سلسلة الاحاديث الصحيحة


















سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 355)
1761 - " يا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ".

أخرجه الترمذي (2 / 308) والطبراني (2680) عن زيد بن الحسن الأنماطي عن
جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: " فذكره
، وقال: " حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن
سليمان وغير واحد من أهل العلم ".
قلت: قال أبو حاتم، منكر الحديث، وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال
الحافظ: " ضعيف ".
قلت: لكن الحديث صحيح، فإن له شاهدا من حديث زيد بن أرقم قال: " قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة
، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس
، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين،
أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور (من استمسك به وأخذ به كان على الهدى،
ومن أخطأه ضل) ، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب
فيه، ثم قال: - وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل
بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ". أخرجه مسلم (7 / 122 - 123) والطحاوي في
" مشكل الآثار " (4 / 368) وأحمد (4 / 366 - 367) وابن أبي عاصم في "
السنة " (1550 و 1551) والطبراني (5026) من طريق يزيد بن حيان التميمي عنه
. ثم أخرج أحمد (4 / 371) والطبراني (5040) والطحاوي من طريق علي بن
ربيعة قال: " لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت
له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني تارك فيكم الثقلين (كتاب
الله وعترتي) ؟ قال: نعم ". وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. وله طرق
أخرى عند الطبراني (4969 - 4971 و 4980 - 4982 و 5040) وبعضها عند الحاكم (
3 / 109 و 148 و 533) . وصحح هو والذهبي بعضها. وشاهد آخر من حديث عطية
العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: " (إنى أوشك أن أدعى فأجيب، و) إني تركت
فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب
الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن
يتفرقا حتى يردا علي الحوض ". أخرجه أحمد (3 / 14 و 17 و 26 و 59) وابن أبي
عاصم (1553 و 1555) والطبراني (2678 - 2679) والديلمي (2 / 1 / 45) .
وهو إسناد حسن في الشواهد. وله شواهد أخرى من حديث أبي هريرة عند الدارقطني
(ص 529) والحاكم (1 / 93) والخطيب في " الفقيه والمتفقه " (56 / 1) .
وابن عباس عند الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. وعمرو بن عوف عند ابن عبد
البر في " جامع بيان العلم " (2 / 24، 110) ، وهي وإن كانت مفرداتها لا
تخلو من ضعف، فبعضها يقوي بعضا، وخيرها حديث ابن عباس. ثم وجدت له شاهدا
قويا من حديث علي مرفوعا به. أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار (2 / 307) من
طريق أبي عامر العقدي: حدثنا يزيد بن كثير عن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن
علي مرفوعا بلفظ: " ... كتاب الله بأيديكم، وأهل بيتي ". ورجاله ثقات غير
يزيد بن كثير فلم أعرفه، وغالب الظن أنه محرف على الطابع أو الناسخ. والله
أعلم. ثم خطر في البال أنه لعله انقلب على أحدهم، وأن الصواب كثير بن زيد،
ثم تأكدت من ذلك بعد أن رجعت إلى كتب الرجال، فوجدتهم ذكروه في شيوخ عامر
العقدي، وفي الرواة عن محمد بن عمر بن علي، فالحمد لله على توفيقه.
ثم
ازددت تأكدا حين رأيته على الصواب عند ابن أبي عاصم (1558) . وشاهد آخر
يرويه شريك عن الركين بن الربيع عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت مرفوعا به.
أخرجه أحمد (5 / 181 - 189) وابن أبي عاصم (1548 - 1549) والطبراني في "
الكبير " (4921 - 4923) . وهذا إسناد حسن في الشواهد والمتابعات، وقال
الهيثمي في " المجمع " (1 / 170) : " رواه الطبراني في " الكبير " ورجاله
ثقات "! وقال في موضع آخر (9 / 163) : " رواه أحمد، وإسناده جيد "! بعد
تخريج هذا الحديث بزمن بعيد، كتب علي أن أهاجر من دمشق إلى عمان، ثم أن أسافر
منها إلى الإمارات العربية، أوائل سنة (1402) هجرية، فلقيت في (قطر) بعض
الأساتذة والدكاترة الطيبين، فأهدى إلي أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا
الحديث، فلما قرأتها تبين لي أنه حديث عهد بهذه الصناعة، وذلك من ناحيتين
ذكرتهما له: الأولى: أنه اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة
، ولذلك قصر تقصيرا فاحشا في تحقيق الكلام عليه، وفاته كثير من الطرق
والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلا عن الشواهد والمتابعات، كما
يبدو لكل ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا..
الثانية: أنه لم يلتفت إلى أقوال المصححين للحديث من العلماء ولا إلى قاعدتهم
التي ذكروها في " مصطلح الحديث ": أن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق، فوقع
في هذا الخطأ الفادح من تضعيف الحديث الصحيح.
وكان قد نمى إلى قبل الالتقاء
به واطلاعي على رسالته أن أحد الدكاترة في (الكويت) يضعف هذا الحديث،
وتأكدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك، يستدرك علي إيرادي الحديث
في " صحيح الجامع الصغير " بالأرقام (2453 و 2454 و 2745 و 7754) لأن الدكتور
المشار إليه قد ضعفه، وأن هذا استغرب مني تصحيحه! ويرجو الأخ المشار إليه
أن أعيد النظر في تحقيق هذا الحديث، وقد فعلت ذلك احتياطيا، فلعله يجد فيه
ما يدله على خطأ الدكتور، وخطئه هو في استرواحه واعتماده عليه، وعدم تنبهه
للفرق بين ناشئ في هذا العلم، ومتمكن فيه، وهي غفلة أصابت كثيرا من الناس
اللذين يتبعون كل من كتب في هذا المجال، وليست له قدم راسخة فيه. والله
المستعان. واعلم أيها القارىء الكريم، أن من المعروف أن الحديث مما يحتج به
الشيعة، ويلهجون بذلك كثيرا، حتى يتوهم أهل السنة أنهم مصيبون في ذلك، وهم
جميعا واهمون في ذلك، وبيانه من وجهين:
الأول: أن المراد من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " عترتي " أكثر مما
يريده الشيعة، ولا يرده أهل السنة بل هم مستمسكون به، ألا وهو أن العترة
فيهم هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك موضحا في بعض طرقه كحديث
الترجمة: " عترتي أهل بيتي " وأهل بيته في الأصل هم " نساؤه صلى الله عليه
وسلم وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعا كما هو صريح قوله تعالى في (
الأحزاب) : * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *
بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء
إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن
في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن
الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) *،
وتخصيص الشيعة (أهل البيت) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي
الله عنهم دون نسائه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصارا
لأهوائهم كما هو مشروح في موضعه، وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الآية ودخول علي وأهله فيها كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره،
وكذلك حديث " العترة " قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود أهل بيته
صلى الله عليه وسلم بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله. ولذلك قال
التوربشتي - كما في " المرقاة " (5 / 600) : " عترة الرجل: أهل بيته ورهطه
الأدنون، ولاستعمالهم " العترة " على أنحاء كثيرة بينها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقوله: " أهل بيتي " ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين
وأزواجه ". والوجه الآخر: أن المقصود من " أهل البيت " إنما هم العلماء
الصالحون منهم والمتمسكون بالكتاب والسنة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه
الله تعالى: " (العترة) هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم الذين هم على دينه
وعلى التمسك بأمره ". وذكر نحوه الشيخ علي القاريء في الموضع المشار إليه آنفا
. ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله: " إن أهل
البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم
المطلعون على سيرته الواقفون على طريقته العارفون بحكمه وحكمته. وبهذا يصلح
أن يكون مقابلا لكتاب الله سبحانه كما قال: * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * "
. قلت: ومثله قوله تعالى في خطاب أزواجه صلى الله عليه وسلم في آية التطهير
المتقدمة: * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) *. فتبين أن
المراد بـ (أهل البيت) المتمسكين منهم بسنته صلى الله عليه وسلم، فتكون هي
المقصود بالذات في الحديث، ولذلك جعلها أحد (الثقلين) في حديث زيد بن أرقم
المقابل للثقل الأول وهو القرآن، وهو ما يشير إليه قول ابن الأثير في "
النهاية ": " سماهما (ثقلين) لأن الآخذ بهما (يعني الكتاب والسنة)
والعمل بهما ثقيل، ويقال لكل خطير نفيس (ثقل) ، فسماهما (ثقلين) إعظاما
لقدرهما وتفخيما لشأنهما ".
قلت: والحاصل أن ذكر أهل البيت في مقابل القرآن في هذا الحديث كذكر سنة
الخلفاء الراشدين مع سنته صلى الله عليه وسلم في قوله: " فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين ... ". قال الشيخ القاريء (1 / 199) : " فإنهم لم يعملوا
إلا بسنتي، فالإضافة إليهم، إما لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها
". إذا عرفت ما تقدم فالحديث شاهد قوي لحديث " الموطأ " بلفظ: " تركت فيكم
أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله ". وهو في " المشكاة
" (186) . وقد خفي وجه هذا الشاهد على بعض من سود صفحات من إخواننا الناشئين
اليوم في تضعيف حديث الموطأ. والله المستعان.