ابن تيمية - سماع الاموات



مجموع الفتاوى (4/ 273)
سئل:
هل يتكلم الميت في قبره؟ :
فقال:
وأما سؤال السائل هل يتكلم الميت في قبره فجوابه أنه يتكلم وقد يسمع أيضا من كلمه؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنهم يسمعون قرع نعالهم} وثبت عنه في الصحيح {أن الميت يسأل في قبره؛ فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول: الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي. ويقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه؛ وهذا تأويل قوله تعالى {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} } . وقد صح عن {النبي صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر وكذلك يتكلم المنافق فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته؛ فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان.} وثبت عنه في الصحيح أنه قال: {لولا أن لا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم عذاب القبر مثل الذي أسمع} وثبت عنه في الصحيح أنه {نادى المشركين يوم بدر: لما ألقاهم في القليب. وقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم} . والآثار في هذا كثيرة منتشرة والله أعلم.





مجموع الفتاوى (4/ 295)
ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه} رواه النسائي ورواه مالك والشافعي كلاهما. وقوله " يعلق " بالضم أي يأكل وقد نقل هذا في غير هذا الحديث. فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر - إذا شاء الله - وإنما تنعم في الجنة وحدها وكلاهما حق. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال: " بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت " وهذا يوافق ما روي: " أن الروح قد تكون على أفنية القبور " كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة " كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام} .
وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن خير أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} . وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب - إذا شاء الله ذلك - كما يشاء وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة ومعذبة. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى كما ثبت في الصحيح والسنن {أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم} . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائما على البدن في كل وقت؛ بل يجوز أن يكون في حال دون حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فقال: يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر.} وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ وقال إنهم ليسمعون الآن ما أقول فذكر ذلك لعائشة فقالت: وهم ابن عمر. إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق ثم قرأت قوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى} حتى قرأت الآية} . وأهل العلم بالحديث والسنة: اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر وإن كانا لم يشهدا بدرا فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة وأبو طلحة شهد بدرا. كما روى أبو حاتم في صحيحه عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال: فلما كان اليوم الثالث: أمر براحلته فشد عليها فحركها ثم مشى وتبعه أصحابه. وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته؛ حتى قام على شفاء الركى؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم} . قال قتادة: أحياهم الله حتى سمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وتنديما. وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك. والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله: {إنك لا تسمع الموتى} إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه فإن هذا مثل ضرب للكفار والكفار تسمع الصوت لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع كما قال تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} . فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع السماع المعتاد أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار؛ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين فهذا موافق لهذا فكيف يدفع ذلك؟ ومن العلماء من قال: إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتا كما قالت عائشة. واستدلت به من القرآن وأما إذا أحياه الله فإنه يسمع كما قال قتادة: أحياهم الله له. وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها كما نحن لا نرى الملائكة والجن ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه الله عليه. وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعا. والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.