تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص: 54)
المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس الملقب بـ"أبابطين" (المتوفى: 1282هـ)
وكذب في نسبة ذلك إلى البغوي، فإن البغوي حكى ذلك عن مقاتل، فيحتمل أن مقاتلا خص بعض ما تناولته الآية لمعنى ما، والظاهر أن مراده أن غير الكافر يشفع فيه الشافعون ويرى 4 أن من أذن له في الشفاعة يملك ما أذن له فيه كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} [مريم:87] . وقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] بناء على أن الاستثناء في الآيتين متصل، وأن من أذن له في الشفاعة يصدق عليه أنه ملك الشفاعة فيمن أذن له فيه فقط، والشفاعة المأذون فيها هي من الأمر 5 الذي اختص الله به سبحانه في قوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} والألف واللام في الأمر تفيد العموم عند الجميع كقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص: 114)
وقوله: إن الله ملّك المؤمنين الشفاعة مستدلا بقوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} [مريم:87] وقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] . بناءا على أحد قولي المفسرين: أن الاستثناء في الآيتين متصل.
فإطلاق القول بأن الله ملك المؤمنين الشفاعة خطأ، بل الشفاعة كلها لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] . وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحون يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة يصح أن يقال أنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا، لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال، وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له إرفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع، قال الله سبحانه لأكرم الخلق عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] لما قال صلى الله عليه وسلم في حق عمه: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"1 وقا ل في حق المنافقين {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] .
مجموع الفتاوى ابن تیمیة(14/ 400)
وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} قولين. أحدهما: أن المستثنى هو الشافع. ومحل " من " الرفع. والثاني: هو المشفوع له. قال أبو الفرج: في معنى الآية قولان. أحدهما: أنه أراد بـ {الذين يدعون من دونه} آلهتهم. ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة. فقال {إلا من شهد بالحق} وهو شهادة أن لا إله إلا الله {وهم يعلمون} بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. قال: وهذا مذهب الأكثرين منهم قتادة.
والثاني أن المراد بـ {الذين يدعون} عيسى وعزيرا والملائكة الذين عبدهم المشركون لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد {إلا من شهد بالحق} وهي كلمة الإخلاص {وهم يعلمون} أن الله خلق عيسى وعزيرا والملائكة. وهذا مذهب قوم منهم مجاهد. وقال البغوي {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق} هم عيسى وعزير والملائكة. فإنهم عبدوا من دون الله. ولهم الشفاعة. وعلى هذا تكون " من " في محل رفع. وقيل " من " في محل خفض. وأراد بالذين يدعون: عيسى وعزيرا والملائكة. يعني: أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق. قال: والأول أصح. قلت: قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة منهم ابن أبي حاتم. روى بإسناده المعروف - على شرط الصحيح - عن مجاهد قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} عيسى وعزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعزير والملائكة {إلا من شهد بالحق} يعلم الحق. هذا لفظه. جعل " شفع " متعديا بنفسه وكذلك لفظ. . . (1)
وعلى هذا فيكون منصوبا لا يكون مخفوضا كما قاله البغوي؛ فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم. ويكون على هذا يقال: شفعته وشفعت له كما يقال: نصحته ونصحت له. و " شفع " أي صار شفيعا للطالب. أي لا يشفعون طالبا ولا يعينون طالبا {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} أن الله ربهم. وروي بإسناده عن قتادة {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} الملائكة وعيسى وعزير. أي أنهم قد عبدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة. قلت: كلا القولين معناه صحيح. لكن التحقيق في تفسير الآية: أن الاستثناء منقطع. ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقا. لا يستثنى من ذلك أحد عند الله. فإنه لم يقل: ولا يشفع أحد. ولا قال: لا يشفع لأحد بل قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة ألبتة. والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله؛ وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح. وهو - مع هذا - له شفاعة ليست لغيره. فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعي من دون الله دون من لم يدع. فمن جعل الاستثناء متصلا فإن معنى كلامه: أن من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم. ويبقى الذين لم يدعوا من دون الله لم تذكر شفاعتهم لأحد. وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه. وسبب نزول الآية يبطله أيضا. وأيضا فقوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} يتناول كل معبود من دونه. ويدخل في ذلك الأصنام. فإنهم كانوا يقولون: هم يشفعون لنا. قال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} . فإذا قيل: إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله يشفعون لهم. وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة. فإنه إذا كان المعنى: أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا صالحين. والقرآن كله يبطل هذا المعنى. ولهذا قال تعالى {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب. فعلم: أنه لا بد أن يؤذن لهم فيمن يشفعون فيه وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق. وأيضا فإن في القرآن: إذا نفى الشفاعة من دونه: نفاها مطلقا. فإن قوله {من دونه} إما أن يكون متصلا بقوله يملكون أو بقوله يدعون أو بهما. فالتقدير: لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه. أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا. وهذا أظهر. لأنه قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} فأخر " الشفاعة " وقدم " من دونه ". ومثل هذا كثير في القرآن يدعون من دون الله ويعبدون من دون الله كقوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} وقوله {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} . بخلاف ما إذا قيل: لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه. فإن هذا لا نظير له في القرآن. واللفظ المستعمل في مثل هذا أن يقال: لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه أو لمن ارتضى ونحو ذلك لا يقال في هذا المعنى " من دونه " فإن الشفاعة هي من عنده. فكيف تكون من دونه؛ لكن قد تكون بإذنه وقد تكون بغير إذنه. وأيضا فإذا قيل {الذين يدعون} مطلقا. دخل فيه الرب تعالى. فإنهم كانوا يدعون الله ويدعون معه غيره. ولهذا قال {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} . والتقدير الثالث: لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه وهذا أجود من الذي قبله. لكن يرد عليه ما يرد على الأول. ومما يضعفهما: " أن الشفاعة " لم تذكر بعدها صلة لها. بل قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} فنفى ملكهم الشفاعة مطلقا. وهذا هو الصواب. وأن كل من دعي من دون الله: لا يملك الشفاعة. فإن المالك للشيء: هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته. والرب تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال. ولا يقال في هذا " إلا بإذنه " إنما يقال ذلك في الفعل. فيقال {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} . وأما في الملك: فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها. فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكا لها. بل هذا ممتنع كما يمتنع أن يكون خالقا وربا. وهذا كما قال {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} فنفى الملك مطلقا. ثم قال {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه. لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة. بل هو سبحانه له الملك وله الحمد. لا شريك له في الملك قال تعالى {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} {الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} . ولهذا - لما نفى الشفعاء من دونه - نفاهم نفيا مطلقا بغير استثناء. وإنما يقع الاستثناء: إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه. كما قال تعالى {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وكما قال تعالى {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} وكما قال تعالى {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} فلما قال " من دونه " نفى الشفاعة مطلقا. وإذا ذكر " بإذنه " لم يقل " من دونه " كقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} .
فمن تدبر القرآن: تبين له أنه كما قال تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} يشبه بعضه بعضا. ويصدق بعضه بعضا. ليس بمختلف ولا بمتناقض {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} . وهو " مثاني " يثني الله فيه الأقسام. ويستوفيها. والحقائق: إما متماثلة. وهي " المتشابه " وإما مماثلة. وهي: الأصناف والأقسام والأنواع. وهي " المثاني ". و " التثنية " يراد بها: جنس التعديد من غير اقتصار على اثنين فقط. كما في قوله تعالى {ارجع البصر كرتين} يراد به: مطلق العدد كما تقول: قلت له مرة بعد مرة. تريد: جنس العدد. وتقول: هو يقول كذا ويقول كذا. وإن كان قد قال مرات كقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما {عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه جعل يقول بين السجدتين: رب اغفر لي. رب اغفر لي} لم يرد: أن هذا قاله مرتين فقط كما يظنه بعض الناس الغالطين. بل يريد: أنه جعل يثني هذا القول ويردده ويكرره كما كان يثني لفظ التسبيح. وقد قال حذيفة رضي الله عنه في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم {إنه ركع نحوا من قيامه يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وذكر أنه سجد نحوا من قيامه يقول في سجوده: رب اغفر لي. رب اغفر لي} . وقد صرح في الحديث الصحيح {أنه أطال الركوع والسجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران} فإنه قام بهذه السور كلها. وذكر {أنه كان يقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى} . فعلم أنه أراد بتثنية اللفظ: جنس التعداد والتكرار لا الاقتصار على مرتين. فإن " الاثنين " أول العدد الكثير. فذكر أول الأعداد يعني أنه عدد هذا اللفظ لم يقتصر على مرة واحدة. فالتثنية التعديد. والتعديد يكون للأقسام المختلفة. وليس في القرآن تكرار محض بل لا بد من فوائد في كل خطاب. فـ " المتشابه " في النظائر المتماثلة. و " المثاني " في الأنواع. وتكون التثنية في المتشابه أي هذا المعنى قد ثني في القرآن لفوائد أخر. فـ " المثاني " تعم هذا وهذا. وفاتحة الكتاب: هي " السبع المثاني " لتضمنها هذا وهذا. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} قد تم الكلام هنا. فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة ألبتة. ثم استثنى {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فهذا استثناء منقطع. والمنقطع يكون في المعنى المشترك بين المذكورين. فلما نفى ملكهم الشفاعة بقيت الشفاعة بلا مالك لها. كأنه قد قيل: فإذا لم يملكوها هل يشفعون في أحد؟ فقال: نعم {من شهد بالحق وهم يعلمون} . وهذا يتناول الشافع والمشفوع له. فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. فالملائكة والأنبياء والصالحون - وإن كانوا لا يملكون الشفاعة - لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا. وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله. فيشهدون بالحق وهم يعلمون. لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليدا للآباء والشيوخ. كما جاء الحديث الصحيح: {إن الرجل يسأل في قبره؟ ما تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله. جاءنا بالبينات والهدى. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئا فقلته} فلهذا قال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} . وقد تقدم قول ابن عباس: يعني من قال " لا إله إلا الله " يعني: خالصا من قلبه.
والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة كلها تبين: أن الشفاعة إنما تكون في أهل " لا إله إلا الله ". وقد ثبت في صحيح البخاري. {أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه} . فبين أن المخلص لها من قبل نفسه: هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه وتكذبها أقواله وأعماله.
فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق شهدوا " أن لا إله إلا الله " كما شهد الله لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} . فإذا شهدوا - وهم يعلمون - كانوا من أهل الشفاعة شافعين ومشفوعا لهم. فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم في بعض كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - في الحديث الطويل حديث التجلي والشفاعة - {حتى إذا خلص المؤمنون من النار. فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار} - وذكر تمام الحديث ". وسبب نزول الآية - على ما ذكروه - مؤيد لما ذكره. قال أبو الفرج ابن الجوزي: سبب نزولها: أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا " إن كان ما يقول محمد حقا. فنحن نتولى الملائكة. فهم أحق بالشفاعة من محمد. فنزلت هذه الآية " قاله مقاتل. وعلى هذا: فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة. فليس توليكم إياهم واستشفاعكم بهم: بالذي يوجب أن يشفعوا لكم. فإن أحدا ممن يدعى من دون الله لا يملك الشفاعة. ولكن {من شهد بالحق وهم يعلمون} فإن الله يشفع فيه. فالذي تنال به الشفاعة: هي الشهادة بالحق. وهي شهادة أن لا إله إلا الله. لا تنال بتولي غير الله. لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين. فمن والى أحدا من هؤلاء ودعاه وحج إلى قبره أو موضعه ونذر له وحلف به وقرب له القرابين ليشفع له: لم يغن ذلك عنه من الله شيئا. وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره. فإن الشفاعة إنما تكون: لأهل توحيد الله وإخلاص القلب والدين له. ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك. فهذا القول والعبادة الذي يقصد به المشركون الشفاعة: يحرم عليهم الشفاعة. فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين - ليشفعوا لهم - كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم الذي به طلبوا شفاعتهم: به حرموا شفاعتهم وعوقبوا بنقيض قصدهم. لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وكثير من أهل الضلال: يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التي فيها شرك أو هي شرك خالص كما ظن ذلك المشركون الأولون. وكما يظنه النصارى ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام. الذين يدعون غير الله ويحجون إلى قبره أو مكانه وينذرون له ويحلفون به. ويظنون: أنه بهذا يصير شفيعا لهم. قال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} . قال طائفة من السلف: كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله. كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة. وهذا لا استثناء فيه وإن كان الله يجيب دعاءهم ثم قال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} فبين أن هؤلاء المزعومين الذين يدعونهم من دون الله كانوا يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة كسائر عباده المؤمنين وقد قال تعالى {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} .
وللناس في الشفاعة أنواع من الضلال قد بسطت في غير هذا الموضع.
فكثير منهم: يظن أن الشفاعة هي بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي وغيره. ويقولون: من كان أكثر صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان أحق بالشفاعة من غيره. وكذلك من كان أحسن ظنا بشخص وأكثر تعظيما له: كان أحق بشفاعته. وهذا غلط. بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا: نتولى الملائكة ليشفعوا لنا. يظنون أن من أحب أحدا - من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه - كان ذلك سببا لشفاعته له. وليس الأمر كذلك. بل الشفاعة: سببها توحيد الله وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة. فإن الشفاعة: من الله مبدؤها وعلى الله تمامها فلا يشفع أحد إلا بإذنه. وهو الذي يأذن للشافع. وهو الذي يقبل شفاعته في المشفوع له. وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التي بها يرحم الله من يرحم من عباده. وأحق الناس برحمته: هم أهل التوحيد والإخلاص له فكل من كان أكمل في تحقيق إخلاص " لا إله إلا الله " علما وعقيدة وعملا وبراءة وموالاة ومعاداة: كان أحق بالرحمة. والمذنبون - الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخفت موازينهم فاستحقوا النار -: من كان منهم من أهل " لا إله إلا الله " فإن النار تصيبه بذنوبه. ويميته الله في النار إماتة. فتحرقه النار إلا موضع السجود. ثم يخرجه الله من النار بالشفاعة. ويدخله الجنة كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. فبين أن مدار الأمر كله: على تحقيق كلمة الإخلاص وهي " لا إله إلا الله " لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم كما ظنه الجاهليون. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الحمد الذي هو رأس الشكر وبين التوحيد والاستغفار
مجموع الفتاوى (27/ 439)
{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمدا صلى الله عليه وسلم إذا أراد الشفاعة قال: {فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال لي: ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة} . وكذلك ذكر في المرة الثانية والثالثة. ولهذا قال تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله. وقوله: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " استثناء منقطع أي من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه سأله أبو هريرة فقال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ فقال: يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه} . رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا. وقال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} . فالجزاء من جنس العمل فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة ". ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي بل قال: {أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه} . فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه؟ فذاك لا ينال به خيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح عليه السلام فإنه يضرهم ولا ينفعهم.
الإخنائية أو الرد على الإخنائي ابن تیمیة(ص: 349)
وقال: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير [وما مسني السوء] } الآية [سورة الأعراف: (188) ] . وقوله {إلا ما شاء الله} فيه قولان: قيل هو استثناء متصل وإنه يملك من ذلك ما ملكه الله، وقيل هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا بحال، فقوله {إلا ما شاء الله} استثناء منقطع، أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله كقول الخليل عليه السلام {ولا أخاف ما تشركون به} ثم قال {إلا أن يشاء ربي شيئًا} [سورة الأنعام: (80) ] ، أي لا أخاف أن تفعلوا شيئًا، لكن إن شاء ربي شيئًا كان وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئًا. وكذلك قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة -ثم قال- إلا من شهد بالحق [وهم يعلمون] } [سورة (*) الزخرف: (86) ] ، فيه قولان: أصحهما أنه استثناء منقطع، أي لكن من شهد بالحق تنفعه الشفاعة وتنفع شفاعته كقوله {ولا تنفع الشفاعة / عنده إلا لمن أذن له} [سورة الأنبياء: (23) ] ، وقال {قل لله الشفاعة جميعًا} [سورة الزمر: (44) ] ، وبسط هذا له موضع آخر.