( أبو صخر )
كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر بن عويمر بن خالد بن
سعيد بن خثيمة بن سعد بن مليح بضم الميم ابن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو
مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن أزد
ابن قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الخزاعي الحجازي الشاعر
المشهور أحد عشاق العرب المشهورين به صاحب عزة بنت جميل الآتي ذكرها
له معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة وأكثر شعره فيها .
وكان ابن أسحق يقول كثير أشعر أهل الإسلام وكانت له منزلة عند قريش
وقدر وكان عبد الملك معجبا بشعره فقال يوما كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين
فقال أراه يسبق السحر ويغلب الشعر فقال من أشعر الناس يا أبا صخر فقال
من يروى أمير المؤمنين شعره فقال له عبد الملك إنك لمنهم .
ويحكى ان الفرزدق لقى كثيرا فقال له أنت يا أبا صخر أنسب العرب حيث نقول :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال له كثير وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول :
ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا * وأن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وقال الجمحي كان لكثير في النسيب نصيب وافر وكانت له من فنون الشعر
ما كانت لجميل وكان راوية جميل وأنما صغر اسمه لقصره وحقارته .
وقال الوقاصي رأيت كثيرا يطوف بالبيت فمن حدثك انه يزيد على
ثلاثة أشبار فلا تصدقه وكان إذا دخل على عبد الملك أو أخيه عبد العزيز يقول
له طأطئ رأسك لا يصيبه السقف وكان عبد الملك يحب النظر إلى كثير فلما
ورد عليه فإذا هو قصير حقير تزدريه العين فقال تسمع بالمعيدي خير من أن
تراه فيقول مهلا يا أمير المؤمنين فإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه ان نطق نطق
ببيان وان قاتل قاتل بجنان وانا الذي أقول .
ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفى أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه * فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لها بزين * ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوما * ولم تطل البزاة ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لب * فلا يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي * فلا عرف لديه ولا نكير
يجرره الصبى بكل سهب * ويحبسه على الخسف الجرير
فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه ونسب في الحماسة هذه الأبيات إلى
العباس بن مرداس ويحتمل ان يكون كثير تمثل بها .
وكان أول أمره مع عزة انه مر بنسوة من بنى خمرة ومعه جلب غنم
فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة فقالت يقبل لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم
وانسئنا بثمنه إلى أن ترجع فأعطاها كبنا فأعجبته فلما رجع جائته امرأة منهن
بدراهمه فقال وأين الصبية التي أخذت منى الكبش قالت وما تصنع بها هذه
دراهمك قال لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت إليها الكبش وهو يقول :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
فقلن له أبيت إلا هذه وأبرزنها له وهي كارهة ثم إنها أحبته بعد ذلك
حبا شديدا أشد من حبه لها .
وحكى ان عزة دخلت يوما على أم البنين بنت عبد العزيز فقالت أرأيت
قول كثير : ( قضى كل ذي دين ) البيت ما كان ذلك الدين قالت وعدته قبل
وخرجت منها قالت انجزيه وعلى اثمها .
وكان لكثير غلام عطار بالمدينة وربما باع نساء العرب بالنسيئة فأعسر
على عزة بعطر فمطلته أياما وحضرت إلى حانوته في نسوة فطالبها فقالت حبا
وكرامة ما أقرب الوفاء وأسرع فأنشد متمثلا : ( قضى كل ذي دين فوفى غريمه )
فقالت النسوة أتدري من غريمتك قال لا والله قلن هي عزة قال أشهدكم إنها في
حل مما لي عندها ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك فقال كثير وانا اشهد الله إنك حر
لوجهه ووهبه جميع ما في الحانوت من العطر وله في مطالها بالوعد شعر كثير منه :
أقول لها عزيز مطلت ديني * وشر الغانيات ذوا المطالي
فقالت ويح غيرك كيف أقضى * غريما ما ذهبت له بمالي
وعن الهيثم بن عدي ان عبد الملك سأل كثيرا عن أعجب خبر له مع
عزة فقال حججت سنة من السنين وحج زوج عزة بها ولا يعلم أحد بصاحبه
فلما كنا في بعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن يصلح به طعاما لأهل رفقته
فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلى وهي لم تعلم أنها خيمتي وكنت
أبرى أسهما لي فلما رأيتها جعلت أبرى وانا أنظر إليها ولا أعلم حتى بريت ذراعي
مرات وأنا لا أشعر والدم يجرى فلما تبينت ذلك دخلت إلى وأمسكت يدي
وجعلت تمسح الدم عنها بثوبها وكان عندي نحى من سمن فحلفت لتأخذنه فاخذته
وجاءت إلى زوجها بالسمن فلما رأى ثوبها سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف
عليها لتصدقنه فصدقته فضربها وحلف ليشتمني في وجهي فوقفت على وهو معها
فقالت لي يا بن الزانية وهي تبكي ثم انصرفا فذلك حين أقول :
يكلفها الخنزير شتمي وما بها * هواني ولكن للمليك استذلت
وهذا البيت من قصيدة له هي من محاسن شعره أولها :
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا * قلوصيكما ثم أبكيا حيث حلت
وما كنت أدرى قبل عزة ما البكا * ولا موجعات القلب حتى تولت
فلا يحسب الواشون ان صبابتي * بعزة كانت غمرة فتجلت
فوالله ثم الله ما حل قبلها * ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم على كيومها * وان عظمت أيام أخرى وجلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينهما * كناذرة نذرا فأوفت وبرت
فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب منعة * تعم ولا عمياء الا تجلت
أباحت حمى لم ترعها النفس قبلها * وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
أريد ثواء عندها وأظنها * إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فوالله ما قاربت إلا تباعدت * بهجر ولا أكثرت إلا أقلت
يكلفها الخنزير شتمي وما بها * هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت
فان تكن العتبى فأهلا ومرحبا * وحقت لها العتبى علينا وقلت
وان تكن الأخرى فان ورائنا * مناويح لو سارت بها العيس كلمت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية ان تقلت
فما انا بالداعي لعزة بالردى * ولا شامت ان نعل عزة زلت
وأبى وتهيامي بعزة بعدما * تخليت عما بيننا وتخلت
لكا المبتغى ظل الغمامة كلما * تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها غمامة ممحل * رجاها فلما جاوزته استهلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الصم لو تمشى بها العصم زلت
صفوحا فما نلقاك إلا نجيلة فمن حل منها ذلك الميل ملت
فما أنصفت أما النساء فبغضت * إلى وأما بالنوال فضنت
فواعجبا للقلب كيف اعتزازه * وللنفس لما وطنت كيف ذلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا * فلما توافقنا شددت وحلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى * فلما توافينا ثبت وزلت
فان سأل الواشون فيم سلوتها * فقل نفس حر سليت فتسلت
وللعين تذراف إذا ما ذكرتها * وللقلب وسواس إذ العين ملت
فكنت كذا رجلين رجل صحيحة * وأخرى رمها الزمان فشلت
ولى عبرات لويد من قتلنني * توالى التي ما بالتي قد تولت
فليت قلوصي عند عزة قيدت * بحبل ضعيف بان منها فضلت
وأصبح في القوم المقيمين رحلها * وكان لها باع سواي فشلت
تمنيتها حتى إذا ما وليتها * رأيت المنايا شرعا قد أطلت
أصاب الردى من كان يبغي لها الردى * وجن اللواتي قلن عزة جنتي
عليها تحيات السلام هدية * لها كل حين مقبل حيث حلت
وعن يعقوب بن عبد الله الأسدي ومحمد بن صالح الأسلمي قال دخلت
عزة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت فقال لها أنت عزة كثير فقالت انا عزة
بنت جميل قال أنت الذي يقول لك كثير :
لعزة نار ما تبوح كأنها * إذا ما رمقناها من البعد كوكب
فما الذي أعجبه منك قالت يا أمير المؤمنين إني كنت في عهدي أحسن من
النار في الليلة القرة .
وفى حديث محمد بن صالح الأسلمي فقالت ما أعجب المسلمين منك حين
صيروك خليفة قال وكانت له سن سوداء فضحك حتى بدت فقالت له هذا الذي
أردت ان أبديه فقال لها هل تروين قول كثير :
وقد زعمت إني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والخليقة كالتي * عهدت ولم يخبر بسرك مخبر
فقالت لا بل أروى له وهو من قصيدته المتقدمة :
كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من العصم لو تمشى بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت
وعن إبراهيم ابن أبي عمرو الجهني قال سارت إلينا عزة في جماعة من
قومها فنزلت حيا لنا فجاءني كثير ذات يوم فقال لي أريد أن أكون عندك اليوم
حتى أمسى فاذهب إلى عزة فصرت به إلى منزلي فأقام عندي حتى كان العشاء ثم
أرسلني إليها وأعطاني خاتمه وقال إذا سلمت فستخرج إليك جارية فادفع إليها
خاتمي وأعلمها مكاني فجئت بيتها فسلمت فخرجت إلى الجارية فأعطيتها الخاتم فقالت أين
الموعد قلت صخيرات أبى عبيدة الليلة فوعدته هناك فخرجت إليه فأعلمته فلما
أمسى قال لي انهض بنا فنهضنا فجلسنا هناك نتحدث حتى جانب من الليل فجاءت
فجلست فتحدثا فأطالا فذهبت لأقوم فقال لي إلى أين تذهب قلت أخليكما ساعة
لعلكما تتحدثان ببعض ما تكتمان فقال لي اجلس فوالله ما كان بيننا شئ قط
فجلست وهما يتحدثان حتى أسحرنا ثم قامت وانصرفت وقمت انا وهو فظل عندي
حتى أمسى ثم انطلق .
وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة فاشتاق إليها فسافر ليلقاها فصادفها في
الطريق وهي متوجهة إلى مصر فجرى بينهما كلام طويل الشرح ثم انها انفصلت
عنه وقدمت مصر ثم عاد كثير إلى مصر فوافاها والناس منصرفون عن جنازتها
فأتى قبرها وأناخ راحلته ومكث ساعة ثم رحل وهو يقول أبياتا منها :
أقول ونضوى واقف عند قبرها * عليك سلام الله والعين تسفح
وقد كنت أبكي من فراقك حيه * وأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح
ولكثير مع عزة أخبار كثيرة اقتصرنا منها على هذا المقدار خشية من الإطالة .
وكان كثير شيعيا شديد التشيع وكان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيرهم
ذلك له لجلالته في عيونهم ولطف محله في أنفسهم .
وحدث ابن قتيبة قال بلغني ان كثيرا دخل على عبد الملك بن مروان
فسأله عن شئ فأخبره به فقال أو حق علي بن أبي طالب انه كما ذكرت فقال
يا أمير المؤمنين لو سألتني بحقك لصدقتك قال لا أسألك إلا بحق أبى تراب فحلف
له به فرضى ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى حرب الزبير أنشدته زوجته
عاتكة بنت يزيد بن معاوية ان لا يخرج بنفسه ويبعث غيره فأبى فلم تزل تلح عليه
في المسألة وهو يمتنع من الإجابة فلما يئست منه بكت وبكى من حولها من جواريها
وحواشيها فقال عبد الملك قاتل الله كثيرا كأنه رأى موقفنا هذا حين قال :
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه * فتاة عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهى عاقه * بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم عزم عليها ان تقصر فأقصرت وخرج لقصده فنظر إلى كثير في ناحية
عسكره يسير مطرقا فدعا به وقال أنى لأعرف ما أسكتك وألقى عليك ثبك
فإن أخبرتك عنه أتصدقني قال نعم قال وحق أبى تراب إنك تصدقي قال والله
لأصدقنك قال لا أو تحلف به فحلف به فقال تقول رجلان من قريش يلقى
أحدهما صاحبه فيحاربه القاتل والمقتول في النار فما معنى سيرى مع أحدهما ولا
آمن سهما عاثرا لعله ان يصيبني فيقتلني فأكون معهما قال والله يا أمير المؤمنين
ما أخطأت قال فارجع من قريب وأمر له بجائزة .
وفى رواية انه دعا به فقال ذكرت الساعة بيتين من شعرك فإن أصبت
ما هما فلك حكمك فقال نعم أردت الخروج فبكت عاتكة وبكى حشمها فذكرت
قولي : ( إذا ما أراد العزم ) وذكر البيتين فقال أصبب فاحتكم فأعطاه ما أراد ثم
نظر إليه عبد الملك يسير في عرض الموكب متفكرا فقال على يا بن أبي جمعة
فقال إن عرفتك في أي شئ كنت تفكر فلي حكمي فقال نعم قال كنت تقول انا
في شر حال خرجت في جيش من أهل النار ليس على ملتي ولا مذهبي يسير إلى
رجل من أهل النار ليس على ملتي ولا على مذهبي يلتقي الخيلان فتصيبني سهم
غرب فأتلف فما هذا فقال والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت ما كان في نفسي فاحتكم
قال حكمي ان أصلك في عشرة آلاف درهم وأدرك إلى منزلك فأمر له بذلك .
وحدث حفص الآمدي قال : كنت أختلف إلى كثير أتروي شعره قال
فوالله إني لعنده يوما إذ وقف عليه واقف فقال قتل آل المهلب بالعقر فقال
ما اجل الخطب ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم
يوم العقر فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به فلما دخل عليه قال عليك بهلة الله
أتر أبيه وعصبية وجعل يضحك منه .
وعن أبي بكر الهذلي قال كان عبد الله بن الزبير قد أغرى ببني هاشم
يتبعهم بكل مكروه ويغري بهم ويحطب بهم على المنابر ويصرح ويعرض بذكرهم
فربما عارضه ابن عباس وغيره منهم ثم بدا له فيهم فجلس ابن الحنفية في سجن
عارم ثم جمعه وسائر من كان بحضرته من بنى هشام فجعلهم في مجالس وملأه حطبا
وأضرم فيه النار وكان قد بلغه ان أبا عبد الله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد
وافوا لنصرته ومحاربة ابن الزبير فكان سبب ايقاعه بهم وبلغ أبا عبد الله الخبر
فوافى ساعة أضرمت النار عليهم فأطفأها واستنقذهم وأخرج ابن الحنفية عن
جوار ابن الزبير يومئذ فأنشد محمد بن العباس اليزيدي قال أنشد محمد بن حبيب
لكثير في ابن الحنفية وقد حبسهم ابن الزبير في سجن يقال له سجن عارم :
ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى * من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمى النبي المصطفى وابن عمه * وفكاك أغلال ونفاع غارم
أبى فهو لا يشرى هدى بضلالة * ولا يتقى في الله لومة لائم
ونحن بحمد الله نتلو كتابه * حلو لا بهذا الخيف خيف المحارم
فما فرح الدنيا بباق لأهله * ولا شدة البلوى بضربة لازم
تخبر من تلقى بأنك عائذ * بل العائذ المظلوم في سجن عارم
وقال بعضهم ان كثيرا كان يرى رأى الكيسانية ويقول بامامة محمد بن
الحنفية ويروون شعرا في ذلك وهو :
ألا ان الأئمة من قريش * ولاة الحق أربعة سواء
على والثلاثة من بينه * هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط أيمان وبر * وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا تراه العين حتى * يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى عنهم زمانا * برضوى عنده عسل وماء
قال المؤلف عفا الله عنه انه ان صح انه كان كيسانيا فالظن انه رجع عن
ذلك كالسيد الحميري فقد اتفق النقل عن المخالف والمؤالف ان الباقر " ع " حضر
جنازته ورفعها كما سنذكر وذكر ابن شهرآشوب في ( معالم العلماء ) انه كان من
أصحاب الباقر عليه السلام .
وروى أن الباقر " ع " قال له تزعم انك من شيعتنا وتمدح آل مروان
قال إنما أسخر منهم واجعلهم حيات وعقارب وآخذا أموالهم .
وذكر الشريف المرتضى ( ره ) في كتاب ( الغرر والدرر ) ان أبا جعفر
محمد بن علي الباقر " ع " قال لكثير أمدحت عبد الملك بن مروان فقال لم أقل
له يا أمام الهدى إنما قلت له يا شجاع والشجاع حية ويا أسد والأسد كلب فتبسم
أبو جعفر . وهذا يدل على أنه كان نوى على بنى مروان في مدائحه .
وذكر أيضا في الكتاب المذكور ان رجل نظر إلى كثير وهو راكب وأبو
جعفر محمد بن علي الباقر " ع " يمشى فقيل له أتركب وأبو جعفر يمشى فقال هو
أمرني بذلك وانا بطاعته في الركوب أفضل من عصياني إياه بالمشي : وهذا
كله مما يدل عن حسن عقيدته والعامة لعلمهم بتشيعه رموه تارة باعتقاده مذهب
الكيسانية وتارة بالقول بالتناسخ وتارة بعدم الدين والحمق وأخرى بالزندقة
والالحاد وغير ذلك وكانت وفاته في خلافة يزيد بن عبد الملك بالمدينة المنورة
ويقال انه لما حضرته الوفاة قال شعرا :
برأت إلى الاله من ابن أروى * ومن دين الخوارج أجمعينا
ومن ( فعل ) برئت ومن ( فعيل ) * غداة دعى أمر المؤمنينا
ثم إن روحه خرجت كأنها فص في ماء .
وعن جويرية بن أسماء قال مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم
واحد فاجتمع الناس في جنازة كثير ولم يوجد لعكرمة من يحمله .
وقال ابن شهرآشوب في ( معالم العلماء ) انه لما مات كثير رفع جنازته
الباقر عليه السلام وعرقه يجرى .
وعن يزيد بن عروة قال غلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن عزة
في ندبهن قال فقال أبو جعفر محمد بن علي " ع " أفرجوا لي عن جنازة كثير
لأرفعها قال فجعلنا ندفع عنها النساء وجعل يضربهن محمد " ع " بكمه ويقول
تنحين يا صويحبات يوسف فانتدبت له امرأة منهن فقالت يا بن رسول الله لقد
صدقت إنا لصويحبات يوسف وقد كنا خيرا منكم له فقال أبو جعفر " ع " لبعض
مواليه احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا قال فلما انصرف " ع " أتى بتلك
المرأة كأنها شرارة النار فقال لها محمد بن علي " ع " إيه أنت القائلة إنكن خير
منا قالت نعم تؤمنني غضبك يا بن رسول الله قال أنت آمنة من غضبي فأبيني قالت
نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم
وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في
السجن فأينا كان به أحنى وعليه أرأف فقال محمد بن علي " ع " لله درك لن تغالب
امرأة إلا غلبت ثم قال لها ألك بعل قالت لي من الرجال من أنا بعله قال فقال
أبو جعفر " ع " صدقت مثلك من تملك زوجها ولا يملكها قال فلما انصرفت قال رجل
من القوم هذه زينب بنت معيقب الأنصارية .
ولله الحمد أولا وآخرا والصلاة والسلام على
خير خلقه المبعوث محمد صلى الله عليه
وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب
أمير المؤمنين وعلى ابني ابنته
وسبطيه الحسن والحسين
وعلى ذريته المعصومين
الطيبين من ذرية الحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام
تاريخ الإسلام ت بشار (3/ 144)
217 - كثير عزة الشاعر المشهور هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي، أبو صخر المدني. [الوفاة: 101 - 110 ه]
قدم الشام، ومدح عبد الملك بن مروان وغيره.
قال الزبير بن بكار: كان شيعيا يقول بتناسخ الأرواح، ويقرأ {في أي صورة ما شاء ركبك}، قال: وكان خشبيا يؤمن بالرجعة، يعني رجعة علي - رضي الله عنه - إلى الدنيا.
قال عمر بن عثمان الحمصي: حدثنا خالد بن يزيد عن جعونة [ص:145] قال: كان لا يقوم خليفة من بني أمية إلا سب عليا، فلم يسبه عمر بن عبد العزيز حين استخلف، فقال كثير:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف ... بنيه ولم تتبع سجية مجرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
وكان قد أحب عزة وشبب بها، فمن ذلك:
وإني لتهيامي بعزة بعد ما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
وقلت لها: يا عز كل مصيبة ... إذا ذللت يوما لها النفس ذلت
قال يونس بن حبيب النحوي: كان عبد الله بن إسحاق يقول: كثير أشعر أهل الإسلام، ورأيت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدا، يقول: كان يستقصي المديح، وكان فيه خطل وعجب، وكانت له عند قريش منزلة وقدر.
وروى سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه قال: لقيت امرأة كثير عزة، وكان قليلا دميما، فقالت: من أنت؟ قال: كثير عزة، فقالت: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، قال: مه أنا الذي أقول:
فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازن.
قالت: وكيف تكون بالقوم وازنا وأنت لا تعرف إلا بعزة! قال: والله لئن قلت ذاك لقد رفع الله بها قدري، وزين بها شعري، وإنها لكما قلت:
وما روضة بالحزن طاهرة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينك قرة ... وإن غبت عنها لم يعممك عارها
قال الزبير بن بكار: قال عمر بن عبد العزيز: إني لأعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كثير، فمن أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح، لأنه كان خشبيا يؤمن بالرجعة. [ص:146]
قال جويرية بن أسماء: مات كثير وعكرمة في يوم واحد، فاحتفلت قريش في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.
قال الغلابي: ماتا في سنة خمس ومائة.
وقال جماعة: سنة سبع ومائة.
سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/ 152)
54 - كثير عزة بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي *
من فحول الشعراء، وهو أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي، المدني.
امتدح عبد الملك والكبار.
وقال الزبير بن بكار: كان شيعيا، يقول بتناسخ الأرواح، وكان خشبيا (1) ، يؤمن بالرجعة، وكان قد تتيم بعزة، وشبب بها، وبعضهم يقدمه على الفرزدق والكبار.
ومات هو وعكرمة: في يوم، سنة سبع ومائة.
__________
طبقات ابن سلام: 457، الشعر والشعراء: 410، الاغاني 8 / 25، المؤتلف والمختلف: 169، الموشح: 143، معجم الشعراء: 250، اللآلي: 61، شرح ديوان الحماسة 3 / 140، وفيات الأعيان 4 / 106، تاريخ الإسلام 4 / 186، عيون الاخبار 2 / 144، شرح شواهد المغني 1 / 131، معاهد التنصيص 2 / 36، تزيين الاسواق 1 / 43، شذرات الذهب 1 / 131، خزانة الأدب 2 / 381.
(1) انظر في تعريف الخشبية " شرح القاموس 1 / 234 "، وقوله يؤمن بالرجعة، أي رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا، كذا قال المؤلف، والمعروف أن كثيرا هو على مذهب الكيسانية الذين ادعو حياة محمد بن الحنفية ولم يصدقوا بموته، وأنه سيعود بعد الغيبة، وأبياته التالية شاهدة بذلك: ألا إن الأئمة من قريش * ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه * هم الاسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر * وسبط غيبته كربلاء == وسبط لا يذوق الموت حتى * يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانا * برضوى عنده عسل وماء انظر " مقالات الإسلاميين " 1 / 92، 93 و" الفرق بين الفرق " ص 28، 29 للبغدادي، و" الملل والنحل " 2 / 150 للشهرستاني و" تاريخ الإسلام " 1 / 405 للدكتور حسن إبراهيم حسن.
ونقل المؤلف في " تاريخه " 4 / 188 عن الزبير بن بكار قول عمر بن عبد العزيز: إني لاعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كثير، فمن أحبه منهم، فهو فاسد، ومن أبغضه منهم، فهو صالح، لأنه كان خشبيا يؤمن بالرجعة.
وفيات الأعيان (4/ 106)
546 - (1)
كثير عزة
أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعي، أحد عشاق العرب المشهورين به وقال ابن الكلبي في جمهرة النسب: هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عويمر بن مخلد بن سعيد بن سبيع بن خثعمة (2) بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وبقية النسب معروفة، وربيعة بن حارثة هو لحي، وابنه عمرو بن لحي هو الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه (1) في النار، وهو أول من سيب السوائب وبحر البحيرة وغير دين إبراهيم عليه السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأصنام، وهذا لحي وأخوه أفصى ابنا حارثة هما خزاعة، ومنهما تفرقت، وإنما قيل لهم خزاعة لأنهم انقطعوا عن الأزد لما تفرقت الأزد من اليمن أيام سيل العرم وأقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى المدينة والشام وعمان.
وقال ابن الكلبي أيضا قبل هذا بقليل: والأشيم وهو أبو جمعة بن خالد بن عبيد بن مبشر بن رباح، وهو جد كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة أبو أمه إليه ينسب] (2) .
وهو صاحب عزة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزى بن حاجب (3) ابن غفار بن مليل بن ضمرة [بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وقال السمعاني: جميل ابن وقاص بن حفص بن إياس، والله أعلم] (4) . وله معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة، وأكثر شعره فيها.
وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده، وكان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب، حكى ابن قتيبة في " طبقات الشعراء " (5) أن كثيرا دخل يوما على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحدا أعشق منك قال: يا أمير المؤمنين، لو نشدتني بحقك أخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني، قال: نعم، بينا أنا أسير في بعض الفلوات إذا أنا برجل قد نصب حبالة، فقلت له: ما أجلسك ها هنا قال: أهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيد لهم شيئا ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا، قلت: أرأيت إن أقمت معك فأصبت صيدا تجعل لي منه جزءا قال: نعم، فبينا نحن كذلك إذ وقعت ظبية في الحبالة، فخرجنا نبتدر، فبدرني إليها فحلها وأطلقها، فقلت له: ما حملك على هذا قال: دخلتني لها رقة لشبهها بليلى، وأنشأ يقول:
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق
أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى محاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته (1) عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره في حربه ولم تزل تلح عليه في المسألة وهو يمتنع من الإجابة، فلما يئست أخذت في البكاء حتى بكى من كان حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة - يعني كثيرا - كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها ثم عزم عليها أن تقصر فأقصرت وخرج لقصده.
ويقال إن عزة دخلت على أم البنين ابنة العزيز، وهي أخت عمر ابن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك: فقالت لها: أرأيت قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ما كان ذلك الدين قالت: وعدته قبلة فحرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها وعلي إثمها. [ثم ندمت أم البنين فاستغفرت الله تعالى وأعتقت عن هذه الكلمة أربعين رقبة] (2) .
وكان لكثير غلام عطار بالمدينة، وربما باع نساء العرب بالنسيئة، فأعطى عزة وهو لا يعرفها شيئا من العطر، فمطلته أياما، وحضرت إلى حانوته في نسوة فطالبها: فقالت له: حبا وكرامة، ما أقرب الوفاء وأسرعه، فأنشد متمثلا:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها فقالت النسوة: اتدري من غريمتك قال: لا والله، فقلن: هي والله عزة فقال: أشهدكن الله أنها في حل مما لي قبلها، ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك، فقال كثير: وأنا أشهد الله أنك حر لوجهه، ووهبه جميع ما في حانوت العطر، فكان ذلك من عجائب الاتفاق.
ولكثير في مطالها (1) بالوعد شعر كثير، فمن ذلك قوله:
أقول لها عزيز مطلت ديني ... وشر الغانيات ذوو المطال
فقالت ويح غيرك كيف أقضي ... غريما ما ذهبت له بمال (2) وله:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والخليقة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر ولما قتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وجماعة من أهل بيته بعقر بابل - وسيأتي خبر ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكانوا يكثرون الإحسان إلى كثير، فلما بلغه ذلك قال: ما أجل الخطب! ضحى بنو حرب (3) بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر، وأسبلت عيناه بالدموع.
وحدث (1) أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " (2) أن كثيرا خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مطرف، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست نارا في روثة، فتأفف كثير في وجهها، فقالت: من أنت قال: كثير عزة، فقالت: ألست القائل:
فما روضة زهراء طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها فقال لها كثير: نعم، فقالت: لو وضع المندل الرطب على هذه الروثة لطيب رائحتها، هلا قلت كما قال امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب فناولها المطرف وقال: استري علي هذا.
[وسمعت بعض مشايخ الأدب في زمن اشتغالي بالأدب يقول: إن النصف الثاني من البيت الثاني من تتمة أوصاف الروضة أيضا، فكأنه قال: إن هذه الروضة الطيبة الثرى التي يمج الندى جثجاثها وعرارها إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها ما هي بأطيب من أردان عزة وعلى هذا لا يبقى عليه اعتراض، لكنه يبعد أن يكون هذا مقصوده] (3) .
وكان كثير (4) ينسب إلى الحمق، ويروى أنه دخل يوما على يزيد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشماخ بقوله:
إذا الأرطى توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين (5)
فقال يزيد: وما يضرني أن لا أعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف واسحمقه وأمر بإخراجه.
ودخل (1) كثير على عبد العزيز بن مروان والد عمر يعوده في مرضه، وأهله يتمنون أن يضحك، وكان يومئذ أمير مصر، فلما وقف عليه قال: لولا أن سرورك لا يتم بأن تسلم وأسقم لدعوت الله ربي أن يصرف ما بك إلى، ولكني أسأل الله تعالى لك العافية ولي في كنفك النعمة، فضحك عبد العزيز، وأنشد كثير:
ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي ومما يستجاد من شعر كثير قصيدته التائية التي يقول من جملتها (2) :
وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تسليت من وجد بها وتسلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت [وقال أبو علي القالي (3) : أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة المعروف بنفطويه لكثير:
ألا تلك عزة قد أقبلت ... تقلب للهجر طرفا غضيضا
تقول مرضت فما عدتني ... وكيف يعود مريض مريضا ومن شعره أيضا:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا] (1) [وبلغ كثيرا أن عزة مريضة وانها تشتاقه فخرج يريدها، فلما صار ببعض الطريق لقيه أعرابي من نهد فقال: يا أبا صخر، أين تريد قال: أريد عزة، قال: فهل رأيت في وجهك شيئا قال: لا، إلا اني رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه، قال: توافي مصر وقد ماتت عزة، فانتهره كثير ثم مضى وعاد كثير إلى مصر فوافاها والناس منصرفون من جنازة عزة فقال:
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتف أعلى ريشه ويطايره
فقلت ولو أني أشاء زجرته ... بنفسي للنهدي هل أنت زاجره
فقال غراب لاغتراب وفرقة ... وبان فبين من حبيب تعاشره
فما أعيف النهدي لا در دره ... وازجره للطير لا عز ناصره] (2) وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة، فاشتاق إليها فسافر نحوها، فلقيها في الطريق وهي متوجهة إلى مصر، وجرى بينهما كلام يطول شرحه، ثم إنها انفصلت عنه وقدمت إلى مصر، وعاد كثير إلى مصر فوافاها والناس ينصرفون من جنازتها فأتى قبرها وأناخ راحلته عنده، ومكث ساعة، ثم رحل وهو ينشد أبياتا منها:
أقول ونضوي واقف عند قبرها ... عليك سلام الله والعين تسفح
وقد كنت أبكي من فراقك حية ... فأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح (3)
وأخبارهما كثيرة (1) .
وتوفي كثير عزة في سنة خمس ومائة، رحمه الله تعالى، وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن خالد بن القاسم البياضي قال: مات عكرمة مولى ابن عباس وكثير عزة في يوم واحد في سنة خمس ومائة، فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وكان موتهما بالمدينة (2) ، وقد تقدم ذكر عكرمة والخلاف في تاريخ موته، فلينظر هناك في ترجمته (3) .
وقد تقدم الكلام على الخزاعي.
وكثير: تصغير كثير وإنما صغر لأنه كان حقيرا شديد القصر. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لئلا يؤذيك السقف، يمازحه بذلك، وكان يلقب زب الذباب لقصره، وقال بعضهم: رأيت كثيرا يطوف بالبيت، فمن أخبرني أن طوله كان أكثر من ثلاثة أشبار فقد كذب (4) .
__________
(1) ترجمته في الأغاني 9: 4، 12: 170، 15: 224 والمؤتلف: 169 وطبقات ابن سلام: 457 والموشح: 143 والشعر والشعراء: 410 وسمط اللآلي: 61 ومعجم المرزباني: 250 ومروج الذهب 3: 401 والعقد 2: 88 وعيون الأخبار 2: 144 وشذرات الذهب 1: 131 ومعاهد التنصيص 2: 136 وشرح شواهد المغني: 24 والخزانة 2: 381 وتزيين الأسواق 1: 43.
(2) جمهرة ابن حزم: جعثمة؛ وفي النسب اختلاف عما هنا.
(1) القصب: الأمعاء.
(2) ورد بعضه في المختار فقط بإيجاز.
(3) لي ن ل س ر بر: حفص من بني حاجب؛ وما أثبتناه موافق لما في جمهرة ابن حزم ومطبوعة وستنفيلد.
(4) ما بين معقفين في ر وحدها.
(5) الشعر والشعراء: 416.