تفسير ابن كثير
** وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىَ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـَذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىَ فَقَضَىَ عَلَيْهِ قَالَ هَـَذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ إِنّهُ عَدُوّ مّضِلّ مّبِينٌ * قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * قَالَ رَبّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام, ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى, آتاه الله حكماً وعلماً. قال مجاهد: يعني النبوة {وكذلك نجزي المحسنين} ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين, فقال تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: وذلك بين المغرب والعشاء. وقال ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: كان ذلك نصف النهار, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أي يتضاربان ويتنازعان {هذا من شيعته} أي إسرائيلي {وهذا من عدوه} أي قبطي, قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق, فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام, فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس, فعمد إلى القبطي {فوكزه موسى فقضىَ عليه} قال مجاهد: فوكزه أي طعنه بجمع كفه. وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه, فقضي عليه, أي كان فيها حتفه فمات {قال} موسى {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي} أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة {فلن أكون ظهيراً} أي معيناً {للمجرمين} أي الكافرين بك, المخالفين لأمرك.

** فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقّبُ فَإِذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىَ إِنّكَ لَغَوِيّ مّبِينٌ * فَلَمّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالّذِي هُوَ عَدُوّ لّهُمَا قَالَ يَمُوسَىَ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبّاراً فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
يقول تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام لما قتل ذلك القبطي أنه أصبح {في المدينة خائفاً} أي من معرة ما فعل {يترقب} أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر فمر في بعض الطرق, فإذا ذلك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر, فلما مر عليه موسى استصرخه على الاَخر, فقال له موسى {إنك لغوي مبين} أي ظاهر الغواية كثير الشر, ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي, فاعتقد الإسرائيلي لخوره وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك, فقال يدفع عن نفسه {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟} وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه السلام, فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه, ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده, فعلم فرعون بذلك, فاشتد حنقه, وعزم على قتل موسى, فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.

** وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىَ قَالَ يَمُوسَىَ إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ
قال تعالى: {وجاء رجل} وصفه بالرجولية, لأنه خالف الطريق, فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه, فسبق إلى موسى, فقال له: يا موسى {إن الملأ يأتمرون بك} أي يتشاورون فيك {ليقتلوك فاخرج} أي من البلد {إني لك من الناصحين}.