء اللّٰه، و الحمد للّٰه و الصلاة على سيدنا محمّد و آله الطاهرين»» «1».
[تقويم التوقيع]
و الذي يظهر من تأريخ التوقيع الثاني أنّه وصل إلى الشيخ قبل وفاته بثمانية أشهر تقريباً.
إلّا أنّ المشكلة في هذه التوقيعات هو وجود الإرسال فيها بين الشيخ الطبرسي و الشيخ المفيد.
قال السيد الخوئي قدس سره: «هذه التوقيعات لا يمكننا الجزم بصدورها من الناحية المقدّسة؛ فإنّ الشيخ المفيد قدس سره قد تولد بعد الغيبة الكبرى بسبع أو تسع سنين، و موصل التوقيع إلى الشيخ المفيد قدس سره مجهول.
هب أنّ الشيخ المفيد جزم بقرائن أنّ التوقيع صدر من الناحية المقدسة، و لكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟! على أنّ رواية الاحتجاج لهذين التوقيعين مرسلة، و الواسطة بين الطبرسي و الشيخ المفيد مجهول» «2».
______________________________
(1) المصدر السابق: 324.
(2) معجم رجال الحديث 17: 209.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 280‌
و لكن بالرغم من ذلك فإنّ جملة من العلماء- إضافة للطبرسي و ابن البطريق- قد تلقوا هذه التوقيعات بالقبول، كالمحدث البحراني «1» و السيد بحر العلوم «2» و المحقق الكاظمي «3» و المحدّث النوري «4»، بل نسب ابن البطريق روايتها و قبولها إلى كافّة الشيعة، و في الخاتمة و المقابس نسبته إلى الإجماع المنقول أيضاً.
و قد عالج السيد بحر العلوم قدس سره مشكلة الإرسال أوّلًا، و جهالة الواسطة التي نقلت التوقيع إلى الشيخ المفيد ثانياً، و دعوى الواسطة المشاهَدة المنفيّة بعد الغيبة ثالثاً، فقال: «و يمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن و اشتمال التوقيع على الملاحم و الإخبار عن الغيب الذي لا يطلع عليه إلّا اللّٰه و أولياؤه بإظهاره لهم، و أنّ المشاهدة المنفية أن يشاهد الإمام و يعلم أنّه الحجّة عليه السلام حال مشاهدته له، و لم يعلم من المبلّغ ادعاؤه لذلك» «5».
و ذهب السيد الخوئي قدس سره إلى عدم إمكان اعتماد هذا الجواب و كفايته، و ذلك تأسيساً على مبناه في حجّية الأخبار و أنّ الطريق في حجيتها منحصر بوثاقة رجال السند فحسب- كما ذهب إلى ذلك الشهيد الثاني و ولده الشيخ حسن و غيرهما- حتى لو كان المشهور قد عمل بها أو وجدت القرائن المعتبرة على ذلك فليست هذه جابرة لضعف الرواية.
فالكلام إذاً عن قبول هذه التوقيعات أو ردّها مبنائي لدى الطرفين، فمن يقيم وزناً للمراسيل لأجل عمل الأصحاب أو فتواهم بها أو وجود القرائن المعتبرة على صدورها- كمن ذكرنا من الأعلام و غيرهم ممن يقول بمقالتهم و يرى صحّة هذه القاعدة- كانت هذه التوقيعات مقبولة لديه؛ لعدم انحصار وثاقة الرواية عنده بوثاقة الراوي، بل يمكن إحراز الوثاقة من غير طريق السند. و أمّا من لا يقيم لذلك وزناً و لا يرى لها اعتباراً لانحصار الوثاقة عنده بوثاقة السند فإنّه لا يرى صحّة هذه التوقيعات لضعف سندها.
______________________________
(1) لؤلؤة البحرين: 356. ط- المطبعة الحيدرية.
(2) الفوائد الرجالية 3: 311.
(3) مقابس الأنوار: 5.
(4) الفوائد الرجالية 3: 311.
(5) مستدرك الوسائل 3: 517.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 281‌
و يمكن تأييد القول الأوّل بامور:
1- الإجماع الوارد في كلام ابن البطريق؛ حيث نسب رواية هذه التوقيعات إلى كافّة الشيعة و أنّها قد تلقتها بالقبول «1».
و قد نقل المحقق الكاظمي و المحدث النوري الإجماع المنقول على ذلك، قال أولهما: «المفيد شيخ المشايخ العظام- إلى قوله:- صاحب التوقيعات المعروفة المهدوية المنقول عليها إجماع الإمامية، و المخصوص بما فيها من المزايا و الفضائل السنية، و غيرها من الكرامات الجلية و المقامات العلية» «2».
بل يفهم هذا من كلام الشيخ الطوسي أيضاً إذا طبّقناه على ما نحن فيه، حيث نسب إلى الطائفة أنّها عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر «3».
و ليس ثمّة معارض لمثل هذه التوقيعات كما هو واضح.
2- ما ذكره الشيخ الطبرسي حول روايات الاحتجاج و أسانيدها و وجه الإرسال فيها حيث قال في مقدمة كتابه: «و لا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بأسناده؛ إمّا لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلّت عليه العقول إليه، أو لاشتهاره في السير و الكتب بين المخالف و المؤالف، إلّا ما أوردته عن أبي محمّد الحسن العسكري عليه السلام فإنّه ليس في الاشتهار على حدّ ما سواه و إن كان مشتملًا على مثل الذي قدمناه، فلأجل ذلك ذكرت أسناده في جزء من ذلك دون غيره» «4».
3- عدم توفر دواعي الوضع أو الكذب؛ إذ لم تكن شخصية الشيخ المفيد و مكانتها محلّ كلام و نقاش لكي يوضع في حقه مثل هذا التوقيعات، كما لا توجد في شخصه أيّة مغالاة أو تطرّف استدعى الوضع بحقه، ثمّ لما ذا الشيخ‌
______________________________
(1) لؤلؤة البحرين: 367.
(2) مقابس الأنوار: 5. خاتمة المستدرك 3: 517.
(3) عدّة الاصول 1: 387. ط- مؤسسة آل البيت.
(4) الاحتجاج 1: 4.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 282‌
المفيد بالخصوص دون غيره ممن هو أقرب و أسبق منه مثل استاذه ابن قولويه أو الكليني أو الصدوق ممّن لم يذكر فيه مثل هذا؟! و أيضاً لما ذا ثلاثة توقيعات مع أنّه يكفي واحد منها؟!
4- وجود الشواهد المضمونية الدالّة على الصدور، كالإخبار عن امور لم تقع آنذاك مثل:
وقوع حادثة كبيرة و مهمة في شهر رجب من سنة (410 ه‍).
ظهور آية في السماء جلية و اخرى مثلها أرضية، و حدوث أمر في المشرق يبعث على الحزن.
غلبة طائفة من المارقين عن الإسلام على بلاد العراق تضيق بسببهم الأرزاق.
انكشاف هذه الغمّة بهلاك طاغوت من الأشرار.
هذه أهم الشواهد على صحّة هذه التوقيعات. و بالرغم مما ناقش فيه السيد الخوئي قدس سره في كلام السيد بحر العلوم قدس سره إلّا أنّه لم يناقش فيما ذكره من أمر هذه الشواهد المضمونية.
و قد احتمل بعض الباحثين «1» انطباق هذه الامور على جملة حوادث تأريخية وقعت بعد ذلك.
فالحادثة الثانية (حادثة المشرق) يمكن أن تكون إشارة إلى تصرفات السلطان محمّد الغزنوي و جرائمه ضد الفرق المخالفة و منهم الشيعة.
و الحادثة الثالثة قد تشير إلى الخلاف بين سلطان الدولة و مشرف الدولة، و خلاصة الحادث: أنّ مشرف الدولة جمع عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط بعد إنفاذ سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق،
______________________________
(1) انظر: المقالات و الرسالات 9: 82.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 283‌
و لقي ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان و تحصّن بواسط، و حاصره مشرف الدولة و ضيّق عليه، فغلت الأسعار، و أكل الناس الدواب، حتى الكلاب، و كانت هذه الواقعة في سنة (411)، و في سنة (412) سيطر مشرف الدولة على امور العراق، ثمّ أغدر في العساكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، و هجموا على [وزيره] أبي غالب فقتلوه، و أخيراً اصطلح سلطان الدولة و أخوه مشرف الدولة «1».
و عليه، فإنّ موت أبي غالب يمكن أن يكون بياناً للحادثة الرابعة، و كذا يمكن أن يكون بياناً للحادثة الخامسة.
و لكي يتضح هذا الموضوع لا بدّ من معرفة عدد السنوات التي لم يذهب فيها أحد من العراق إلى الحج بسبب الفتن في هذه البلاد. ففي السنة (412) و إثر طلب من جماعة من العلماء و المسلمين تقدم محمود الغزنوي إلى قاضي القضاة أبي محمّد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة ... فسار الناس بصحبته، فلما كانوا ب‍ «فيد» اعترضهم الأعراب فصالحهم القاضي ... فامتنعوا، و صمم كبيرهم- و هو جماز بن عدي- على أخذ الحجيج، و ركب فرسه وجال جولة و استنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتاً ... و سلك الناس الطريق فحجوا و رجعوا سالمين «2».
و أمّا الحادثة السادسة حول جريمة الحرم المعظم فيمكن أن نذكر الحادثة التالية: إنّه عمد أحد الباطنية من الحجاج المصريين [سنة 413 ه‍] إلى الحجر الأسود فضربه بدبوس كان في يده حتى شعثه و كسر قطعاً منه و أهان النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نوى تخريب بيت اللّٰه، و عاجله الناس فقتلوه «3».
نعم ثمّة مناقشة أو إبهام يمكن تسجيله حول هذه التوقيعات، و هو عدم وجود أي تصريح أو إشارة في كلام تلامذة الشيخ المفيد- أمثال السيد‌
______________________________
(1) الكامل (لابن الأثير) 9: 318- 327.
(2) البداية و النهاية 12: 5- 11.
(3) المنتظم 8: 48. البداية و النهاية 12: 31. العبر 2: 223.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 284‌
المرتضى و الشيخ الطوسي و النجاشي و الكراجكي و الجعفري و غيرهم- إلى وجود هذه التوقيعات، مع أنّه لو كانوا مطلعين عليها- و هو من الامور التي يطلع عليها عادة و تنقل- لنقلوه و سطروه في كتبهم سيّما الشيخ الطوسي الذي صنّف في الغيبة و تعرّض للتوقيعات الصادرة عن الإمام عليه السلام في كتابه الغيبة.
و قد يقال دفاعاً و توضيحاً لهذا الإبهام:
إنّه قد ورد في هذه التوقيعات الأمر بإخفائها و عدم اطلاع الآخرين عليها: «و لا تظهر على خطنا- الذي سطرناه بما له ضمّنّاه- أحداً، و أدِّ ما فيه إلى من تسكن إليه، و أوصِ جماعتهم بالعمل عليه». هذا ما جاء في ذيل التوقيع الأوّل. و جاء في ذيل التوقيع الثاني: «هذا كتابنا إليك ... فاخفِه عن كل أحد و اطوِه».
و لكن هذا الكلام غير تام؛ لعدّة امور:
الأوّل: إنّ الأمر جاء بإخفاء الخط دون المضمون، بل جاء الأمر بإبلاغه إلى من يسكن إليه و أن يوصي جماعتهم بالعمل عليه، و هذا الإبلاغ لا يكون- على ما تضمنه من أخبار غيبية- إلّا بذكر المخبر الذي أعلم الشيخ المفيد بذلك و هو الإمام عليه السلام، و النهي لم يتعلق بالنهي عن ذكر المصدر بل عن إظهار الخط، إذ أنّ طبيعة الأمر أن يذكر المصدر أو يُسأل عن المخبر بمثل هذه الامور الغيبية.
بل إنّه قد ورد في ذيل التوقيع الثاني بعد الفقرة السابقة: «و اجعل له نسخة تُطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا».
فالحذر من الاطلاع على النسخة الأصلية و خطها لا النسخة الثانية، سواء فسّرنا الأمر بالاطّلاع الاطلاع على نفس النسخة- كما هو الظاهر- أو مضمونها.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 285‌
و لكن يمكن القول مع ذلك بأنّ الإبلاغ يمكن أن يتحقق بأحد صورتين:
1- أن يبلغ الشيخ المفيد من يسكن إليه و يأمره بالإخفاء فأخفى و لم يظهر.
2- أن يخبر الشيخ المفيد بما ورد في الكتابين من وصايا و تعليمات من دون تعرّض للحوادث و الأخبار الواردة فيهما لكي لا يستدعي السؤال و الاستفسار.
و الصورة الاولى أقرب إلى الواقع.
بيئته:
في قرية تسمى «سويقة البصري» من قرى بلدة «عكبرا» التي تبعد عن بغداد إلى ناحية الدجيل بعشرة فراسخ «1» كانت ولادة الشيخ المفيد، حيث رأى النور في هذه القرية و احتضنته بضع سنين ليغادرها بعد ذلك برفقة أبيه إلى بغداد.
ترعرع الشيخ المفيد في ظل اسرة متعلِّمة و فاضلة في كنف والده الذي لا نعرف من أخباره سوى أنّه كان معلماً في مدينة «واسط»- و لذا عُرف المفيد بابن المعلم- و أنّه ولد بواسط و قتل في «عكبرا» «2».
و ما أن تجاوز المفيد سني الطفولة و اتقن مبادئ القراءة و الكتابة- التي قد تكون تمّت بإشراف أبيه- حتى انحدر به والده و هو صبي إلى بغداد حاضرة العلم و مهوى أفئدة المتعلمين، ليبدأ رحلته في العلم و ليجد مكانته المناسبة فيها «3».
درس الشيخ المفيد في مقتبل أمره على كبار علماء البيئة البغدادية من أضراب: أبي عبد اللّٰه الحسين بن علي البصري المعروف ب‍ «الجُعَل»‌
______________________________
(1) معجم البلدان 4: 142.
(2) لسان الميزان 5: 416.
(3) انظر: أعيان الشيعة 9: 420.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 286‌
من شيوخ المعتزلة البارزين في الفقه و الكلام «1»، و أبي ياسر مظفر بن محمّد الخراساني البلخي المكنّى بأبي الجيش، قال النجاشي في ترجمته:
«كان متكلماً، و عليه كان ابتداء قراءة شيخنا أبي عبد اللّٰه رحمه اللّٰه» «2» أي المفيد.
ثمّ اقترح عليه شيخه أبو ياسر الحضور في مجلس درس علي بن عيسى الرماني المعتزلي المعروف «3» و الذي تقدم حكاية حضور الشيخ المفيد فيه و ما حصل له مع الرماني، فحضر عليه المفيد مستفيداً من تخصصه في علم الكلام.
و هكذا أخذ يتدرج في العلم على يد مشايخ بغداد و هو في مقتبل من عمره، حتى أنّه يوجد في بعض أسانيد ما يرويه أنّه سمع الحديث و هو في سنّ الخامسة من عمره.
و قد كانت بيئته بغداد التي لم يغادرها منذ أن وطئت ترابها قدماه تمثل عاصمة العالم الإسلامي في العلم و الفكر و الحضارة كما هي عاصمته في الحكومة و السياسة، كانت بغداد تزخر بصنوف التيارات و الاتجاهات و المذاهب، و تزدحم أروقتها بعشرات العلماء من فقهاء و متكلمين و مفسرين و فلاسفة و ادباء و شعراء و أطباء و غيرهم. و من رموز عصره الذين عايشهم و عاصرهم و تعاطى معهم علمياً:
1- أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد الباقلاني (م 403 ه‍)، و قد كانت للشيخ المفيد معه مناظرات و حوارات.
2- أبو الجيش مظفر بن محمّد الخراساني (م 367 ه‍) قال عنه الشيخ الطوسي: «متكلم، له كتب في الإمامة، و كان عارفاً بالأخبار، و كان من غلمان أبي سهل النوبختي ... و كان شيخنا أبو عبد اللّٰه رحمه الله قرأ عليه و أخذ» «4».
______________________________
(1) تأريخ بغداد 8: 73.
(2) رجال النجاشي: 208 رقم 552.
(3) معجم الادباء 14: 73.
(4) الفهرست (للطوسي): 331 رقم 720.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 287‌
3- أبو حامد بن محمّد الإسفراييني (م 406 ه‍) إمام الشافعية آنذاك، حتى قيل: إنّه أفقه و أنظر من الشافعي نفسه، و كان يدرس بمسجد عبد اللّٰه ابن المبارك ببغداد، و كان يحضر مجلسه ما بين ثلاثمائة و سبعمائة فقيه «1».
4- أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني (ولد سنة 306 ه‍) إمام الحديث ببغداد؛ من أهل محلة «دار القطن»، قال عنه الذهبي: «كان من بحور العلم و من أئمة الدنيا. انتهى إليه الحفظ و معرفة علل الحديث و رجاله» «2».
تلك كانت أهم الرموز التي كوّنت المناخ العلمي و الثقافي لبغداد، فكانت أسماؤهم تدور في المجالس على الأفواه بكل تجلّة و احترام، و مصنفاتهم تنسخ و تدرّس، و آراؤهم تنقل و تنقد و هي المقياس في كل علم و صناعة.
لقد تميزت المدرسة البغدادية عن مثيلاتها في الري و قم و خراسان منهجاً و فكراً و عمقاً و تكويناً مذهبياً، فكانت النزعة العقلية هي المسيطرة في الساحة العلمية و الفكرية؛ و ذلك لوجود المعتزلة و الشيعة فيها، و هذا بعكسه في باقي المدارس- كقم مثلًا- حيث كانت الاخبارية التقليدية هي السائدة هناك، و لم تشهد ساحتها تعددية مذهبية أو فكرية كما عليه الأمر في بغداد.
لقد كانت بغداد في القرن الرابع الهجري تحتضن أضخم المدارس الفلسفية و الكلامية لدى الشيعة و المعتزلة و الأشاعرة- فضلًا عن المدارس الفقهية و اللغوية و الأدبية- و هي تحتفظ برصيد علمي كبير على هذا الصعيد يشهد له ما ورثته الأجيال التي أعقبت تلك الفترة و حتى يومنا الحاضر بالرغم من جميع المآسي التي اصيبت بها الحالة العلمية من حرق المكتبات و دور العلم و إشعال الحمامات بالكتب مدة طويلة جرّاء الفتن الداخلية و سقوط بغداد على يد المغول.
______________________________
(1) طبقات الشافعية (للسبكي) 3: 25.
(2) سير أعلام النبلاء 16: 450.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 288‌
و قد كانت الشيعة و الحنابلة تشكّلان أهم ركائز التكوين المذهبي في بغداد. و لم تكن الحياة آنذاك تخلو من تجاذبات مذهبية بين المذاهب و الفرق.
و يحدثنا «آدم متز» عن التكوين المذهبي و البيئي في بغداد في القرن الرابع فيقول: «و كانت بغداد هي العاصمة بمعنى الكلمة الحقيقي، و آية ذلك أنّ جميع الحركات الروحية في مملكة الإسلام كانت تتلاطم أمواجها في بغداد، و كان بها لجميع المذاهب أنصار. و لكن أكبر حزبين كانا بها في القرن الرابع الهجري هما الحزبان المتشدّدان في التمسك بمذهبهما و هما الحنابلة و الشيعة».
ثمّ يحدد بالتفصيل مناطق تواجد الشيعة في بغداد قائلًا: «و كان أنصار الشيعة يسكنون بنوع خاص حول سوق الكرخ، و لم يتعدّوا الجسر الكبير و يحتلّوا باب الطاق إلّا في أواخر القرن الرابع الهجري، و لم يستطيعوا التعدي إلى القسم الغربي؛ لأنّ الهاشميين (العباسيين) يكوّنون عصبة قوية هناك و لا سيّما حول باب البصرة، و كانوا من أشد أعداء الشيعة. على أنّ ياقوتاً وجد أنّ أهل محلّة «باب البصرة»- بين كرخ بغداد و القبلة- كلهم سنية حنابلة، و أنّ عن يسار الكرخ و في جنوبها سنيّة، أمّا الكرخ فأهلها كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سنّي البتة. و إلى جانب ما تقدم كان «باب الشعير» غربي شاطئ دجلة من أكبر مراكز أهل السنة» «1».
و كانت دار الشيخ المفيد تقع ب‍ «درب رياح» يعقد فيها مجلسه الذي يحضره كافّة العلماء «2».
و أمّا مسجده الذي كان يمارس فيه نشاطه العلمي و يلقي دروسه فيه فهو «مسجد براثا» بالكرخ الذي يصفه ابن كثير في حوادث سنة (354) بأنّه عشّ الشيعة آنذاك «3». و قد كان هذا المسجد سابقاً بيد الشيعة في سنة (313 ه‍) و لكنه سوّي بالأرض بأمر الخليفة و وصل بالمقبرة التي تليه، ثمّ أمر «بجكم»‌
______________________________
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1: 133.
(2) المنتظم في تأريخ الملوك و الامم 8: 11.
(3) () البداية و النهاية 11: 254.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 289‌
بإعادة بنائه و توسعته في سنة (328 ه‍) ليكون مسجداً لأهل السنّة، و كتب في صدره اسم الراضي باللّٰه، ثمّ اعيد للشيعة أيّام البويهيين «1» و صار عشاً لهم كما وصفه ابن كثير الدمشقي، و هو مسجد الشيخ المفيد الذي كان يزاول فيه نشاطه الديني و العلمي.
الوضع السياسي في عصر الشيخ المفيد:
يعتبر القرن الرابع الهجري من القرون التي تغيّرت فيها صياغة العالم الإسلامي سياسياً و فكرياً و جغرافياً و اجتماعياً حتى اطلق عليه عصر النهضة «2»، و كان العامل الأساس في جميع هذه المتغيرات هو العامل السياسي، حيث قدّر لبعض البلاد أن تستقل عن مركز الخلافة ببغداد و يتغلّب حكّام جُدد على أمر الحكومة فيها.
يقول الاستاذ السيد حسن الأمين: «في أواسط القرن الرابع الهجري كان يسود معظم أرجاء العالم الإسلامي نوع جديد من الحكم لم يألفه هذا العالم من قبل؛ حكم جديد قدّر له أن يقود المسلمين إلى النهوض العلمي و يقيم منارتهم التي انطلق رجعها إلى كلّ مكان».
و يتابع الحديث قائلًا: «القرن الرابع الهجري بإجماع الباحثين و المؤرخين هو قرن انبعاث الحضارة الإسلامية؛ حضارة العلم و الفكرة؛ حضارة الكتاب و القلم و المدرسة».
و يصف بلاد العالم الإسلامي آنذاك بالقول: «كانت القاهرة، و كانت حلب، و كانت بغداد في القرن الرابع الهجري و ما تلاه مراكز لحضارة إسلامية أينعت ثمارها بتشجيع اولئك الحكّام و تعضيدهم، و رسخت جذورها بمؤازرتهم، و امتدت فروعها بأيديهم، لم يُبِح الحكام العلم لفريق و يمنعوه عن فريق، بل أباحوه و سهلوا سبله لكلّ فريق و لو خالفهم هذا الفريق في الرأي و الميل» «3».
______________________________
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1: 135.
(2) مقدمة أحمد أمين على كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري: 5.
(3) المقالات و الرسالات، رقم 6 مقال تحت عنوان «أثر مدرسة الشيخ المفيد في بلاد الشام»: 4.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 290‌
هذا هو وضع العالم الإسلامي بشكل عام، و أمّا وضع الشيعة آنذاك فقد شهدت البرهة التي عاصرها الشيخ المفيد انفراجاً سياسياً ملحوظاً على مستوى المذهب الإمامي الذي عانى أتباعه الأمرين من تعنّت العباسيين و بطشهم و مضايقاتهم، ففي هذا الظرف أخذت الدولة العباسية بالتهرؤ و التفتّت و العجز، و استقلّت كثير من أطرافها عن مركز القرار في عاصمتها بغداد، و لم يبقَ من الخلافة إلّا رسمها و من الخليفة إلّا اسمه عند ما أسس الفاطميون- و هم شيعة إسماعيليون- دولتهم في مصر على يد مؤسسها عبيد اللّٰه المهدي في سنة (296 ه‍) و الحمدانيون في الشام و بنو طاهر في إيران، و هكذا لم يبقَ في يد الخليفة إلّا بغداد و أعمالها، بل لم تسلم هي الاخرى من سير الأحداث السريعة و المتتابعة حينما امتدت يد آل بويه من بلاد فارس لتلوي عنق الخلافة و تأخذ بأنفاس الخلفاء من سنة (334 ه‍) إلى (347 ه‍) ممّا أعطى الشيعة قدراً من الحرية المذهبية و الفكرية و عزّز من موقعهم الاجتماعي سيّما و أنّ بعض هذه الحكومات شيعية، خصوصاً في عهد عضد الدولة.
يقول ابن الأثير مؤرّخاً لتلك الحقبة: «و ازداد أمر الخلافة إدباراً، و لم يبقَ لهم (للخلفاء العباسيين) من الأمر شي‌ء البتة، و قد كانوا يُراجعون و يؤخذ أمرهم و الحرمة قائمة بعض الشي‌ء، فلما كان أيّام معزّ الدولة زال ذلك جميعه؛ بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، و إنّما كان له كاتب يدبر اقطاعه و إخراجاته لا غير، و صارت الوزارة لمعزّ الدولة يستوزر لنفسه من يريد» «1».
و قد عاصر الشيخ المفيد من الامراء البويهيين ثمانية، و هم:
1- معزّ الدولة البويهي، و هو أوّل الامراء البويهيين الذين دخلوا العراق سنة (334)، و استمرت إمارته (22) عاماً أي إلى سنة (356 ه‍)، و ذلك بعد ما كاتبه قواد بغداد طالبين منه المسير اليهم و الاستيلاء على هذه المدينة،
______________________________
(1) الكامل في التاريخ 7: 207.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 291‌
فقابله الخليفة المستكفي بحفاوة، و خلع عليه، و لقبه «معزّ الدولة» و كان اسمه أحمد بن بويه، و لقب أخاه علياً «عماد الدولة» و لقب أخاه الحسن «ركن الدولة» و ضرب أسماءهم على السكة «1».
2- ولده عزّ الدولة (بختيار)، و تولّى الأمر بعد أبيه من سنة (356 إلى 367 ه‍)، و قد عزل الخليفة المطيع و أقام الطائع مكانه «2».
3- عضد الدولة الذي حكم خمس سنوات و نصف من سنة (367 إلى 372 ه‍) «3».
4- ولده صمصام الدولة (372- 376 ه‍) «4».
5- أخوه شرف الدولة (376- 379 ه‍). و كلاهما قد عاصر الطائع «5».
6- أخوه بهاء الدولة (379- 403)، و قد عاصر الطائع و القادر باللّٰه، و حكم (24) سنة «6».
7- سلطان الدولة (403- 411 ه‍)، و كان معاصراً للقادر «7».
8- مشرف الدولة (411- 416 ه‍) و كان معاصراً للخليفة القادر أيضاً «8».
و قد كانت وفاة الشيخ المفيد في زمن مشرف الدولة سنة (413 ه‍) الذي لم يعمر في السلطة سوى خمس سنين و بضعة أيّام، و مات و له من العمر ثلاث و عشرون سنة، و كان كثير الخير؛ قليل الشر؛ عادلًا؛ حسن السيرة، و قد ضعف في زمانه سلطان بني بويه، و ازداد نفوذ الأتراك في الحكم «9».
و لم تكشف المصادر التأريخية عن نوع العلاقة بين الشيخ المفيد و بين هؤلاء الامراء سوى ما ينقل من علاقة عضد الدولة و احترامه للشيخ المفيد. و يمكن أن يُعزى الأمر في عدم وجود علاقة بينه و بين هؤلاء الامراء الشيعة أو‌
______________________________
(1) تأريخ الإسلام (للدكتور حسن إبراهيم حسن) 3: 43.
(2) المصدر السابق: 45.
(3) المصدر السابق: 47.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق: 50.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق: 56.
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق: 57.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 292‌
ذوي الميول الشيعية إلى أحد أمرين:
1- انصراف هؤلاء سيما المتقدمين منهم إلى تثبيت سلطانهم و أمر الحكومة.
2- عدم امتلاكهم المؤهلات العلمية أو الحوافز الذاتية للتقرب من العلماء.
و لم يكن هذان الأمران في عهد عضد الدولة، فقد أحكم الامور و أخذ بزمامها بشكل واسع و أطلق يد البويهيين أكثر من ذي قبل، كما كان محباً للعلم و العلماء ميالًا إلى مجالسهم. يقول «أمدروز»: «إنّ قوّة بني بويه قد تسنّمت غاربها في عهد عضد الدولة، و إنّ قصره كان محط كبار رجال العلم و الأدب، فقصده العلماء من كلّ بلد و صنفوا له الكتب» «1».
كما قام بعمارة بغداد، و البلاد و كان حسن السياسة، و إنّه- كما يقول ابن العميد- لم يبلغ أحد من امراء بني بويه ما بلغه عضد الدولة من سعة الملك و بسطة السلطان، حتى دان له سائر امراء بني بويه، و امتدّ سلطانه على بغداد و العراق و كرمان و فارس و عمان و خوزستان و الموصل و ديار بكر و منبج. كما يقول عنه أيضاً: إنّ عضد الدولة كان أوّل من خوطب ب‍ «الملك» في الإسلام، و إنّه كان يخطب له على المنابر ب‍ «شاهنشاه» الأعظم ملك الملوك «2».
و قد كان عضد الدولة على ما هو عليه يكنّ لشخصية الشيخ المفيد بالغ الاحترام و التكريم، حتى انّه كان يزوره في داره، و يعوده عند مرضه، و يقول له: اشفع تشفّع! «3».
و لعلّ الشيخ المفيد هو الشخصية العلمائية الوحيدة في بغداد التي حظيت بهذا النوع من التعامل من قبل عضد الدولة في حين أنّ العلماء كانوا هم الذين يقصدون دار عضد الدولة لا العكس!
______________________________
(1) نقلًا عن المصدر السابق: 48.
(2) المصدر السابق نقلًا عن تأريخ المسلمين: 236- 239.
(3) سير أعلام النبلاء 17: 344.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 293‌
و لا شك أنّ مثل هذه العلاقة الوطيدة قد دعمت الموقع العلمي و الاجتماعي للشيخ المفيد، كما كان مركز الشيخ المفيد و مرجعيته العلمية عاملين آخرين لعبا دوراً هامّاً في دعم و تكريس موقع الشيعة بعد كلّ الذي نالوه و لحق بهم، و عليه فإنّ الشيخ المفيد هو الزعامة الدينية و العلمية الاولى التي استطاعت- بعد الغيبة الكبرى- أن تتصدى لرئاسة الشيعة و تستقطب جمهورها، و يلتف حولها أكابر علماء الطائفة، و تكوّن مدرستها العريقة ببغداد.
لقد عاصر الشيخ المفيد قدس سره الكثير مما شهدته بغداد من الفتن المذهبية التي كان يشعل فتيلها الجهّال و القصّاص و أهل الفتن، فكانت الفتنة تحرّك رأسها بين الفينة و الاخرى لتكدّر حياة البيئة البغدادية و تعرضها للاضطرابات و الحرق و التعدي، حيث حُرقت مناطق الكرخ و باب الطاق التي يسكنها الشيعة مرات عديدة، حتى أنّه «قيل لعضد الدولة: إنّ أهل بغداد قد قلّوا كثيراً بسبب الطاعون و ما وقع من الفتن بسبب الرفض و السنة، و أصابهم حريق و غريق!؟ فقال: إنّما يهيّج بين الناس هؤلاء القصّاص و الوعاظ. ثمّ رسم أنّ أحداً لا يقصّ و لا يعظ في سائر بغداد» «1».
و قد امتدت ألسنة الفتنة لتصل شرارتها إلى العلماء من أمثال الشيخ المفيد الذي ابعد ثلاث مرّات من بغداد في ظروف غامضة في عصر البويهيين ريثما تهدأ الامور و تنام الفتنة قليلًا ثمّ يعود الشيخ ليزاول دوره العلمي من جديد. و قد تمّت أوّل عملية إبعاد له في سنة (392 أو 393 ه‍) ثمّ تلتها في سنة (398) و الثالثة سنة (409) أي كان ذلك بعد وفاة عضد الدولة (م 372 ه‍).
و كانت أوّل سنة تمّ فيها نفي الشيخ المفيد هي سنة (392 ه‍) كما ذكرنا و التي يحدثنا عنها ابن الأثير فيقول: «و فيها اشتدت الفتنة ببغداد، و انتشر العيارون و المفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن استاذ هرمز إلى العراق ليدبّر أمره، فوصل إلى بغداد فزينت له، و قمع المفسدين،
______________________________
(1) البداية و النهاية 11: 289.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 294‌
و منع السنة و الشيعة من إظهار مذاهبهم، و نفى بعد ذلك ابن المعلم فقيه الإمامية» «1».
و أمّا المرّة الثانية فكانت سنة (398 ه‍) حيث «جرت فتنة بين السنّة و الرافضة، سببها: أنّ بعض الهاشميين (بني العباس) قصد أبا عبد اللّٰه محمّد ابن النعمان المعروف بابن المعلم، و كان فقيه الشيعة في مسجده ب‍ «درب رياح»، فعرض له بالسب، فثار أصحابه له و استنفر أصحاب الكرخ و صاروا إلى دار القاضي أبي محمّد الأكفاني و الشيخ أبي حامد الإسفراييني (من علماء الجمهور) و جرت فتنة عظيمة طويلة ... و بعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فاخرج منها ثمّ شُفّع فيه، و منعت القصاص من التعرض للذكر و السؤال باسم الشيخين و علي رضى الله عنه» «2».
و كان موقع الشيخ المفيد المتميّز عند البويهيين قد ساعده على ممارسة دوره العلمي بأعلى المستويات و بحرية علمية تامة، فقد «كان يناظر أهل كل عقيدة بالجلالة و العظمة في الدولة البهية البويهية» «3».
و الذي يبدو من بعض النصوص التأريخية أنّ شهرة الشيخ المفيد و موقعه لم يقفا عند حدود بغداد و امرائها من آل بويه بل امتدا إلى ملوك الأطراف و الممالك الإسلامية الاخرى، و هذا ما اقتضبته عبارة ابن الأثير بقوله: «كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف؛ لميل الكثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيّع» «4» إشارةً منه إلى دولة الحمدانيين و الفاطميين و بني عمار و غيرهم.
شيوخه:
اقترنت حياة الشيخ المفيد منذ صباه بالنبوغ و الذكاء، و كان شغفاً بطلب العلم منذ طفولته؛ ولِعاً بكسب المعارف، فقد نال إجازة الحديث من شيخه‌
______________________________
(1) الكامل في التأريخ 9: 178. ط- دار صادر.
(2) البداية و النهاية 11: 338.
(3) سير أعلام النبلاء 17: 344.
(4) البداية و النهاية 12: 15.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 295‌
ابن أبي اليابس (م 341 ه‍) و هو في الخامسة من عمره، كما روى بالإجازة عن ابن السمّاك (م 344 ه‍) و له من العمر حين موته سبع سنين و أربعة أشهر «1»، و تحمّل الرواية أيضاً عن جماعة من المحدثين و هو بعد لم يتجاوز الاثني عشر عاماً «2».
و روى أيضاً عن أبي علي الصولي و علي بن بلال المهلّبي و ابن الجعابي (م 355 ه‍) في سنّ السادسة عشرة، و عن الشيخ الصدوق قبل بلوغه العشرين، و عن الحسن بن حمزة بن علي المرعشي في الثامنة عشرة أو العشرين «3».
و سوف نشير عند الحديث عن الأبعاد العلمية في شخصية الشيخ المفيد إلى أساتذته في كلّ مجال و علم أخذ فيه عنهم، و لكن نشير إجمالًا إلى أهم من تأثر بهم، و يأتي على رأسهم شيخه ابن قولويه (م 368 ه‍) الذي أخذ عنه الفقه «4»، و كان آية في العلم و الفقاهة، يصفه النجاشي فيقول: «و كل ما يوصف به الناس من جميل و ثقة وفقه فهو فوقه» «5».
و من أساتذته في الحديث: الشيخ الصدوق لقيه عند ما قدم إلى بغداد سنة (356 ه‍).
و من عيون أساتذته في الكلام علي بن عيسى الرماني، و أبو ياسر غلام أبي الجيش البلخي، و أبو عبد اللّٰه المعروف بالجُعَل «6».
إنّ عظمة الشيخ العلمية و عظمة تراثه الغني تفرض في نفسها بلا شك وفرة أساتذته و من استفاد عنه العلم، فالشيخ المفيد- و كما نعرف- شخصية متعددة الجهات و الأطراف قد جمعت علوماً عديدة و فنوناً كثيرة استفادها من جمع غفير من فطاحل العلم في زمانه. و قد ذكر المحدّث النوري خمسين شيخاً من أساتذته، و زاد عليهم العلّامة السيد الخرسان أحد عشر اسماً فصاروا (61) شخصاً «7»، و زاد عليهم السيد محمّد جواد الشبيري عشرة‌
______________________________
(1) أمالي المفيد: 340. تاريخ بغداد 11: 302.
(2) أمالي المفيد: 2، 3، 17. تاريخ بغداد 12: 81. رجال النجاشي: رقم 7. رجال الشيخ: 480.
(3) أمالي المفيد: 101. تاريخ بغداد 3: 26. رجال النجاشي: الأرقام 150، 1049، 1055. فهرست الطوسي: رقم 184 نقلًا عن المقالات و الرسالات 9: 8.
(4) رجال النجاشي: 123. رقم 318.
(5) المصدر السابق.
(6) تنبيه الخواطر و نزهة النواظر (لورّام) 1: 302.
(7) خاتمة المستدرك 3: 518، و انظر: مقدمة تهذيب الشيعة، بقلم السيد الخرسان.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 296‌
أسماء فصاروا (71) نفساً. و نحن نذكر هذه القائمة لاستيعابها و وفائها بالغرض «1»:
1- أبو الحسن الرحبي النحوي. و قد أنشد المفيد شعراً «2».
2- أبو الفرج البرقي الداودي. و قد أنشد المفيد شعراً «3».
3- أبو محمّد [بن] عبد اللّٰه بن أبي الشيخ «4».
4- أحمد بن إبراهيم بن أبي رافع الصيمري (أبو عبد اللّٰه بن أبي رافع) «5».
5- أحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري «6».
6- أحمد بن حسين بن اسامة البصري، أبو الحسين «7».
7- أحمد بن محمّد الجرجرائي، أبو الحسن «8».
8- أحمد بن محمّد بن جعفر الصولي، أبو علي «9».
9- أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد القمي، أبو الحسن «10». و هو ابن ابن الوليد القمي (م 343 ه‍)، و يذكره المفيد باسم أحمد بن محمّد بن الحسن تارة، و أحمد بن محمّد تارة اخرى. و يلاحظ اسمه كثيراً في المجلّد الأوّل من التهذيب و الاستبصار.
10- أحمد بن محمّد بن سليمان الزراري، أبو غالب «11». و يُذكر تارة باسم أحمد بن محمّد «12»، و باسم الزراري «13» تارة اخرى.
11- أحمد بن محمّد بن عيسى العلوي الزاهد، الشريف أبو محمّد «14».
12- إسماعيل بن محمّد الكاتب الأنباري، أبو القاسم. نحوي و أديب «15».
13- إسماعيل بن يحيى العبسي، أبو أحمد «16».
14- جعفر الدقاق «17».
15- جعفر بن محمّد بن قولويه، أبو القاسم. فقيه محدّث «18».
16- الحسن بن أحمد بن صالح الهمداني السبيعي الحلبي، أبو محمّد. عالم حلب «19».
______________________________
(1) المقالات و الرسالات (سلسلة إصدارات المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد) 9: 10 (إطلالة على حياة الشيخ المفيد).
(2) أمالي المفيد: 316.
(3) المصدر السابق: 309.
(4) المصدر السابق: 246.
(5) فهرست الشيخ، رقم 32، 183، 591. رجال الشيخ الطوسي: 445، رقم 41. مشيخة التهذيب: 22. 28. مشيخة الاستبصار 4: 308.
(6) رجال الشيخ: 443، رقم 35.
(7) أمالي المفيد: 238.
(8) المصدر السابق: 337.
(9) المصدر السابق: 165.
(10) المصدر السابق: 1.
(11) رجال النجاشي، رقم 201. أمالي المفيد: 20.
(12) رجال النجاشي: الأرقام 1005 و 1205 و 1219.
(13) رجال النجاشي: رقم 1153.
(14) أمالي الشيخ، الجزء 14، ج 2: 26.
(15) الأمالي: 348.
(16) أمالي الشيخ، الجزء 6، 1: 154.
(17) الثاقب في المناقب، 236- 239.
(18) رجال النجاشي: 318. أمالي المفيد: 9.
(19) تذكرة الحفاظ 3: 952. سير أعلام النبلاء 16: 296.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 297‌
17- الحسن بن حمزة بن علي بن عبد اللّٰه العلوي الحسيني الطبري، أبو محمّد الشريف، الزاهد الصالح «1».
18- الحسن بن عبد اللّٰه القطّان، أبو علي «2».
19- الحسن بن عبد اللّٰه المرزباني [بن مرزبان خ. ل] «3».
20- الحسن بن علي بن فضل الرازي، أبو علي «4».
21- الحسن بن محمّد بن يحيى، الشريف أبو محمّد «5». كان ساكناً في سوق العطش ببغداد؛ و لهذا سُمي بالعطشي، و هو نفسه الحسن بن محمّد العطشي «6»، و يروي عنه الشيخ المفيد في الإرشاد كثيراً.
22- الحسن بن أحمد بن مغيرة، أبو عبد اللّٰه «7».
23- الحسن بن علي بن إبراهيم البصري المعروف بالجُعل، أبو عبد اللّٰه. متكلم فقيه معتزلي «8».
24- الحسن بن علي بن الحسين بن بابويه، أبو عبد اللّٰه «9».
25- الحسين بن علي بن سفيان البزوفري «10».
26- الحسين بن علي بن شيبان القزويني، أبو عبد اللّٰه «11».
27- الحسين بن علي بن محمّد التمار النحوي، أبو الطيب «12».
28- زيد بن محمّد بن جعفر التيملي [السلمي خ. ل] المعروف بابن أبي اليابس «13».
29- سهل بن أحمد الديباجي، أبو محمّد «14». توفي سنة (380 ه‍) و صلّى عليه الشيخ المفيد «15».
30- طاهر غلام أبو الجيش مظفر بن محمّد البلخي. و يبدو أنّه يكنى أبا ياسر. متكلم «16».
31- عبد اللّٰه بن علي الموصلي، أبو القاسم «17».
32- عبد اللّٰه بن محمّد الأبهري، أبو محمّد «18».
33- عثمان بن أحمد الدقاق المعروف بابن السمّاك، أبو عمرو (م 344 ه‍) «19».
______________________________
(1) رجال النجاشي: رقم 150. أمالي المفيد: 8.
(2) أمالي المفيد: 293.
(3) أمالي الشيخ، الجزء 5، 1: 130.
(4) أمالي المفيد: 293.
(5) أمالي الشيخ، الجزء 5، 1: 136.
(6) مجلة (نور علم- بالفارسية)، العدد 11، مقالة «أبو العباس النجاشي و عصره»: 23، الهامش.
(7) أمالي المفيد: 23.
(8) السرائر 3: 648.
(9) الإقبال، أوّل أعمال شهر رمضان: 5.
(10) رجال الشيخ: 466، رقم 27. مشيخة التهذيب و الاستبصار ضمن الطريق إلى حميد ابن زياد.
(11) مشيخة التهذيب: 80.
(12) أمالي المفيد: 96. أوّل أمالي الشيخ.
(13) أمالي الشيخ، أوائل الجزء 6.
(14) الفصول المختارة 2: 121.
(15) تاريخ بغداد 9: 122. انساب السمعاني 5: 439. شذرات الذهب 3: 96. لسان الميزان 3: 391.
(16) رجال النجاشي: 552. السرائر 3: 648.
(17) أمالي الشيخ، الجزء 8، 1: 233.
(18) أمالي المفيد: 245.
(19) المصدر السابق: 340.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 298‌
34- علي بن أحمد بن إبراهيم الكاتب، أبو الحسن «1».
35- علي بن بلال المهلبي، أبو الحسن. عالم بارز في البصرة «2».
36- أبو الحسن علي بن الحسين [الحسن خ. ل] البصري البزاز «3».
37- علي بن خالد المراغي القلانسي، أبو الحسن «4». و لا بدّ أن يكون أبو الحسن علي بن أحمد القلانسي المراغي- المذكور في أمالي الشيخ، الجزء 8، ص 231- مصحفاً عن اسم هذا الراوي.
38- علي بن عبد اللّٰه بن وصيف الناشي الصغير، أبو الحسين. شاعر متكلم، كان يتكلم على مذهب أهل الظاهر في الفقه «5».
39- علي بن عيسى الرماني. متكلم نحوي معتزلي «6».
40- علي بن مالك النحوي، أبو الحسن «7».
41- علي بن محمّد [أو الحسين] البصري البزاز، أبو الحسن «8».
42- علي بن محمّد بن حبش الكاتب، أبو الحسن «9».
43- علي بن محمّد بن خالد الميثمي، أبو الحسن «10».
44- علي بن محمّد الرفاء، أبو القاسم «11».
45- علي بن محمّد بن الزبير الكوفي القرشي، أبو الحسن «12».
46- علي بن محمّد النحوي، أبو الحسن «13».
47- عمر بن محمّد بن علي الصيرفي المعروف بابن الزيّات، أبو حفص «14».
و يبدو أنّ محمّد بن عمر الزيات أبا جعفر «15»، و أبا حفص محمّد بن عثمان الصيرفي «16» مصحفان عن هذا الاسم.
48- محمّد بن أحمد الشافعي، أبو بكر «17».
49- محمّد بن أحمد الثقفي، أبو الطيب «18».
50- محمّد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي، أبو علي. متكلم فقيه «19».
______________________________
(1) المصدر السابق: 137.
(2) رجال النجاشي، رقم 690. أمالي المفيد: 101.
(3) أمالي الشيخ، الجزء 6، 1: 144 و الجزء 7: 186.
(4) أمالي المفيد: 58.
(5) فهرست الشيخ، رقم 373.
(6) السرائر 3: 648.
(7) أمالي المفيد: 107.
(8) المصدر السابق: 90، مقدمة الأمالي: 10.
(9) أمالي المفيد: 69.
(10) المصدر السابق: 10.
(11) معالم العلماء (ط- النجف): 112، و (ط- طهران): 100.
(12) أمالي المفيد: 2 و 17 و 31.
(13) أمالي الشيخ، الجزء 14، 2: 29.
(14) رجال النجاشي، رقم 1152. أمالي المفيد: 22.
(15) أمالي المفيد: 13.
(16) أمالي الشيخ، الجزء 8، 1: 214.
(17) المصدر السابق، الجزء 2، 1: 54.
(18) المصدر السابق: 47.
(19) رجال النجاشي، رقم 455. فهرست الشيخ، رقم 590.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 299‌
كَتب الشيخ المفيد رداً على كتاب له إلى أهل مصر في الدفاع عن القياس على ما يبدو، و يلاحظ في مصنفات المفيد عنوان «النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي» ربما كان نفس كتاب الرد هذا.
51- محمّد بن أحمد بن داود بن علي القمي، أبو الحسن. فقيه «1».
52- محمّد بن أحمد عبد اللّٰه بن قُضاعة الصفواني «2».
53- محمّد بن أحمد بن عبيد اللّٰه المنصوري «3».
54- الشريف الفقيه أبو إبراهيم محمّد بن أحمد بن محمّد بن الحسين بن إسحاق ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام «4».
55- محمّد بن جعفر بن محمّد الكوفي النحوي التميمي المؤدب، أبو الحسن (م 402 ه‍) «5».
56- محمّد بن الحسن الجواني، أبو عبد اللّٰه «6».
57- محمّد بن الحسن العلوي الهمداني «7».
58- محمّد بن الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، أبو جعفر «8».
59- محمّد بن الحسين البصير المقرئ [الشهرزوري]، أبو نصر «9».
60- محمّد بن الحسين الخلال، أبو نصر «10».
61- محمّد بن داود الحتمي، أبو عبد اللّٰه «11».
62- محمّد بن عبد اللّٰه الشيباني، أبو المفضل «12».
63- محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، أبو جعفر الصدوق. فقيه محدث «13».
64- محمّد بن علي بن رباح القرشي، أبو عبد اللّٰه «14». و يبدو أنّه هو نفسه أبو عبد اللّٰه محمّد بن علي بن محمّد بن عمر بن رباح آخر من بقي من بني رباح على المذهب الواقفي، و قال عنه النجاشي في ترجمة عمه أحمد (رقم 229): إنّه كان شديد العناد على المذهب.
______________________________
(1) رجال النجاشي، رقم 1045. الفهرست، رقم 592.
(2) الفهرست رقم 588.
(3) أمالي الشيخ، الجزء 6، 1: 155.
(4) المصدر السابق، الجزء 8، آخر ص 229.
(5) أمالي المفيد: 74.
(6) أمالي المفيد: 29.
(7) الاقبال: 323.
(8) أمالي الشيخ، الجزء 6، 1: 169.
(9) أمالي المفيد: 89.
(10) أمالي الشيخ، الجزء 7، 1: 185.
(11) أمالي المفيد: 217.
(12) أربعين الشهيد الأوّل: 23.
(13) فهرست الشيخ، رقم 695. أمالي المفيد: 9.
(14) أمالي الشيخ، الجزء 2، 1: 56.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 300‌
65- محمّد بن عمر بن محمّد بن سالم بن براء التميمي البغدادي المعروف بالجعابي و ابن الجعابي، أبو بكر. من الحفاظ المشهورين، و له ذاكرة مدهشة حفظ بها مئات الآلاف من الروايات «1» (م 355 ه‍) «2».
و ذكر أيضاً باسم أبي بكر الجعابي «3»، و صحّف اسمه أحياناً بعمر بن محمّد «4».
66- محمّد بن عمر بن يحيى العلوي الحسيني (م 390 ه‍) «5».
67- محمّد بن عمران المرزباني، أبو عبيد اللّٰه. أديب و مؤرخ «6».
68- محمّد بن مظفر البزار، أبو الحسن «7».
69- أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى التلعكبري «8».
70- مظفر بن محمّد البلخي الوراق الخراساني، أبو الجيش. متكلم و محدث «9».
صُحّف اسمه في بعض المواقع إلى أبي الحسن محمّد بن مظفر الوراق «10».
71- هارون بن موسى التلعكبري، أبو محمّد «11».
تلامذته:
لم يقف إبداع الشيخ المفيد عند فكره و عطائه و آرائه فحسب، بل كان مبدعاً للجيل الذي خرّجه و ترعرع في مدرسته.
لقد كان الشيخ المفيد منهجياً و هادفاً في كلّ خطوات نشاطه العلمي، و منها إعداد الكادر العلمي الذي انتقاه، فلم يكن من الصدفة أن يتفق لعالم مثل المفيد أن تخرّج مدرسته علماء كباراً من الطراز الأوّل كالمرتضى و الرضي و الطوسي و سلّار و الكراجكي و أبي يعلى الجعفري و أبي الفرج المظفر بن علي الحمداني و غيرهم من المشايخ الأجلّاء .. إنّه الانتقاء و الهدفية و الإخلاص التي استطاعت أن تخرّج مثل هذا الجيل العملاق.
______________________________
(1) تاريخ بغداد 3: 26. رجال النجاشي، رقم 1055.
(2) رجال النجاشي: 1055. فهرست الشيخ، رقم 641. أمالي المفيد: 14.
(3) رجال النجاشي، رقم 257.
(4) قاموس الرجال 7: 165، 221. فهرست الشيخ، رقم 494.
(5) فهرست الشيخ: 18، رقم 52.
(6) أمالي المفيد: 39.
(7) أمالي المفيد: 118.
(8) فرج المهموم: 236.
(9) رجال النجاشي، رقم 1130. أمالي المفيد: 286.
(10) أمالي المفيد: 18.
(11) الإقبال، أوّل أعمال شهر رمضان: 5.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 301‌
أجل، لقد كان الشيخ المفيد انتقائياً في تكوين مدرسته، و كان- كما تصفه عبارة البعض- من أحرص الناس على التعليم، و أنّه كان يدور على المكاتب و حوانيت الحاكة فيلمح الصبي الفطن فيذهب إلى أبويه لاستئجاره منهم و تعليمه و بذلك كثر تلامذته، كما كان يقوم لتلامذته بكل ما يحتاجون إليه «1».
و هو أمر ينم عن حرص و هدفية في التعليم و تنمية المواهب و تأهيل النش‌ء المتميز. و لا شك أنها ميزة قلّما نجدها لعالم، فلم يكن المفيد ليجلس في داره و مجلس درسه ليقصده الطلاب اطمئناناً منه بسمعته و ركوناً إلى شهرته، بل هو العالم الميداني الحريص الجاد في دفع حركة العلم و كشف الطاقات و تأهيلها في المجال اللائق بها.
و على كلّ حال، فإنّ مدرسة الشيخ المفيد كانت مميّزة سيّما من الناحية النوعية، كما كان هو قدس سره ناجحاً في بناء الكادر العلمي المؤهل الذي أراد له مواصلة الحركة العلمية التي بدأها.
و لم تكن المنهجية أو الهدفية هي العامل الوحيد في تكوين هذه المدرسة العريقة، بل ثمّة التوفيق الإلهي الذي كان يرعى جهود هذا العالم الرباني و يسدّد خطاه تتويجاً لإخلاصه وصفاء نيّته، و أوّل ما يطالعنا في هذا المضمار هو ما ذكره المؤرخون من قصة تتلمذ العلمين الشريفين المرتضى و الرضي على يد هذا الشيخ العظيم، حيث إنّه قدس سره رأى في ليلة مجيئهما للتتلمذ السيدة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام و معها ولداها الحسن و الحسين عليهما السلام صغيرين و الشيخ جالس في مسجده بالكرخ، فسلّمتهما إليه و قالت له: «علّمهما الفقه»، فانتبه متعجباً من ذلك، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة دخلت عليه فاطمة بنت الناصر في المسجد- و كانت امرأة جليلة- و حولها جواريها و بين يديها ابناها محمّد الرضي و علي المرتضى صغيرين، فقام‌
______________________________
(1) سير أعلام النبلاء 17: 344 نقلًا عن ابن أبي طي.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 302‌
إليها و سلّم عليها، فقالت له: أيّها الشيخ، هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلِّمهما الفقه.
يقول السيد فخار بن سعد الموسوي: فبكى المفيد و قصّ عليها المنام، و تولى تعليمهما، و أنعم اللّٰه عليهما، و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، و هو باقٍ ما بقي الدهر «1».
و قبل أن نذكر أسماء تلامذته نلمح إلى أعيانهم بتراجم مقتضبة بما يتناسب و المجال، و هم:
1- السيد المرتضى علم الهدى، علي بن الحسين بن موسى (م 436 ه‍). كان أكثر تلامذته علماً و فضلًا و وجاهة، يقول عنه النجاشي و هو زميله في التتلمذ على يد الشيخ المفيد: «حاز من العلوم ما لم يدانِه فيه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا» «2».
و قال عنه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي و هو تلميذه و زميله في الدراسة على الشيخ المفيد: «لقبه علم الهدى الأجل السيد المرتضى- رضي اللّٰه تعالى عنه- متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم» «3».
و كان الشيخ المفيد معجباً بشخصية السيد المرتضى، و يكنّ له احتراماً خاصاً، فقد نقل الشهيد الأوّل في ذلك أنّه: حضر المفيد مجلس السيد يوماً، فقام من موضعه و أجلسه فيه و جلس بين يديه، فأشار المفيد بأن يدرّس في حضوره، و كان يعجبه كلامه إذا تكلم «4».
و قد تسلّم السيد المرتضى نقابة الطالبيين، كما تصدى لزعامة الطائفة بعد الشيخ المفيد.
______________________________
(1) نقل هذه القصة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة 1: 41.
(2) رجال النجاشي: 270، رقم 708.
(3) الفهرست: 218، رقم 472.
(4) رياض العلماء 4: 23.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 303‌
2- الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى (م 406 ه‍). أخو المرتضى، و نقيب العلويين ببغداد، و كان شاعراً مبرزاً «1».
3- الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، محمّد بن الحسن (م 460 ه‍). كان مقدّماً في العلوم و مؤسساً فيها، و مصنفاً بكل ما يتعلق بالمذهب اصولًا و فروعاً، درس على الشيخ المفيد خمس سنوات، و على السيد المرتضى نحواً من ثلاث و عشرين سنة، ثمّ استقل بعده بالزعامة مدة (24) سنة؛ اثنتي عشرة سنة منها ببغداد و الباقي في الغري.
قال عنه النجاشي: «أبو جعفر جليل في أصحابنا، ثقة، عين، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّٰه» «2».
4- الشيخ أبو الفتح الكراجكي محمّد بن علي بن عثمان بن علي (م 449 ه‍). كان متضلعاً في الفقه و الكلام و الحكمة و الرياضيات و الطب و النجوم و اللغة «3»، قال عنه العماد الحنبلي: «رأس الشيعة، صاحب التصانيف» «4». و تبلغ مصنفاته زهاء التسعين كتاباً، و كان معظم نزوله في البلاد المصرية، و أقام مدة في حلب و طرابلس و دمشق بالإضافة إلى بغداد التي تتلمذ فيها على الشيخ المفيد و السيد المرتضى.
5- الشريف محمّد بن الحسن بن حمزة، أبو يعلى الجعفري الطالبي (م 463 ه‍). و هو صهر الشيخ المفيد و الجالس مجلسه عند غيابه، و كان من الفقهاء العلماء و المتكلمين «5».
6- سالار بن عبد العزيز الديلمي (م 448 ه‍). قال عنه العلّامة: «شيخنا المقدّم في الفقه و الأدب و غيرهما، كان ثقة وجهاً» «6». و وصفه ابن داود بالفقاهة و الجلالة و العظمة «7».
و كان بعد تتلمذه على المفيد من أخصّ خواص السيد المرتضى.
______________________________
(1) رجال النجاشي: 398، رقم 1065.
(2) المصدر السابق: 403، رقم 1068.
(3) () انظر: تأسيس الشيعة لفنون الإسلام: 386.
(4) شذرات الذهب 3: 283، في حوادث سنة (499).
(5) المصدر السابق: رقم 107.
(6) الخلاصة: 86.
(7) رجال ابن داود: 104.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 304‌
7- محمّد بن محمّد بن أحمد البُصروي (م 443 ه‍). قال عنه الشيخ الحرّ: «فقيه، فاضل، نقلوا له أقوالًا في كتب الاستدلال» «1».
و أمّا مسرد تلامذته فإنّه يبلغ (23) تلميذاً و عالماً، و هو عدد يقل عن عدد شيوخه، و هو خلاف المتوقع من عطاء مدرسة الشيخ المفيد و جهوده، و خلاف ما ذكره ابن أبي طي من كثرة تلامذته بسبب اسلوب الشيخ في انتخاب الطلّاب و القيام لهم بما يحتاجونه.
و الظاهر وجود فراغ في كتب التراجم حول هذه النقطة، حيث لم تشبع بشكل كامل في المصادر المتقدمة كفهرستي النجاشي و الشيخ و الطوسي، و إنّما جمعت هذه الأسماء من تراجم تلامذته في المصادر الرجالية، و هذا الجمع يعتمد على جهود شخصية لبعض الباحثين، و هي قد تزيد و قد تنقص، فقد اشتملت مقدمة كتاب التهذيب للشيخ الطوسي بقلم الحجة المحقق السيد مهدي الخرسان على ذكر ستة عشر اسماً، و هكذا في مقدمة الأمالي الذي لم يزد محرّرها على ما ذكره السيد الخرسان.
و لكن جاء في دراسة فضيلة السيد محمّد جواد الشبيري في المقالات و الرسالات: 9 (من إصدارات المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد) إضافة أسماء اخرى، فارتقت القائمة إلى ثلاثة و عشرين اسماً. و لعلّ التتبع أكثر يوقف الباحث على المزيد من الأسماء. و لذا فإنّا سنذكر ما أثبتته الدراسة الأخيرة لاستكمالها أكثر من غيرها، و هم بإضافة الأسماء السبعة المتقدمة عبارة عن:
8- أحمد بن علي بن أحمد النجاشي، المكنى بأبي العباس (م 372- 450 ه‍).
9- أحمد بن علي بن قدامة القاضي، أبو المعالي (م 486 ه‍).
10- إسحاق بن الحسن بن محمّد البغدادي «2».
______________________________
(1) تذكرة المتبحرين: 903.
(2) لسان الميزان 1: 36، رقم 106.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 305‌
11- جعفر بن محمّد الدوريستي، أبو عبد اللّٰه «1» (كان حيّاً عام 473 ه‍).
12- الحسن بن علي الرقي، أبو محمّد. نقل في الرملة في شوال من سنة 423 ه‍ قصة منام الشيخ المفيد حول حديث الغار التي وردت في كنز الفوائد للكراجكي «2».
13- الحسن بن عنبس بن مسعود بن سالم بن محمّد شريك الرافقي، أبو محمّد «3».
14- الحسين بن أحمد بن محمّد بن القطان «4».
15- الحسين بن علي النيشابوري. من رواة أمالي المفيد.
16- ذو الفقار بن معبد الحسني، أبو الصمصام «5».
17- عبد الرحمن، أبو محمّد «6»، شقيق راوي أمالي المفيد.
18- علي بن محمّد الدقاق، أبو الحسن «7».
19- المظفر بن علي بن حسين الحمداني، أبو الفرج «8».
و قد ذكر منتجب الدين «9» أنّه من سفراء الحجة- عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف- و لكن استشكل عليه المحققون بطول المدة ما بين وفاة الشيخ و بين وقوع الغيبة الكبرى و هي سنة (131 ه‍)، فلا يمكن أن يتتلمذ سفير الإمام عليه السلام على الشيخ المفيد، على أنّه لم يذكر المظفر بن علي في عداد السفراء «10».
و ناقش فيه صاحب القاموس، إلّا أنّه سمّاه علي بن الحسين الهمداني تبعاً للمامقاني «11».
20- يحيى بن الحسين بن هارون الحسني، أبو طالب «12».
______________________________
(1) فهرست الشيخ منتجب الدين: 66.
(2) كنز الفوائد 2: 50. الاحتجاج: 499- 502.
(3) لسان الميزان 2: 242، رقم 1118.
(4) المصدر السابق: 267، رقم 1115.
(5) بحار الأنوار 107: 156، و لكن في إجازة الشيخ إبراهيم القطيفي يروي أبو الصمصام ابن معبد عن المفيد بواسطة الشيخ الطوسي (البحار 108: 109).
(6) أمالي المفيد، بداية المجلس 17 و 20، و كذا في مستهل المجلس 18.
(7) الذريعة 1: 246.
(8) فهرست الشيخ منتجب الدين: 156.
(9) المصدر السابق.
(10) معجم رجال الحديث 8: 179.
(11) قاموس الرجال 9: 556.
تنبيه: لم يرد هذا الكلام حول المظفر بن علي في المصدر الذي نقلنا عنه الأسماء.
(12) تاريخ طبرستان: 101.



مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، ج‌31، ص: 306‌
21- أبو الفوارس ابن راوي أمالي المفيد «1».
22- أبو الوفاء المحمدي الموصلي.
23- راوي أمالي المفيد الذي لم يعرف شخصه على وجه الدقّة؛ لعدم ذكره في المجالس التي رواها.
و ربما كان ولد المفيد أبو القاسم علي من تلامذته أيضاً.
______________________________
(1) أمالي المفيد، مستهل المجالس 4- 7، 17- 21، 26- 31.
________________________________________
جمعى از مؤلفان،


مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام (بالعربية)، 52 جلد، مؤسسه دائرة المعارف فقه اسلامى بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، قم - ايران، اول، ه‍ ق