التحرير و التنوير، ج26، ص: 10
[سورة الأحقاف (46): الآيات 5 الى 6]
وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج، فلما أمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه و سلّم بأن يحاجّهم بالدليل وجّه الخطاب إليه تعجيبا من حالهم و ضلالهم لأن قوله: وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً إلخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب اللّه.
و مَنْ استفهامية، و الاستفهام إنكار و تعجيب. و المعنى: لا أحد أشدّ ضلالا و أعجب حالا ممن يدعون من دون اللّه من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة. و وجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية و ادّعوا للّه شركاء بلا دليل و اختاروا الشركاء من حجارة و هي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق و التكوين و التصرف ثم يدعونها في نوائبهم و هم يشاهدون أنها لا تسمع و لا تبصر و لا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها و زعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال.
و مَنْ لا يَسْتَجِيبُ الأصنام عبّر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة، و لأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك، و مثل هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله: وَ هُمْ و قوله: غافِلُونَ و هي عائدة إلى مَنْ لا يَسْتَجِيبُ.
و جعل يوم القيامة غاية لانتفاء الاستجابة. كناية عن استغراق مدة بقاء الدنيا. و عبر عن نهاية الحياة الدنيا ب يَوْمِ الْقِيامَةِ لأن المواجه بالخبر هو الرسول صلى اللّه عليه و سلّم و المؤمنون كما علمت و هم يثبتون يوم القيامة.
و ضميرا كانُوا في الموضعين يجوز أن يعودا إلى مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن المشركين يعادون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم. و يجوز أن يعودا إلى مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذ فتنطق بالتبرّي عن عبادها و من عبادتهم إياها، قال تعالى: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 14] و قال:
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الفرقان: 17- 19].
و يجوز أن يكون قوله: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ جاريا على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء و المنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي إلى شقائهم و كذبهم كقوله تعالى: وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101].
و عطف جملة وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ إلخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة. و من بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ و هذا يتدرج في محسّن الجمع مع التفريق و أدق.
جامع البيان في تفسير القرآن، ج26، ص: 4
القول في تأويل قوله تعالى:
وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يقول تعالى ذكره: و أي عبد أضل من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول:
لا تجيب دعاءه أبدا، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك. و قوله: وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ يقول تعالى ذكره: و آلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع و لا تنطق، و لا تعقل. و إنما عنى بوصفها بالغفلة، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. و إنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، و قبح اختيارهم في عبادتهم، من لا يعقل شيئا و لا يفهم، و تركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، و من به استغاثتهم عند ما ينزل بهم من الحوائج و المصائب. و قيل: من لا يستجيب له، فأخرج ذكر الآلهة و هي جماد مخرج ذكر بني آدم، و من له الاختيار و التمييز، إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك و الأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريا فيه عندهم. القول في تأويل قوله تعالى:
وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ... بَيِّناتٍ ... مُبِينٌ يقول تعالى ذكره: و إذا جمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب، كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء، لأنهم يتبرءون منهم وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ يقول تعالى ذكره: و كانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، و لا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا.