ثم لم يزد فيه شيئا أحد من الخلفاء بعد المأمون، ولم يعمّروا إلا مواضع يسيرة، إلى أن حصل الحريق [في المسجد النبوي] في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة أول الليل لدخول أبي بكر بن أوحد الفرّاش الحاصل الذي في الزاوية الغريبة لاستخراج قناديل لمنائر المسجد. وترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق فاشتعلت النار فيه وأعجزه إطفاؤها وعلقت ببسط وغيرها مما في الحاصل وتزايد الالتهاب حتى اتصلت بالسقف بسرعة [ثم دبّت في السقوف] آخذة قبلة فأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة واجتمع معه غالب أهلها، فلم يقدروا على قطعها، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف وما احتوى من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والمقاصير والصناديق ولم تبق خشبة واحدة، وكذا الكتب، وكسوة الحجرة الشريفة. قال القطب القسطلاني: وكان عليها حينئذ إحدى عشرة ستارة، وأزالت النار تلك الزخارف التي لا ترضي، وشوهد من هذه النار صفة القهر والعظمة الإلهية مستولية على الشريف والمشروف. وكان هذا الحريق عقب ظهور نار الحجاز المنذر بها من أرض المدينة، وحماية أهلها منها لما التجأوا إلى مسجدها، فانطفأت عند وصولها لحرمها. قلت: وسيأتي بيان ذلك في المعجزات إن شاء الله تعالى.
وربما خطر ببال العوام أن حبسها عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة، مع اقتراف الأوزار، فاقتضى الحال البيان بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال. والنار مطهّرة لأدناس الذنوب وقد كان [ذلك] لاستيلاء الروافض حينئذ [على المسجد النبوي والمدينة] وكان القاضي والخطيب منهم، وأساءوا الأدب كما بسط ذلك ابن جبير في رحلته، ولذا وجد عقب الحريق على جدران المسجد:
لم يحترق حرم النّبيّ لريبة ... يخشى عليه وما به من عار
لكنّها أيدي الرّوافض لامست ... تلك الرّسوم فطهّرت بالنّار
ووجد أيضا:
قل للرّوافض بالمدينة ما بكم ... لقيادكم للذّمّ كلّ سفيه
ما أصبح الحرم الشّريف محرّقا ... إلّا لسبّكم الصّحابة فيه
ولم يسلم من الحريق سوى القبّة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم.
قال المؤرخون: وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النّخل إذا هبّت الرياح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ووقع السّقف الذي كان على أعلى الحجرة الشريفة على سقف بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة.