کلام شیخ محمد رضا در مثنی و جمع

بسم الله الرحمن الرحیم

کلام شیخ محمد رضا اصفهانی

                        وقاية الأذهان، ص: 15

بين يدي الوقاية

قال العلاّمة الطهراني في تعريف الوقاية: «... وقاية الأذهان و الألباب و لباب أصول السنّة و الكتاب، في أصول الفقه، كبير جدّاً، في غاية الحسن و بداعة الأسلوب و رشاقة البيان، و الحق أنّه أدخل في تأليف هذا الكتاب على علم الأصول نوعا من التجدّد في التبويب و التهذيب و النمط» «1».
أقول: صنّف العلاّمة الجدّ، الوقاية ما بين عشر الثلاثين إلى عشر الخمسين من القرن الرابع عشر، و طبع في ذاك الزمان أجزاء منها ببلدة أصبهان.
و للوقاية مختصّات‏
نشير إلى جملة منها، و الباقي مفوّض إلى القارئ الفطن.
الأوّل:
لمّا كان مصنّفها أديبا كبيرا، صارت مباحث ألفاظها مشحونة بالتحقيقات و التدقيقات التي لم تجدها في كثير من الكتب الأصولية، و للمصنّف فيها إبداعات و متفرّدات حيث انه جعل رسالة مستقلّة في مقدمات الأصول و هي: سمطا اللئال- أو- جليّة الحال في مسألتي الوضع و الاستعمال.
و من متفرداته: جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
قال مخاطبا لأستاذه صاحب الكفاية: و قد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه: إنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلاّ إذا كان المستعمل أحول العينين، و ما هذا إلاّ خطابة حسنة، و لكن أحسن منها أن يقال: إنّه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة، فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين «2».
و لمّا بلغ ذلك المحقق العراقي، قال في مقالاته الأصولية: «ثم إن بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، و استشهد
__________________________________________________
 (1) نقباء البشر 2: 752.
 (2) راجع: صفحة 87 من هذا الكتاب.

 

                        وقاية الأذهان، ص: 16
بأبيات و عبارات من القصص و الحكايات على مدّعاه، و ذلك ليس إلاّ من جهة خلط المبحث ...» «1».
و أجاب عنه المصنّف العلاّمة في رسالة مفردة سمّاها ب (إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين) «2».
و أرسل المصنّف نسخة منها إلى المحقق العراقي، و نسخة أخرى إلى بيت صاحبه العلاّمة المؤسّس الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، حيث وافاه الأجل قبل تصنيف الرسالة بأربع سنين، و نسختها موجودة عند العلاّمة الفقيد الشيخ مرتضى الحائري حيث رآها العلاّمة السيد موسى الشبيري الزنجاني- مدّ ظله- كما ذكره لي، و النسخة التي بخط المصنّف موجودة عندنا بتمامها، فرغ منها سابع عشر شهر شعبان سنة 1359 ه ق، و قد طبعت في ختام رسالة في الوضع و الاستعمال «3» للعلاّمة الشيخ محمد حسن القديري من غير تعرض لاسمها، و نقلها من خط والده العلاّمة الشيخ علي القديري من أعلام تلاميذ المصنّف و يحدّثنا المصنّف عن علّة تأليفها: .... و الّذي دعاني إلى تجديد القول أنّ عالم العصر و علاّمة الزمان و العلم المشار إليه في العلمين و غيرهما بالبنان، الراقي مدارج العلم أعلى المراقي صاحبي الشيخ ضياء الدين العراقي دام فضله، شرّفني بنقل مقالتي في كتاب المقالات، و قال ما نصّه: «ثم إنّ بعض أعاظم العصر ... و هذا حكومة بيني و بين المانعين».
و قبل هذا القول- جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد- المؤسّس الحائري حيث قال في درره ما نصّه: «اختلف في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ... على أقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما تطّلع على ما هو الحق‏
__________________________________________________
 (1) مقالات الأصول 1: 48.
 (2) راجع صفحة 612 من هذا الكتاب.
 (3) ص 73- 81.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 17
في هذا الباب، و الحق الجواز، بل لعلّه يعدّ في بعض الأوقات من محسّنات الكلام ...» «1».
قال المصنّف في (إماطة الغين) عن قبول المؤسّس الحائري لهذا القول:
 «عرضت ذلك على عدّة من علية أهل العلم و زعمائه قابلني بالقبول عدّة من أعلامهم، أكتفي بذكر واحد منهم لأنه كما قيل: (ألف و يدعى واحدا) أعني واحد الدهر و فريده، و علاّمة الزمان و حفيده، صاحبي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بوّأه اللّه من الجنان في خير مستقر، كما حلّي عاطل جيد العلم بغالي الدرر، فإنه ذهب إلى ما ذهبت إليه بعد طول البحث في ذلك» «2».
و بعد المصنّف قبل بعض الأعلام هذه المقالة منهم:
آية اللّه العظمى المحقق الخوئي، يقول: .... فالمتحصّل من المجموع أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد «3». و استدرك عليه بعد صفحة: نعم هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه «4».
و منهم: آية اللّه المحقق السيد علي الفاني، حيث يقول: «فتلخّص من جميع ما ذكرنا جواز استعمال لفظ واحد في غير واحد من المعاني، كما ظهر أنّ استشهاد شيخ مشايخنا النجفي (قدس سره) لجواز الاستعمال بأبيات عربيّة، و استعمالات أدبيّة الّذي سمّاه بعض الأعاظم رحمه اللّه بالاستشهاد بأبيات و حكايات، إنّما هو استدلال لإمكان الشي‏ء بوقوعه ...» «5».
و منهم: العلاّمة الشيخ محمد حسن القديري، قال: «فتحصّل أنّ استعمال‏
__________________________________________________
 (1) درر الفوائد 1: 55، الطبعة، الحديثة.
 (2) راجع صفحة 607 من هذا الكتاب.
 (3) محاضرات في أصول الفقه 1: 208 و 210.
 (4) محاضرات في أصول الفقه 1: 208 و 210.
 (5) آراء الأصول 1: 237.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 18
اللفظ في أكثر من المعنى الواحد جائز و حقيقي» «1».
و من متفرّداته: أنّ جميع الاستعمالات فيما وضع له، حتى المجاز منها، و أنكر تعريف المجاز بأنه وضع اللفظ في غير ما وضع له من أصله، و أقام على دعواه البرهان و الوجدان، و أوّل من قبل هذا القول منه العلاّمة الكبير الشيخ عبد اللّه الگلپايگاني من أعاظم تلاميذ المحقق الخراسانيّ.
يحدّثنا المصنّف عن كيفيّة قبوله: «إنّي لمّا ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون عليّ كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة 1316 ه لم يلبث حتى اشتهر ذلك منّي في أندية العلم و مجالس البحث، فتلقّته الأذهان بالحكم بالفساد، و تناولته الألسن بالاستبعاد، و عهدي بصاحبي الصفيّ، و صديقي الوفي، وحيد عصره في دقّة الفهم و استقامة السليقة و حسن الطريقة، العالم الكامل الربّاني، الشيخ عبد اللّه الجرفادقاني، رحم اللّه شبابه، و أجزل ثوابه، سمع بعض الكلام عليّ، فأدركته شفقة الأخوّة، و أخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد هزيع من الليل، و كنت على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب و هو واقف- بعد- على الباب و قال: ما هذا الّذي ينقل عنك و يعزى إليك، فقلت: نعم و قد أصبت الواقع و صدق الناقل، فقال: إذا قلت في شجاع:
إنه أسد، فهل له ذنب؟ فقلت له مداعبا: تقوله في مقام المدح، و لا خير في أسد أبتر، ثم صعد إلي و بعد ما أسمعني أمضّ الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام، فقبله طبعه السليم، و ذهنه المستقيم، فقال: هذا حق لا معدل عنه و لا شك فيه، ثم كتب في ذلك رسالة سمّاها: فصل القضاء في الانتصار للرضا، و من ذلك اشتهر القول به، و قبلته الأذهان الصافية، و رفضته الأفهام السقيمة» «2».
__________________________________________________
 (1) رسالة في الوضع و الاستعمال: 73.
 (2) راجع: صفحة 114- 115 من هذا الكتاب.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 19
أقول: قال العلاّمة الطهراني في تعريف هذه الرسالة: «فصل القضاء للانتصار للرضا، رسالة ألّفها الشيخ عبد اللّه الگلپايگاني (1285- 1327) مؤلّف التبر المسكوك و غيره، انتصر فيه للشيخ أبي المجد محمّد الرضا الشهير بآقا رضا الأصفهانيّ من إنكاره المجاز رأسا، و أنّ جميع الاستعمالات فيما وضع له من العرب، و ذكر تفصيله في كتابه (جلية الحال في معرفة الوضع و الاستعمال) مطبوع» «1».
و من الذين قبلوا من المصنّف هذا القول فقيد الإسلام الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي، فقال: «و الحاصل أنّ اللفظ يستعمل دائما في نفس ما وضع له، غاية الأمر أن المراد الجدّي إمّا أن يكون نفس الموضوع له حقيقة، و إمّا أن يكون عينه أو من أفراده ادّعاء و تنزيلا» «2».
و منهم: العلاّمة الإمام السيد روح اللّه الموسوي الخميني، فقال في الأمر الخامس في معنى المجاز ما نصّه: «ثمّ إنّي أرى خلاف الإنصاف أن أرتضي رأيا في هذا المقام غير ما وقفت على تحقيقه من العلاّمة أبي المجد الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قدس سره) في وقايته، و استفدت منه شفاها، و ملخّص ما أفاده ..» «3».
و قال نجله العلامة السيد مصطفى الخميني: «الطريقة الثانية ما أفاده السكاكي في خصوص الاستعارات، و هو السبب لانتقال الشيخ أبي المجد محمد رضا الأصفهاني رحمه اللّه في الوقاية إلى تهذيبه و توسعته فهذّبه ... و إلى هذه المقالة خضع جمع من الأعلام كالوالد و السيد البروجردي، و هو ممّا لا ينكر بنحو
__________________________________________________
 (1) الذريعة 17: 234.
 (2) نهاية الأصول 1: 26.
 (3) تهذيب الأصول 1: 44، الطبعة الحديثة.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 20
الإجمال بالضرورة» «1».
و منهم: العلاّمة الشيخ محمد حسن القديري، فقال في رسالته في الوضع و الاستعمال: «و حيث انّ هذا الكلام مرضيّ عندي أيضا أنقل ما أفاده من وقايته أداء لحقّه و حقّ والدي رحمة اللّه عليهما» «2».
و من متفرداته: حجيّة قول اللغوي، قال المصنّف: «و كيف يعدّ الرازي و القرشي من أهل صناعة الطب، و لا يعدّ الخليل و أبو عمرو بن العلاء من أهل صناعة اللغة! ثم إنّ أئمّة هذا الفن هم الأئمّة المقتدى بهم في علمي النحو و الصرف و غيرهما من العلوم العربية، فكيف صار كلامهم حجّة في تلك العلوم دونها!؟ و بأي وجه لا يصدّق الخليل و هو الوجه و العين فيما ينقله عنه صاحب الكتاب من وجوه الإعراب؟ هذا هو الحيف، إلاّ أن يمنع هذا المانع حجيّة أقوالهم في جميعها، فتكون هذه الطامّة جناية على علوم العربيّة عامة» «3».
و علّق على أبي عمرو بن العلاء بقوله: «الإمام المعروف أحد السبع الّذي اتفق الأصحاب على صحّة قراءته، فكيف يؤتمن على كلام اللّه تعالى و لا يؤتمن على كلام العرب» «4»؟!.
الثاني من مختصات الوقاية:
قلم مصنّفها العربي الّذي لا يكاد يشمّ منها رائحة العجمة، حتى أنه انتقده بعض الأعاجم لهذه الجهة.
يحدّثنا المصنّف عن ذلك، فيقول: «بلغني أنّ بعض فضلاء العجم اطلع على أجزاء من هذا الكتاب، فقرّضه أبلغ تقريظ، و اثني عليه أحسن الثناء، و لكنّه انتقد عليه بعبارة فارسيّة، محصّلها: أنّ عبارته عريقة في العربية لا تشبه متعارف‏
__________________________________________________
 (1) تحريرات في الأصول 1: 88- 89.
 (2) رسالة في الوضع و الاستعمال: 55.
 (3) راجع: صفحة 510 من هذا الكتاب.
 (4) راجع: صفحة 510 من هذا الكتاب.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 21
الكتب الأصولية، لك العتبى أيها الفاضل فلك عليّ يد لا أجحدها، و نعمة أشكرها، و ذلك منّي طبيعة لا تطبّع، و جري على ما تعوّدته لا تكلّف، و إنّي لم أتعوّد منذ نعومة الأظفار و مقتبل الشباب إلاّ هذا النمط من الكتابة (و صعب على الإنسان ما لم يعوّد) على أنّ هذا عند ذوي الآداب لا يحطّ من قدر الكتاب بل يزينه و لا يشينه، و يغلي قدره و لا يرخصه.
         و إذا محاسني التي أزهو بها             صارت مثالب لي فما ذا أصنع‏

و شتان بين هذا الفاضل و بين أحد علماء العراق، و قد بلغني قوله فيه: هو أوّل كتاب في فن الأصول ملؤه دقائق عجمية بعبارات عربيّة «1».
الثالث من مختصات الوقاية التي زادها اللّه شرفا:
أنّ مصنّفها من أجلّة تلامذة العلاّمة السيد محمد الفشاركي الأصفهانيّ، و من الذين حضروا دروس السيد في سامراء و الغري الشريف.
و من الأسف أنّ آثار السيد لم تصل إلينا حتى وريقة منها، فهذا الكتاب يصحّ أن يعدّ من لباب أفكاره و آثاره حيث قال المصنّف في أوّل كتابه: ترجمة مختصرة لسيدنا الأستاذ السيد محمد الفشاركي ... و أما وصف محاسن خلاله و محامد أقواله و أحواله و أفعاله و ما منحه اللّه من العلم و التقوي و حسن البيان و طلاقة اللسان، فإنه يدع سحبان وائل و هو أعيا من بأقل، و هذا أمر أعترف بعجزي عنه، فليعذرني الناظر و ما أساء من اعتذر، و لو لا خوف تسرّع القرّاء إلى الإنكار لذكرت بعضها، و لكن صدور الأحرار قبور الأسرار، و حسبك منها ما تراه في خلال هذا الكتاب من غرر فوائده، و من رأي من السيف أثره فقد رأى أكثره، و اسأل اللّه أن يجزيه عنّا أفضل جزاء المحسنين، و يحشره مع أجداده الطاهرين،
__________________________________________________
 (1) راجع: صفحة 603 من هذا الكتاب.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 22
و أنا أعبّر عنه بالسيد الأستاذ أو سيدنا الأستاذ «1».
الرابع:
صار الكتاب من ابتداء تأليفه مصدرا للتدريس و التحقيق و التحشية، و من المحشّين على الوقاية نجل المصنّف والدنا العلاّمة الفقيد آية اللّه العظمى الحاج الشيخ مجد الدين (مجد العلماء) النجفي الأصفهاني رحمه اللّه (1326- 1403 ه) و أنت تجد حاشيته الموجزة على مقدّمة الوقاية المسمّاة ب (سمطا اللئال) و على متن (الوقاية) في الهامش مع رمز (مجد الدين).
و من المحشّين العلامة الفقيد الشيخ يحيى الهرندي الشهير ب (الفاضل الهرندي) (ت 1369) «2».
و من المحشين العلامة الفقيد الشيخ علي القديري (ت 1407 ه) «3» و قد تعرّض لبعض أبحاثه نجله العلامة الشيخ محمد حسن القديري في رسالته في الوضع و الاستعمال فراجع.
تنبيه:
عبّر المصنّف في كتابه عن بعض أساتيذه بالوصف.
فقد عبّر عن أستاذه السيد محمد الفشاركي بسيدنا الأستاذ أو السيد الأستاذ، و عبّر عن أستاذه المحقق الخراسانيّ بالشيخ الأستاذ، و بعضا بصاحب الكفاية، و عبّر عن أستاذه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ببعض أساتيذنا، و عبّر عن صديقه الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بصاحبنا العلاّمة.
__________________________________________________
 (1) راجع الصفحات 143- 146.
 (2) ذكره العلاّمة المهدوي في (تاريخ علمي و اجتماعي أصفهان در دو قرن أخير) 2: 354 و في (دانشمندان و بزرگان أصفهان): 456.
 (3) ذكره في (تاريخ علمي و اجتماعي أصفهان در دو قرن أخير) 2: 328.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 23
هذا و قد نقل المصنّف في الكتاب بعض مناظراته مع بعض أساتيذه، يحدّثنا عن إحداها، فيقول:
و عهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية (طاب ثراه) و أنا إذ ذاك غلام قد بقل خدّي أو كاد، فجرى حديث هذه المسألة و كان من أشدّ المنكرين للمقدّمة الموصلة، و بعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة، فلم يكن جوابه إلاّ قوله:
إنّ معك الوجدان و معي البرهان، فقلت: إن أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان، فإذا سلّمته و عجزت عن الجواب- و لا أعجز إن شاء اللّه- فليس البرهان إلاّ شبهة في مقابلة البداهة، فسكت رحمه اللّه و لم ينبس بنت شفة، و اشتهر بين أهل النّظر أمر هذه المناظرة «1».
و أنت إذا تأملت و تفحّصت أوراق الكتاب تجد مزايا فريدة اختص بها مصنّفه و مصنّفه.
تذكرة:
قال المصنّف في ديوانه المطبوع و قد بعث بكتاب الوقاية من تصنيفه في علم الأصول إلى بعض أصحابه و كتب على غلافه:
         وقيت كلّ الرزايا             لما أتتك الوقاية
             خذها و دع ما سواها             فإنّ فيها (الكفاية) «2»

__________________________________________________
 (1) راجع صفحة 264 من هذا الكتاب.
         

 (2) يريد «كفاية الأصول» للمولى محمد كاظم الآخوند الخراسانيّ.
         


                        وقاية الأذهان، ص: 24
         إن (الهداية) «1» منّا             بداية و نهاية «2»


الف)وقایه الاذهان

و أما استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فأكثر المتأخّرين على المنع‏.
                        وقاية الأذهان، ص: 84
عنه مطلقا [1] بل استحالته [2] عقلا، و ذهب جماعة إلى المنع في المفرد، و جوازه في غيره، و آخرون إلى التفصيل بين النفي و الإثبات.
و الحقّ جوازه مطلقا [3]، بل وقوعه كثيرا، بل حسنه، و ابتناء كثير من نكات الصناعة عليه.
أما الأول فلوجود المقتضي، و عدم المانع.
أما المقتضي فهو الوضع لأنّ الموضوع له هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة من غير تقييد بالوحدة وجدانا، و لا تمانع بين الوضعين، فكل وضع يقتضي الاستعمال مطلقا.
و أما عدم المانع فلأنه إن كان ثمّة منع فإمّا أن يكون من جهة نفس الوضع، أو الواضع أو من العقل، أما من جهة الوضع فقد عرفت أنه لا يمنع منه، بل يقتضيه، و أما من جهة الواضع فلأنه لم يلاحظ حال الوضع وجود وضع آخر و لا عدم وجوده، فاستعماله في حال الاجتماع عمل بالوضع كاستعماله حال الانفراد، و أما عدم المانع عقلا فليس في المقام ما يوهمه إلاّ ما ذكره غير واحد.
قال الوالد العلاّمة- أعلى اللّه مقامه- في المقدّمة الرابعة من كتاب التفسير [4]، ما لفظه: «إنّ المانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى عدم إمكان حقيقة الاستعمال فيه».
و ملخّص بيانه: أن الاستعمال عبارة عن إيراد اللفظ بإزاء المعنى، و جعله‏
__________________________________________________
 [1] سواء كان مفردا أو غيره، نفيا أو إثباتا. (مجد الدين).
 [2] و بها قال صاحب الكفاية طاب ثراه [انظر كفاية الأصول: 36] (مجد الدين).
 [3] في المفرد و غيره، في النفي و الإثبات. (مجد الدين).
 [4] هذا التفسير من أحسن التفاسير لكنه غير تام، و هو مشتمل على مقدّمات و تفسير سورة الفاتحة و آيات من أوائل سورة البقرة و هو موجود بخطّ مصنّفه- طاب ثراه- عندي، و توفي- قدّس سرّه- في سنة 1308 [هجرية] و ترجمته مذكورة بقلم أخيه في آخر التفسير المذكور، المطبوع [بالطبعة الحجريّة] في إيران، [و في الطبعة الحديثة في أول التفسير]. (مجد الدين)

 

 

.
                        وقاية الأذهان، ص: 85
قالبا له، و مرآة للانتقال إليه، و آلة لتصويره في ذهن السامع، كما أنّ الوضع عبارة عن تعيين لفظ المعنى و تخصيصه به على وجه كلّي بحيث متى أطلق أو أحسّ فهم منه ذلك المعنى، و مفاد المقامين هو صيرورة اللفظ كلّية في الثاني، و في الكلام الخاصّ في الأول بإزاء المعنى بحيث يكون اللفظ المركّب من حيث كونه مجتمعا وحدانيّا بإزاء المعنى البسيط أو المركّب من حيث كونه مركّبا وحدانيّا، فالمحاكاة هنا بين اللفظ الواحد و المعنى الواحد و لو كانت الوحدة اعتبارية، و الحاكي الواحد في الاستعمال الواحد لا يحكي إلاّ حكاية واحدة عن الشي‏ء الواحد، و من ضروريّته أن لا يقع بإزاء الأكثر، و لا قالبا له و لا مرآة له لبساطته في هذا اللحاظ إلاّ أن يلاحظ الأكثر من حيث الاجتماع واحدا فيخرج عن العنوان و يندرج تحت استعمال اللفظ في مجموع معنيين و هو غير الموضوع له، فإن تمّت العلاقة صحّ مجازا، و إلاّ بطل.
و إن شئت قلت: معنى الوضع تخصيص لفظ بمعنى بحيث يكون الأوّل بتمامه واقعا بحذاء الثاني، و يصير بكلّيّته مرآة له و متمحّضا في الدلالة عليه فلا يطابقه الاستعمال إلاّ حال وحدة المعنى، و توضيحه موكول إلى فنّه» «1» انتهى.
و قال الأستاذ «2» بعد ما ذكر اختلافهم في المسألة على أقوال، ما لفظه:
 «أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا، و بيانه:
أنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجها [1] و عنوانا له، [بل‏] «3» بوجه نفسه كأنه الملقى، و لذا يسري إليه قبحه و حسنه كما لا يخفى، و لا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد، ضرورة
__________________________________________________
 [1] و نفس هذا الدليل يحتاج إلى بيان. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) مجد البيان في تفسير القرآن: 75- 76.
 (2) صاحب الكفاية. (مجد الدين).
 (3) الزيادة من المصدر.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 86
أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، و العنوان في المعنون، و معه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.
و بالجملة، لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين، و فانيا في الاثنين إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين» «1» انتهى.
أقول: و هذان الكلامان [1] مغزاهما [2] واحد، و هو إثبات درجة رفيعة للاستعمال فوق ما نعرفه من الكشف عن المراد، و الدلالة على المعنى بواسطة الوضع فكأنه كلام [3] أخذ من كتب أهل المعقول فجعل في غير موضعه من كتب الأصول، و لا أظنّ الوالد، و لا هذا الأستاذ ينازعان في إمكان الكشف عن المراد بغير هذا الطريق الّذي سمّياه استعمالا، بل على نحو العلامة الّذي صرّح بجواز جعله لأشياء متعدّدة، و نحن لا نتصوّر قسمين للإفهام يسمّى أحدهما استعمالا، و يكون إلقاء للمعنى، و فناء للّفظ فيه، و نحو ذلك من التعبير، و يسمّى الآخر علامة تدلّ على المراد، فإذا ضممت إلى ذلك ما عرفت من أنّ الإفهام في المحاورات ليس إلاّ بجعل الألفاظ علائم للمعاني، ارتفع النزاع بيننا و بينه، و صحّت لنا دعوى الاتّفاق على الإمكان حتى في متعارف المحاورات، و لم يبق إلاّ النزاع في تسمية ذلك بالاستعمال و عدمها، و هذا نزاع لفظي بحت لا طائل تحته،
__________________________________________________
 [1] أي كلام الوالد [صاحب التفسير] و الأستاذ [صاحب الكفاية]. (مجد الدين).
 [2] أي مفادهما و معناهما واحد. (مجد الدين).
 [3] لا يخفى أن ما ذكره صاحب الكفاية و غيره من [أنّ‏] الاستعمال عبارة عن فناء اللفظ في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه، و المرآة في المرئي، و العنوان في المعنون، ادّعاء محض، بل دقّة عقليّة في مسألة لغويّة أدبيّة محضة من غير مناسبة. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) كفاية الأصول: 36.

 

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 87
و نحن ندع له إنشاء هذا اللفظ لينحلّ له ذلك المعنى الغير المتصوّر كرامة له و كراهة للمنازعة معه.
و قد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه: أنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلاّ إذا كان المستعمل أحول العينين «1». و ما هذا إلاّ خطابة حسنة، و لكن أحسن منها أن يقال: إنه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين.
و اعلم، أنّ أقوى أدلّة الإمكان و أسدّها الوقوع، و هذا النحو من الاستعمال واقع كثيرا، و هو في كثير من المواقع حسن جيّد جدّاً.
و عليه تدور رحى عدّة من نكات البديع كبراعة الجواب و التورية و أحسن أقسام التوشيع، فانظر- إذا شئت- إلى قول القائل في مدح النبيّ الأكرم و الحبيب الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، من البسيط:
         المرتمي في دجى، و المبتلى بعمى             و المشتكي ظمأ، و المبتغي دينا
             يأتون سدّته من كل ناحية             و يستفيدون من نعمائه عينا

تراه قد استعمل الكلمة الأخيرة من البيت الثاني في معان أربعة يوضّحها البيت الأوّل.
و إلى [1] قول القائل في جواب السائل، من الكامل:
         أيّ المكان تروم ثمّ من الّذي             تمضي له فأجبته المعشوقا

أراد بالكلمة الأخيرة معناه الاشتقاقي، و قصرا كان للمتوكّل بسامراء.
و قول المشتكي طول ليلته و دماميل في جسده: «و ما لليلتي و ما لها فجر».
و لا أدري ما ذا يقول المانع في هذه الأبيات الثلاثة و نظائرها الكثيرة، فهل‏
__________________________________________________
 [1] معطوف على قوله: فانظر إذا شئت إلى قول القائل. و كذا (قول المشتكي) [الآتي‏]. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) كفاية الأصول: 54- 55.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 88
يصادم الوجدان، و يزعم إهمال الألفاظ الثلاثة أعني: العين و المعشوق و الفجر، و عدم استعمالها في معنى أصلا، و لازمه انعدام معنى كلّ بيت بأجمعه، ضرورة توقف معاني سائر ألفاظه على وجود المعنى للقافية، أو يلتزم باستعمالها في أحد المعاني، و لا يكترث بامتناع الترجيح بلا مرجّح، و حينئذ تلزم اللغوية في سائر ألفاظ البيت؟! فلو حمل- مثلا- لفظ العين في البيت الأول على إرادة الشمس صلح أول البيت، و لزم اللغو في سائر ألفاظه، أو المعشوق في الثاني على المعنى الاشتقاقي لم يبق معنى لقوله: أيّ المكان تروم، و كذلك حمل الفجر- في الثالث- على الصبح يلزم منه محذور اللغوية في قوله: و ما لها. و هكذا، و كأنّي به و لا يقول بهذا و لا بذاك، بل يؤوّلها إلى إرادة المسمّى و هو من أبرد التأويل، و ستعرف الكلام فيه قريبا إن شاء اللّه.
و إذا انتهيت إلى التورية البديعيّة، و فرّقت بينها و بين التورية العرفيّة، و لم تقع فيما وقع فيه علماء البديع من الخلط بينهما، و نخلتها «1» من الشواهد الغريبة التي ليست من بابها فقد انتهيت إلى ما يزيح عنك كل ريب، و لا يدع لك مجالا للشبهة فيما قلناه. و اتّضح لديك أنّ هذه النكتة التي هي من أجلّ صنائع البديع مبنيّة على استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، و تفصيل القول لا يناسب موضوع هذا الكتاب، و قد أوضحت جميع ذلك في رسالتي التي سمّيتها: (السيف الصنيع لرقاب منكري البديع) و شرحته فيها شرحا كافيا.
و مجمل القول هنا: أنّ علماء البديع جعلوا مبنى التورية على لفظ يكون له معنيان: أحدهما قريب، و الآخر بعيد، فيقصد المتكلّم المعنى البعيد، و يوهم السامع القريب، و هذا إنما يناسب التورية العرفيّة و هي التي يسمّيها العرب‏
__________________________________________________
 (1) نخل الدّقيق: غربلته. الصحاح 5: 1827، مجمع البحرين 5: 497 (نخل).

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 89
بالملاحن و المعاريض و تقول فيها: إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
و تختلف الفقهاء في وجوبها لدى الاضطرار إلى الكذب، نحو قولك: ما رأيت زيدا و لا كلّمته. فإنك تفهم السامع عدم رؤيتك له، و تكلّمك معه، و تضمر في نفسك أنّك ما ضربت ريته، و لا جرحته على غموض معنى إضمار المعنى في النّفس كما ستعرف إن شاء اللّه.
و حيث إنّ الغرض في هذه التورية إغفال السامع عن المراد، و إخفاء الواقع عليه لزم فيها اختلاف المعنيين ظهورا و خفاء، و كون المراد هو الخفي منهما، و امتنع ترشيحها بما يناسب المعنى البعيد لكونه نقضا للغرض، بل قد يلزم ذكر ما يلائم القريب إذا اقتضى المقام التأكيد في تمويه الأمر على السامع، و تبعيده عن الواقع، و تسمّى حينئذ في الاصطلاح بالتورية المبيّنة، و أين هذه من التورية البديعة البديعية التي يقصد الشاعر أو الناثر إفهام المعنيين معا لأنّ في ذلك كمال صنعته و إظهار قدرته، و لهذا تراه إذا غفل السامع عن أحدهما يجتهد في إفهامه، و يصرّح له بقصده، و لا تتوقف- كأختها «1»- على اختلاف المعنيين في الظهور و الخفاء، بل إذا كانا متكافئين في الظهور كانت أبدع في الصنعة، و أملح في الذوق، و مع اختلافهما في ذلك فكثيرا ما يرشّح البعيد بما يقرّبه إلى المعنى الآخر احتيالا منه في جعلها في مرتبة واحدة أو في درجتين متقاربتين، و القوم لعدم تنبّههم للفرق بين التوريتين وقع لهم الخبط في الخلط بين القسمين، فذكروا تعريف التورية العرفيّة و أحكامها و أقسامها للتورية البديعيّة، ثم تكلّفوا في بعض الشواهد التي يتقارب فيها المعنيان للّفظ بجعل أحدهما بعيدا و الآخر قريبا، و كثيرا ما يعجزون حتى عن التكلّف، فيرون السكوت عن ذلك هو الأجدر بهم و الأصلح لهم.
__________________________________________________
 (1) التورية العرفية. (مجد الدين).

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 90
ثم جعلوا التورية العرفية نكتة أخرى، و غيّروا اسمهما إلى الموارية مع ضمّ ما ليس من بابها إليها، مع أنّ الإنصاف أنّ لفظ التورية بالعرفية ألصق، و هي بها أحقّ لأنها من ورّى الحديث إذا أخفاه «1»، و لا إخفاء في البديعيّة أصلا، بخلاف العرفيّة، كما عرفت.
و لا بدّ لنا في توضيح ما ادّعيناه من الفرق بين التوريتين، و كون اللفظ في البديعية مستعملا في المعنيين، من ذكر بعض الشواهد ليرى السامع بالعيان صحّة ما أوضحناه بساطع [1] البرهان.
قال سراج الدين الوراق- و قد اجتمع برئيسين يلقّب أحدهما بشمس الدين و الآخر ببدر الدين، ثمّ فارقهما-:
         لمّا رأيت الشمس و البدر معا             قد انجلت دونهما الدياجي‏
             حقّرت نفسي و مضيت هاربا             و قلت: ما ذا موضع السراج‏

فلفظ السراج يحمل على معناه اللقبي إذا حمل لفظ الشمس و البدر عليهما، و يكون المعنى أنه لا موضع له معهما لانحطاط رتبته عنهما، و على ما يستضاء به إذا حمل اللفظان على النيّرين، و يكون المعنى أنّ السراج لا ضوء له معهما، و المعنيان كما ترى متكافئان [2] أو متقاربان، و اللفظ مستعمل قطعا، و حمل اللفظ على أحدهما يذهب برونقه و يحطّ من قدره، على أنه ترجيح بلا مرجّح [3].
و قوله [4] أيضا:
         فها أنا شاعر سراج             فاقطع لساني أزدك نورا

__________________________________________________
 [1] متعلّق ب (ليرى) لا ب (أوضحناه). (مجد الدين)
 [2] أي متساويان (مجد الدين).
 [3] الترجيح بلا مرجّح صحيح إن كان المعنيان متكافئين، أمّا إن كانا متقاربين فلا. (مجد الدين)
 [4] أي: سراج الدين الوراق. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) انظر الصحاح 6: 2523، القاموس المحيط 4: 399 (علا).

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 91
فلو حمل قطع اللسان على قطّ الشمعة لم يبق محلّ لذكره لفظ (الشاعر)، و لو حمل على الصلة لم يبق موضع للفظ (السراج) فلا بدّ من حمله على المعنيين معا.
و قول الآخر:
قام يقطّ شمعة فهل رأيت البدر قطّ و هل ترى الحسن الّذي يأخذ بمجامع القلب و يسحر اللبّ إلاّ من استعماله لفظ قطّ في معنيين؟ و لا أدري أيّهما القريب المورّى به، و أيّهما البعيد المورّى عنه؟ و أيّهما الّذي أراد إخفاءه؟ و لما ذا يخفيه، و في إظهاره ظهور قدرته و كمال صنعته؟.
و مثله قول الآخر في مليحة قامرت مليحا (من مجزو الرجز):
قالت أنا قمرته قلت اسكتي فهو قمر [1] و حمل لفظ القمر على النيّر فقط موجب لعدم ارتباط الشطرين، و على خصوص معناه الفعلي مخلّ بفصاحته، و مخلق لديباجته، و منزله من الدرجة العالية التي لها من الحسن إلى درك كلام سوقي سافل، و بحمله على ما وصفنا يلتئم الشطران، و يظهر حسن البيان.
و قول القائل من أهل العصر «1»- كان اللّه له- في مخلّعته المشهورة:
         و احرب القلب من صغير             عليّ من تيهه تكبّر
             صغّره عاذلي و لمّا             شاهد ذاك الجمال كبّر
             لمّا رأى صورة سبتني             صدّق ما مثلها تصوّر

 «2»
__________________________________________________
 [1] استعمل الشاعر لفظة قمر في معنيين، أي هو النيّر، أو غلب في القمار. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) و هو نفس المصنّف- طاب ثراه- (مجد الدين).
 (2) راجع ديوانه المطبوع ص 77- 78.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 92
و على هذا النمط البديع جرى في كثير [1] من أبيات القصيدة قال قائلها، و ليقل من شاء ما شاء إني لعمر الفضل قد أردت من هذه القوافي الثلاثة معاني ستة من كل واحدة اثنين، و في هذا كفاية لمن تأمّل و أنصف إن كان ذا ذهن سليم، و لم تأخذه سورة العصبيّة للرأي القديم.
و على ذكر التورية، فلا بأس بالإشارة إلى نكتة مهمّة- و إن كانت خارجة عن المقصود- و هي أنّ التورية بقسميها و إيهامها لا تختص موردها بلفظ واحد له معنيان، كما في كلام كثير من علماء الفنّ، بل تأتي في كل كلام يمكن انصرافه إلى وجهين و أكثر سواء كان لاشتراك لفظ من ألفاظه أو لتردّده بين لفظ لفظين [2]، كقول القائل من أهل العصر «1»- كان اللّه له- في موشحة بديعيّة في وصف الخدّ، من بحر المجتثّ:
         عن دم قلبي تخضّب «2»             فصح لو قيل عن دم‏

أو لاحتمال رجوع الضمير إلى أكثر من واحد، كقوله فيها أيضا:
فقسه بالبدر إن تمّ.
إذ الضمير في (تمّ) يحتمل رجوعه إلى القياس، و إلى البدر، أي: إن تمّ القياس، أو إن تمّ البدر.
__________________________________________________
 [1] كقوله- طاب ثراه- في تلك القصيدة:
         لدولة الحسن نحن جند             و أنت سلطانها المظفّر


لأنّ المراد من المظفّر، المعنى الفعلي و هو المظفّر و المنصور على الأعداء، و المعنى اللقبي، إذ هو لقب سلطان ذلك الوقت (مظفر الدين شاه القاجاري). (مجد الدين).
 [2] كالبيت [الآتي‏] فإن الكلمة الأخيرة منها مركّب من لفظين، أعني الجار و المجرور، أو لفظ واحد على اختلاف المعنيين. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) المصنّف نفسه- طاب ثراه- (مجد الدين).
 (2) و قبله: خدّ زها باحمرار. راجع ديوانه المطبوع ص 128.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 93
أو لكون اللفظ بعضا لكلمة أخرى كما في صنعة الجمع بين الاكتفاء [1] و التورية، إلى غير ذلك من الأسباب التي تفنّن فيها المتأخرون من أهل البديع، فأحسنوا فيها كلّ الإحسان.
و من أغرب ما أذكره الآن، قول أحدهم: «قلب بهرام ما رهب» فقد استعمل الكلمة الأولى في معنيين، ثم جمع في الكلمتين الأخريين بين استعمال اللفظ في نفسه و في معناه- على ما يقولون- فصار لمجموع الكلام معنيان مختلفان.
و لعمري لقد أحسن فيه، و أرتج «1» باب التأويل بالمسمّى على أصحابه، و مثله قول القائل: «و كل ساق قلبه قاس».
و قول القائل [2] من أهل العصر- كان اللّه له-: (من مخلّع البسيط)
         قد نقط الخال دال صدغ             منك كجنح الغراب حالك‏
             كم خطّ كفّ الجمال ذالا             و ما رأينا شبيه ذلك‏

 «2» و لئن ضيّق بعضهم نطاق التورية من هذه الجهة فقد توسّع في الشواهد عليها بما لا مساس له بها أصلا فذكر منها شواهد إيهام التورية و المغالطة و التوجيه و غيرها من ضروب الصناعة.
__________________________________________________
 [1] الاكتفاء في الصناعة أن يأتي [الشاعر] ببيت قافيته بعض الكلام أو الكلمة، و شاهده مع التورية قول ابن مكانس:
         أفدي الّذي قد جاءني زائرا             مستوفرا مرتكبا للخطر
             فلم يقم إلاّ بمقدار ما             قلت له أهلا و سهلا و مر (حبا).


 (منه رحمه اللّه).
 [2] معطوف على قول القائل، أي: و مثله قول القائل من أهل العصر ... و المراد من تلك العبارة [قول القائل من أهل العصر] في أي موضع وقعت من الكتاب، نفس المصنّف. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) أرتج: أغلق. الصحاح 1: 317، القاموس المحيط 1: 190، مجمع البحرين 1: 302 (ترج).
 (2) راجع ديوانه المطبوع: 107- 108.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 94
و لقد أفضى بنا الكلام إلى ما هو خارج عن مقتضى المقام، فلنعد إلى المقصود، و نقول:
إنّ أقصى ما تناله أيدي المانعين من التكلّف في تأويل هذه الأمثلة و أمثالها حملها على أنّ اللفظ مستعمل في معنى آخر يشمل المعاني المفهومة منه، إمّا على نحو شمول الكلّ لأجزائه، أو شمول الكلّي لجزئيّاته كمفهوم المسمّى، و يسمّونه بعموم الاشتراك، و لا يخفى ما في كلّ منها من الضعف.
أما الأول [1]، فلأنه لا يتأتّى إلاّ فيما تعلّق حكم واحد بالجميع أو أمكن تعلّق الأحكام المتعدّدة بالمجموع دون ما إذا كان لكلّ معنى لا يشاركه الآخر فيه كلفظ العين في مديح النبويّ السابق «1»، و ما يصنع المرتمي في الدجى بالماء و الذهب، و مبتغي الدين بالشمس و الماء، و هكذا هذا.
على أنّ الوجدان الصحيح يحكم بأنّ المستعمل لم يلاحظ الهيئة المجموعية في استعماله قطّ، و لم يتعلّق له غرض به و أنّ مركّبا من الشمس و الماء و الباصرة و الذهب لمعجون طريف ما اهتدى إليه جالينوس [2] طول عمره، و لم يذكره طبيب في قرابادينة [3].
و أما الثاني [4]، فإن أرادوا أنّ المستعمل لا بدّ له من ملاحظة مفهوم المسمّى حين الاستعمال أوّلا فهذا ممّا لا ننكره، و لكن لا يلزم منه اتحاد المستعمل فيه، كما أنّ ملاحظة الجزئي في الوضع الخاصّ و الموضوع له العام لا توجب اتّحاد الموضوع له، و ملاحظة مفهوم العام في العام الأفرادي لا يلزم منه اتّحاد الحكم،
__________________________________________________
 [1] أي على نحو شمول الكلّ لأجزائه. (مجد الدين).
 [2] جالينوس طبيب حكيم يوناني معروف. (مجد الدين).
 [3] قرابادين معرّب لفظ يوناني، و المراد: معجم الأدوية و خواصّها. (مجد الدين).
 [4] أي على نحو شمول الكلّي لجزئيّاته. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) تقدم في صفحة 87.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 95
فإذا كان الأمر في الوضع و الحكم هكذا فليكن في الاستعمال كذلك، فكما أنّ ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدّد الموضوع له، و ملاحظة مفهوم العام و استعمال اللفظ فيه لا ينافي تعدّد الحكم، كذلك لا ينافي ملاحظة مفهوم المسمّى تعدّد الاستعمال.
و من هذا يظهر الجواب عمّا جعله بعض الأساتيذ عمدة مستنده في المنع و هي امتناع توجّه النّفس إلى شيئين في زمان واحد، كما أنّ المبصرات الكثيرة لا تبصر بنظرة واحدة.
و قد عرفت أنّ جميع ذلك لو سلّم فهو لا ينافي تعدّد المستعمل فيه، كما أنّ ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدّد الموضوع له.
و إن أرادوا به استعمال اللفظ في المسمّى، فيرد عليه:
أولا: أنّ الألفاظ إنما وضعت للمعاني بلحاظ ذواتها لا بلحاظ عناوين خارجة عنها كالمسمّى و غيره.
و أيضا الاستعمال في المسمّى لو سلّمنا صحّته فإنما يحسن فيما إذا كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان، كقولك: عبد اللّه خير من عبد المسيح. أي المسمّى بعبد اللّه خير من المسمّى بعبد المسيح لصدق التسمية في الأول، و كذبها في الثاني، و هذا نادر في موارد الاستعمال.
هذا، على أنه قد مرّت عليك من الشواهد مالا يمكن فيه هذا التأويل، كما نبّهناك عليه، فراجع.
ثم إنّ للمانعين تشبّثات أخرى لا بأس بالإشارة إليها و إلى ما يرد عليها.
منها: ما ذكره العمّ- طاب ثراه- في الفصول، و هو: «أن الّذي ثبت [من الوضع‏] «1» جواز استعمال اللفظ في معنى واحد، و أما استعماله فيما زاد عليه فلم‏
__________________________________________________
 (1) الزيادة من المصدر.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 96
يتبيّن لنا بعد الفحص ما يوجب جوازه، و مجرّد إطلاق الوضع- على تقدير تسليمه- مدفوع بعدم مساعدة الطبع عليه، فقضيّة كون الأوضاع توقيفيّة، الاقتصار على القدر المعلوم» «1» انتهى.
و لا أدري كيف لا يسلّم إطلاق الوضع، مع أنّ اعتبار قيد الوحدة في المعنى ممّا يقطع بخلافه كما يعترف به، و كون الموضوع له في حال الوحدة لا يقضي إلاّ بعدم كون الآخر موضوعا له بهذا الوضع، و يتبعه عدم صحّة الاستعمال به، و لا يوجب ذلك عدم وضع آخر و إلاّ لامتنع الاشتراك، و لا عدم صحة الاستعمال بملاحظة الوضع الآخر.
و ما أبعد بين ما أوضحناه لك من حسن هذا النحو من الاستعمال، و كونه مبنى كثير من نكات صناعة البديع، و بين ما يدّعيه من عدم مساعدة الطبع عليه.
ثمّ إنّ توقيفيّة الأوضاع لا يوجب توقيفيّة الاستعمال، و إني لأعجب من استدلال مثله رحمه اللّه بمثل هذا في مسألتنا هذه، و هي لغويّة محضة، لا شرعية يتأتّى فيها لزوم الاحتياط.
و منها: ما ذكره أيضا من عدم تحقّق مثل هذا الاستعمال في لغة العرب قديما و حديثا مع مسيس الحاجة إليه، و عدم الوجدان بعد الاستقراء يدلّ على عدم الوجود، و هو يورث ظنّا قويّا بعدم الجواز إن لم يوجب العلم به، و الظنّ حجّة في مباحث الألفاظ «2» انتهى.
و قد عرفت ثبوت الاستعمال على هذا النحو كثيرا، و في دعوى عدم الجواز ما تقدّم في سابقه، و في المراد من حجيّة الظن في هذا المورد و أمثاله خفاء و غموض.
__________________________________________________
 (1) الفصول الغرويّة: 55.
 (2) الفصول الغروية: 54- 55.

 


                        وقاية الأذهان، ص: 97
و منها: عدم ثبوت الإذن من الواضع فيه، و فيه ما تقدّم مرارا من عدم توقف الاستعمال على إذنه، بل يصحّ حتى مع تصريحه بالمنع إن لم يرجع إلى تخصيص الوضع‏


ب)رساله اماطه الغین

                        وقاية الأذهان، ص: 607
الجزء الرابع رسالة إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين‏
باسم اللّه و بحمده، و الصلاة على محمد و آله.
إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين أو مناظرة فيها فكاهة ... و استفتاء فيه دعابة لمّا قادني النّظر الصائب و الفكر الحرّ الّذي لا تشغله الخطابيات الواهنة عن الحقائق الراهنة إلى جواز إرادة أكثر من معنى من لفظ واحد.
عرضت ذلك على عدّة من عليّة أهل العلم و زعمائه، قابلني بالقبول عدّة من أعلامهم، أكتفي بذكر واحد منهم، لأنّه كما قيل: (ألف و يدعى واحدا) أعني:
واحد الدهر و فريده، و علاّمة الزمان و مفيده، صاحبي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بوّأه اللّه من الجنان في خير مستقرّ، كما حلّي عاطل جيد العلم بغالي الدرر، فإنّه ذهب إلى ما ذهبت إليه بعد طول البحث في ذلك، بل بالغ و جعل اللفظ ظاهرا في جميع المعاني المحتملة.
و بقي عدّة منهم على الرّأي القديم، فقلنا لهم: ما الّذي يصدّكم عن القول بالجواز؟ و المقتضي- و هو الوضع- موجود، و المانع مفقود، و قد علمتم و علمنا أنّ بضاعة اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له، أو توقّف الاستعمال على ترخيص الواضع و نحوهما ممّا لا تنفق في سوق العلم اليوم.

 

 


                        وقاية الأذهان، ص: 608
قالوا: تمنعنا الاستحالة العقلية، لأنّ الاستعمال ليس مجرّد جعل العلامة، بل له مقام شامخ لا يقبل التشريك و من حقّه التوحيد.
قلنا: عرّفونا بذلك المقام.
قالوا: الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، و لذا يسري قبحه و حسنه إليه.
قلنا: هذا الفناء هل هو على سبيل الحلول أو الاتّحاد أو الاستحالة و الانقلاب؟ و لعمر العلم أنّ هذا الفناء و قول اللفظ: أنا المعنى أشدّ خفاء من قول غلاة الصوفية: أنا ...
و الظاهر أنّ هذا مأخوذ من شطح علماء المعقول، و جعلهم للشي‏ء أنحاء من الوجود، منها: الوجود اللفظي. و لذا قلت في رسالة الوضع و الاستعمال: إنّه أخذ من كتب المعقول و وضع في غير موضعه من كتب الأصول.
و أنت جدّ بصير بأنّ هذا إن تمّ هناك و سلم من الإيراد، فهو في واد و نحن في واد.
و أمّا سراية القبح و الحسن إلى اللفظ، و هو في الخفاء كسابقه أو أشدّ خفاء منه، إذ لا نعقل له قبحا إلاّ بما يرجع إلى نفسه من الغرابة و التعقيد و نحوهما.
و لعلّ السبب في هذا الوهم ما يرى من قبح تكلّم أرباب المروّات بالألفاظ الموضوعة للأشياء القبيحة، و قبح التلفّظ بها عندهم. و ليس ذلك إلاّ لقبح إحضار تلك المعاني في ذهن المخاطب و كونه مخالفا للآداب المرعيّة.
فالقبح للتلفّظ لا للّفظ كما خلط عليهم، و لذا يتوصّلون إلى دفعه بذكر أحد لوازمه أو أسبابه ليكون المخاطب هو الّذي يلتفت إليه و يسلم المتكلّم من قبح التلفّظ، فهو يفهمه شيئا ليفهم شيئا آخر و يلتفت من نفسه إليه.
و لمّا سأله عن جمع (المسواك) قال: ضدّ محاسنك، تراه ألقى إليه أحسن‏

 

 


                        وقاية الأذهان، ص: 609
عبارة لينتقل السامع بنفسه إلى اللفظ الّذي فيه غضاضة.
و لمّا أراد القرآن الكريم بيان أنّ الرسل الكرام- على جميعهم و لا سيّما على خاتمهم السلام- يشاركون سائر البشر في أخسّ اللوازم البشرية، و لم يكن يناسب التصريح به منه تعالى و لا سيّما في حقّ الرسل الكرام عبّر عنه بأكل الطعام وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ «1» في قول جمع من المفسّرين.
و نرى للحاجة التي لا يقضيها غير صاحبها تفسيرات تنيف على العشرة و العشرين، و جميعها لوازم و كنايات، و على هذا فقس الحسن.
و لا تنس ما ذكرت لك أنّ الحسن و القبح للتلفّظ لا للّفظ، و إلاّ فاللفظ بنفسه لا يكون حسنا و لا قبيحا إلاّ إذا عاد لفظ (الشهد) حلوا و (الخلّ) حامضا.
و يكفي لإفحام هذا المتوهّم أنّ هذا القبح موجود بعينه في الإشارة باليد و نحوها، و ربما يكون أقبح و أفحش، مع أنّ الإشارة عندهم من باب العلامة للاستعمال.
قالوا: إنّ الاستعمال رمي للمعنى باللفظ.
قلنا: هذا أيضا لا يقصر في الخفاء عمّا سبق .. و لا ندري متى تحوّلت حروف (أباجاد) إلى قسي «2» نرمي بها جميع الموجودات من أسفل الأرضين إلى أعلى السماوات.
و لمّا بيّن ذلك الأستاذ (صاحب الكفاية) في مجلس الدرس قلت له: أ ترى أنّي إذا قلت لك: الحجر، رميتك به؟ فقال: نعم بالحمل الأوّلي. قلت: حاشا أن أتجاسر بذلك بجميع أنحاء الحمل. فأغرب الحاضرون ضحكا و لم ينبس ببنت شفة.
__________________________________________________
 (1) الأنبياء: 8.
 (2) جمع قوس.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 610
قالوا: إنّ اللفظ في هذا الحال غير ملتفت إليه إلاّ باللحاظ الآلي، كالناظر في المرآة، و الملحوظ بالاستقلال هو المعنى، و من المعلوم أنّ النّظر الاستقلالي باللفظ إلى المعنى بحيث يكون اللفظ فانيا و وجها له لا يكون نظرا استقلاليّا به إلى معنى آخر.
و لهذا الوجه عبارات تهول أبا الهول المصري، و جميعها مبني على فناء اللفظ، و الذنب له فلا غفر اللّه له، فقد أوقع جمعا كثيرا من أرباب الأفهام العالية في هذا الوهم.
و أجمله في (الكفاية) و قال: «و بالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين و فانيا في الاثنين إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين» «1».
قلنا: كلّ ذلك أمكن أم لم يمكن أجنبي عن الإفهام الّذي وضعت لأجله الألفاظ، فإرادة إفهام المعنيين تتحقّق في النّفس كما يتحقّق فيها إفهام معنى واحد، فيجعل اللفظ بعلاقة الوضع مع القرينة متى احتاج إليها ذريعة إلى الإفهام.
و اللحاظ نعرفه في مواضعه، و لا نعرف ما أتى به هنا و لا الجمع بين الآلي و الاستقلالي.
فاللفظ آلة لإحضار معنيين مستقلّين في ذهن السامع، إن شئت سمّه لحاظا و إن شئت فاختر له أيّ لفظ شئت، و نحن لا ترهبنا الألفاظ إذا سلمت لنا المعاني، و المستعمل ملتفت إلى المعاني إجمالا كما أنّ الناظر في المرآة ملتفت إليها إجمالا قطعا و إلاّ لم يكن يتكلّم ذاك و لا ينظر هذا.
نعم الالتفات إجمالي لا تفصيلي، و لا بدع فكثير من الأفعال الاختيارية تناط بالالتفات الإجمالي. هذا التنفّس الّذي به حياة الإنسان لا بدّ له منه في‏
__________________________________________________
 (1) كفاية الأصول: 36.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 611
أقصر زمان يقع بالالتفات الإجمالي. و إن شئت قلت: لا يلتفت إلى التفاته.
و قاصد بلد بعيد ملتفت طول مسيره إجمالا إلى مقصده، و إلاّ لم يقع منه السير و إلاّ جمد في مكانه، مع أنّ أكثر السير لا يقع بالتفات تفصيلي، بل التفاته التفصيليّ متوجّه إلى أمور اخر من ارتياد المنزل و الحلّ و الارتحال.
و أمّا قوله: «إلاّ أن يكون اللحاظ أحول العينين» فقد قلت في الرسالة:
إنّه يكفي أن لا يكون ذا عين واحدة و إذا كان ذا عينين يستعمل العين في معنيين «1».
ثم إنّ للكناية قسطا من شطح الاتّحاد مع المعنى و كونها نحو وجود له فهل يحجر على الكاتب كما يحجر على اللافظ، فلا يكتب: نظرت إلى عينين:
ساطعة و دامعة، أم ينزعون عنها لباس الهوهوية أو الفنائية على تعبير بعض محشّي (الكفاية) فتبقى علامة خالصة؟.
و للبحث بعد مجال متّسع، و أرى أن لا أملّ القرّاء الكرام بأكثر من هذا، و اكتفي بما بيّنته في رسالة الوضع و الاستعمال.
و الّذي دعاني إلى تجديد القول أنّ عالم العصر و علاّمة الزمان و العلم المشار إليه في العلمين و غيرهما بالبنان، الراقي مدارج العلم أعلى المراقي، صاحبي الشيخ ضياء الدين العراقي- دام فضله- شرّفني بنقل مقالتي في كتاب (المقالات) و قال ما نصّه:
 «ثم إنّ بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، و استشهد بأبيات و عبارات من القصص و الحكايات على مدّعاه و ذلك ليس إلاّ من جهة خلط المبحث بجعل محطّه صورة وحدة لحاظ المتعدّدات، أو بجعله الاستعمال من باب العلامة، و إلاّ فمع تنقيح مركز البحث كيف يغفل‏
__________________________________________________
 (1) راجع ص 87 من هذا الكتاب.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 612
عن شبهة اجتماع النظرين في لحاظ واحد!؟» «1».
و هذا حكومة بيني و بين المانعين و أنا أقبلها و أرحب بها لأني لا أعني بالاستعمال سوى إفهام المخاطب، و أمّا ذلك المعنى المجهول فلا حيّاه اللّه و لا بيّاه و لا أنعم به عينا و إنّي أدعه لهم و لا يهمّني أمره.
فكلامه- دام فضله- حكومة صورة و حكم لي واقعا، و لكن يبقى أمران:
أوّلهما: أنّ كثيرا من الوجوه المذكورة لامتناع الاستعمال جار في صورة جعل العلامة، نحو عدم صحّة الحكم على اللفظ في حالة الاستعمال، أو أنّ المقصود هو المعنى فلا يلتفت المستعمل إلى اللفظ و نحوهما، و عليه يلزم أن يخرس المتكلّمون و يمتنع منهم إفهام أغراضهم و يلتجئوا إلى الإشارات.
ثانيهما: أنّه لم يذكر وجها لما استشهدت به من الأبيات في الرسالة، فهل يؤوّلهما إلى المسمّى؟ ذلك التأويل البارد الفاسد، و قد بيّنت في الرسالة أنّ المسمّى لا يخطر ببال المستعمل أصلا حتى يستعمل فيه اللفظ.
ثم إنّه لا يحسن إلاّ ما إذا كان للمسمّى دخل في الحكم كقولك: عبد اللّه أصدق من عبد المسيح، لا في الموارد التي لا دخل له فيه كسائر ما استشهدت به من الأبيات، أو كما قال من القصص و الحكايات.
و قد التجأ العمّ العلاّمة في (الفصول) لمّا أعوزته الحيلة [إلى التأويل‏] «2» في مثل: (جاء الزيدان) و الأمر فيه أهون من سائر الموارد لتقارب المعنيين، و لو لا مسارعة الناظر إلى الإنكار و عدم مساعدة المجال و الحال لبسط المقال قلت: إنّ من باب الاستعمال في المعنيين أو المعاني كلّ تثنية و جمع مثل: جاء الرجلان و ذهب الرّجال.
__________________________________________________
 (1) مقالات الأصول: 1: 48- 49.
 (2) الفصول الغرويّة: 56.

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 613
و أيضا نجد في كثير من تلك الأمثلة و أضعافها ممّا لم أذكرها في الرسالة حذار الإطالة ممّا لا يمكن فيها التأويل المذكور. فراجعها.
و أكتفي هنا بشاهد واحد ممّا لم أذكره فيها و هو قول القائل فيمن يسمّى (يونس):
من بحر السريع:
         و لست للأقمار مستوحشا             لأنّ عندي قمري يونس‏

فإنّ لفظ (الأقمار) يخدم معنى (يونس) اسما، و لفظ (مستوحشا) يخدم معناه فعلا و لا يعقل تأويل المسمّى بين الاسم و الفعل، أو يعترف بأنّ جميع ذلك من باب جعل العلامة لا من باب الاستعمال.
و كلّ منصف يعلم أنّ الحال فيها كالحال في سائر المحاورات في جميع اللغات فيكون كلّ كلام البشر من سلف منهم و من غبر من باب ما وسموه بجعل العلامة، و يبقى الاستعمال الّذي توهّموه كعنقاء مغرب لفظا لا مصداق له.
و أختم الكلام بقولي: إنّي إذا أردت إخبار زيد بذهاب عمر و لا يمكنني إلاّ بطريق واحدة و هو ما عرّفتك بها سمّها إعلاما أو إفهاما أو جعلا للعلامة أو استعمالا، فأين ما ذكروه من القسمين؟
و أنا أجلّي ما قلت في صورة الاستفتاء مداعبة و أقول:
إنّي حلفت أن أصلي على محمد و آله صلوات الله عليهم خمسين مرة على طريق الاستعمال بالمعنى الّذي زعموه، و خمسين مرّة على نحو جعل العلامة و لم أتمكّن إلاّ من قسم واحد، و لأجل الخلاص من الحنث صلّيت ركعتين بعد ما قرأت الفاتحة و التوحيد مرّتين و أعقبتهما بالمعوّذتين لعلّي أهتدي إلى القسمين فلم أوفّق لذلك.
و أنّ عليّ بدنة إذا أخبرت زيدا بقيام عمرو على طريق الاستعمال، و عمرا

 

 

                        وقاية الأذهان، ص: 614
بذهاب زيد على طريق جعل العلامة، و أخبرت كلاّ منهما بذلك و لا أدري أيّهما كان استعمالا و أيّهما كان غيره.
فإن كان عند أحد هؤلاء ما يسهل عليّ الأمر و يضع عن عاتقي ثقل كفّارة الحلف فعل مأجورا إن شاء اللّه، و له منّي الشكر و من اللّه تعالى الأجر.
العبد أبو المجد محمد الرضا النجفي آل العلاّمة الإمام الشيخ محمد تقي النجفي صاحب (هداية المسترشدين) في الليلة المسفر صباحها عن سابع عشري «1» شهر شعبان سنة 1359 قمرية هجرية في بلدة أصفهان، كتبه حامدا مصلّيا.

 

    خزانة الأدب و غاية الأرب، ج‏2، ص: 467-470

التوشيع

53-
         و وشّع العدل «1» منه الأرض فاتّشحت             بحلّة الأمجدين العهد و الذّمم «2»

 «التوشيع» مأخوذ من «الوشيعة» «3»، و هي الطريق «4» الواحدة في البرد المطلق، و كأن «5» الشاعر أهمل البيت [كلّه‏] «6» إلّا آخره، فإنّه أتى فيه بطريقة تعدّ من المحاسن؛ و هو عند أهل هذه الصناعة عبارة عن أن يأتي «7» المتكلّم أو الشاعر باسم مثنّى في حشو العجز ثم يأتي بعده باسمين مفردين هما عين «8» ذلك المثنى، يكون الآخر منهما قافية بيته أو سجعة «9» كلامه كأنهما تفسير له. و قد جاء من ذلك في السنّة الشريفة ما لا يلحق بلاغته «10»، و هو قوله، (صلّى اللّه عليه و سلّم): «يشيب المرء و تشبّ «11» معه خصلتان: الحرص و طول «12» الأمل» «13».
و من «14» أمثلة هذا الباب «15» في «16» النظم قول الشاعر [من البسيط]:
         أمسي و أصبح من تذكاركم و صبا             يرثي لي «17» المشفقان: الأهل و الولد


                    
         قد خدّد الدمع خدّي من تذكّركم             و اعتادني المضنيان: الوجد و الكمد
             و غاب عن مقلتي نومي لغيبتكم             و خانني المسعدان: الصّبر و الجلد
             لا غرو للدّمع أن تجري غواربه             و تحته المظلمان: القلب و الكبد
             كأنّما مهجتي شلو بمسبعة             ينتابها الضاريان: الذئب و الأسد
             لم يبق غير خفيّ الروح في جسدي             فدى لك الباقيان: الرّوح و الجسد «1»

هذه الأبيات عامرة بالمحاسن في هذا الباب، غير أنّ أهل النقد الصحيح ما سكتوا عن تقصيره في البيت الأوّل حيث قال «2»:
         * يرثي لي المشفقان: الأهل و الولد «3»*


فإنّ شفقة الأهل و الولد معروفة، و المشفق إذا رثى لشكوى أهله أو الولد «4» إذا رثى لشكوى أبيه «5»، كان ذلك تحصيل الحاصل، و المراد هنا أن يقول: رثى لي العدوّ «6» و رقّ لي الحجر و «7» الصخر و أشباه ذلك.
قال ابن أبي الأصبع: «و ما بشعر قلته هنا «8» من بأس» «9»، [من البسيط]:/
         بي محنتان «10» ملام «11» في هوى «12» بهما             يرثي لي القاسيان: الحبّ و الحجر
             لو لا الشفيقان من أمنية و أسى             أودى «13» بي المرديان: الشوق و الفكر «14»

                     رأيت في حاشية [على‏] «1» هذين «2» البيتين بخطّ رفيع: رحم اللّه الشيخ، لو قال «الشوق و السّهر»، كان أتمّ و أحسن.
و بيت الشيخ صفيّ الدّين «3» الحلّيّ «4» في هذا الباب غاية، فإنه يقول في وصف «5» النبيّ، (صلّى اللّه عليه و سلّم) «6»:
         أمّيّ خطّ أبان اللّه معجزه             بطاعة الماضيين: السّيف و القلم «7»

و العميان لم ينظموا «8» هذا النوع في بديعيّتهم.
و بيت الشيخ عزّ الدين «9» الموصليّ، رحمه اللّه تعالى «10»، [فيه‏] «11»:
         و من عطاياه روض وشّعته يد             تغني عن الأجودين البحر و الدّيم «12»

الشيخ عزّ الدين «13» أتى بالتوشيع على الوضع، و لكنّه شنّ الغارة على ابن الرّومي و فكّ قواعد بيته، و هو [قوله‏] «14» [من البسيط]:
         أبو سليمان إن جادت لنا يده             لم يحمد الأجودان: البحر و المطر «15»

أخذ «الأجودين» و «البحر» و رادف «16» «المطر» ب «الدّيم»، و هذا ما يليق بأهل الأدب.
و بيت بديعيّتي أقول فيه عن النبيّ، عليه الصلاة و السلام «17»:                   
         و وشّع «1» العدل «2» منه الأرض فاتّشحت             بحلّة الأمجدين العهد و الذّمم «3»

و أنا على مذهب زكيّ الدّين «4» بن أبي الأصبع في قوله: «و ما بشعر قلته هنا «5» من بأس» «6». انتهى.


تثنیه و جمع

 وقایه الاذهان، ص 97

(تتمة)
من الأقوال: جواز الاستعمال على هذا النحو في التثنية و الجمع دون المفرد نظرا إلى أنّ اللفظ فيهما في قوّة تكرير المفرد، و لا ريب في جواز الاستعمال مع التكرار، و أيضا لا ريب في جواز ذلك في الأعلام، و ظاهر أنّ الاتفاق هناك في مجرّد اللفظ.
و أجاب عنه في الفصول: «بأنّا لا نسلّم أنهما في قوة تكرير المفرد حتى في جواز إرادة المعاني المختلفة منهما، و سبكهما من الأعلام مؤوّل بالمسمّى مجازا» إلى آخر كلامه.
و قال في أثنائه: «و ممّا يدل على التأويل المذكور في الأعلام دخول لام التعريف عليها حينئذ مع امتناع دخولها على مفردها، و وصفها معها بالمعرّف و عند التجريد بالمنكر» «1».
أقول: اللفظ مهما استعمل لا يدلّ إلاّ على إرادة طبيعة المعنى فقط من غير لحاظ التعدّد فيه و لا عدم التعدّد، و حينئذ فلا بدّ في استفادة أحدهما إلى دالّ آخر، و أداة التثنية و الجمع حرفان موضوعان لبيان التعدّد من غير لحاظ أنّ المعنيين هل هما بوضع واحد أو بأوضاع شتّى، فكما أنّ استفادة التعدّد من اللفظ محتاجة إلى أحد الأداتين كذلك تحتاج في كونهما بوضع واحد أو بوضعين إلى دالّ آخر، فإذا قلت: رأيت عينين لم يدلّ الاسم إلاّ على تعلّق الرؤية بطبيعة العين‏
__________________________________________________
 (1) الفصول الغرويّة: 56.

 

                        وقاية الأذهان، ص: 98
فقط من غير لحاظ الانفراد و التعدّد، فضلا عن لحاظ الوضع الواحد أو الوضعين، و لا الحرف إلاّ على التعدّد من غير دلالة على أنّ التعدّد بوضع واحد أو وضعين، فإذا أتبعته بقولك: سحّارة و خرّارة «1» فقد أزحت الإجمال عن اللفظ، و أعلمت السامع باستعمالك اللفظ في المعنيين، و لم تخرج بذلك عن معنى الحرف، و لم تستعمله في غير ما وضع لأجله، و الوجدان السليم يكفي المنصف شاهدا على ذلك، إذ لا ترى في قولك: رأيت عينين سحارة و خرّارة. تكلّفا و لا تأويلا أصلا، بل لا ترى فرقا بين قولك هذا، و بين قولك: رأيت عينين جاريتين. إلاّ أنّ الأول ألطف في الذوق، و أبدع في السمع، و عليه جرى الحريري في مقاماته، فقال- من الخفيف-:
         جاد بالعين حين أعمى هواه             عينه فانثنى بلا عينين‏

 «2» و لعمري لقد أحسن، و أخطأ من خطّأه في ذلك، و عليه يجري كثير من بديع أمثلة التوشيع [1]، كقول الصفي الحلّي:
         رأيت بدرين من وجه و من قمر             في ظلّ جنحين من ليل و من شعر

 «3» بناء على ما يذهبون إليه من كون استعمال البدر في الوجه مجازا، و أنّ المجازات لها أوضاع نوعيّة، لا على ما حقّقناه سابقا.
و قول بلديّة [2] السيّد حيدر رحمه اللّه في رثاء الحسين عليه السلام:
         فظاهر فيها بين درعين نثرة             و صبر و درع الصبر أقواهما عرى‏

 «4»
__________________________________________________
 [1] التوشيع في اصطلاح البديعيّين أن يأتي الشاعر باسم مثنّى، ثم يأتي باسمين مفردين يفسران الأوّل. (منه قدّس سرّه).
 [2] أي من بلده و موطنه، لأنهما من أهل الحلّة من بلاد العراق. (مجد الدين).
__________________________________________________
 (1) الخرير: صوت الماء، و منه عين خرّارة. الصحاح 2: 643 (خرر).
 (2) مقامات الحريري: 80.
 (3) ديوان صفي الدين الحلّي: 723.
 (4) ديوان السيد حيدر الحلّي 1: 80.
              

 

          وقاية الأذهان، ص: 99
و لهذا يسبكان في الأعلام فلا يحتاجان إلى هذا التأويل البارد أعني التأويل بالمسمّى كما ذكره العم «1»- طاب ثراه- و تبعه فيه غيره، فإنه تأويل ثقيل على السمع سمج لا يقبله الطبع، و حسب المنصف ملاحظة نفسه حال الاستعمال إذ لا يرى المسمّى يخطر منه بالبال.
و أما استدلاله على التأويل المذكور بدخول اللام عليها حينئذ فليس ذلك لتأويل المسمّى، بل الوجه فيه أنّ التعدّد ينافي المعرفة المحضة فيدخل اللام عليها كما يضاف في مثل هذا الحال، كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم مع أنّ الظاهر عدم التزامهم بالتأويل المذكور فيه.
إذا عرفت ذلك، نقول: هذا القائل إن أراد هذا المعنى فهو حقّ لا ينبغي أن يقابل إلاّ بالقبول، إذ لا بدّ لبيان التعدّد من دالّ عليه من الأداتين أو غيرهما ممّا يفيد فائدتهما.
و إن أراد أنّهما يدلاّن على أحد المعنيين و مدخولهما على المعنى الآخر فهو واضح الفساد إذ هما حرفان، و أين الحرف من إفادة معنى الاسم.
هذا، على أنّ كلاّ من الحرف و مدخوله إن دلّ على أحدهما المعيّن، و الآخر على الآخر المعيّن فهو ترجيح بلا مرجّح، و إن دلّ كلّ على أحدهما على وجه الترديد فهو باطل كما بيّنه العم «2» رحمه اللّه في ردّ صاحب المفتاح «3»، فلاحظ كلامه إن شئت، و تأمّل فيه.






براعة الاستهلال

البراعة هي التفوق، و الاستهلال الافتتاح و الابتداء، فاستهل: رأى الهلال، و استهل المولود صاح في أول زمان الولادة و استهلت السماء جادت بالهلل و هو أول المطر. قال المدني: «و كل من هذه المعاني مناسب للنقل منه الى المعنى الاصطلاحي و إن خصه بعضهم بالنقل من المعنى الثاني.
و إنّما سمي هذا النوع الاستهلال لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به» «2».
و كان الجاحظ قد نقل عن ابن المقفع قوله: «ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته» «3» و قال الجاحظ: «كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح و بين صدر خطبة العيد و خطبة الصلح و خطبة التواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فانّه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك و لا يشير الى مغزاك، و الى العمود الذي اليه قصدت، و الغرض الذي اليه نزعت».
و كانت هذه إشارة الى الاهتمام بمثل ذلك في النثر و الشعر، و لذلك قال ابن جني: «إذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده الى ما جاء بالرسالة من أجله» «4».
و عقد الكلاعي فصلا سماه «الاشارة في الصدور الى الغرض المذكور» «5».
و ذكر ابن المعتز فنا في محاسن الكلام سماه «حسن الابتداءات» «6» و قال الحموي عن هذه التسمية: «و في هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع و إن أخلّ الناظم بهذه الشروط لم يأت بشي‏ء من حسن الابتداء» «7».
و قد فرّع المتأخرون من هذه التسمية «براعة الاستهلال» و هي كما قال التبريزي: «أن يبتدى‏ء بما يدل على غرضه» «8»، كقول الخنساء في أخيها:
         و ما بلغت كفّ امرى‏ء متناولا             من المجد إلا و الذي نلت أطول‏
             و ما بلغ المهدون للناس مدحة             و إن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل‏

و دخل الأخطل على معاوية فقال: إني مدحتك فاسمع. فقال: إن كنت شبهتني بالحية و الصقر فلا حاجة لي فيه، و إن كنت قلت كما قالت الخنساء في أخيها، و أنشد البيتين فهات. فأنشده الأخطل:
         إذا متّ مات الجود و انقطع الندى             و لم يبق إلّا من قليل مصرّد

فقال له معاوية: «ما زدت على أن نعيت اليّ نفسي».
و قال البغدادي: «و أما براعة الاستهلال فهي من ضروب الصنعة التي يقدمها أمراء الكلام و نقاد الشعر و جهابذة الألفاظ، فينبغي للشاعر إذا ابتدأ قصيدة مدحا أو ذما أو فخرا أو وصفا أو غير ذلك من أفانين الشعر ابتدأها بما يدل على غرضه فيها، كذلك الخطيب إذا ارتجل خطبة، و البليغ إذا افتتح رسالة فمن سبله أن يكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه و أوله ملخصا بآخره» «9»، و ذكر أمثلة التبريزي.
و يتضح مما قاله المتقدمون أنّ براعة الاستهلال هي «ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله و إن وقع في اثناء القصيدة» «10» و لذلك فرّق المصري بين أمثلتها و أمثلة حسن الابتداءات فقال بعد أن ذكر
__________________________________________________
 (1) دلائل الاعجاز ص 35.
 (2) أنوار الربيع ج 1 ص 56.
 (3) البيان ج 1 ص 116.
 (4) إحكام صنعة الكلام ج 1 ص 116.
 (5) إحكام صنعة الكلام ص 66 و ما بعدها.
 (6) البديع ص 75.
 (7) خزانة الأدب ص 3.
 (8) الوافي ص 284.
 (9) قانون البلاغة ص 450.
 (10) تحرير التحبير ص 168.
                        معجم المصطلحات البلاغية و تطورها، ص: 228
أمثلة للأخير: «فهذه أمثلة ابتداءات القصائد، و أما أمثلة بارعة اسلاتهلال فمنها قول محمد بن الخياط:
         لمست بكفي كفّه أبتغي الغنى             و لم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي‏
             فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى             أفدت و أعداني فأنفدت ما عندي‏

و لقد أحسن البحتري اتباعه في هذا المعنى حيث قال:
         أعدت يداه يدي و شرّد جوده             بخلي فأفقرني كما أغناني‏
             و وثقت بالخلق الجميل معجّلا             منه فأعطيت الذي أعطاني‏

و اذا نظرت الى فواتح السور الفرقانية جملها و مفرداتها رأيت من البلاغة و التفنن في الفصاحة ما لا تقدر العبارة على حصر معناه، و من أراد الوقوف على ذلك فليقف على كتابي المنعوت بالخواطر السوانح في كشف أسرار الفواتح» «1».
و قال الحلبي و النويري ما قاله المصري عن حسن الابتداءات أي أنّها «تسمية ابن المعتز و أراد بها ابتداءات القصائد. و قد فرّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، و هو أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيّنة أو قرينة تدل على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده، و الكاتب أشدّ ضرورة الى ذلك من غيره ليبني كلامه على نسق واحد دل عليه من أوله وهلة علم بها مقصده» «2».
و قال ابن الاثير الحلبي عن براعة الاستهلال:
 «و يسمى حسن الابتداءات و هو من نعوت الألفاظ، و هو أن يكون مطلع الكلام دالا على المقصود في حسن الابتداء» «3». و هذا خلاف ما ذكره السابقون من أنّ براعة الاستهلال مما فرعه المتأخرون عن حسن الابتداءات.
و قال ابن قيم الجوزية: «هو أن يذكر الانسان في أول خطبته أو قصيدته أو رسالته كلاما دالا على الغرض الذي يقصده ليكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه» «4».
ثم قال: «هذا النوع قد قدمناه في فصل حسن المطلع لكن الزنجاني- رحمه اللّه- أفرد له بابا فأفردناه على حكم ما أفرده، و كان في حسن المطلع زيادات يحتاج اليها فذكرناها ههنا، و هذه الزيادة التي اقتضت افراده» «5».
و عدّه القزويني من حسن الابتداء و قال: «و أحسن الابتداءات ما ناسب المقصود، و يسمى براعة الاستهلال» «6». كقول أبي تمام يهنى‏ء المعصتم باللّه بفتح عمورية و كان أهل التنجيم زعموا أنّها لا تفتح في ذلك الوقت:
         السيف أصدق أنباء من الكتب             في حدّه الحدّ بين الجد و اللّعب‏
             بيض الصفائح لا سود الصحائف في             متونهنّ جلاء الشكّ و الريب‏

و تبع القزويني في ذلك شراح تلخيصه «7».
و قال السيوطي: «و من الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال، و هو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه و يشير الى ما سبق الكلام لأجله. و العلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن الكريم فأنها مشتملة على جميع مقاصده» «8».
__________________________________________________
 (1) تحرير ص 172.
 (2) حسن التوسل ص 250، نهاية الارب ج 7 ص 133.
 (3) جوهر الكنز ص 218.
 (4) الفوائد ص 139.
 (5) الفوائد ص 140.
 (6) الايضاح ص 431، التلخيص ص 431.
 (7) شروح التلخيص ج 4 ص 533، المطول ص 479، الأطول ج 2 ص 257.
 (8) معترك الاقران ج 1 ص 75، الاتقان ج 2 ص 106.
                        معجم المصطلحات البلاغية و تطورها، ص: 229
و سمّاه الحموي براعة الاستهلال و قال و هو يتحدث عن حسن الابتداء «و قد فرّع المتأخرون منه براعة الاستهلال في النظم و النثر و فيها زيادة على حسن الابتداء فانّهم شرطوا في براعة الاستهلال أن يكون مطلع القصيدة دالا على ما بنيت عليه مشعرا بغرض الناظم من غير تصريح بل باشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم و يستدل بها على مقصده من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو و كذلك في النثر. فاذا جمع الناظم بين حسن الابتداء و براعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان و إن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء. و ما سمي هذا النوع براعة استهلال إلا لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به. و رفع الصوت في اللغة هو الاستهلال، يقال: استهل المولود صارخا إذا رفع صوته عند الولادة و أهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، و سمي الهلال هلالا لأنّ الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته» «1».
و مما وقع من براعات الاستهلال التي تشعر بغرض الناظم و قصده في قصيده براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال:
         إذا لم يسالمك الزمان فحارب             و باعد إذا لم تنتفع بالأقارب‏

فاشارات العتب و الشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة، و يفهم منها أنّ بقية القصيدة تعرب عن ذلك.
و من ألطف البراعات و أحشمها براعة مهيار الديلمي فانه بلغه أنّه و شي به الى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر و أبرزه في معرض التغزل و النسيب فقال:
         أما و هواها حلفة و تنصّلا             لقد نقل الواشي الواشي اليك فأمحلا

و ما أحلى ما قال بعده:
         سعى جهده لكن تجاوز حدّه             و كثّر فارتابت و لو شاء قلّلا

و لم يخرج المدني على ما قاله المتقدمون و لا سيما الحموي، قال: «و اعلم أنّ المتأخرين فرّعوا على حسن الابتداء براعة الاستهلال، و هو أن يكون أول الكلام دالا على ما يناسب حال المتكلم متضمنا لما سبق الكلام لأجله من غير تصريح بل بألطف اشارة يدركها الذوق السليم» «2». ثم قال: «اذا علمت ذلك فاعلم أنّ براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالا على بنيت عليه من مدح أو هجاء أو تهنئة أو عتب أو غير ذلك. فاذا جمع المطلع بين حسن الابتداء و براعة الاستهلال كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلّي هذه الحلبة و الحالب من أشطر البلاغة أوفر حلبه» «3».






****************
ارسال شده توسط:
حسن خ
Friday - 22/10/2021 - 20:18

التوشیح

التوشيح أو الموشح هو فن شعري مستحدث، يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي بالتزامه بقواعد معينة وباستعماله اللغة الدارجة أو الأعجمية في خرجته، ثم باتصاله القوي بالغناء. والمصادر التي تناولت تاريخ الأدب العربي لم تقدم تعريفاً شاملاً للموشح، واكتفت بالإشارة إليه إشارة عابرة، حتى أن البعض منها تحاشى تناوله معتذرا عن ذلك لأسباب مختلفة. فابن بسام الشنتريني، لا يذكر عن هذا الفن إلا عبارات متناثرة، أوردها في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وأشار إلى أنه لن يتعرض للموشحات لأن أوزانها خارجة عن غرض الديوان، لا أكثر على غير أعاريض أشعار العرب. أما ابن سناء الملك فيقول: "الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص"، وقال عنه حنا الفاخوري "قصيدة شعرية موضوعة للغناء"، وعرفه محمد بن تاويت "أنه فن مستحدث من فنون الشعر وذلك في هيكل من القصيدة، والموسيقى فيه لا تسير على النهج الشعري.

موشح أو موشحة أو توشيح، وتجمع على موشحات أو تواشيح من وشح بمعنى زين أو حسن أو رصع.

محتويات

بعض شعراء الموشحات

أصل الموشحات

يعتقد أن كلمة "الموشحة" تعود إلى اللفظة السريانية "موشحتا" (ܡܘܫܚܬܐ) أي بمعنى "إيقاع" أو "ترتيلة من المزامير". كما يعتقد أن الموشحات ظهرت في المشرق العربي وتأثرت بشدة بالموسيقى الكنسية السريانية حتى أن الردات في أقدم الموشحاة كانت تحوي ألفاظا سريانية.

بينما يقول رأي آخر أن مخترع الموشحات في الأندلس كان شاعرا من شعراء فترة الأمير عبد الله اسمه مقدم بن معافى القبرى. وقد جاء في بعض نسخ كتاب الذخيرة لابن بسام أن مخترع الموشحات اسمه محمد بن محمود. والمرجح أن مخترع هذا النوع الشعري هو مقدم بن معافر، وعلى ذلك أكثر الباحثين. على أن بسام لم يجزم حين ذكر هذا الأخير، وإنما قال: "و أول من صنع هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها - فيما يلقى- محمد بن محمود القبرى الضرير". ولعل كون الشاعرين من قبرة جعل ابن بسام يضع اسما محل اسم، فكأنه قد بلغه أن الشاعر القبرى فلانا قد اخترع الموشحات، فذكر محمد بن محمود ونسى اسم مقدم. وقد وردت هذه الموشحة منسوبة إلى هذا الأندلسي في كثير من المصادر الموثوق بها مثل جيش التوشيح لابن الخطيب.

تطور الموشحات

ياليل الصب متى غده أقيام الساعة موعدهُ؟ رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ أسفٌ للبين يردِّدُّهُ فبكاه النّجم ورق لهُ مما يرعاه ويرصدهُ كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ خوف الواشين يشرِّدهُ نصبت عيناي له شركاً في النوم فعزّ تصيدهُ وكفى عجباً أني قنصٌ للسِّرب سباني أغيدهُ ينضو من مقلته سيفاً وكأن نعاساً يغمدهُ فيريق دم العشاق به والويل لمن يتقلَّدهُ كلا لا ذنب لمن قتلت عيناه ولم تقتل يدهُ يا من جحدت عيناه دمي وعلى خدَّيهِ تورُّدهُ خداك قد اعترفا بدمي فعلام جفونك تجحدهُ..؟ إنّي لأعيذك من قتلي وأظنك لا تتعمدهُ بالله هب المشتاق كرىً فلعلَّ خيالك يسعدهُ ما ضرَّك لا داويت ضنى صبٍّ يدنيك وتبعدهُ لم يبقِ هواك له رمقاً فليبكِ عليه عُوَّدُهُ وغداً يقضي أو بعد غدٍ هل من نظرٍ يتزودهُ ..؟ يا أهل الشوق لنا شرقٌ بالدمع يفيض مورّدهٌ ما أحلى الوصل وأعذبه لولا الأيام تنكدهُ بالبين وبالهجران فيا لفؤادي كيف تجلُّدهُ

موشح من أقوال الحصري القيرواني (يا ليل الصب)

 


في أواسط القرن التاسع عشر وصلت الموشحات إلى مجموعة من الفنانين الموهوبين لم يقتصروا على حفظ القديم بل جددوا وأضافوا إليه، فظهرت موشحات جديدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ومن هؤلاء محمد عثمان ملحن ملا الكاسات الذي ساهمت ألحانه القوية واهتمامه بضبط الأداء مع صوت عبده الحامولى الذي وصف بالمعجزة في انتقال الموشحات من الأوساط الشعبية إلى القصور وأصبح الموشح جزءا أساسيا من الوصلات الغنائية، واستمر هذا التقليد حتى أوائل القرن العشرين حينما ظهرت باقة من الموهوبين أضافت إلى الموشحات مثل سلامة حجازي وداود حسنى وكامل الخلعى، حتى وصل إلى سيد درويش فأبدع عدة موشحات كانت بمثابة قمة جديدة وصل إليها هذا الفن، لكن المفارقة الكبرى تمثلت في أن سيد درويش نفسه كان كخط النهاية فلم تظهر بعده موشحات تذكر

توارى فن الموشح مع مقدم القرن العشرين وحلول المدرسة التعبيرية التي كان رائدها سيد درويش محل المدرسة الزخرفية القديمة وأصبح فنا تراثيا لا يسمعه أحد، لكنه عاد إلى الساحة مرة أخرى بعد عدة عقود

أعيد غناء الموشحات في أواخر الستينات من القرن العشرين كمادة تراثية عن طريق فرق إحياء التراث التي بدأت بفرقتين هما فرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة في القاهرة وكورال سيد درويش بقيادة محمد عفيفى بالإسكندرية، ثم ظهرت فرق أخرى كثيرة في مصر خاصة في موجة قوية لاستعادة التراث خلقت جمهورا جديدا من محبى الموشحات والفن القديم، وتعددت فرق الموشحات إلى حد وجود فرقة بكل مدينة وظهرت فرق في الجامعات لنفس الغرض، كما غنى الموشحات بعد ذلك مطربون فرادى مثل صباح فخرى وفيروز وظهرت أجزاء من موشحات كمقدمات لأغانى عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وآخرين مثل كامل الأوصاف لحن محمد الموجى وقدك المياس والعيون الكواحل وغيرها

أصبح للموشح كيان جديد له جمهور كبير، واكتسبت الموشحات أيضا قيمة اجتماعية راقية نظرا للتطور الذي أدخل على طرق الأداء في هذه الفرق موسيقيا وغنائيا حيث اتسم الأداء بالدقة المتناهية التي ساهمت في تصنيفه كفن من الذوق الرفيع، وانعكس هذا الاتجاه على الجمهور الذي أبدى انضباطا كبيرا وحسن استماع إلى عروض خصصت للموشحات، بل إن الجمهور قد استجاب لشرط المنظمين دخول حفلات الموشحات بالملابس الرسمية! كما ساهم في عودة الموشحات لاكتساب الجمهور شرقية ألحانها الشديدة التي اشتاق الناس إلى الاستمتاع بفنونها بعد سنوات طويلة من التغريب والتجريب

خصائص الموشحات

بالإضافة إلى الجمع بين الفصحى والعامية تميزت الموشحات بتحرير الوزن والقافية وتوشيح، أى ترصيع، أبياتها بفنون صناعة النظم المختلفة من تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافى جديدة تكسر ملل القصائد، وتبع ذلك أن تلحينها جاء أيضا مغايرا لتلحين القصيدة، فاللحن ينطوى على تغيرات الهدف منها الإكثار من التشكيل والتلوين، ويمكن تلحين الموشح على أى وزن موسيقى لكن عرفت لها موازين خاصة غير معتادة في القصائد وأشكال الغناء الأخرى.






****************
ارسال شده توسط:
حسن خ
Friday - 22/10/2021 - 20:31
بــدر يــطــوف بــكــوكــب
يــرمـي بـه مـارد الهـم
فــي الكـأس نـار تـلهـب
أم تــلك نــور تــجــســمّ
الروض قـــد رشّه الطـــل
والزهـــر بـــالدّر كــلّل
والورق في الدوح حيعل
إلى الصــــبـــوح وثـــوّب
وقـــام للهـــو مـــوســـم
 
مــــدامـــة خـــنـــدريـــس
بـــكـــو عـــجـــوز عــروس
اذا جــلتــهــا الكــؤوس
تـــريـــك وهــي تــعــطــب
لئالئاً تــــتــــبــــســــمّ
 
تــرى لديــنــا غــلامــاً
يـسـقـيـك جـامـا فـجـاما
يـجـلو سـنـاه الظـلامـا
يــعــطــو بــسـالف ربـرب
فـي جـفـنـه بـأس ضـيـغـم
 
فــي جــنــب آس العــذار
كــــالورد والجـــلنـــار
خـــد زهـــى بــاحــمــرار
عـــن دم قـــلب تــخــضــب
فــصــحّ لو قــيــل عـنـدم
 
أفـديـه غـصـنـاً نـضـيـراً
يــقــل وجــهــا غــريــرا
يــريــك بــدراً مــنـيـراً
مـن صـدغـه تـحـت غـيـهـب
فـقـسـه بـالبـدر إن تـمّ
 
ثـــغـــر هــنــيّ مــشــارب
مــحــفـوفـة بـالمـعـاطـب
مــا رامــه غــيـر شـارب
كــــخــــائف يــــتـــرقـــب
رام الورود فـــاحـــجــم
 
مـن تـحـت تـلك الأسـنـة
كــيــانــع الورد وجـنـه
تـــجـــمــع نــاراً وجــنّه
القــلب فــيــهــا يـعـذب
والطــرف فـيـهـا يـنـعـم
 
شــكــواي قـلبـي وطـرفـي
قــد عــرضــانـي لحـتـفـي
كـمـقـلت رفـقـاً بـضـعـفي
الغــصـن يـا طـرف أصـوب
والسـلم يـا قـلب أسـلم
 
يــا قـلب كـيـف الخـلاص
عـــليـــك عــز المــنــاص
فـــهـــل تـــقـــيــك دلاص
والطــرف ســيــف مــجــرب
والقـــدّ رمـــح مـــقـــوّم
 
بــالمــرســلات دمــوعــي
والمـــوريـــات ضــلوعــي
ان بـات يـومـاً ضـجـيـعي
شــفـيـت قـلبـي المـعـذب
بـاللثـم مـنـه وبـالضـم
 
ليــس التــقــيــة ديـنـي
لقــد بــررت يــمــيــنــي
مــذ بـات طـوع يـمـيـنـي
لا زال يــســقـي وأشـرب
مـشـمـولة جـامـهـا الفم
 
ســكــر الهـوى والسـلاف
وللرقـــيـــب تـــغـــافــي
فــكــدت لولا عــفــافــي
وليـــس مـــثــلي يــكــذب
عـــفـــفــت واللَه أعــلم
 
تــركــتــنــي يـا غـزالي
يــرثــي العــدو لحــالي
جـسـمـي شـبـيـه الخـيـال
مـــن لام فـــيــك وأنــب
لمــــــا رآه تـــــرحـــــم
 
النــدي مــنــه مــحــقــق
لكــن حـديـث المـمـنـطـق
يـروي الوشـاح المـعـلق
وذا حـــديـــث مـــذبـــذب
عــنــدي ضـعـيـف ومـبـهـم
 
الجــيــد أهــواه أجـيـد
والشــعـر جـثـلا مـجـعـد
والخــد مــهــمــا تــوّرد
والثــدي مـهـمـا تـكـعـب
والخــصـر أخـطـف مـهـظـم
 
بــــمــــا أديـــن أبـــوح
للراح أنــــــي أبــــــوح
ان طــاف فــيـهـا مـليـح
تــجــلى بــجــام مــذهــب
مــا بـيـن روض مـنـمـنـم
 
أروي حــديــث الأغـانـي
مـــثـــالثــا ومــثــانــى
عـــن شـــاديــات حــســان
مــا حــل بـالاذن أطـرب
أروي عـن الزيـر والبم
 
انـسـاً بـعـرس ابن موسى
أحـيـا السـرور نـفـوسـا
فــليــس تــعــرف بــوســا
وبـــالهـــنــا تــتــقــلب
وبـــالمـــســرة تــنــعــم
 
روى حــديــث المــعــالي
عـــن خـــيــر عــمّ وخــال
بــجــمــع خــيــر خــصــال
قـد فـاق بـالجـد والأب
فـي الفـضـل مـذ خصه عم
 
عـــم يـــعــم البــرايــا
بــعــلمــه والعــطــايــا
لذا الأنـــام رعـــايــا
له لدى كــــل مــــوكــــب
تـغـنـى وبـالعـلم تـغنم
 
فـي الصـدر مـهـما تصدر
وراح للعــــلم مـــصـــدر
وللحـــقـــايــق مــظــهــر
تــقــول ذا ســرّ مــذهــب
بــالوحــي لهــي ويـلهـم
 
تــــعـــدّ عـــمـــنّ ســـواه
هــذا الرفــيــع بــنــاه
تــــعـــدّ عـــمـــنّ ســـواه
لا بــعــد النـاس أقـرب
لخـــاطـــب وهـــو أرقـــم
 
أبــو الليــوث الشـبـول
مــا أنــجــبــت لفــحــول
أم العــلى مــن مــثـيـل
لهـــم ولاقـــط تــنــجــب
أم النــجــابــة أعــقــم
 
أعــــلام عــــلم هــــداة
للحــــق خــــيـــر دعـــاة
لمــوّا بــعـيـد الشـتـات
للعــلم شــمــلا تــشـعّـب
فــالكــل بــاللَه أعــلم
 
تــرّســم الفــضـل فـيـهـم
مــن جــدهــم وأبــيــهــم
مــراقــبــاً تــرتـضـيـهـم
أعـــلام ديـــن تــنــصــب
بــيــن الورى فــتــعـظـم
 
كــل هــو البــدر ازهــر
عـــنـــوانــه لك أخــبــر
يــحـيـى شـريـعـة جـعـفـر
فـــرع له قـــد تــعــقــب
آثـــــاره وتـــــســــنــــم
 
فـــلو رأيـــت بـــحـــوراً
مــن جــعـفـر لن تـغـورا
رأيــت مــلكــاً كــبـيـرا
وقــــلت ســــرَّ ومـــطـــلب
لِلّه فــــيـــه مـــحـــكـــم
 
دمـــتـــم مــدى الدوران
وبــــيـــنـــكـــم كـــل آن
مــن مــعــضـلات الزمـان
لنـــاس حـــصــن مــطــنــب
عــلى الزعــامــة يـدعـم
 
مـــنـــكــم بــكــل عــهــد
إمــــام حــــلّ وعــــقــــد
يــجــلي ظـلامـاً ويـجـدي
ومــنــه للفــضــل أعـقـب
فـرعـاً بـه الحـمد يختم
 

عندم

العین

العَنْدَمُ: دَمُ الأَخَوَيْنِ. و قيل: هو الأَيْدَع‏

 

 

                        لسان العرب، ج‏12، ص: 430
عندم:
العَنْدَمُ: دَمُ الأَخَوَيْنِ. و قيل: هو الأَيْدَعُ. و قال محارب العَنْدَم صِبْغ الداربرنيان «1». و قال أَبو عمرو: العَنْدَمُ شجر أَحمر. و قال بعضهم: العَنْدَمُ دمُ الغَزال بِلِحاء الأَرْطى يطبخان جميعاً حتى ينعقدا فتختضب به الجواري؛ و قال الأَصمعي في قول الأَعشى:
         سُخامِيَّة حمراء تُحْسَبُ عَنْدَما


قال: هو صِبْغٌ زعم أَهل البحرين أَن جواريهم يختضبن به. الجوهري: العَنْدَمُ البَقَّمُ، و قيل: دم الأَخوين؛ قال الشاعر:
         أَما وَ دِماءٍ مائراتٍ تَخالُها،             على قُنَّةِ العُزَّى و بالنَّسْرِ، عَنْدَما

 

 






****************
ارسال شده توسط:
حسن خ
Friday - 22/10/2021 - 20:32

اماطه الغین ای ازاله الغواشی

العین:

الغَيْنُ: السحاب، [يقال: غَيِنَتِ السماءُ غَيْناً: و هو إطباق الغيم، و كل ما غشي شي‏ء وجه شي‏ء فقد غَيِنَ عليه.